هذا التباعد بين الإنسان العربي الحالي ولغته الأصيلة جعلها عبئا عليه، فراح يتعامل معها كجسم غريب ناشز، أو في أحسن الأحوال. كأثر تاريخي يوهم بفخر زائف. ترتب على كل هذا أن تصدي للمسألة فريقان على طرفي نقيض:
- أحدهما راح يندب حظها، ويرثي مالها، ثم يتمادى في تثبيت مواقعها في سجون معاجمها، وكهوف نحوها
- أما الآخر فقد انصرف هربا منها وهو يتخلى عنها سراً أو علانية إهمالا أو تشويها، حتى ظهرت تلك البثور المتقيحة على وجهها: إما من لغات أخرى أو من لا لغة أصلا.
لعل ما آلت إليه حال لغتنا هكذا ليس إلا إعلانا عما آل إليه حالنا كله في أكثر من مجال، هذا الرطان المتقيح يعلن فيما يعلن عن احتمال رطان اقتصادي ورطان اجتماعي ورطان سياسي بشكل أو بآخر.
ثم يخرج علينا مجتهد متألم ليشارك في مواجهة الموقف بما لا يمكن إنكار حسن نيته فيه، فيزعم أن الحل هو في أن نخفف من قيودها، وأن نحرر نحوها، وأن قديمها.. الخ، الفكرة واردة وجيدة، فاللغة كائن حي طول الوقت وأي وصاية عمياء عليها لا تؤدي إلا إلي تصنيمها حتى التشويه والجمود فالتحلل. لكن التطور المبدع لا يأتي فقط من الخارج إلى الداخل. فخشيت أن تكون المسألة استسهالا. لا مسئولية مبدعة متحدية .
لن تنصلح لغتنا بتحسين شكلها أو بتخفيف قواعدها. إن ما آل إليه حال لغتنا إنما يعلن ما نحن فيه بشكل أو بآخر حين يكون لحياتنا معنى، ولوجودنا هدف، ولجماعتنا شمل، سوف نكتشف كيف أن لغتنا أصبحت سهلة هادفة متطورة متجاوزة حتى ما وصلت به إلينا من قدرات وجمال. يسري هذا على الفصحى مثلما يسري على العامية التي هي لغة شفاهية فائقة الجمال كاملة المواصفات أيضا.
إن الله لا يغير ما بقوم - بما في ذلك لغتهم- حتى يغيروا ما بأنفسهم. إن استعادة حيوية وإبداع وفاعلية ومرونة لغة ما هي نتاج استعادة أهل هذه اللغة لكل ذلك ممارسة موضوعية ناقدة هادفة مبدعة، أما تلك الإسعافات المتعجلة الضجرة فهي تأجيل للمواجهة، ناهيك عن احتمال التشويه، والرقص على السلم، والتخلي عن الهوية.
-----------
الأهرام - قضايا وآراء العدد 42980 - الاثنين 9 أغسطس 2004
أ. د. يحيى الرخاوي - أستاذ الطب النفسي - كلية الطب - جامعة القاهرة
Email : yehia_rakhawy@hotmail.com
--------------------
شبكة العلوم النفسية العربية
http://www.arabpsynet.com/Archives/VP/VP.Rakhawy.ArabLangage2.htm