لطالما شكلت المصطلحات السياسية معضلةً أساسيةً في العلاقات الدولية والمجالس السياسية والصراعات القومية والنزاعات الإقليمية وغيرها. ولطالما أبرزت هذه الأنشطةُ والأحداثُ الهوةَ الكبيرةَ القائمةَ بين اللغات والحضارات العامة والثقافات الفردية عند البشر. فمن خلال الترجمة تظهر للعيان فوراً أبعادُ الفهم الإنساني لنواحي كثيرة من اللغة سواء أكانت لغة أصلية أم إضافية ، وتتكشف كذلك قدرة المرء على الإحاطة بجوانب كثيرة من استعمالاتها التي تتغير من واقع إلى واقع ومن جيل إلى جيل، فتتخذ معاني جماعية عامة أو فردية خاصة وظلالاً من المعاني لا علاقة لها بالمعاني الأصلية. وهذا التغيّرُ الطبيعي الصامت الذي يطرأ على اللغة يتجاوز المعاجم والقواميس التي تُسقطه في الأغلب من حسابها لانشغالها بضبط القديم من الألفاظ والمفردات التي تخصصها لطائفة مميزة معينة من البشر، ولا يُرَخَّصَ في استِعْمَالِها للمُتَكَلِّمِ العَادِيِّ إلاّ حِيْنَ لا يَكُونُ هُنَاكَ نَصٌّ صَرِيْحٌ بذلك، على حد قول مجامع اللغة العربية، فكأن الواحد من أولئك النخبة الخاصة "سُوبرمان اللغة" ومعصومٌ أو منزّهٌ عن الخطأ. وكأننا بذلك النهج النخبوي الإقصائي المتحجر ننتظر رجوع المتنبي أو سيف الدولة لنتواصل معه بلغة يفهمها ويألفها، فيحل مشاكلنا ويعيد لنا مجدنا التليد وماضينا العتيد. فنحن دائماً بلا مبالغة أو تجنٍ نعيش في الماضي ونمشي القَهقرى، ولا ننظر إلى الحاضر بعين المستقبل، اللهم إلا من منظور أجنبي مجتزأ ومشوه ومفروض إما مباشرة أو بالإيحاء والوحي والإلهام.
ولا شكَّ أن الحفاظ على اللغة أمر في غاية الأهمية لضمان الصلة بالرصيد اللغوي والإرث الفكري، لاسيما في ظل هجمة خارجية شرسة على اللغة والحضارة تتجلى في بعض جوانبها في الدعوات المحلية لنبذ الانتماء القومي، والارتكاس إلى الشعوبية، والانبطاح بلا شروط أمام الفاتحين، عملاً بالمثل القائل "إن لم تغلبْ فاخلبْ"، بل أَغرِبْ[1] ! فكما يذكرنا روبرت فيليبسون في كتابه "الإمبريالية اللغوية"[2] ، فالمفهوم الغربي للعنصرية والاستعمار اللغوي يقوم على ثلاثة مبادئ هي : تمجيدُ المسيطر لذاته ورسمُ صورة مثالية لنفسه (فهو مصدّر للديمقراطية والحرية والحضارة والتقدم وهو نبراس العلم والقيم الاجتماعية والانفتاح الفكري)، والحـطُ من قدر وقيمة المسيطَر عليهم والمغلوبِ على أمرهم وكبتُ حضارتهم ومؤسساتهم وطرق عيشهم وفِكَرِهم (فهم متخلفون ورجعيون وإرهابيون، ومناهجهم التربوية والتعليمية والعلمية وقيمهم الاجتماعية والخلقية بالية وبحاجة إلى تحديث وتغيير وإلغاء)، والتبريرُ العقلاني الممنهجُ للعلاقات بين المسيطِر والمسيطَر عليه بحيث تكون اليد العليا والغلبة للمسيطر دائماً (الوصاية الأدبية والسياسية والعسكرية والانتداب دون استشارة أو إذن من الشعوب المعنية لأنها شعوب قاصرة لم تبلغ الرشد وهي بحاجة إلى رعاية لأنها غير قادرة بعد على إرساء قواعد الديمقراطية، وتحديد الأدوار وتوظيف العملاء والأتباع والأبواق لتكريس الفوقية والتبعية). ولكنْ لا يتأتى الحفاظ على اللغة بإهمال المستجدات فيها وما يطرأ على المفردات من معاني جديدة تواكب التطورات في ميادين المعارف والعلوم والأنشطة الإنسانية الحديثة. فذلك يحكم عليها بالجمود والتقوقع والانغلاق على نفسها وما تلبث أن تنفجر على ذاتها، فتصبح لغة الخاصة من الخاصة.
ومن الأمثلة على التغيّر في العربية المعاصرة كلمة إنجاب. فهذه الكلمة تعني في الأصل ولادة النجباء فقط. فإذا أنجبت المرأة ولدت طفلاً نجيباً. وأَنجَبَ الرجلُ والمرأَةُ إِذا وَلَدا ولداً كَرِيماً أو فاضلاً على مثله. ولكننا اليوم نرى هذا اللفظ يُطلق على جميع الولادات بغض النظر عن مستوى الذكاء والنجابة عند الأطفال، الذين إن شاءت الأقدار لهم، صاروا يوماً مترجمين، ليسهموا في الفوضى اللغوية القائمة. فإذا وَلَدتِ المرأةُ أنجَبت مَوْلوداً ذكراً كان أو أُنْثَى. ويختلط الحابل بالنابل بين اللفظين. والقرد في عين أمه دائماً غزال. ومثال آخر على تغير اللغة الذي لم تثبته المعاجم الحديثة هو لفظ زبانية. فالزبانية في الأصل هم ملائكةُ التّعْذيب في جهنّم لأنَّهم يدفعون أهلَ النَّارِ إليها. ولكنه اكتسب في المصطلح السياسي العربي الحديث معنى أتباع النظام وجلاوزته وأزلامه. وهذه الأخيرة كانت أيضاً في الأصل تعني السهام التي كان أَهل الجاهلية يستقسمون بها. ولم تثبتها المعاجم الحديثة بمعناها الجديد[3].
في عالم السياسة والإعلام ، تحتل الترجـمة حيزاً كبيراً ومهماً في نقل الخبر من قلب الحدث، بل وفي اختلاقه أحياناً. ولطالما اعتمدت القوى العظمى والمؤثرة وسائلَ الإعلام للترويج لسياسات معينة وإيديولوجيات خاصة، ولتأليب الرأي العام ، وفرض الهيمنة الحضارية واللغوية، إما من خلال تغيير المواقف الفردية والجماعية وتبديلها أو من خلال تكوين مواقف جديدة إزاء أمور وأوضاع وشؤون معينة. وتختلف أساليب الإقناع في الاستخدامات المختلفة لوسائل الإعلام الموجه، كما يفصّلها ج. بروان في كتابه المرجعي الشهير "أساليب الإقنـاع: من الدعاية إلى غسيل الدماغ"[4] ، من استخدام ما أصبح يعرف اليوم في العربية بالصور النمطية وإظهار خصائص وصفات معينة حقيقية أو زائفة والمبالغة فيها عند الأفراد والجماعات، بل وسلخ الصفات الإنسانية عنهم، واعتماد المفردات والألفاظ البديلة السلبية أو الإيجابية المشحونة بالعاطفة لتحل محل الألفاظ المحايدة والموضوعية، والانتقائية في إبراز الحقائق أو ما يعرف بتجزئة الحقيقة أو تشظية الواقع، والكذب، والتكرار، والتوكيد، وتحديد العدو وتحويل الغضب والعدائية نحوه، واللجوء إلى السلطة دون تحديد مصادرها (وقال خبراء في علم الجينات الوراثية إن العرب بطبيعتهم ميالون إلى العنف والإرهاب...).
وأنجح الأساليب اختلاقُ مجموعات بؤرية توفر للناس منتدى للنقاش وتبادل الآراء حول مواضيع معينة قد تبدو منفصلة في ظاهرها وتكون مترابطة في باطنها إما اتفاقاً أو اعتباطاً أو عن سابق عمد وإصرار ، بحيث تشكل إطاراً تحليلياً تعبوياً يهيئ الأرضية والمناخ لقبول فكرة أو نهج أو سياسة ويمتص الآراء المعارضة من خلال الإيحاء للمشاهدين بإتاحة المجال للتعبير عن أفكارهم ومخاوفهم ومواقفهم، وذلك باستضافة المتخصصين وأصحاب الرأي والشأن، الذين ينكشونهم من أقبية المراكز الاستراتيجية الوهمية أو المنحازة ، ومن متاحف معاهد الدراسات الهلامية (الافتراضية)، ويأتون بهم بشكل متكرر لتعزيز مواقف وأراء مخالفة. ولا يفسحون في المجال إلا لحفنة من المتصلين المتملقين في أغلبهم ، على طريقة العرب في التملق والمداهنة والنفاق ، فتنشرح أفئدتهم وتطرب آذانهم لذاك المديح كطفل صغير كافأته أمه بقطعة حلوى، ومن مدحك بما ليس فيك ذمك بما فيك، ويسارعون إلى إخراسهم إن هم تجاوزوا ما صار يعرف بالخطوط الحمراء لتعارضهم مع النهج المرسوم لتلك المنتديات، إما خشية من السيد الأعظم الذي يراقب كل كبيرة وصغيرة ، أو اتقاءً لغضبه الحقيقي أو المدرك. والويل لمن لا يمتثل للأوامر. فنستشعر أنهم يوجسون خيفة من كل رأي معارض، إذ يسارعون إلى تذكيرنا بكل سذاجة واستخفاف بذكاء المشاهد في عصر صار الطفل الصغير يعلّم أباه كيف يستعمل الحاسوب، والفتاة تعلم أمها البضاع ، بأن ذلك هو رأي المتصل بهم وليس رأيهم. ورب سائل ومتسائل عن هذا الخوف والتوجس ودور الرقابة فيه. ثم ينقطع الخط فجأة لعطل طارئ صادق أو مفتعل. وتلك أقدم حيلة في قاموس الإعلام المرئي والمسموع في البلدان المستنمية. فمعذرة لرداءة الخطوط هذه الليلة.
وهذه المنتديات البؤرية مدرسة قديمة في التأثير والإقناع. ولطالما استخدِمت في الدعاية في الحروب العالمية وطوال الحرب الباردة، وكذلك في الإعلان والترويج للبضائع والسلع التجارية في أسواق استهلاكية. وهي تتخذ الآن صيغة جديدة وحديثة في الإعلام الموجه، الذي يبدو في ظاهره حميداً يخدم مصالح الأمة، أو الفئات والجماعات المعنية، بنهج "تقدمي" حديث يستخدم آخر صرعات العصر والتقنيات في تقديم الخبر ومناقشة شؤون الساعة والاتجاهات السائدة في المجتمع، فيستمع إلى الآراء المختلفة والمتضاربة، بحجة الانفتاح على الآخر والعقلانية والخروج من العزلة الحضارية والثقافية وإعطاء صوت أجش مخنوق لمن لا صوت لهم وما إلى ذلك من أمور. ولكنه بالفعل يُغلف حبة الحنظل بالسكر ويموّه جرعة السم بالعسل. وهذه "الصَّبْلِمَانِيَّةُ" في الترويج اللاشعوري التي تقترن باستطلاعات الرأي التي وإن افتقرت إلى المنهجية العلمية والقيمة الإحصائية تؤدي إلى التطبيع والتهجين وإعادة ترتيب الأولويات وتغيير المواقف الجماعية والفردية، وتسهم إلى درجة كبيرة في تعزيز وترسيخ الأهداف والغايات التي يسعى الإعلام إلى تحقيقها.
وتبني خطاب معين ومصطلحاته وترجمتها إلى العربية جانب مهم من عملية غسل الأدمغة وتغيير المواقف. وقد كان التخبط واضحاً في البداية في استعمال عبارة (العمليات الاستشهادية) في مصادرها العربية من جهة و(العمليات الانتحارية) المنقولة في البداية عن مصادر إنجليزيـة (suicide operation). فكانت الفضائيات والأرضيات تستعمل الاستشهادية تارة ، والانتحارية طوراً، إلى أن تبدلت الأوجه الممثلة وتبلورت سياسة تحريرية (لا علاقة لها بتحرير الأرض) فرست على عبارة المنتصر في الحرب الحضارية الإعلامية، أي (العمليات الانتحارية)، بحجة أنّ ما على الرسول إلا البلاغ ... أما الأمين ، فهذه مسألة أخرى لا علاقة لها لا بالإعلام العربي عامة أو الترجمة الأمينة والصادقة على وجه الخصوص. والطريف في الأمر في الآونة الأخيرة أن إحدى الشبكات الأميركية اضطرت في إحدى نشراتها الإخبارية ، ولعلها كانت زلة لسان من مذيعين أصولهم باكستانية وهندية وأفغانية، إلى استعمال اللفظ العربي (استشهادي) على هذا النحـو (istish-hadi operation). ثم سرعان ما ذهبت هذه العبارة إلى حيث ألقت. وحالُ هذه العبارة حال أختها (الإرهاب) ، ففي البداية كان هناك بعض التردد في استعمالها في الإعلام العربي. ثم ما لبث أن صارت أمراً عادياً وعبارة يرددها المرددون، في حالة تعرف في علم النفس بـ (الخدر العاطفي)، بل ويبررونها بحجة التحضر والمدنية والعقلانية والإنسانية والانفتاح. والمضحك أن هذه المواقف التي تعبر عن مناهج فكرية ومناظير اجتماعية معينة تدعي التحضر والتقدم تتعارض وتتناقض مع نظم القيم الأخرى والممارسات الخلقية والاجتماعية التي يتبناه بعضهم في حياته اليومية، بين ديمقراطية وحرية وعدالة ومساواة ينادون بها ودكتاتورية وقمع وإرهاب يمارسونه في حياتهم الخاصة. فهم مثلاً ينبذون العنف من جهة، وهذا أمر يستحق الثناء، ويمارسون القمع والإرهاب في علاقاتهم مع زوجاتهم وأخواتهم وبناتهم من جهة أخرى، ويحرّمون عليهن ما يجيزون لأنفسهم. فترى في كل بيتٍ عربيٍ رجلاً متسلطاً صدامي النزعة يتحكم في رقاب العباد. فإن غاب رب البيت تبوأ سدة الحكم الابن الأكبر ، فإذا به نسخة مصغرة عن المتسلط الأكبر (mini me).
ومن الأمثلة الجديدة على الرقابة الذاتية لدى الإعلاميين العرب ، والتي يجرنا إليها الحديث عن الكبير والأكبر، المشروع الأميركي الجديد للمنطقة. وهو ما يعرف بالإنجليزية بـ (Greater Middle East Project)، أو كما تتناقله وسائل الإعلام العربية (مشروع الشرق الأوسط الكبير). ولا بد لنا هنا من السؤال لماذا لم تُترجم العبارة الإنجليزية على هذا النحو (مشروع الشرق الأوسط الأكبر). وهل كان هناك مانع يمنع من ذلك ، لاسيما وأن الإعلام العربي برمته مغرق في الحرفية العمياء والحمقاء لنصوص ومصادر أجنبية. فنحن نجد مثلاً بيروت الكبرى (Greater Beirut)، وعماّن الكبرى (Greater Amman)، ومانشستر الكبرى (Greater Manchester) ، ودولة إسرائيل الكبرى (Greater State of Israel). ولم يجد العرب حرجاً في ترجمتها على ذلك النحو، لا في ذروة الصراع ولا في أوج التطبيع. فلماذا إذاً لم يشأ المترجمون في تلك المؤسسات الإعلامية التي تقرأ الخبر لنا بصدق وتنقله بمصداقية ، أن يترجموا العبارة بـ (مشرع الشرق الأوسط الأكبر)؟ فلفظ (greater) يفيد المفاضلة ومنتهى الغاية، كما في (Greater London) وهي المدينة الرئيسة وضواحيها والمناطق التابعة لها، و(great) يفيد غاية المنتهى. والكبير عكس الصغير. فمتى كان الشرق الأوسط صغيراً ، وهو الأوسط (وإنْ مسافةً) بين شرقين؟
قد نجد الجواب عن هذا السؤال في المضامين الدينية لكلمة (أكبر) ، ولكن هذا الاحتمال بعيد جداً، ولعله تصيد في ماء عكر ، لا سيما في وسائل إعلام تتجاوز خطوطاً حمراء كثيرة، وتتجاذبها تيارات وتأثيرات داخلية وخارجية متناقضة ومختلفة. وقد يكون مرد ذلك عدم دراية المترجم بمعنى (greater)، وهذا مستبعد أيضاً. وقد يكون ذلك لسهولة اللفظ. وهذا جائز. ولكن يبقى هناك أمر محير. هل اختار المترجم أو رئيس التحرير هذا اللفظ تعرضاً وتغرضاً؟ فقد يكون للفظ (الأكبر) مضامين إيجابية، أو ربما مضامين سلبية (كالشيطان الأكبر). ولعل في هذا تجنباً لربط مفهوم الشرق الأوسط الأكبر بالشيطان الأكبر الذي كانت تطلقه الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أميركا. مرغ ، مرغ أمريكا حتى جاءت أميركا بجحافلها لتمرغ أنوفنا في وحول الشرق الأوسط الأكبر.
لقد شغل المثقفين والإعلاميين العرب في الآونة الأخير مصطلح الجدار العازل والسور والسياج بين (fence) و (wall). فتارة هو الجدار العازل، ضماناً لحياد الإعلام العربي في نقل الخبر، على حد زعمهم ، وتارة هو جدار الفصل العنصري. والغريب في هذه الخيارات أن كلمة (fence) في اللغة الإنجليزية هي أشد سوءاً من الجدار. فالسياج في الإنجليزية (fence) غالباً ما يستعمل لمنع المواشي والدواب من الدخول إلى منطقة معينة أو لاحتوائها في حظيرة مسيجة ، نحو (fence off wild animals) و (fence in goats and sheep) أو لدرء خطر محتمل. والسياج كذلك ليس له صفة دائمة، فقد تهب عاصفة أو زوبعة فتهدمه أو تقتلعه من أساسه، أو يزيله صاحبه لزوال الحاجة إليه. أما الجدار فهو أصلب وأبقى من السياج. وإصرار العرب ، إعلاميين وسياسيين، على استعمال (جدار العزل) حياداً و(جدار الفصل العنصري) تشبيهاً له بجدار برلين ، يسقط هذه المعاني السلبية والزمنية التي يحملها لفظ (السياج) في الإنجليزية. فنجد من جهة جدار العزل لشعب فلسطاني. وهذا ليس خطأ مطبعياً. بل يُسمع من مذيعات في الفضائيات إما لعلة في نطقهن يتجاهلها القائمون على المدرسة الإعلامية العربية الجديدة، والغاية تبرر الوسيلة ، أو لغاية في نفس يعقوب ، فالفلسطاني عند بعضهم هو الفلسطيني القديم المقبلُ على الدنيا والمعرضُ عن الثقافة والحضارة والأدب (Philistine). ومن يقلّب بين القنوات الفضائية العربية والأميركية والبريطانية لا يرى فرقاً كبيراً في أولويات الإعلام أو في هيئته وشكله. فإن أخرستَ صوت التلفاز ، لم تجد فرقاً كبيراً لا في الألوان والأصباغ والديكور والأزياء. فرغم الأموال الطائلة التي تنفق على التخريجات اللامعة والديكورات الباهرة والبرامج الحاسوبية الجاهزة ، فإن نشرة الأحوال الجوية في إحدى الفضائيات العربية مثلاً تبدأ بحالة الطقس في أميركا وتنتهي بأستراليا، وتمر مرور الكرام ، أو كما يقول العامة ، رفعَ عتَبٍ، بالبلدان العربية. وتُقدم بلهجة محلية تطغى على الفصحى (وهي مذكر الأفصح، نحو الكبرى والأكبر ، والشرق الأوسط الأكبر والكبير، والأفصح هو الأجود لغةً وبيانًا. والعربيَّةُ الفصحى هي الخالصةُ السليمةُ من كل عيب ولا يخالطها لفظ عاميٌّ أو أعجميّ) ، فتحسبها من مدرسة غوار الطوشي وياسن بقوش. ولطالما تغنى العرب بقدرة العربية الفصيحة على إزالة الفوارق في اللهجات المحلية. ولكن الناس في هذا الزمن مناظر لا محابر.
لقد جرت العادة عند الأستراليين على توظيف مذيعات شُقْر ذوات عيون زرقاء لعقدة نفسية عندهم. ولا يبتعد الإعلام العربي كثيراً عن هذه العقدة النفسية المتأصلة في وجدان القائمين على الإعلام، لإظهاره بمظهر يروق للمشاهدين.ولعل تحديث المناهج ينبغي أن يبدأ بتعديلٍ للمعلقات السبع وتبديلٍ لقصيدة امرئ القيس خاصة، "وبيضاء غير ...". أما المشاهدات اللواتي يرمن ذلك فحِساً ولا أنيسَ.
ولكنك تجد فرقاً كبيراً في فظاعة الصور والمشاهد. وهنا تشترك الفضائيات العربية مع زميلاتها اللاتينية، بل تتفوق عليها وعلى بلدان جنوب أميركا، حيث لا قيمة للإنسان، وحيث الموت والجوع والبؤس أمر طبيعي وحدث يومي، لدى السواد بل السمار الأعظم من الناس.
لا شك أن مقاييس الرقابة في الإعلام المرئي والمسموع والمطبوع تختلف من بلد إلى بلد حتى في البلدان الغربية، وتتغير من زمن إلى زمن، ففي بريطانيا مثلاً ، يجوز للمرأة أن تُظهر عُريها على شاشات التلفاز العام من دبر وقُدام ولكن عورة الرجل ممنوعة من الأمام، أو كذا كانت منذ عقد من الزمان. أما في أستراليا فالعكس صحيح. وفي أميركا أحدث ثدي مغنية "يهب الحياة للأطفال" ضجة كبرى (لا كبيرة) لظهوره لثوان معدوات أمام الناس وعلى شاشات التلفاز. وفي العالم العربي، ورغم الخلاعة والانحطاط الخلقي في شرائح كثيرة من المجتمع المترنح، والتقليد السطحي المتفشي في الأرضيات والفضائيات وما بينها، والانفصام في العلاقات الاجتماعية والخلل في الروابط العاطفية والجنسية، وآنية الوجود والحياة، والبون الشاسع بين الوجه العام والوجه الخاص للفرد، فإن القبلة ومظاهر الحب والحنان ما تزال محرمة في الإعلام. أما مشاهد الموت والدمار والأوصال المقطعة والأشلاء المتناثرة والدم والموتى الذين ينزف الدم من عيونهم وأفواههم وهم يشيعون ويسجَّون ويُحال التراب عليهم ويوارون الثرى، صورةً صورة وإطاراً إطاراً ، فهي جائزة تدخل كل بيت ويراها كل طفل دون إنذار. أمارات الحب تبقى وراء الكواليس وتحت المناضد وفي بطون الكتب وفي خلوات الإنترنت، وتخضع لسطوة مقص الرقيب. أما العنف فلا شبع منه ولا ارتواء. ثم يسألونك عن الإرهاب وأسبابه!
----------
جميع حقوق الطبع والتأليف محفوظة للمؤلف 2004
________________
[1] أَغْرَبَ يُغْرِبُ إغْراباً : أتَى الغَرْبَ.
[2] Phillipson, R (2003). Linguistic Imperialism. Oxford University Press: Oxford.
[3] مفردها الزلم. السهمُ الذي لا ريش فيه، وكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلامِ، يكتبون عليها الأمرَ أو النهي، ويضعونها في وعاء، فإذا أراد أحدهم أمراً أدخل يده فيه وأخرج سهماً، فإن خرج ما فيه الأمر مضى لقصده، وإن خرج ما فيه النهيُ كفّ . والزلمة في العامية الراجل ويُراد بِه الرَّجُل أيضًا. وأصلها الهيئة.
[4] Brown, JAC (1963). Techniques of Persuasion. From Propaganda to Brainwashing. Pelican: London.
-----------------------------------------
* علي درويش : أستاذ الترجمة والتواصل التقني في جامعات ملبورن ـ أستراليا، ومؤلف وكاتب تقني.
مصدر المقال : صحيفة المناخ ( صحيفة استرالية بالعربية ) :
http://www.al-manac.com/kutta_almanac/azamat%20altarjama.htm