يُقاس التقدم عند الأمم في بعض نواحيه بمقدار تنظيمها الإداري ونظم توثيق المعلومات فيها، لا سيما فيما يتعلق بالأحوال الشخصية والمستندات والوثائق الرسمية. ولقد حملت الإدارة الأميركية على العراق في مجمل ادعاءاتها ومزاعمها ، عقب تسليم الحكومة العراقية مجلس الأمن تقريرها حول أسلحة الدمار الشامل وقبيل الهجمة على بغداد ، أنه بلد يمتلك نظاماً محكماً في توثيق المستندات والوثائق الرسمية، ولا يمكن القبول بزعم الحكومة العراقية أنها لم توثق عمليات التخلص من الأسلحة المحظورة.
ومن يعمل في مجال ترجمة المستندات الرسمية من جوازات سفر وبطاقات هوية ووثائق زواج ورخص قيادة وشهادات ميلاد ووثائق أخرى تتعلق بالأحوال الشخصية والمدنية للمواطنين العرب يدرك تماماً عدم دقة هذا الإدعاء في جوانب كثيرة من التنظيم الإداري والتوثيق في البلدان العربية. فما نصادفه، نحن المترجمين، يومياً من فوضى في توثيق المستندات والمعلومات المهمة فيما يتعلق بالمواطنين وشؤونهم الحياتية يثبت أن الدول العربية باستثناء واحدة أو اثنتين ، تغرق في فوض عارمة مذهلة وجهل مطبق من حيث توثيق المعلومات وضبطها ، على الرغم من النظم البيروقراطية والسلطوية والاستبدادية والقمعية في معظمها، والتي لا تترك مجالاً للمواطنين للتنفس بحرية والعيش بكرامة. ولا غرو أن تختلط الأسماء ويقع العرب ضحية الشبهات في الغرب. فتجد مثلاً محل الولادة في وثيقة ميلاد من مصر أو السودان هو مستشفى الولادة أو المركز الطبي الإنجيلي بدلاً من المدينة أو القرية. وتجد كذلك المسؤولين في دوائر الأحوال الشخصية والنفوس في كثير من الدول العربية يجهلون الفرق بين الجنس والجنسية. فتجد جنس أحدهم في وثيقة ميلاد هو سوري أو كويتي أو سعودي أو مصري ، على سبيل المثال لا الحصر، بدلاً من ذكر أو أنثى. وتتلمس من ترك هذا الحيز فارغاً أحياناً أن مأمور النفوس أو منظم الوثيقة لم يعرف الفرق ، بين المفردتين لا الجنسين ، فهو بالطبع أدرى بالفرق والتفريق والتمييز والفرز والعزل بينهما. فتحسبه ترك الحيز فارغاً تجنباً للحرج. ومع دخول الحاسوب تلك الدوائر الرسمية ، أدرك بعضهم هذا الالتباس ، فاعتمدوا (النــوع) بدلاً من (الجنــس). فما هو نوعك وما هو طرازك؟ ولعل (النوع) ترجمة غريبة عجيبة لكلمة (gender).
ورغم التشديد على الاسم الثلاثي في الدول العربية ، ورغم لجوء السلطات إلى التأكد من هوية الأفراد بالتأكد من اسم الأم، فالأغرب من ذلك كله اختلاف شهرة أفراد العائلة الواحدة من فرد إلى آخر، كل بحسب اسم الأب والجد وجد الجد إلى أن تصل إلى أرومة القبيلة أو العشيرة. فذاك مثلاً ، أحمد محمد حسن وأبوه محمد حسن أحمد ، وجده أحمد محمد حسن. وهكذا دواليك حتى تختلط الأمور وتضيع الطاسة كما يقولون بالعامية اللبنانية.
ولعل من أشد الأمور إيلاماً شهادة تقدير العمر (أو التسنين) التي لا تُظهر جهل القائمين على تنظيم تلك الوثائق وغياب النظم الإدارية الضابطة فحسب ، بل جهل الشعوب التي ما تزال ترزح تحت وطأة التخلف والأمية في مطلع القرن الحادي والعشرين . فبينما ينعم المواطن الغربي بالحرية والديمقراطية ورغد العيش يتم تقدير عمر المواطنين في بعض الدول العربية كالبعير أو البقر أو بالتأكد من أسنانهم، إن كانت ما تزال في أفواههم لغياب العناية الطبية وانعدام العادات الصحية السليمة أو سقطت منها نحت وطأة الضرب والتعذيب والتنكيل. ويرى الطبيب أن تاريخ ميلاد المذكور أعلاه هو 1 / 1/ -- (أول يناير سنة ألف وتسعمائة و ---). فلقد ولدتهم أمهاتهم جميعاً في اليوم الأول من الشهر الأول أو في اليوم السابع من الشهر السابع. وجاء من أقصى القرية مختار يسعى لتسجيل مواليد قريته دفعةً واحدةً فكأن زيارة دائرة النفوس والأحوال الشخصية موسمية كرحلة الشتاء والصيف.
وتتنافس الدول العربية وتتبارى في نظم التقويم والتأريخ بين تقويم ميلادي وهجري وليبي ومصري قديم فتنشأ حالة من الازدواجية التأريخية في المستندات الرسمية. فكأننا نعيش في كوكب آخر لا يعير انتباهاً للمعايير والمقاييس المتبعة بين الأمم والشعوب ووظيفة التقويم في تنظيم شؤون الحياة وتوثيق البيانات ، فإن أهمل منظم الوثيقة ذكر التقويم الميلادي اضطر المترجم إلى اللجوء إلى برامج الحاسوب المتوافرة على شبكة الإنترنت التي تخطئ حيناً وتصيب أحياناً . وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا .
ولا شك أن هناك حالةً من الاستهتار تعم الدوائر الرسمية ومراكز الأحوال الشخصية ، تتجلى جزئياتها في رداءة الخط المستخدم في تدوين بيانات أصحاب العلاقة . فلا يعرفُ فكَّ رموز ذاك الخط الرديء سوى المشتغلين في تلك الدوائر الرسمية، إذ يتخذ بعض الكلمات أشكالاً هيروغليفية تحتاج إلى خبراء متخصصين في تحليل المخطوطات الأثرية ، أو تفقد معالمها كلياً فتكون أقرب إلى التوقيع من الكتابة المقروءة في مستندات من المفروض أن تحمل بيانات واضحة بكل بداهة ويسر. ولكن هؤلاء العضارطة لا يعرفون أن معنى كلمة بيانات هو البيان أي الإيضاح والإفصاح. فيُعمِلون في التمويه والتعتيم . ولعل السبب في ذلك هو ضعفهم في الإملاء فـ"يمغمغون" ويغمغمون خطوطهم لتصبح مجرد شكل لا معالم له. ويبالغون في استعمال الأختام والتواقيع إثباتا لسلطتهم وإرضاءً لغرورهم وأناهم التي تتعاظم مع كل ختم وتوقيع . فتجد المصادقات التسلسلية من مختار الضيعة وختمه ومأمور النفوس وختمه ورئيس الدائرة وختمه وهكذا دواليك حتى تختفي البيانات ، التي تكون مغلوطة أحيانًا، تحت وطأة الأختام والتواقيع. فإن كنت تترجم من نسخة مصورة مصادقة فأمرك إلى رب العباد.
ورغم الفوضى العارمة هناك أمران لا يخطئ فيهما مسؤول أو مأمور: الجنسية والدين، حتى عندما لا يكون هناك حيز مخصص في الوثيقة لهما. وما عدا ذلك فهو مباح للفوضى والاستهتار والإسقاط. فتلك رخصة قيادة أو سوق أو سياقة ، أو سمها ما شئت حسب البلد الذي تصدر تلك الوثيقة منه ، يتبرع منظمها بتدوين جنسية حاملها في ركن من أركانها، دون أن يكون فيها حقل أو حيز لها. ثم تجد شهادات جامعية من المفترض أنها صدرت عن مراكز العلم والمعرفة تفتقر إلى الدقة والوضوح. فتلك شهادة صادرة عن كلية الحقوق ، والتي من شأنها أن تحرص على القوانين ، تشير إلى صاحبتها بصيغة المذكر من أول النص إلى آخره، لا مساواة لها بالذكر ، وإنْ شكلياً ، على طريقة الشمولية في اللغة الإنجليزية، بل لأن كاتب الوثيقة لم يكلف نفسه عناء التأكد والتحقق من جنسها.
ويمكنك أن تترسم التحولات السياسية والإدارية في البلد الواحد من خلال أسماء الوزارات والدوائر الحكومية التي تتغير من حقبة إلى أخرى. وكذلك اختلاف أسماء الدوائر الرسمية والوثائق من ولاية أو محافظة أو منطقة إلى أخرى. وترى التخبط في جهات الاختصاص والإصدارات المشتركة في البلد الواحد، فتصدر وثائق الميلاد تارة عن وزارة الداخلية ووزارة الصحة معاً ، أو وزارة الصحة والسكان ووزارة الداخلية معاً. وتارة عن وزارة المالية والاقتصاد ، وطوراً عن وزارة الصحة الاتحادية ، وهلم جرا.
وما يزيد في الدف نقراً الترجمات الرسمية المغلوطة الإنجليزية لأسماء الدوائر والأقسام ، فتجد في وثيقة ميلاد مثلاً ، المركز القومي للمعلومات الصحية وبجانبه (National Center for Health Formation) بدلاً من (National Center for Health Information). هذا العيب في وثيقة رسمية تمثل وجه الدولة الحضاري. فإذا كانت الغاية مِن ذكر الاسم بالإنجليزية هي التواصل مع الدوائر الرسمية الأجنبية وغيرها، فإن وجود هذا الخطأ وغيره لا يسعف أحداً، بل يظهر مدى الجهل عند القائمين على تلك الشؤون. ولكن لا أحد يدري ما يجري.
والمحزن في ذلك كله ، أن المواطنين يَقبلون بتلك الوثائق المغلوطة صاغرين خائفين عاجزين عن مناقشة أو مراجعة مأمور "مويظف صوغير"، جاهل متسلط يمثل السلطة. فأين هم المسؤولون وماذا يعملون؟
إن تقدم الأمم يُقاس كذلك بمقدار تكريمها لمواطنيها وأبطالها ومبدعيها في حياتهم ومماتهم ونبذها للنظم البالية والعفن الاجتماعي والوخم الإداري القائم على المحسوبيات العشائرية والقبلية والتقسيمات الطائفية والمذهبية والعرقية التي تسيطر على عقولهم وتُمرض قلوبهم. ومن المذهل أن الذين يدعون ، رغم هذا الانحطاط كله ، أن العرب لا يقدمون جديداً ولا يسهمون في الحضارة والتقدم يعجزون عن الإحاطة بمنجزات أبناء جلدتهم أو يستخفون بها لعدم مقدرتهم على استيعابها وتقدير أهميتها. بل يتجاهلون أن إنجازات الغرب لا تتحقق في معظمها إلا بجهود وطاقات باحثين ومبدعين مهاجرين ومستبعدين عن أوطانهم في بيئات توافر لهم الأجواء المناسبة والفرص الملائمة للإبداع والابتكار، سواء أكان أولئك من أبناء وبنات الدول العربية أو الدول المستنمية الأخرى، التي تفقد خيرة عقولها بسبب نظمها البالية التي تعيق تطور المرء في بيئته الطبيعية.
لقد قدم الفريق سعد الدين الشاذلي ، رئيس الأركان الأسبق في الجيش المصري ، خطةً عمليةً في إعداد الجيش المصري لحرب رمضان المبارك عام 1973 في أقل من سنة . ومما يذهل المرء أن العرب لا يستفيدون من نهج ذاك العبقري الفذ في برامج لمحو الأمية ورفع الجهل عن عقول السواد الأعظم من العرب – الجهل الذي يتجلى في فوضى الوثائق الرسمية والسجلات المدنية ، فبإمكان المرء أن يكتب ملامح المعايير الإدارية لامة بأكملها من خلال دراسة مستنداتها ونظم توثيقها – ولا يوظفون نهجه في إعداد المواطنين للأغراض السلمية والحضارية والمعرفية والإعمار ، لينهضوا بالأمة والوطن إلى مصاف الشعوب الراقية .
وفي تعارض صارخ مع هذا الوضع الحزين ، راح الجنرال الأميركي نورمان شوارتسكوف ، عقب حرب الخليج الأولى وتحرير الكويت، يسوّق نهجه العسكري في الجامعات والمحافل الإدارية والمؤسسات الخاصة والعامة بوصفه نهجاً يمكن الاقتداء به في المجالات السلمية والنظم الإدارية. ومن العجب أن العرب لا يرون في عبقرية ذاك الرجل ، أي الفريق الشاذلي، ونهجه ما يعود عليهم بالنفع والخير والتقدم. ولعل من الأجدر بالفريق أن يكتب كتاباً باللغة الإنجليزية يصف فيه التطبيقات السلمية لنهجه ، فيتبناه الغرب ، ليصبح مرجعاً معتمداً لا في المجالات العسكرية فحسب بل في المجالات المدنية والسلمية، أو أن ينشره باسم أجنبي ، فلعل العرب المنبهرين بكل ما هو أجنبي ، يترجمونه إلى العربية ويشرعون في تطبيق بعض نواحيه في شؤونهم وأمورهم، لا سيما في تدريب الموظفين في دوائر الأحوال الشخصية.
إنّ مشكلة الوثائق الرسمية العربية وترجمتها إلى اللغات الأجنبية تكشف عيوباً ضاربة في عمق المجتمع العربي والنظم الإدارية التي تتحكم فيه وفي مصائر الشعوب والمواطنين. وهي أول السيل ، أو أنْ رَاقَ لكم ، رأس جبل الجليد . وإحدى السبل إلى معالجة هذا الجانب المعيب من الآلية الإدارية هي توحيد الوثائق والمستندات الرسمية عبر الأقطار والبلدان العربية ، أسوة بأوروبا والبلدان المتحضرة، إن لم يكن في الشكل ، فبالتفاصيل وطرائق التوثيق والمصطلحات ، وتوحيد أسماء الوزارات والدوائر والمحاكم والشهادات والألقاب والرتب وما إليها. أفما آن الأوان للعرب أن يستفيقوا من غياهب الجهل واللحاق بركب الحضارة والتكنولوجيا واستخداماتها في توثيق المستندات الرسمية؟
________________
* علي درويش : أستاذ الترجمة والتواصل التقني في جامعات ملبورن ـ أستراليا، ومؤلف وكاتب تقني.
مصدر المقال : صحيفة المناخ ( صحيفة استرالية بالعربية ) :
http://www.al-manac.com/kutta_almanac/Fawda%20al%20mustanadat.htm