يشهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تطوراً مطرداً في تقنيات المعلومات والاتصالات، ويتزايد الاعتماد بشكل كبير على شبكة الإنترنت في أنحاء كثيرة من العالم كمصدر رئيسٍ للمعلومات الحية والمباشرة والمهمة، فيما أصبح يعرف إجمالاً بعصر العولمة من جهة والمسكنة من جهة أخرى. إذ يقوم التواصل في هذا العصر بشكل أساسٍ على شبكات الاتصالات الساتلية[1] واللاسلكية والفضائيات التلفازية والإنترنت، لنشر المعارف والعلوم وآخر مستجدات العصر ، حيثما كان جهاز حاسوب أو هاتفٌ نقال، وصارت عبارة (القرية العالمية) تطلق مجازاً وجزافاً على الكرة الأرضية ، فيرددها المرددون ، لا سيما المترجمون ، نظراً لتقلص الرقعة الجغرافية وانهيار الحدود والحواجز والسدود المصطنعة أو يكاد بين الدول والشعوب والأمم. ولم يعد تبادل المعلومات والفِكَرِ والمعارف أمراً يقتصر على النخب ، بل أضحى في متناول الجميع ، أينما توافر خط اتصال.
بيد أن هذا الانفتاح التواصلي بين البشر يصاحبه انهيار عالمي ملحوظ في المعايير والمقاييس الفكرية والاجتماعية والإدارية وتردٍ في مستويات الأداء والإنتاج والعمل وغيرها ، في حالة يمكن وصفها (لا توصيفها ، كما يحلو لبعضهم أن يقول)[2] بعصر المسكنة، أو كما يقول المثلُ اللبناني (خُد إيدك والحقني). إذ يندر اليوم من يسعى إلى إنجاز عمل أو إنتاج منتج يتسم بالجودة والكمال. فمعظم المنخرطين في الأعمال والتصنيع والتجارة وما إليها من أنشطة لا يعير انتباهاً إلا لمقدار الربح الذي قد يجنيه من عمله والفائدة المادية والمعنوية الآنية التي قد تعود عليه من مجرد الخوض مع الخائضين والقول مع القائلين. فتجد أصحاب الشأن أينما وجدوا منهمكين في التظاهر بأنهم يعملون وهم لا يعملون ، أو منشغلين في مهنة التظاهر بالقيام بالمهنة، في سوق استهلاكية تستهلك الجهد والمال والمستقبل . فيصبح لكل أمر أجلٌ مسمى وصلاحية محدودةٌ تنتهي بإصدار منتج جديد أو نسخة مجددة ، سواء أكان ذلك برنامج حاسوب أو مكنسة كهربائية أو قطعة غيار في محرك سيارة ، وهكذا دواليك. فقد انقضى عهد الجودة وولى زمن البحث عن الكمال ، في أواخر التسعينات ، الذي كان من دوافعه وحوافزه الالتزام بمعايير منظمة المقاييس الدولية بغية الحصول على الأعمال الكبيرة من الحكومات والمؤسسات الرسمية والخاصة. فتجد الشركات الكبرى والصغرى وما بينها تقلص أعداد الموظفين وتسرح العاملين وتبقي على الأغبياء والعاطلين والمنتفعين والمتملقين وضروب أخرى من الطفيليات ، في عمليات تحجيم تقليصي وتحجيم مناسب ، وإعادة التنظيم والهيكلية وغيرها من المصطلحات والتعابير المبهرجة التي يبدعها المبدعون في الإدارة والأعمال.
وهكذا يزداد اليوم، بعدما ثَبِطَت الهممُ وفترت العزائم ، التركيزُ في البلدان النامية بل المستنمية ، التي تدور في فلك التبعية والتقليد ، على المؤهلات الشكلية والأوراق الفارغة من أي محتوى فكري أو علمي ، وذلك كصِمَامِ أمان في حال انفجار الوضع في وجه أرباب العمل ومن يقوم بتوظيف هؤلاء الناس ، الذين إن تلقوا العلم في الخارج على أيدي محاضرين من الدرجة العاشرة وربما الخمسين في الأغلب ، في جامعات ومعاهد هَمُّها الأوحد تحقيقُ مكاسبَ ماديةٍ باجتذاب أكبر عدد ممكن من الطلاب الأجانب ، أو في أوطانهم من أساتذة ومعلمين مستلبين فكرياً واجتماعياً ومنبطحين ثقافياً ومنبهرين حضارياً، ولا يعرفون سوى ترداد ما تعلموه من هؤلاء القيمين على تعليمهم وتثقفيهم وإعدادهم للريادة والقيادة والتبعية ، فاعتنقوه مذهباً واتخذوه منهجاً فلا يعرفون غيره ولا يحيدون عنه ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث والتنقيب ومشقة الإحاطة بتراثهم الفكري والحضاري واللغوي، في حالة أقرب ما تكون إلى الاستغراب والاستلاب والإنكار من أي شيء آخر.
ومع سهولة النشر الإلكتروني وانهيار المعايير اللغوية والفكرية والقيم الاجتماعية والنفسية ، يواجه المرء غزارةً في الإنتاج وضحالةً في المادة الفكرية والإبداعية واجتراراً للمفاهيم والمناهج ، بصيغ وحلل جديدة وأسماء مستحدثة . وتصبح الإنترنت بلا مبالغة مزبلة يكثر غثها ويقل سمينها. وهنا الأمر الجلل. ففي ظل هذه الأوضاع ، تتخذ الترجمة في البلدان النامية أو المستنمية طابعاً جديداً يعتمد اعتماداً كلياً أو يكاد على مصادر مختلفة من الإنترنت مشكوك في صحتها أحياناً ومفتقرة إلى التوثيق والتدقيق في أغلب الأحيان، إما لاقتباس النصوص كما هي ، قصاً ولصقاً وبصقاً ، وادعاء ملكيتها الفكرية ، بلا وازع أو رادع ، أو لتوثيق ترجمات من مواقع ومصادر أٌخرى، فيما يمكن تسميته بأدب الاستباحة. وهي ظاهرة قديمة جديدة مستفحلة في الترجمة والنقل والعمل اللغوي والفكري . ومن يستبحْ كنزاً من المجدِ يَعظُمِ. ولكن ليس هناك مجدٌ أو شرفٌ في استباحة النتاج الفكري للناس ، وانتهاك نتاجهم الإبداعي ، مهما يكن أمره وشأنه ومصدره ، سواء أكان ذلك من الإنترنت أو من كتاب مطبوع بلغة أخرى، أو رسالة أو بحث أو أطروحة لطالب أو متخصص في جامعة من الجامعات.
وكما أسلفنا فلا شك أن الإنترنت قد قلصت رقعة التواصل بين البشر، وكسرت كذلك احتكار دور النشر أمام المؤلفين والباحثين. فقد كان النشر الورقي التقليدي وما يزال حكراً على مجموعة لها اتصالاتها وعلاقاتها ومحسوبياتها لدى تلك الدور ، وتحت رحمة رؤساء تحرير عضارطة، يخافون كل جيد ، ويخشون كل جديد ، وعبثية المراجعين الأقران. ولكنها في الوقت ذاته فتحت الباب على مصراعيه بل خلعته من مفاصله وأرخت العِنان لكل من هبَّ ودبَّ وشبَّ عن الطوق لينشر ما شاء نشره على صفحات الإنترنت، في منتديات ومقاهٍ وبوابات وجمعيات وإسطبلات إبداعية وفكرية. و"هذه الصفحة مازالت تحت الإنشاء. تفضل بزيارتنا قريباً"[3] . ولم لا ونحن في عصر العولمة والحرية والديمقراطية المعلبة، بل زمن الضعة والمسكنة والواقع الافتراضي؟
من الواضح أن جمهرة كبيرة من المترجمين والمؤلفين والباحثين والإعلاميين العرب ، الذين لا تعجزهم لغات العالم أجمع ، فيقفون صاغرين عاجزين أمام مفعولٍ منصوبٍ وفاعلٍ مرفوعٍ وممنوعٍ من الصرف يُصرف في سوق الاستلاب اللغوي والنخاسة الفكرية، يعتمدون اعتماداً صارخاً على شبكة الإنترنت لتقصي المعلومات ونقلها إلى اللغة العربية، إما من مصادر أجنبية يقومون هم أنفسهم بترجمتها وتعريبها ، بأساليب وطرائق غريبة عجيبة ، أو من مصادر مترجمة جاهزة، لا تخلو هي الأخرى من العيب والخلل. فيتكرر العيب ويصبح الشائنُ والخطأُ هو الصواب ، وذلك لكثرة ترداده وتَكراره واجتراره. ويمتزج الجهل بالغرور والغطرسة والعجرفة والصلف، وحب الذات والنرجسية والأنا الكبرى. فلو كان الواحد منهم شكولاتة ، كما يقول الاسكتلنديون ، لأكل نفسه، من حبه لذاته.
لقد كان للتوثيق في ذروة حركة النقل والتعريب في عصور القوة الأدبية والفكرية عند العرب مركز محوري في عملية التأكد من المعلومات المتناقلة في اللغة الواحدة والمعارف المنقولة من اللغات الأخرى إلى العربية. فكان العرب أول من أبدع فن الإسناد والإسناد المتسلسل أو المعنعن، واعتمدوه في تدوين السنة الشريفة . والعنعنة اصطلاحاً هي إسناد الكلام إلى صاحبه بأن يُذكر لفظ "عن"، ولو مرة واحدة في السند. أما المترجمون فقد اعتمدوا منهجية ثابتة في تخريج الكتب المترجمة إلى العربية. "وانتقل العلم من الرواية إلى الدراية ، ومن الترجمة إلى التأليف ، ومن النقل إلى الاجتهاد والبحث والاستقصاء، وازدهر الإنتاج العقلي في أرجاء العالم الإسلامي ... فالعرب في الواقع هم الذين ابتدعوا طريقة البحث العلمي الحق القائم على التجربة ، فعندهم فقط بدأ البحث الدائب الذي يمكن الاعتماد عليه ، يتدرج من الجزئيات إلى الكليات ، وأصبح منهج الاستنتاج هو الطريقة العلمية السليمة للباحثين"[4].
وفي هذا الصدد ، يقول لاندو: "ولعل مما يسر أمر الترجمة ، مرونة اللغة العربية ، وثراء لفظها ومعانيها وكثرة مترادفاتها وقدرتها على التعبير، ولما كان الأدب العربي غنياً بتعابيره، فقد أمكن له أن يصف أدق الحالات"[5]. ولكن هذه المزية تغيب عن بال المستلبين من العرب اليوم ، فيبررون لمن يعانون نقصاً في المفردات وعجزاً في التعبير ووهناً في المنطق اللغوي وضعفاً في المعرفة ، بأن ذلك أمر طبيعي ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. بل يتهجمون على اللغة ويتهمونها بالترهل والتخلف. ويطالبون بتبسيط اللغة وحصرها في مفردات معدودة. ويغيب عن بالهم أن وضوح الفكر يقتضي وضوح الكلام ووضوح الكلام شرط من شروط وضوح الفكر وسلامة المنطق إنْ قلّت أو كثرت مفردات المرء وألفاظه. ويكثر الخلل والعيب والاعتلال فنسمع مثلاً عن عُنـَــاز[6] الطيور:"وفاة ثالثِ حالة مرض أنفلونزا الطيور في تايلاند." فبالله عليكم كيف تموت الحالة إن لم يكن موتها موتاً مجازياً؟ تلك هي حال أولئك الناس الذين ضربت عليهم المسكنة في عصر الانحطاط الثاني.
__________________________
[1] الساتل: هو التابع ، وستل الدمع تتابع دمعة إثر أخرى، وهو هنا القمر الاصطناعي.
[2] التوصيف : نعتُ الشيء بما فيها أو بما ليس فيه ؛ إضفاءُ صفة معينة على الشيء ، نحو: رَفَضَ وَزِيرُ الإعْلامِ تَوْصِيْفَ الاجتماعِ بأنه فاشلٌ. مترجمة عن الإنجليزية (characterize)، على نسق توظيف. من الفعل: وَصَّفَ يَوصِّفُ توصيفًا ، وهو شاذ وزائد ومتكلف ولم تثبته المعاجم. ووَصَّفَ على زنة المبالغة والتضعيف فَعَّلَ كوظّفَ . ويرى مجمع اللغة العربية أن التضعيف في وَصّفَ مقصود به التفصيل الدقيق (الكثير)، ولا يرى مانعاً من استعمال التوصيف بهذا المعنى. ولكن الاستعمال الجاري لـ "توصيف" لا يفيد التفصيل الدقيق، بل مجرد الوصف. فعلام التكلف؟
[3] هذه ترجمة للجملة الإنجليزية (This page is under construction…). ونرى فيها تأثير الحرفية في ترجمة حرف الجر الإنجليزي (under). وهنا يكمن الخلل في العربية. فالتعبير السليم في العربية هو (قيد الإنشاء) وليس (تحت الإنشاء) ، فإذا أنت أنشأت الشيء أوجدته ورفعته ، فكيف يكون الشيء المرفوع تحت الإنشاء؟
[4] المصدر نفسه. ص 314.
[5] المصدر نفسه.
[6] من الأمور المضحكة المبكية أن العرب اليوم ، مترجمين وإعلاميين ومؤلفين وباحثين وغيرهم ، يفتقرون إلى المعرفة المصطلحية فيؤثرون اقتراض المصطلحات الأجنبية جملة وتفصيلاً . فمنهم من يمهر في لفظها كما هي ، ومنهم من يخرجها عن لفظها الأصلي بصورة هزيلة كما هي الحال بالنسبة إلى أنفلونزا . فنجد معظم العرب الذين يستخدمون هذا اللفظ ينطقونه أنفي الونزا ، وذلك بسبب اضطرارهم بحكم طبيعة اللغة العربية التي لا مفر منها ومن نظامها الصوتي ، مهما تكن شدة الاقتراض والاستلاب ، إلى منع التقاء الساكنين ، أو ما يعرف في اللسانيات بـ epenthesis. وهو إدخال حرف علة بين ساكنين. أفليس من الأجدر إذاً استعمال لفظ عُنَـاز المشتق من عنزة ، على زنة فُعال كزُكام وجُذام وغيرها ؟ ذلك أن أصل (influenza) عربي ، وهو كما أخبرنا الدكتور صبري القباني منذ عقود خلت ، أنف العنزة ، وذلك لسيلان أنف المصاب كسيلان أنف العنزة. وعندما سمعها الأعاجم شوهوا لفظها لعدم قدرتهم على النطق العربي السليم ، فصارت (أنفو لونزا)، كما ينطق الأجانب اليوم اسم (علي) كـ (ألي). ولكننا نفتقر إلى الجرأة اللغوية والثقة والالتزام بلغتنا ونرضى بالضعة والمسكنة . فتباً لنا.
---------------
* علي درويش : أستاذ الترجمة والتواصل التقني في جامعات ملبورن ـ أستراليا، ومؤلف وكاتب تقني.
مصدر المقال : صحيفة المناخ ( صحيفة استرالية بالعربية ) :
http://www.al-manac.com/kutta_almanac/Alinternet%20wa%20adab.htm