• اتجاه النية لإلغاء العربية من بين اللغات الرسمية في الأمم المتحدة.
• أقدم مجمع لغوي عربي يدقّ ناقوس الخطر.
خيّم جو من الإحباط والتذمّر والتشاؤم على جلسات المؤتمر الرابع لمجمع اللغة العربية بدمشق. وهذا المجمع هو أقدم المجامع اللغوية العربية، إذ تأسس خلال العهد الملكي الفيصلي في سورية عام 1919، بُعَيد استقلال البلاد عن الإمبراطورية العثمانية. وحقّق هذا المجمع جميع أهدافه الرئيسة المتمثلة في تعريب الإدارة والتعليم في سورية، وتأسيس المكتبة الظاهرية لحفظ المخطوطات والمطبوعات العربية، وإقامة متحف للآثار الوطنية. وأصبح هذا المجمع نموذجاً تحتذي مثالَه المجامعُ اللغوية التي أُنشِئت بعده في القاهرة وبغداد وعَمّان والخرطوم وطرابلس الغرب والجزائر.
وقد خصّص مجمع اللغة العربية بدمشق مؤتمرَه الرابع، الذي انعقد مؤخَّراً، لتدارس موضوع " اللغة العربية والمجتمع". وتناولت الدراسات الخمس والعشرون، التي أعدّها نخبة من أبرز اللغويين العرب، مظاهرَ تدنّي مستوى اللغة العربية وعزوف المجتمع العربي عن لغته القومية وما يتمخّض عن ذلك من مخاطر.
أجمعت معظم الدراسات على أنّ اللغة العربية الفصيحة سائرة في منحدر الانحطاط والتردي والعزلة، ما يسوّغ النيّة المبيَّتة لإلغائها من لائحة اللغات الرسمية الست في منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة. فقد أوضح أحد المحاضرين أنه فوجئ ذات يوم، وهو يشارك في مؤتمر عقدته إحدى وكالات الأمم المتحدة، بإدراج بند " إلغاء رسمية اللغة العربية في الأمم المتحدة" على جدول الأعمال. وأقرّ المُحاضر بأنّ الأسباب التي ذُكرت لذلك منطقية ومعقولة تماماً، وهي:
أولاً، إن وفود الدول العربية في الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لا تستخدم اللغة العربية في كلماتها ومداخلاتها. فممثلو دول المشرق " العربي" يستعملون الإنجليزية، ووفود دول المغرب " العربي" تستخدم اللغة الفرنسية. فلماذا العربية؟
ثانياً، صعوبة إيجاد مترجمين عرب أكفاء للعمل في الأمم المتحدة. وهذا ناتج، طبعاً، من ندرة معاهد الترجمة في الجامعات العربية، ومن نزارة خبرة العرب في الترجمة لعدم حاجتهم لها بسبب استخدامهم اللغات الأجنبية في التعليم العالي، فكلّ ما ترجمه العرب مجتمعين منذ ما يُسمى بعصر النهضة في القرن التاسع عشر الميلادي حتى اليوم، لا يساوي ما تترجمه إسبانيا أو اليونان في سنة واحدة فقط.
ثالثاً، عندما طُرح اقتراح إضافة العربية إلى اللغات الرسمية في أوائل السبعينات من القرن الماضي، وعدت الدول العربية بتحمُّل نفقات الترجمة. بَيدَ أن أغلبية تلك الدول لم تفِِ بهذا الوعد، ربّما بسبب إنفاقها الأموال على شراء الأسلحة لمحاربة بعضها بعضاً.
وإذا كان استعمال العربية في منظمة الأمم المتحدة مجرد قضية شكلية، فإن انحسار اللغة العربية وتدنّيها في عقر دارها هو القضية الجوهرية التي عالجها المؤتمر؛ فقد عزت الدراسات التي قُدِّمت فيه،هذا الانحسار وذلك التدنّي إلى عاملين أساسيين هما: منافسة اللهجات العامية العربية ومزاحمة اللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية. فاللهجات العاميّة العربية تستحوذ على جميع مجالات الحياة، حتى تلك المجالات التي يُفترض أن تسود فيها اللغة العربية الفصيحة، أي: الثقافة، والإعلام، والتعليم.
فالأُمّة العربية (إذا كانت هناك أُمّة عربية) هي أكثر الأُمم أُميّة، إذ تبلغ نسبة الأُميّة فيها بين البالغين أزيد من 55%، وتتعاظم هذه النسبة بين الإناث. وإذا كان الأدب هو المجال الثقافي الذي تسود فيه اللغة الفصيحة المشتركة عادة، فإن كثيراً من الصحف أخذت تخصّص مساحة أكبر فأكبر للشعر الشعبي والنبطي والزجل. وذهب بعض أعداء اللغة العربية الفصيحة إلى أنها لغة رجعية لا تساير العصر بدليل تفريقها بين المذكر والمؤنث في التعبير، وهذا يتنافى وروح المساواة والديمقراطية.
وأما وسائل الإعلام الأخرى، كالإذاعة والتلفزة، فقد اختطفها دُعاة العاميّة، فهي لا تستعمل اللغة الفصيحة إلا في بعض نشرات الأخبار والبرامج التاريخية الدينية، ما يعطي الانطباع بأن الفصيحة لغة دينية ميتة كاللاتينية. وإضافة إلى ذلك فإن لغة الإعلام زاخرة باللحن والأخطاء اللغوية، صوتية ولفظية ونحوية. وهكذا، بدلاً من أن يكون الإعلام عاملاً مساعداً على إشاعة اللغة العربية الفصيحة وتقريب العامية منها، أصبح مفسداً للغة الناشئة ووسيلة لتكوين العادات اللغوية السقيمة بما يكرره من أغانٍ وإعلانات تجارية وبرامج بلغة عامية هابطة.
وأمّا في التعليم، فإن الأغلبية الساحقة من المعلمين والمدرسين والأساتذة يستخدمون العاميّة في دروسهم ومحاضراتهم ومحادثاتهم مع التلاميذ والطلاب، وهم عاجزون عن التحدّث بعربية فصيحة حتى مَن يقوم منهم بتعليم اللغة العربية ذاتها.
وهكذا تتلاشى اليوم آمال روّاد النهضة العربية في إسهام التعليم والإعلام في تقريب العامية من الفصيحة، وفي إشاعة اللغة العربية الفصيحة لتكون لغة قومية تشترك فيها جميع الشعوب العربية فتساعد على وحدتها وعلى خلق مجتمع المعرفة من أجل التنمية الإنسانية الشاملة.
وأشارت بعض دراسات المؤتمر إلى أن الازدواجية اللغوية (الفصحى ـ العامية) المستفحلة شجّعت على إحياء الدعوة إلى إحلال العاميات محل الفصحى، بحيث تتكامل العاميات المحلية مع التوجهات الإمبريالية الجديدة في تقسيم كل دولة عربية ـ سياسياً وجغرافياً وثقافياً ـ إلى دويلات قميئة (إنها الدعوة لدويلات الطوائف، يا بن أمي).
أما الثنائية اللغوية، أي استخدام اللغة الأجنبية إلى جانب اللغة العربية في مختلف مجالات الحياة، فقد استحوذت على عدد من بحوث المؤتمر التي أشارت إلى أن اللغة الأجنبية تتقدم بسرعة رهيبة، بحيث استُبعِدت العربية من الأسواق التجارية. فأسماء المحلات والشركات ونصوص العقود والمعاملات ووثائق السفر والخدمات السياحية والفندقية وغيرها هي باللغة الأجنبية.
وعلى الرغم من أن الدول العربية أنفقت، بعد استقلالها، الأموال الطائلة وأسست المعاهد العديدة لتعريب التعليم، فإن رأيها استقر مؤخراًـ كما يبدو ـ على استخدام اللغة الأجنبية في التعليم العالي في جميع تخصصاته ومستوياته. وحتى الدول التي كان التعليم العالي فيها معرّباً، مثل سورية، سمحت للجامعات الأهلية باستخدام الإنجليزية لغة للتعليم. وهكذا أمسى ما أنتجته مجامع اللغة العربية ومكتب تنسيق التعريب من مصطلحات علمية وتقنية مجرّد ركام من المولّدات الميتة المحنطة على رفوف المكتبات لعدم استعمالها. وهذا ما يُفسّر لنا إهمال الحكومات العربية للمجامع اللغوية ومؤسسات التعريب الأخرى. فمكتب تنسيق التعريب بالرباط، على سبيل المثال، لم يُصدر مجلته " اللسان العربي" منذ أكثر من عامين، ولا ينال موظفوه العشرة رواتبهم بانتظام، والمكتب في طريقه إلى الزوال.
وخلاصة القول، إن نبرة الإحباط والتذمر والتشاؤم سيطرت على المؤتمر الرابع لمجمع اللغة العربية بدمشق. ولم تنفع في تخفيف تلك النبرة الكلمة التي ألقاها المسيو هوبير جولي، الأمين العام للمجلس الدولي للغة الفرنسية، والتي أوضح فيها، بلغة عربية فصيحة وبنطق سليم، أن ما تواجهه العربية من تحديات مصدرها الازدواجية اللغوية والثنائية اللغوية وصعوبة توفير المصطلحات العلمية المستجدة، ليس وقفاً على العربية وإنما تواجهه كذلك لغات عالمية أخرى كالفرنسية.
كما لم تنفع في تخفيف ذلك الإحباط كلمة الدكتور كمال بشر وعنوانها " القول القِِوام فيما يثار حول العربية من كلام" التي فنّد فيها الشكوك المثارة حول صلاحية اللغة العربية الفصحى، ولا دراسة الدكتور حسين نصار التي أكّدت أن ظاهرة التذكير والتأنيث في العربية الفصحى هي مجرد تقنية لسانية تستخدمها لغات أخرى كالفرنسية والألمانية، ولا علاقة لها بالتقدمية والرجعية أو الديمقراطية والاستبداد. كما لم تقلِّل من الروح التشاؤمية التي سادت المؤتمر صرخةُ الدكتور عبد اللطيف عبيد الذي أوضح أن العربية أقوى من أهلها وأن لها من المقوّمات اللسانية والتاريخية والعقدية ما يجعلها لغة حية دوماً نابضة أبداً رغم كيد الأعداء.
--------------------
المغترب العربي :
http://www.almughtarib.com/index.php?option=com_content&task=view&id=3326&Itemid=53