في ما يلي مقطعٌ مُترجَم ممّا يشبه صفحة من كتاب الانكليزية للمبتدئين:
مُتكلم 1: أنا اسمي عبد الله. ما اسمكِ لو تسمحين؟
مُتكلم 2: مرحبا عبد الله. أنا اسمي فاطمة.
متكلم 1: أهلاً فاطمة. أنا سعيد بمعرفتك.
متكلم 2: أنا سعيدة بمعرفتك أيضاً.
هذا التبادل البسيط للمعلومات بين متكلمين اثنين قد يكون مُدرَجاً في مناهج التعليم المعمول بها و فاتحة الدرس الأول في الانكليزية لمتعلّم غير ناطق بها. ولمّا كان اهتمامي بالمتعلم العربي دون سواه وخصوصاً الطفل والشاب، أقول إن هذه البداية خطيرة على مستقبل المتعلم؛ على اللغة الأجنبية التي يتعلمها وكذلك على لغته الأمّ (العربية) وعلى هويته كمنتسب للثقافة العربية الإسلامية.
لو كان من المُزمع أن يتمّ إنجاز ذلك التبادل التواصلي في مرحلة أخيرة من درس اللغة، مرحلة التأليف والبث، أين يكون المتعلم مطالَبا بإثبات هضمه لِما تعلمَه، لَمَا استنكرتُ الوضع. بل بالعكس أنصح مُدرسي اللغة بتكثيف إدراج عبد الله وفاطمة في حوار مماثل. لكن الخطر يكون محدقا لمّا يحدث التبادل في مرحلة التقبّل، أين من المفروض أن يكون الحوار بين 'بيتر' و'دجاين' لا بين عبد الله وفاطمة.
وحتى في حال حرص المعلم أو مُصمم المنهج على إقحام المُحاورَين العربيين منذ البداية فليكن. لكن شريطة أن يكون 'بيتر' و'دجاين' منضمَّين منذ البداية إلى الحوار معهما، على أنهما لا يتقنان العربية، وذلك لتعليل حاجة عبد الله وفاطمة لاستعمال لغة غير لغتهما الأم في التخاطب، ولتفسير تنازلهما عن التخاطب بالأم . وإلاّ سيخامر ذهن المتعلم تساؤل لاواعي عن لماذا لا يقع إقحام 'بيتر' و'دجاين' في التحاور مع شابّين عربيَّين بلغتهما العربية. وستحصل الكارثة (مثلما هي حاصلة في واقع اليوم بالفعل): التنازل عن كل شيء لفائدة الآخر بداعي تأكيد التنازل اللغوي الذي سيُعدّ سابقة في سلّم التنازل الشامل.
فعندما يحشر المعلمُ (والكِتاب المدرسي) المتعلمَ العربي، كما رأينا، باسمه الحقيقي وبهويته الحقيقية، في مقام باثٍ للغة الأجنبية في حوار قصير مثل الذي اقترحتُه، و رغم قِصر وبساطة الحوار، فإنه يحشره مباشرة في نظام لغوي غير النظام المنتمي إليه المتعلم بالولادة أو الوراثة أو الثقافة. وهذا الحشر سيمنح المتعلم مشمولات جديدة لم يكن يملكها قبل قراره تعلّم اللغة الأجنبية. وفي طليعة هذه المشمولات، المُؤذية إلى أبعد الحدود، أذكر القابلية لدى التلميذ أو الطالب أن تكون اللغة الجديدة لغة تنتمي إلى ثقافته (بينما هي ليست كذلك)، ومنه قبوله لها من غير قيد ولا شرط. والنتيجة أن تصبح المسألة متعلقة باستبطان ثقافة اللغة الأجنبية (ومنه الاغتراب) أكثر منها بإتقان اللغة المعبرة عن تلك الثقافة والانتفاع بالآثار الطيبة للتثاقف. وهذا تحقيقٌ لا واعٍ للتنازل الثقافي، البوابة الرئيسة للتنازل الشامل.
وأقصد بالقيد والشرط وُجوب إدراك المتلقي للّغة الأجنبية أنها باقية على صفتها (الأجنبية) وأنها بالتالي ليست لغته الأم ولن تكون لغته الأم. و بتوفير هذا الشرط الأساسي يعطي المعلم للمتعلم فرصة ثمينة ليخدم مصالح عدة تشكل التصور العام لتعليم اللغات، من أهمها أذكر:
- مصلحته كمُستسيغ للغةٍ ليست لغته، ما سيحثه على مداعبتها بكل أريَحية وعلى تلقيها بكل جدية. فلم يعد متخوفا من أن يخسر لغته الأم، كما لو تمّ إرغامه، مثلما يتجلى في المثال، على تعلم اللغة الدخيلة على أنها ستكون مِلكا له وسيكون هو ملكا لها. لذا ستنبري ملكاته إلى أقصاها نتيجة لتخلصه من ذلك العائق الميطا- لغوي وسيكون قادرا على الإبداع نطقا وكتابة في كافة اللغات عموما، على عكس ما يحدث اليوم من فوضى غير مسبوقة في المدرسة العربية.
- مصلحة اللغة الأجنبية المتعلّمة؛ حيثُ إنّ الحفاظ على اللغة لغة، لا ترسانة ثقافية تكرّس الانبتات، يتطلب حسن الأداء في التكلم بها والكتابة بها بعد فهمها مسموعة ومكتوبة. والأداء الجيّد يصير ممكنا، كما رأينا، لمّا تنقشع سحب التهديد الهوياتي وذلك باجتناب الزج بالمتعلم في وضعيات متكلم اللغة الأجنبي الأصلي، مهما كان الداعي لذلك، إن داعي الواقعية أم داعي التماهي مع المستعمل الأصلي أم داعي الانبهار (العشوائي) أم غيرها.
إن الواقعية هي تلك التي تؤكد لدى المتعلم أنه بصدد تعلّم لغة أجنبية لا غير.
- مصلحة اللغة العربية؛ حيثُ إنّ امتعاض الشباب العربي اليوم منها لا يعود لا لضعفٍ مزعوم للغة العربية على مواكبة الحداثة وما إلى ذلك من الكلام، ولا لرداءة الطرق المتوخاة لتدريسها ولا لأية شماعة مماثلة. الحقيقة هو أنّ الضعف إن وُجد، و الرداءة إن وُجدت، وعزوف الشباب (ونفرٌ من الشيب كذلك) عن العربية، وهو واقع، إنما هي صفات تندرج في باب التداعيات الحاصلة جرّاء خروج القاطرة الرأسية (اللغوية) عن السكة وما تلاها من خروج القطار بأكمله (الثقافة، ومنه الفكر و السياسة).
أمّا الحل فيكمن في استرداد عاملٍ أساس، والمتمثل في وظيفة مزدوجة وبالتالي متكاملة: الاستقلالية اللغوية مع الشراكة بين اللغة الأم وسائر اللغات.
وللاستقلالية وجهان، واحد يخص الأجنبية، وهو الذي يبدأ في التبلوُر بإدراك المتعلم أنه يتعلم لغة أجنبية لا غير مثلما بينتُ، ووجه ثان يخص العربية وهو الذي سيتجسّد كنتيجة لبلوغ الأجنبية استقلاليتها في ذهن المتكلم.
من هذا المنطلق، لمّا صار الإنسان العربي المتكلم للغته الأم وللغات الأخرى محافظا على نوع من الخيط الفاصل بين الأم والأجنبيات، فإنه سيكون قادرا على فرز كل لغة على حِدة، في خضمّ ما يسميه الأنغلوساكسون "التعريض" للغة والفرَنسيون "الحمام اللغوي" مزدوج أو متعدد اللغات المتوفر لديه.
ولمّا يتناول الدارس المحلي العربية وهو دارٍ بأنها مستقلة عن سائر اللغات، ناهيك أن استقلاليتها تنبثق من الهوية التي تغذيها (الهوية العربية الإسلامية)، عندئذ ينشرح صدر متكلم العربية فيفتحه لها ليتعلق بها أكثر فأكثر وليطورها. وما يزيد غرامَ متكلم العربية بها غرامُه في الآن ذاته بلغات أجنبية تربى على التعايش معها كلغات مستقلة هي الأخرى، ناهيك أنها حبلى بالكثير من أسرار التطور وكذلك بعناصر وافدة ستطَعّم العربية ومنه الشخصية والهوية للفرد وللمجتمع العربي الإسلامي.
فالاستقلالية تكتسي إذن صبغة تبادلية، والحلقة البناءة تتواصل حيث إنّ التعلق المتجدد باللغة الأم وإضفاء نسق متطور باطّراد عليها سوف يعود بالنفع على الأداء في مجال اللغات الأجنبية. وهكذا دواليك. ولمّا يجتمع الغرام بالأم وبالأجنبيات من جهة والاستقلالية لدى كافة اللغات لدى المتعلم الواحد من جهة أخرى، في تلك الحلقة البناءة، فالشراكة بين الجهتين هي السبيل لدعم كافة اللغات مع ملازمة التمييز بينها لكن دون مَيزٍ غير ذلك المَيز الذي يحافظ على الأم أمّا والأجنبية أجنبية . وهذا مربط الفرس في ما يتعلق بما يسمى التعريب.
فالتعريب حسب هذا المنهاج هو الانتفاع بالإضافة التي ستجلبها اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية عن طريق متكلم واعٍ بأهمية كل واحدة مع محافظته على استقلالية كل واحدة. وهل من تخوّف من الغزو الثقافي أو ما شابهه لمّا يكون المستعمل العربي للّغات على تلك الدرجة من الوعي؟ طبعا لا.
بل قُل ما على المتكلم العربي إلا أن يبدع أنماطا من التبادل والتعاون بين العربية من جهة وسائر اللغات من جهة أخرى من شأنها أن تحتفظ للعربية بنصيب الأسد من النفع طالما أنها هي الشخصية وهي الهوية وهي الذات الأصلية، وطالما أن اللغات الأجنبية المتطورة صارت، بعد تصحيح الخطأ الأصلي المقترف في حقها وفي حق العربية، قابلة بأن تكون في خدمة هذه الأخيرة نظرا لكونها ما زالت في طور عطاء ثقافي وحضاري متميز ينبغي الاستفادة منه.
-----------------
محمد الحمّار
باعث فكرة "الاجتهاد الثالث": الفكر اللغوي الإسلامي