في شهر جانفي (يناير) من عام 1991 لمّا ضربت قوى تحالف الثلاثين بلد العراق الشقيق وشعبه، صعُب عليّ تصوّر العقد ونصف العقد من الزمن المتبقي الذي سأقضيه في تدريس اللغة الانكليزية للشباب العربي. وكان أضعف الإيمان أن توقفتُ عن استعمال اللغة الفرنسية في كتابة القليل الذي كنتُ أكتبُه من مقالات، واكتفيتُ بالعربية. ولم أندم على ذلك لأنّ الأيام والأعوام ستبيّن لي ما لم أفهمه على التوّ من حيثيات مُحيطة بموقفي ذلك.
لم أكن حينئذ مُلمّا بصفة دقيقة بالدوافع في حقيقتها التي آلت إلى أن أتخذ مثل ذلك القرار، لكني كنتُ أحس على الأقل أنّ باسم تحرير الكويت الشقيق قد تمّ اغتصاب الذات العربية في الصميم. وما زاد الجرح عمقا هو أنّ الأمر قد استلزم مشاركة أيادٍ عربية في الاغتصاب. وهذه ذروة السادية، والسادية صنف من الانتحار. لكأنّ قوى الشر فينا تأبى أن تتحرر الذات مع تحرر الوطن في الآن ذاته.
واليوم تأكدتُ أنّ العربية ليست فقط لغة الاعتزاز بالذات ورد الفعل على محاولات التشكيك في الهوية وتدجين القضايا المعاصرة للناطقين بها، وإنما هي أيضا، تكميلا لتلك الصفة، لغة الحضارة. لكن الحضارة تتطلب وضوح الرسالة لدى من يعتزم بلوغها. وأين نحن اليوم من الرسالة الحضارية، التي أكد عليها كبار مكافحي الفكر على غرار مالك بن نبي رحمه الله؟
كانت العربية لغة الدعوة الإسلامية أيام البعثة المحمدية ولغة الفتوحات التاريخية. ثم تحولت في ما يقابل وسط العصور الوسطى الأوروبية، إلى لغة العلم والترجمة والإبداع الأدبي والفني، ما جعل المسلمين يتبوءون مكانة مرموقة بين المجتمعات العالمية ويعيشون عصرهم الذهبي (ق 8 م- ق 13 م). وفي العصر الحديث أبت العربية إلاّ أن تكون، إلى جانب الدين الإسلامي، خير سند لحركات مقاومة الاستعمار في الشرق والغرب العربيين. كما شهدتُ أنا وأندادي من بني الجيل الأول للاستقلال على العربية درعا سيكولوجيا ومعرفيا ورمزيا، حاميا لعُرى التواصل مع العصر الحديث من الاغتراب الثقافي، وكذلك سندا لحركة بناء الدولة الحديثة وتربية المجتمع العصري.
أمّا اليوم فنحن أمام لغة عربية جميلة لكنها بطيئة الحركة، عذبة الألحان لكنها مخدوشة الحنجرة، ثرية لكنها شحيحة على أهلها. والسبب في أنها قابعة في وضع مزرٍ مثل هذا ليس هي، بل أهلها. وأهلُها هُم الذين لم يعد لديهم من الغايات والأهداف النبيلة سوى اللهث وراء المال والتباهي بكل ما هو مادي. حتى وإن لاحظتَ، مثلا، أنّ الشباب المتمدرس محافظ على رغبته في الدراسة والتحصيل فذلك يحدث عموما في الأوساط الاجتماعية ميسورة الحال ولا يطال الأوساط ضعيفة الحال، وهي تمثل الأغلبية. و حتى وإن تبينتَ من أنّ شباب المدارس والجامعات من بين هؤلاء ميسوري الحال يشدد على واجب التألق من أجل نيل الشهادة بامتياز وتميّز فذلك صار ضربا من ضروب المزايدة من طرفهم على القيمة المالية المُضافة للوظيفة أو للاختصاص العلمي الذي يحلمون بالظفر به. تلك هي رسالة الشباب الحالي، وتبّا لرسالة مثلها.
لقد انقرضَت قيم مثل الكفاح من أجل الاستقلال والجهاد الأكبر من أجل تطوير المجتمع وتحنطت بانقراضها أسباب قيم جديدة مثل النضال الحقوقي من أجل الحريات، ولم يعد المجتمع العربي الكبير قادرا، لا على الحفاظ على قيم مازالت مشروعة مثل مقاومة الاستعمار الجديد ومناهضة رأس الحربة لديه، العولمة، ولا على استبدال العناصر العقدية (العلمانية والدينية) البالية بمقومات مستحدثة للكفاح من أجل النهوض. وهذا الصنف من الذخيرة الغائبة هو الذي من المفترض أن يكوّن سجية الرسالة الحقيقية، رسالة المجتمع ككل.
ولمّا تفتت هكذا السجية وامّحت معها ملامح الرسالة، ضعفت الأداة المعبرة عنها، وهي اللغة العربية فانقلبت الرسالة. فالذي حصل لشباب جيل البترودولار (1973- 1991) أبغض ما قد يحصل لشباب إزاء لغته الأم. والشباب الذي أقصده هو الذي عاش في رفاهة (خيالية) في المجتمع الخليجي الشقيق بفضل عائدات وطنه المباشرة من بيع النفط، وكذلك شباب عاش في رفاهة (نسبية) بفضل دخل العمالة التي صدرها بلده إلى دول الخليج العربي، مع تمتعهم بعائدات الاقتصاد الداخلي.
وقد تمتع هؤلاء وأولئك بالعيش الكريم على تلك الشاكلة إلى أن أعلن كبار العالم، ضمنيا و حربيّا، البترول سلاحا لتنويم الوعي بالحاجيات الأصلية للمجتمع العربي أكثر منه سلاحا لمقاومة الهيمنة الاقتصادية العالمية وما يصحبها من هيمنة عسكرية أمريكية مثلما حدث إبّان حرب أكتوبر(تشرين الأول) من سنة 1973. وهنا أعتبر اللغة العربية أولى الكائنات الذاتية، خادم الوعي وصوته، التي تأثرت سلبا بالمدّ المركنتيلي والترفيهي المسيطر على المجتمع العربي في تلك الفترة.
والذي جرى كنتيجة لتنويم الوعي العربي هو استسلام الذات فاقدة المقومات، للغات أخرى، تجلب للناطقين الجدد بها كل ما يشتهونه من موضة وأطباق من الأكل العالمي الشهيّ ومن تقليعات الملابس ومن ماركات السيارات الفاخرة ومن سائر المغريات واللذائذ. فحتى التحصيل العلمي صار أداة لتحقيق "الحلم الأمريكي" لدى شباب العرب. فهل ينبغي، والحالة هذه، تعريب الحلم أم تطعيم العربية بالطموح وبالحُلم الموجب؟
في سياق متصل وممهد للإجابة عن هذا السؤال، أستنتج أنه لا خير في من يعلم أن العربية اليوم تفتقد إلى الدعم الرِّسالي المنشود و مع ذلك تراه يرفض الكفاح من أجلها بل يشمئز منها و"يتفرنس" أو يصير انكليزيّا أكثر من الانكليز وإسبانيّا أكثر من الإسبان، بدعوى الحداثة، ولا في من يتشبث بالعربية و يأبى أن يحاول فهم مشكلتها ومشكلة المجتمع العربي إزاءها. فهؤلاء وأولئك أضرّوا لا فقط بالعربية وإنما أيضا بلغات العصر الأخرى، فأضحت هذه الأخيرة عند عاشقيها من العرب لغة العلم والمتعة والترف والسعادة المادية، وعند مناهضيها لغة المجون والفساد والفسق وربما الكفر أيضا. بينما الحقيقة هي أنّ اللغة الأجنبية، ككل لغة، فكر وثقافة. كما أنّ اللغة الأجنبية، في سياق التخلف اللغوي عند العرب اليوم، يمكن أن تكون مثالا يُحتذى لتطوير اللغة العربية بالتحديد كما بيّنّينا في مقالات سابقة وكما سنتعرّض له لاحقا.
وإذا حصل لدى العربي العاقل ما قلّ ودلّ من الوعي بالوضع الرديء الذي لا يليق بلغة عظيمة اسمها العربية فإن الخيار الأوضح للإسراع بإنقاذها هو الأصعب للتحقيق. إذ إنّ العربية لا تنتظر لا ترجمة العلوم من سائر اللغات المهيمنة إليها على التو، ولا هي تتطلب تمديدا في الوقت المدرسي المخصص لتدريسها، ولا هي تفرض على الشباب أن يترك مشاهدة الأفلام أو المطالعة باللغات الأخرى وأن لا يشاهد إلاّ أفلاما عربية أو أن لا يطالع إلا كتبا بالعربية.
إنّ الخيار الإنقاذي اسمه الحلم العربي وهو المشروع العربي الطَّموح من أجل التغيير والنهوض. وهو ما تُناجينا العربية من أجل تشكيله. ويبدأ الحلم بالإصغاء إلى هذا الكائن الحيوي في حياة العرب: إنّ العربية تناشد الناطقين بها أن يغيروا رؤيتهم للحياة، وأن يبدلوا تصوراتهم للعالم الذي يعيشون فيه، وأن يراجعوا مسلماتهم بخصوص معاني العيش الكريم، وأن يعدّلوا مواقفهم من المادة ومن الشهوات ومن النهم ومن الوفرة، وأن يزيحوا الغطاء عن بذور مغمورة في داخل السجية، وأن يغوصوا في أعماق ذواتهم أين توجد الثوابت القيّمة، الفطرية منها والمكتسبة، الدينية منها والثقافية، وهي رابضة في وضع انتظار للتفعيل.
والتفعيل اللغوي من أجل تنفيذ المشروع العربي الطَّموح يستوجب التفعيل الإيماني، سواء أكان هذا الإيمان دينيا أو علمانيا. فحبّ اللغة الأمّ إنما هو إيمان عادة ما يكون منبثقا من حبّ يكنّه المؤمن للغة، لثقافة تلك اللغة أو لعائلة المولد والنشأة أو للموطن. ومَهما بدا الأمر متناقضا، فلا غرابة في أن ينبثق حبّ العربية من حبّ يكنّه عربيّ للغة الأجنبية. إذ إنّ مشاعر نبيلة مثل الوطنية والعروبة من شأنها أن تحوّل لدى ذلك العاشق للغة الأجنبية، بدافع الغيرة والاقتداء، حبّه للأجنبية إلى حبٍّ للعربية، مع محافظته على توازن حكيم سوف لن يؤول في النهاية إلاّ إلى تأكيد حقيقة قدمها وبينها وشرحها علماء الألسنيات المعاصرة (المدرسة الولادية؛ نعوم تشومسكي على وجه الخصوص): كل اللغات متعادلة، ولا فرق بين واحدة وأخرى إلاّ من حيثُ انتساب الناطق بها إلى مجموعة ثقافية دون سواها. وهي قاعدة من المفترض أن توطد الميل إلى اللغة المحلية (العربية) حتى يصبح تشبثا صحّيا بها، لا أن تُحوّل القاعدةُ الإغراءَ الذي تمارسه الثقافة الوافدة علينا إلى ميل إلى الأجنبيات وإلى تشبث (مرَضي) بها، كبديلٍ للعربية ولعالم العربية ولثقافة العرب ولحضارتهم، كما يحدث اليوم.
والوضع العالمي الراهن سانح لانبثاق الطموح لدى الإنسان العربي الراغب في النطق الوظيفي والبرغماتي والحيوي بالعربية. وقد يكون هذا الوضع سانحا أيضا لتجسيد الطموح، في مرحلة مُوالية. فهو وقت عجزت فيه كبار الدول على الوفاء بوعودها الإنقاذية والإيفاء بعهودها ومواثيقها الدولية والالتزام بتعهداتها المالية واللوجستية لمحو الفقر والمرض من العالم وتعديل الكفة وإرساء التكافؤ بين الرجل والمرأة ( هنالك غضب بريطاني في موضوع الالتزام العالمي؛ اجتماع "الألفية" في شهر أيلول/سبتمبر من سنة 2010). وهو وقت بدأ يستفيق فيه العالم على وقع حركة التعاطف مع غزة المحاصرة. وهو عموما وقت أضحى يهتز فيه الاقتصاد العالمي بلا هوادة على إثر زلة في المال والأعمال أو على إثر كلمة يُدلى بها في بورصة المال أو صفقة مخطئة في سوق الأعمال؛ عالم فقد كل المبررات غير المادية للوجود. إنها فرصة سانحة للعقل العربي بأن يتدبّر الوضع العالمي الراهن فيستنبط النظريات و الطرق والوسائل التي تُحوّل وجهة المال والعلم والمعرفة، من نهج الاستغلال والجشع والنهم إلى نهج التوازن والاستقامة والاعتدال. ذلك بعضٌ من رسالة الناطقين بالعربية. ورسالتهم هي نفسها رسالة اللغة العربية. فالرسالة العربية الإسلامية رسالة لغوية بالأساس.
وما دامت الرسالة المتخلدة بذمة اللغة العربية هي نفسها المتخلدة بذمة الناطق بالعربية وبالفكر العربي فإنّ تحقيق المشروع العربي الطموح يتطلب مدّ الجسور بين الأرضية الحياتية للمجتمع العربي، فكرا وممارسة، مع اللغة العربية الفاقدة لمكانتها وإشعاعها إلى حين. فالعربية والناطقون بها يدعون الخبراء العرب من كل مجالات المعرفة، إذ إن الخيار الإنقاذي لا يقتصر على الخبراء والفنيين والمختصين في اللغة فحسب، ولا في اللغة العربية دون سواها من اللغات، ولا في الدين دون علوم الدنيا، ولا في الاقتصاد والمصرفية وغيرها من المجالات الحيوية، بل في كل ما يمتّ للغة الحية بصلة. وهل هنالك مجال في الحياة لا يمتّ بصلة للغة، ومن باب أولى وأحرى للغةٍ عربية وظيفية و براغماتية وحية ينشدها الكبير والصغير من هذه الأمة؟
----------------------
محمد الحمّار
باعث فكرة "الاجتهاد الثالث"، الفكر اللغوي الإسلامي