في البداية لا بدَّ أن نتّفق على مفهوم (المدرسة) , فبنظرنا أنّها مجموعة من الآراء يتواضع عليها مجموعة من الناس , تُشكّل رؤية ً ما , لهم طريقة في التفكير مميزة , فينهجون منهجاً للوصول إلى هدفٍ ما .
والمدارس النحوية مصطلحٌ يشير إلى اتجاهات ٍ ظهرت في دراسة النحو العربي , اختلفت في مناهجها في بعض المسائل النحوية الفرعية , وارتبط كلّ اتجاه منها بإقليم ٍ عربي ٍ معيّن , فكانت هناك مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة , ومدرسة بغداد وهكذا ..
ولكنّ بعض العلماء لم يضعوا على تلك المدارس اسم "مدرســــة" واستندوا برأيهم على مفهوم المدرسة , ووحّدوا أنّ كلّ تلك المدارس تسير نحو هدف ٍ واحد , ورؤيةٍ واحدة , وهي النحو العربي , بثوابت كثيرةٍ ومشتركة ٍ فيما بينهم , وما كان اختلافهم إلاّ الشيء القليل بفروع ٍ صغيرة , أحياناً ما وصلت تلك الاختلافات بالرأي إلى توسعة دائرة الخلاف بين المدارس دون وجود مسبّب أو مبرّر لذلك الخلاف .
لذلك أطلقوا عليها اسم المذاهب , أي : مذهب البصرة ومذهب الكوفة ونحو ذلك .
ويميلُ الرأي لدينا إلى هؤلاء العلماء , بحيث تُسمّى كلُّ تلك المذاهب باسم المدرســة النحويــة العربيــة , بينما العديد من المعاصرين استحسنوا لفظ المدرسة فاستعاروها في مادّة الخلاف النّحوي , حتى في مسائل أدبية أخرى.
فاستخدامنا كلمة مذهب لأنّها تطلق على الطريقة التي سار عليها أحد النّحاة أو عن الخلاف النحوي بشكل ٍ عام , فنقول مذهب البصرة والكوفة , وكذلك مذهب سيبويه والكســـائي لأنّ بالأصل كما ذكرنا سابقا أنّ اختلاف المذهبين البصريّ و الكوفي ّ كان في الفروع فقط , أما الأصول فقد اتفق عليها جمهور العلماء دون خلاف أحدهـــم .
والذي يدُلّ على ذلك أنّ من الممكن أن يوافق بصريّ كوفياَ , وبالعكس , بعدة آراء , خاصة إذا كان الرأي موافقا منهج النحوي ّ .
ومما يدلّــل على ذلك أيضا خلوّ كلمة " مدرسة " من التراث العربي القديم بأن تدلّــل على المنهج النحوي , والأمثلة على ذلك كثيرة , فمنهم مثلُ ابن النديم يخصّص باباً في كتابه يُفردُ للكلام في النحو وأخبار النحويين واللغويين من البصريين , وكذلك عند الكوفييـــن .
وكذلك الزبيدي فقد وضع النحويين واللغويين في طبقات , ابتدأها بطبقات النحويين البصريين وصنّفهم إلى عشر طبقات وهكذا .
أمّا المدارس اللسانية الحديثة , ففعلاً يحقّ لنا تسميتها بهذا الاسم , لأنّ أغلب المدارس في جوهرها وأصولها تختلف عن بعضها البعض , كلّ مدرسة بنشأتها و أسباب نشأتها تُخالف المدرسة الأخرى , وحتى بهدفها المستقبلي تخالف تلك المدرسة .
وبهذا الأمر تميّزت المدرسة النحوية العربية القديمة بمحافظتها على الأصل والثابت , وبذلك وحّدت الجهود للوصول إلى الهدف الأسمى وهو خدمة لغة القرآن الكريم .
ومن هنا فارتباط تلك الدراسات القديمة وعلى رأسها المدرسة النحوية بالقرآن الكريم , يجعلها خالدة ً إلى قيام الساعة بخلود القرآن الكريم الذي هو عقيدة الأمة الاسلامية , و هو الذي أكسب اللغة العربية الشرف الأسمى لها , وجعل دراستها من العقيدة و الاهتمام بها أيضا من العقيدة .
اما إذا أردنا الاتكاء على تلك المدارس اللسانية الحديثة , فيبدو أننا قد ضللْـنا الطريق , فالكلّ يعلمُ سبب نشأة تلك المدارس , وممّن نشأت , فنحن العرب لدينا العقليّة الواضحة التي شكّلها القرآن الكريم لنا , فلا نحتاج إلى تلك المدارس لترشدَ فكرنا إلى طــُرُقه الصحيحة .
ونحن أهلُ السبق في ذلك لا نتعلّم ولا نأخذ منهم .
فالمدارس اللسانية الحديثة تتجه نحو محو ِ تراثِ الأمة العربية والانتقاص من فكرها وعقليّتها .
ولكن لابدّ أن نتعلّمها والاستفادة مما هو حَسَن منها , وتوجيهها نحو فكر الأمة العربية وعقليتها .
وصلّى الله على سيدنا محمد عليه أشرف الصلاة و التسليم .