دراسة قصة ( الأرض يا سلمى ) لمحمد عبد الولي([1])
مضت – سلمى – مسرعة لتفتح السواقي في الأرض القريبة من الدار بعد أن بدأت السحب تتجمع في السماء، وحين عادت إلى الدار كانت أبواب السماء قد تفتحت وانسكب المطر، يروي عطش الأرض.
لم يكن لدى سلمى عمل تؤديه في ذلك العصر، فالسماء تمطر وجميع من في المنزل يغطون في نوم عميق. فلم تجد إلا أن تخلو إلى نفسها في غفرتها وأن تتمدد على سريرها مولية وجهها الصغير شطر النافذة المفتوحة على الحقول. ورأت مياه المطر تندفع من السواقي إلى الأرض العطشى، لكن خيال سلمى انطلق بها بعيداً عن الأرض والمطر إلى أشياء لم تكن لتفكر بها، وسمعت صوتاً كأنه همسات رقيقة يقول:
(سلمى – أخيراً ها أنت تواجهين نفسك. يجب أن تقولي الحقيقة، لا تحاولي التهرب من نفسك، فلن ينفعك ذلك يجب أن تقولي أن الانتظار قد طال وأنك لن تستطيعي التحمل أكثر من ذلك، حاولي أن تتذكري منذ كم غاب عنك (درهم) زوجك… من خمس سنوات كاملة يا سلمى؛ وها أنت في السنة السادسة من الانتظار؛ وكم عمرك؟ احسبي دون تعجل: أنت الآن في السادسة والعشرين. نعم لقد بدأت تشعرين بأنك قد كبرت… وبسرعة دون أن تدركي ودون أن تحسي بالحياة وتتمتعي بها… هل أذكرك يا سلمى أنك قد تزوجت منذ عشر سنوات؟ نعم، عشر سنوات. وذهب زوجك بعد أن تركه في أحشائك، دون أن يعلم، لم تخبريه كعادة الكثيرات في القرية، وظننت أنه لن يغيب كثيراً.
ولكنه غاب أكثر من المرات السابقة.
مهلاً يا سلمى لا تجعلينا نسابق الأحداث.. لم لا نبدأ من البداية، منذ أو ولدت، أعني منذ أن تزوجت. ألست على حق؟
نعم إن ذلك ظاهر على وجهك.. لقد كنت صغيرة عندها، في السادسة عشرة من عمرك تعيشين في بيت والدك. وذات يوم سمعت همسات كثيرة. ونظرات مصوبة نحوك. وأحسست بما يدور حولك وشعرت بالسعادة ككل طفلة تفرح بعرسها – ولم تظهري فرحك ذلك للناس حتى لا تلوك الألسنة سيرتك ولكنك أبديتها لي.. أنا.. كنت أعرف كل شيء – لقد كنت سعيدة لأنك ستتزوجين (درهم)، وحيث أقبلت عمتك وغطت وجهك (بالمقرمة) قائلة: (ثبت زواجك على درهم قاسم) أبديت مقاومة شديدة، وجعلت تقذفين بالشتائم كل من حولك ولكنك في أعماقك كنت فرحة، وسألت الدموع.. جموع الفرح عينيك، وظن الذين حولك أنك تبكين حزناً على فراقك والدك.. ومنزله..
وعندما أتى أهل زوجك نقلك إلى دارك الجديدة كنت تسرعين في الخطو، لتصلي بسرعة. ونبهك الذين حولك، وشهرت بالخجل إذا خفت أن يكتشف الآخرون سر تلهُفك وسرعتك.
ولكن يا سلمى. أكنت تحبين درهم حقاً؟
كلا – لا أظن!!
إذن ما سر سعادتك تلك؟
ألأنك طفلة؟ أم ظننت أنك ستخلصين من بيت والدك؟ من تلك الأعمال الشاقة التي كنت تقومين بها هناك؟، كنت تظنين أنك ستجدين الراحة والهدوء في منزل زوجك، فهل تحقق ذلك؟
لنرَ يا سلمى حياتك الجديدة في منزل زوجك، فبعد الأيام السبعة الأولى.. أيام العرس.. بدأت عملك كزوجة تخدم زوجها وأهله..
كنت تستيقظين من نومك مع أذان الفجر، فتحلبين البقرة ثم تذهبين إلى البئر بعد أن تضعي أمام البقرة بعض الحشائش وبعد أن تمتلئ جرتك بالماء تعودين لإعداد الفطور لزوجك، وعند اقتراب الظهر تذهبين إلى الحقول لتعملي مع والد زوجك في الحرث والبذر والتنقية لتعودي منهوكة القوى لتعدّي وجبة الغداء – تطحنين الحبوب ثم تعجنينها كي تطعمي زوجك.
وبعد الغداء يذهب لمضغ القات في حين أنك لم تتناولي غداءك، وهو غالباً ما يكون كإفطارك: قليلاً من الخبز مع رشفات من – القشر – أو عصيدة مع لبن.
ويأتي عمل ما بعد الظهر.. غسيل الملابس.. الذهاب إلى الجبل للبحث عن حطب للوقود.. الذهاب إلى البئر مع غروب الشمس لتأتي بماء المساء والتقاط بعض الحشائش للبقرة، وبعدها تعدين العشاء وتقدمينه لزوجك الذي يعود من المسجد بعد أداء الصلاة. وأنت كم مرة نسيت الصلاة وأنت ترتمين متعبة قرب منتصف الليل، لتعودي مع أذان الفجر إلى العمل.. إلى الإرهاق..
هذه هي حياتك كل يوم، هل فيها شيء جديد؟
إنها نفس الحياة التي كنت تعيشينها في منزل والدك لم يتغير إلا صاحب العمل.. كان في السابق والدك، أما الآن فزوجك، عشت معه أياماً، تركك بعدها إلى المدينة لكي يعمل ولم تحاولي منعه، بل أنك دفعته للسفر، لأنك تريدين أن يعود إليك ومعه قمصان حرير جديدة.. أدوات نسائية كتلك التي يعود بها أزواج صديقاتك.
ولم يخيب زوجك أملك، عاد إليك بما كنت تحلمين بعد أن غاب سنتين.
لم تتغير حياتك، أثناء وجوده أو في أثناء غيابه: ففي كلا الحالتين كنت تعملين بصمت من أجل أهله ومن أجل الأرض. يا سلمى عاد زوجك إلى المدينة، وغاب سنتين، ثم عاد مرة أخرى ليتركك بعدها وفي أحشائك طفلك الأول، وانتظرت عودته إليك وإلى طفله ليراه، ومضى عام.. وآخر، فخمسة ولم يعد. إنه ما زال حياً هناك بعيداً في البحر.. البحر الكبير الذي يقولون إنه بلا نهاية. بحر كبير في أحضان بحر آخر أكبر يخوضه زوجك كل يوم.
وما أدراك يا سلمى أنه وحيد؟ لا تجعلي وجهك يصفر ولا ترتجفي. فكل شيء ليس سوى افتراض. فهو قد يكون وحيداً وقد لا يكون، فالرجال لا أحد يثق بهم.. خاصة حين يكونون بعيداً، لا تراهم عيوننا. فلم لا يكون زوجك أحدهم؟ أنت تعرفين قصة عمك – زيد – الذي ترك زوجته منذ عشرين عاماً.. ولم يعد. إنه حي وله زوجة وأولاد ويقولون أنه لن يعود وزوجته لا تزال تنتظر هنا.
فلم لا يكون زوجك مثل عمك؟ نعم لماذا لا يخونك؟ إنه بشر.. ورجل.. وهم دائماً ضعفاء كما يدّعون. قلت لك لا ترتجفي. ولا تدعي الشكوك تساورك فكل شيء افتراض، فالحقيقة مجهولة، هناك وراء البحر مع زوجك. ثم لا تحاولي أن تفكري أن تفعلي مثله.. أن تخونيه. أنك لن تستطيعي، فهنا في القرية كل همسة يسمعها جميع الناس. ألم تلاحظي مثلاً في هذين اليومين الأخيرين أن الجميع يلاحقونك بالنظرات المليئة بالشك؟ ألم تلاحظي ذلك؟ لماذا يقذفونك بنظراتهم الصامتة تلك؟ إنك ذكية يا سلمى وقد عرفت..
أنك تتجملين.. نعم تتجملين، فهم لا يرونك تتجملين منذ سافر زوجك منذ خمس سنوات.. ولا تحاولي أن تقولي أنك شعرت بكبر سنك فحاولت أن تبدي صغيرة. كلا فتلك طريقة غير محببة.
فالحقيقة يا سلمى أنك تتجملين من أجله. من أجل (حسان) لا.. لا.. لا تجعلي قلبك يدق بهذه الشدة ولا تدعي الدعاء يحمر وجنتيك، فهما سيكشفان سرك، أرأيت أنك مغرمة به؟
ليس عيباً أن يحب المرء من شاء.. ولكن الغيب في أن يخون.. فأنت تخونين زوجك بحبك لآخر.. نعم.. إن الأمر جد خطير.. فالمرأة هنا ليس لها الحق بأن تحب من تشاء ولا أن تتمتع بشبابها فهي مجرد خادمة، يتزوجها الرجل لتخدم أهله.. ويتركها ويمضي بعيداً جداً.. ولا يعود.. وليس من حقها أن تطالب بالطلاق.. فالطلاق مكروه.. لا تضعي يديك فوق صدرك.. فالطلاق ليس مكروهاً ما دمت ستتمتعين بحياتك التي سرقها زوجك.. لكنك.. لن تحصلي عليه.. خاصة بعد أن مات والدك وليس لك من أحد يدافع عنك.. فأنت الآن خادمة، لأهل زوجك، لوالده، لابنه، لأرضه.. إنك لن تجني أية فائدة بحبك (لحسان) إنه شاب طيب تتمناه كل فتاة.. ولكنك لست فتاة – إنك امرأة لك طفل.. وزوج.. ثم هل تظنين أن أيام الطفولة حيث كنت تلعبين معه في الجبل ويتخذك دائماً زوجته وأنتم تلعبون لعبة (الزوج والزوجة) تلك الأيام قد ولت.. وأصبحت أنت اليوم كبيرة – خمس سنوات من الانتظار الطويل صعبة يا سلمى ولكن ما هو الحل؟
أن تطلبي الطلاق؟ وطفلك أين سيذهب؟
ثم من الذي سيتخذك زوجة له؟
أنت تعرفين تماماً أن الكثيرات بقين بدون زواج بعد طلاقهن وأن شباب القرية يبحثون فقط عن الفتيات. وأرضك يا سلمى. نعم أرضك هذه التي بذلت فيها حياتك.. شبابك.. دمك.. أرضك التي تسكبين عليها طوال الأعوام عرقك. كيف تدعين أرضك هذه ولمن؟
انك تفكرين يا سلمى.. وهذا شيء طيب – أنت تعرفين أن لا أحد سواك يعرف قيمة هذه الأرض.. فزوجك إن عاد لن يهتم بالأرض وابنك عندما يكبر لن تهمه هو أيضاً – سيتركها كما فعل والده ويذهب هناك بعيداً مثل الآخرين.
أرضك يا سلمى ذرفت عليها الدم والجهد ومنها تأكلين طوال العام. ومنها يأكل ابنك ويترعرع فوق ثراها. حتى زوجك حين يعود يأكل منها وأنت.. أنت من يخرج خيرات هذه الأرض. منها حبوبك وحشائش ماشيتك – ولبنك وسمنك.. وكل شيء في هذه القرية.. من الأرض. أليست الأرض حياتك.. وحياة ابنك الذي سيعرف عندما يكبر مدى الجهد الذي بذلته؟
أما (حسان) فهو كزوجك تماماً لن يعيش في القرية إلى الأبد.. سيغادرها غداً بعد أن يكون قد ترك امرأة وراءه تخدم أهله وتحرث الأرض وإن كنت أنت هذه المرأة. فما الفرق بين حياتك هنا وحياتك في بيته؟ لا فرق يا سلمى لا فرق.
وغاب الصوت وسلمى تنظر حواليها في ذهول ومياه الأمطار تتساقط في نغمات حالمة على الأرض فتنساب جداول إلى مدرجات الزراعة وتعانق جذور الزرع الأصفر وتهبه الحياة.
وفتح باب الغرفة.. دخل ابنها الصغير وارتمى في أحضانها وسلمى تهتف بداخلها – سأعلمه.. سأعلمه كيف يحب الأرض.. بينما كانت المياه تغوص في أعماق الأرض
تحليل القصة وفق عناصرها:
أولاً: الحبكة والبناء الفني:
بدأت القصة من الواقع الحاضر حينما ارتاحت وتعب الحياة اليومية بعد أن نزل المطر وتوقفت الأعمال في القرية، وفي هذه الأثناء أدار الكاتب حواراً بين (سلمى) و (الصوت) الذب يمثل النفس الإنسانية الأخرى أو الجانب الآخر من الإنسان وبها يعود إلى الماضي. فاتكأ الكاتب على الحوار الداخلي (المونولوج) فذكرها بفراق الزوج والموازنة بين حياة الصغر وحياة الزوجية، ثم تتشابك الأحداث والأفكار ويظهر الصراع بين حياتها الأولى التي تتسم بالتعب والإرهاق وحياتها الثانية التي ما بعد الزواج وكذلك متعبة ومرهقة.
ثم ينمو الصراع وهو التردد بين حبها لزوجها والوفاء له وحبها لـ(حسان) الذي هو خيانة. وهنا تصل إلى درجة (الذروة أو العقدة) ينتظر القارئ حلاً يا ترى من تختار؟
إلا أن (سلمى) فضّلت أن تعيش وفية لزوجها وأرضها ثم يغيب الصوت وتفيق (سلمى) على نغمات المطر، الذي يرمز إلى الخير والرحمة ويرمز إلى أن (سلمى) ما زالت إلى خير وهذا المقطع عودة إلى الواقع الحاضر.
ثانياً : الحادثة:
أخذ الكاتب مقطعاً واحداً من حالة واحدة من حياة (سلمى) المرأة الريفية فصور استراحتها بعد نزول المطر ودخولها في حلم اليقظة ثم أفاقت على صوت المطر.
إلا أن الكاتب وسع الأحداث من خلال الحوار الداخلي الذي أعاد (سلمى) إلى طفولتها ثم زواجها ثم فراق الزوج المتكرر فكأنها لم تجد طعماً لحياتها فضعفت وتعلق قلبها بشخص آخر فبرز الصوت والنفس الحيرة يحاجها ويرسم لها طريق الصواب لتعود إليه في نهاية حينما أفاقت من ضعفها.
ثالثاً: الشخصيات:
1- مرئية: (درهم) الزوج الكادح في سبيل العيش الكريم، و (سلمى) الزوجة الكادحة العاقلة وليست الساذجة لأنها تفكر، المرأة التي تتمنى أن ترى السعادة في ظل زوجها.
2- ثانوية: (الأب) المدافع عن ابنته، و(حسان) واحد من أبناء قريتها و(أبناء القرية) وهي عناصر مكملة للشخصيات وموضحة لها.
رابعاً: زمانها:
ليس هناك زمن محدد في القصة لكنها توحي بحياة في أواخر القرن العشرين العصر الحالي الذي يعيش ابن اليمن هاجراً القرية لقلة العمل فيها، متجهاً نحو المدينة لعله يجد فرصة وقد يترك الوطن كله ليهاجر إلى بلد عربي آخر باحثاً عن أسباب الرزق.
خامساً: اللغة:
1- لغته سهلة في ألفاظها وواقعية، ودلالاتها واضحة مثل (مقرمة) و(ثبت زواجك..) فهي ألفاظ تستعمل في تلك البيئة.
2- لم يكثر من الرموز إلا رمزاً هو (الصوت) فرمز به إلى النفس الإنسانية.
3- أضفى الكاتب الحركة والحيوية على الحلم الساكن بالإكثار من الجمل الفعلية مثل (تواجهين، تقولي، تذهبين، تستيقظين، تعدي العشاء، تتجملين، تفكرين…) التي تفيد التغير والحركة.
4- إلا أنها لم تخلُ في أخطاء أسلوبه وقد يحود بعضها إلى الطباعة مثل: لم يرونك، نفس الحياة، تلاحظي، أثناء وجوده.
5- أما الصور البلاغية فهي قليلة مثل: (تقذفين بالشتائم) وهي استعارة توحي بالقوة (لا تضعي يدك على صدرك) كناية عن الاستغراب، و(حسان كزوجك) تشبيه و(ذرفت الدم) استعارة توجي بالجهد والتعب.
التعليق النقدي:
1- حوادث القصة بسيطة جداً إلا أن الحوار الداخلي أغنى عن ذلك.
2- رسم الكاتب الشخصيات رسماً حقيقياً كلاً بلغته وتفكيره بحيث أدى كل شخص دوره.
الفكرة لطيفة ونافعة ذلك لأنها ترسخ قيم الخير وهي مستمدة من واقع الحياة ليدل على أن تلك الأفكار ليست خالية بل واقعية يسهل تطبيقها في الحياة