اعتزاز المرء بلغته أقوى جبهات الدفاع ضدّ عوامل هدمها أو إضعافها ... وفيما يلي مثالٌ حيّ على الاعتزاز باللغة الأمّ يمكن أن نعتبر منه للاعتزاز بلغتنا العظيمة مع مضيّ سنواتٍ على حدوثه
في قمة المجموعة الأوروبية الأخيرة، وقف رجل الأعمال الفرنسي ايرنست انطوان سيلييه يلقي كلمة باسم رجال الأعمال الأوروبيين، وفوجئ الرئيس الفرنسي شيراك أن مواطنه إيرنست بدأ بإلقاء الكلمة باللغة الانجليزية، لغة شكسبير، فقاطعه قائلا: لماذا لا تلقي كلمتك بلغتك الأم؟ فرد إيرنست “سألقي الكلمة باللغة الانجليزية، لأنها لغة البزنس”، وغضب شيراك وغادر القاعة مع وزير ماليته تيري بريتون ووزير خارجيته فيليب دوست بلازي. وعندما سأله الصحافيون عن سبب الغضب والانسحاب قال: “لقد صدمت لرؤية فرنسي يعبر عن نفسه بغير اللغة الفرنسية، وقد انسحبت لكي لا أستمع إلى كلمة شخص لا يحترم لغته”. ولم يغادر شيراك مقعده، ولم ينسحب من الجلسة عندما ألقى جين كلود تريشيه، حاكم البنك المركزي الأوروبي، كلمته، فقد كان يتحدث بالفرنسية، رغم أن الحوار في اجتماعات البنك يجري باللغة الانجليزية. وشيراك درس في الولايات المتحدة، وهو يجيد اللغة الانجليزية كأحد أبنائها، ولكنه توقف عن استخدام هذه اللغة منذ انتهاء دراسته وعودته إلى فرنسا، وعندما التقى الرئيس بوش في السنة الماضية أصر على التحدث بالفرنسية معه، وكان يرافق الزعيمين، حتى على مائدة العشاء، مترجمان، الأول أمريكي ينقل كلام بوش إلى الفرنسية، والثاني فرنسي ينقل كلام شيراك إلى الانجليزية. وفي الأمم المتحدة حيث الحوار باللغة الانجليزية، تظاهر شيراك بأنه لم يفهم بعض الأسئلة التي وجهت إليه باللغة الانجليزية، فقام توني بلير الذي يجيد الفرنسية كأحد ابنائها بالترجمة له.
والاعتزاز باللغة الأم ليس وقفاً على الزعماء في أوروبا، إذ إنك لن تجد في المدن الفرنسية من يستمع إليك إذا تحدثت بغير الفرنسية. وإذا كنت فنانا وترغب في عرض لوحاتك في أحد المعارض الفنية في باريس، فينبغي عليك أن تتفاهم مع صاحب المعرض بهذه اللغة، وأن تشرح له خصائص كل لوحة من لوحاتك بها، وقد تغامر الفتاة الفرنسية بالتضحية بموعد عاطفي مع شاب مليونير واعد لمجرد أن الشاب لا يجيد التعبير عن نفسه بلغة موليير. وإذا اضطر الفرنسي إلى التحدث بلغة غير لغته الأم فإنه يتعمد نطق الكلمات بطريقة غريبة، ربما ليشعرك أن هذه اللغة التي يحادثك بها غير جديرة بأناس حضاريين، وأن اللغة الحضارية هي لغته الأم.
وفي ألمانيا، قد تجد في الشارع من يحدثك بلغة غير ألمانية، ويرشدك إلى عنوان تبحث عنه، أو إلى مطعم لتناول وجبة غذائية، ولكنه قطعا سائح مثلك، إذ إن الألمان يرفضون بإباء التحدث بلغة غير لغتهم.
والأدباء والمفكرون الانجليز والأمريكان يرفضون إلقاء كلمة أو محاضرة حتى في الخارج، بغير اللغة الإنجليزية، وإسبانيا وفرنسا تنقيان لغتيهما حاليا من الكلمات الأجنبية التي دخلتهما، وعندما زار الأديب الجزائري العالمي مالك حداد دمشق في أوائل الستينات وعقد ندوة أدبية اعتذر في بدايتها بالقول: \\\'\\\'في حنجرتي غصة استعمارية زرعها الفرنسيون، فاعذروني إن لم استطع الحديث إليكم كما أريد، بلغتي ولغتكم العربية، لأن الفرنسيين فرضوا عليّ الجهل الكامل بهذه اللغة”. وكان مالك حداد يكتب بالفرنسية، وبعد استقلال الجزائر عام 1962 توقف عن الكتابة حتى نهاية عمره عام 1974 وقال: “قبل الاستقلال، كنت بحاجة إلى أي لغة لكي أدافع عن قضية بلدي، أما الآن، فإن كل كلمة أخطها يجب أن تكون عربية”.
والتمسك باللغة الأم مظهر أساسي من مظاهر احترام القومية والمواطنية، والتخلي عنه تفريط في ذلك، والله خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا، ولو كان العالم بأسره قبيلة تتكلم لغة واحدة لكان مثيراً للضجر، واحترام اللغة الأم ليس شوفينية ولا غروراً قومياً، وإنما هو في مصلحة الثقافة العالمية والحوار بين الحضارات، إذ لا يمكن بناء العالم على لغة واحدة، وبالتالي على ثقافة واحدة.
والذين يرون أن التحدث بلغة أجنبية مظهر حضاري، ويتباهون عندما يحيونك بكلمة “هاي” ويعربون عن اتفاقهم معك في الرأي بكلمة “أوكي” نقول لهم: إن الدول لا تترسخ وترتقي إلا بارتقاء لغتها.
----------
منتديات المساهم الاقتصادية
http://www.musahim.biz/showthread.php?t=171404
Wholesale Cheap Nike, Jordans, Adidas, Air Max Shoes China Sale Online