تعيش المدرسة العربية اليوم حالة من الفوضى الناجمة عن العدوى التي قد تكون طالتها كنتيجة لسياسات "الفوضى الخلاقة" في المجال السياسي، بالخصوص تلك التي استهدفت مجتمعات ذات أهمية إستراتيجية عالمية مثل فلسطين وأفغانستان والعراق (*).
ويتزامن مع هاته الفوضى، سواء بموجب السببية أو غيرها، تفاقم ظاهرة إقصاء الآخر في صلب المجتمع نفسه وفي المدرسة بالذات. وتتجلى مظاهر الإقصاء ورفض حق الاختلاف في صراعات تتحكم بها أشكال متنوعة من التعصب مثل الطائفية العرقية والدينية، والتحجر الفكري الناتج عن التزمت الديني والعلماني على حدّ سواء.
وقد انعكست الفوضى و"أخواتها" من مظاهر العنف الناتج عن الإقصاء ورفض حق الاختلاف على المدرسة العربية، أين يعرف المجال التعليمي والتحصيلي تدَنِّيا في المستوى مقارنة بالمدارس (والكليات والجامعات) في البلدان المتقدمة وفي البلدان الصاعدة.
ولا ينبغي التقليل من خطورة الوضع التربوي العام لمّا يقال مثلا، كما صرح به مسئول التربية في بلد عربي مؤخرا، إنّ الرداءة طالت فقط تعلّم اللغات بينما سائر المواد، العلمية منها بالخصوص، محافظة على مستوى راقٍ أو عادٍ من التطور.
بالعكس إنّ مثل هذا الرأي، وهو صحيح فقط في ظاهره، يدل على انفلات العلوم والمعارف، عبر موادها المدروسة، من رقابة اللغة وتحكمها الطبيعي بها، ومن باب أولى من رقابة وتحكم اللغة العربية بها.
في الأصل لمّا أؤكد على القول إنّ العلم قد تخلص من قبضة اللغة وإنّ المعرفة لم تعد تحت طائلة اللغة ، فالمقصود باللغة ليس أية لغة أو بعض اللغات أو كافة اللغات بالمعنى الأداتي، بل المقصود المنظومة اللغوية الكلية، بطمّ طميمها وبأبعادها المختلفة والمتكاملة، العقلية والعاطفية والسيكولوجية والسوسيولوجية والثقافية والتواصلية وغيرها؛ المقصود أولا وبالذات الموقف اللغوي للمجتمع العربي الإسلامي من الحياة.
وتخلص العلوم والمعارف من قبضة اللغة يعني أنّ الذي سيستفيد مستقبلا من تلكم العلوم والمعارف المُحصلة من المدرسة العربية هم المجتمعات التي حافظت على قبضتها محكمة على المنظومة العلمية والمعرفية وبالتالي حافظت على موقف لغوي فعّال إزاء الحياة؛ سيستفيد منها أصحاب اللغات المتطورة. وهذا ما يفسّر اطراد هجرة الأدمغة، بحكم الدفع كما بحكم الجذب، من بلداننا باتجاه الغرب وازدياد عدد المطالب من طرف تلاميذنا وطلبتنا للالتحاق بمؤسسات الدراسة بالخارج.
هذا الصنف من التهريب، تهريب العلوم والمعارف، والذي يتم في غياب حارس أمين وضابط جمارك (حارس الحدود) متفانٍ، سيذهب ضحيته المجتمع العربي والإسلامي ككلّ. إذ إنّ كل تهريب عادة ما ينتهج مسالك غير قويمة وغير معتادة بل هجينة و خاطئة. ولكونها كذلك فهي غير موائمة لطموحات المجتمع العريض بخصوص ارتقاء التحصيل العلمي وتثبيت الوجود الثقافي و تجسيد الاضطلاع الحضاري.
ولا يمكن أن يوضع حدّ للتهريب إلاّ باسترداد العلم والمعرفة المهربَين. وهما لا يُستردّان إلاّ باللغة؛ أعني بتصحيح الموقف اللغوي من الحياة. وهذا يستوجب تربية لغوية جامعة وشاملة، تعنى بالناشئة المتمدرسة و بكل ما تُعلّمه المدرسة لهذه الناشئة.
وليس الاسترداد عبر اللغة مرادفا للتوطيد المباشر للغة العربية أو للغات عموما بقدر ما أعني به منهجية شمولية يكون من أهم أغراضها التدريب اليومي على الاتصال مع الإنسان ومع الطبيعة، ومن أهم أهدافها تموين الناشئة بالقدرة على تحقيق كل أصناف التوازنات إزاء الأرض والعالم والعباد، ويكون من نتائجها الطبيعية والمنطقية تطوير اللغات واستعادة العربية لبريقها الفطري والتاريخي.
إنّ توخي سياسة تستند إلى التربية اللغوية يعني أن نعمل على نمذجة السلوكيات الأخلاقية، والتعليمية متفرعة الأوجه، حسب مقتضيات أنموذج تربوي واضح وبسيط يرتكز على منظومة من المسلمات: كل عملية تربوية تتطلب الإيمان بقيمة سامية؛ القيمة بالنسبة لي ولأي مؤمن آخر هي الإسلام؛ والقيمة بالنسبة لمن لا يؤمن ستكون اللغة بالتحديد؛ وتعليم أي مادة مدرسية سيكون عندئذ قابلا للاستناد على هذه القيمة أو على تلك أو على الاثنتين معا.
ولتطبيق ذلك ينبغي أن تتمّ نمذجة السلوك الديني، التوحيدي العام، إلى سلوك لغوي. ومنه أعتقد أنّ استخدام النموذج اللغوي، على شاكلته اللغوية المستنسخة من واحد من نماذج التدين، في تعليم اللغات كما في تعليم سائر المواد المدرسية، سيساهم في حل مشكلات عديدة ومختلفة.
ومن أخطر المشكلات التي ستُحل أذكر الموقف العام تجاه الإسلام كدين وهو موقف منقسم ومشتت إلى أبعد الحدود يتسم برفض الآخر وحق الاختلاف (بين إسلامي وعلماني وملحد وماأدري وغيرهم)، ما حدا بالسياسيين الحاكمين أن يُجربوا العديد من الوسائل من أجل ضمان التنوع العقدي لكنها كانت غير ناجعة و لم تزد الموقف إلاّ تعقيدا. كما أنّ أطرافا سياسية غير حاكمة مثل الأصولية الدينية والأصولية العلمانية وغيرهما من المذهبيات تدخلت بالمسألة هي الأخرى للبحث على توازنٍ ما، لكن من دون جدوى أيضا.
إذن ليس هنالك أفضل من اللغة عاملا للتوحيد المدرسي والاجتماعي لتجسيد التنوع المثمر. والحجة على ذلك أنّه إذا تعذر على كل الناس أن يكونوا مؤمنين بدين الإسلام (أو بأي دين آخر)، فلا عذر لمن ليست له لغة؛ حتى الأخرس صار من حقه تلقي التدريب كواحد من أصحاب الاحتياجات الخاصة.
في هذا السياق ستُحل مشكلة الاحتباس التواصلي المنجرّ عن التزمت العقدي والعرقي بمجرّد أن نضع على ذمة كل متعلم منظومة إيمانية مَرنة مناوئة بطبعها للوصاية على الفكر والمعتقد. فلن يكون هنالك فرق، في سلّم التعليم، بين متعلّم مؤمن بالإسلام ومتعلّم مؤمن باللغة.
فبينما يتمتع الأول بإمكانية الجمع بين إيمان ديني وإيمان علمي، يكفي أن يكون للثاني إيمانا من الصنف العلمي (اللغوي)، إذ سيلتقي الاثنان في الجانب العلمي، بل يتوحدان فيه، فلن تكون النتيجة إلاّ الحماس والتحفز والعمل المدعوم بالدوافع النبيلة والنجاح في التحصيل والسيطرة على المعارف والعلوم.
هكذا سيتسنى أن نضرب عصفورين بحجر واحد: أولا، أن تتمتع المدرسة بالاستقرار الضامن لكل الحصانة من أية فوضى مستوردة هدامة. ثانيا، أن تضع المدرسة الناشئة على سكة مناوئة لتهريب المعارف والعلوم وبمنأى عن سكته.
وبموجب تحرير العقول بهذه الطريقة من كابوس التفرقة باسم العقيدة والطائفة والعرق وغيرها، وبموجب تصحيح الموقف اللغوي ستُمكن المدرسة العربية أبناءها وبناتها من التوليد الخلاق للمعارف والعلوم.
------------------
محمد الحمّار
باعث فكرة "الاجتهاد الثالث"، الفكر اللغوي الإسلامي.
* لي مقال في هذا الصدد ما لبث أن نُشر: "نظرية الفوضى تطال المدرسة العربية: ناقوس الخطر يدقّ"