الألفاظ المعرّبة في القرآن الكريم ومَوقف السّيوطي مِنْهُ - محمَد يوسف الشربَجي (1)

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد :‏

مقدمة:

فإن الكلام عن المعرب في القرآن الكريم من المواضيع المهمة لما له من تأثير على الدراسات العربية، الدينية واللغوية. وقد تباينت وجهة نظر العلماء في وقوع المعرب في القرآن الكريم قديماً، وتضاربت حوله الآراء قديماً وحديثاً.‏

والسيوطي، ذاك الإمام الموسوعي، لم يترك فناً من الفنون إلا أخذ منه بقبس وتناوله بطرف، وقد ألَّفَ في هذا الموضوع أكثر من كتاب منها: المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب، والمتوكلي فيما ورد في القرآن باللغة الحبشية والفارسية والهندية والنبطية والقبطية والسريانية والعبرانية والرومية والبربرية، بالإضافة إلى ما ذكره في كتابه الإتقان في علوم القرآن، في النوع الثامن والثلاثين، فيما وقع فيه بغير لغة العرب، والذي لخصه من كتاب المهذب، وقد بيَّن رأيه في ذلك بصراحة ووضوح.‏

وسأتناول في بحثي هذا آراء العلماء من المعرب، وموقف السيوطي منه، من خلال مؤلفاته السابقة وبيان منهجه فيه.‏

تعريف المعرَّب: هو ما استعمله العرب من الألفاظ الموضوعة لمعان في غير لغتها(1).‏

قال الجوهري: تعريف الاسم الأعجمي: أن تتفوه به العرب على منهاجها تقول:عربته العرب وأعربته أيضاً(2).‏

والتعريب: هو نقل اللفظ من العجمية إلى العربية(3).‏

آراء العلماء، وموقفهم من المعرَّب في القرآن الكريم:‏

تباينت آراء العلماء في هذه المسألة، مابين مانع من ذلك، وقائل بالوقوع، ومتوسط بينهما.‏

 
1 ـ آراء القائلين بالمنع وأدلتهم:‏

ذهب الإمام السيوطي وابن جرير الطبري وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر وابن فارس إلى عدم وقوع المعرَّب في القرآن الكريم، مستندين في ذلك إلى قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(، (يوسف: 2). وقوله تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصِّلت آياته، أأعجمي وعربي، قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء.....(، (فصَّلت: 4).‏

وقد فصَّل الإمام الشافعي القول في المسألة وردَّ على المخالفين فقال:‏

"ومن جماع علم كتاب الله: العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب... وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله، فقال قائل منهم: إن في القرآن عربياً وأعجمياً والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب.‏

.... ولعل من قال: إن في القرآن غير لسان العرب وقُبل ذلك منه: ذهب إلى أن من القرآن خاصاً يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه(4).‏

ويحمل الإمام الشافعي (رضي الله عنه) وما نطقت به العجم من لسان العرب على التعلم فيقول:‏

"فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؛ فذلك يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم، فإن لم يكن من تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه"(5). ومهما كان الأمر فهو يحمل على التوافق أو التوارد وهذا ما أكده الإمام الشافعي في رسالته حيث يقول: "ولا ننكر إذ كان اللفظ قيل تعلماً أو نطق به موضوعاً أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلاً، من لسان العرب كما يتفق(6). القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها مع ثنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها".(7).‏

وبعد أن فصَّل الإمام الشافعي المسألة أتى بالدليل والحجة على رأيه فقال: "فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب، لا يخلطه فيه غيره؟ فالحجة فيه كتاب الله قال الله (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه( (إبراهيم: 4).‏

فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد (() كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمداً بعث إلى الناس كافة فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه وما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟ فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض فلابد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع، وأولى الناس بالفضل في اللسان، من لسانه لسان النبي، ولا يجوز ـ والله أعلم ـ أن يكون أهل لسانه اتباعاً لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان تبع للسانه، وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه، وقد بيَّن الله ذلك في غير آية من كتابه:‏

قال الله تعالى: (وإنه لتنزيل ربِّ العالمين، نَزَلَ به الرُّوحُ الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين(، (الشعراء : 192 ـ 195). وقال: (وكذلك أنزلناه حُكماً عربياً(. (الرعد: 37).‏

وقال: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أمَّ القرى ومن حولها(, (الشورى: 7).‏

وقال: (حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون( (الزخرف: 1 ـ 3).‏

وقال: (قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون( (الزمر: 28).‏

قال الإمام الشافعي بعد ذلك (8): فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه ـ جلَّ ثناؤه ـ كل لسان غير لسان العرب، في آيتين من كتابه:‏

فقال الله تبارك وتعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يُعلِّمه بشرٌ، لسانُ الذين يُلحدون إليه أعجميٌ، وهذا لسانٌ عربيٌّ مبين(. (النحل: 103).‏

وقال: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصِّلت آياته، أأعجمي وعربي(، (فصِّلت: 44).‏

قال الإمام الشافعي: وعَرَّفنا نعمته بما خصَّنا به من مكانة فقال: (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم، عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم، حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم( (التوبة: 128). إلى آخر ما ذكره الإمام الشافعي من أدلة وحجج من عربية القرآن الكريم وخلوه من أي لفظ أعجمي. وإذا وقع فيه أي لفظ أعجمي، فيكون على سبيل التوافق أو التوارد كما فصِّل القول فيما سبق.‏

وعلى نفس هذا الطريق سار ابن جرير والطبري، وتعرض للرد على المخالفين وإبطال دعواهم، بأن في القرآن ألفاظاً من أصل غير عربي، مع توجيه لما روي عن الصحابة والتابعين من نسبة ألفاظ من القرآن إلى لغات أعجمية بما يخرج به عن صحة الاستدلال، وهذا ما عقد له فصلاً خاصاً في مقدمة تفسيره، بعد أن استدل على عربية ألفاظ القرآن الكريم، بمالا يخرج عن استدلال الإمام الشافعي (رضي الله عنه). وأن ما ذكر أنه بلسان غير العرب فيحمله على التوافق، ويعقد لذلك فصلاً بعنوان: "القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم". فيقول: "ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد.. كما قد وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة كالدرهم والدينار والداوة والقلم والقرطاس وغير ذلك، مما يُتعب إحصاؤه، ويُمل تعداده"(9).‏

ويقول في آخر الفصل: "قد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية... أن الله جلَّ ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الأمم وعلى فساد قول من زعم أن منه ماليس بلسان العرب ولغاتها"(10).‏

وقد شدد أبو عبيدة النكير على من ادعى أن في القرآن من غير العربية، فقال: "إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن كذا بالنبطية فقد أكبر القول"(11).‏

وهو يحمل ما ورد في القرآن من ألفاظ أعجمية على التوافق فيقول: "وقد يوافق اللفظ اللفظ ويقاربه ومعناهما واحد، وأحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها".(12).‏

وقال ابن فارس: "ليس في كتاب الله ـ جلَّ ثناؤه ـ شيء بغير لغة العرب والقول ماقاله أبو عبيدة، وذلك أن القرآن لو كان فيه من غير لغة العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها وفي ذلك مافيه"(13).‏

وفعلاً، فإن ما توقعه ابن فارس ـ رحمه الله ـ قد وقع فيه المستشرقون واتخذوا من ذلك سلَّماً يرتقون فيه إلى الطعن في إعجاز القرآن الكريم، وقد انضم إلى هذا الفريق من العلماء في عصرنا الحاضر الشيخ أحمد شاكر، محقق كتاب (المعرَّب من الكلام الأعجمي) للجواليقي، مخالفاً ما ذهب إليه صاحب الكتاب من ترجيح وقوع المعرب في القرآن بعد جريانه على لسان العرب، فيقول: "وهو قول ينبو عنه التحقيق، وإنما ذهب إليه من ذهب إعظاماً لما روي عن بعض الأقدمين في ألفاظ قرآنية أنها معربة، وعجزاً عن تحقيق صحة الرواية عنهم، وعن تحقيق صحة هذه الحروف في كلام العرب، ثم تقليداً لأولئك القائلين وجمعاً بين القولين زعموا"(14).‏

وقد حاول الشيخ شاكر أن يكشف الشبهة عن تلك الألفاظ التي يظن أن أصلها غير عربي لعدم معرفة مصدر اشتقاقها لأن شبهة كونها من أصل أعجمي أقوى من غيرها من الألفاظ ذات الاشتقاق، التي قيل إنها من غير لغة العرب فيقول: "والعرب أمة من أقدم الأمم ولغتها من أقدم اللغات وجوداً، كانت قبل إبراهيم وإسماعيل وقبل الكلدانية والعبرية والسريانية بله الفارسية وقد ذهب منها الشيء الكثير بذهاب مدنيتهم الأولى قبل التاريخ فلعل الألفاظ القرآنية التي يظن أن أصلها ليس من لسان العرب، ولا يعرف مصدر اشتقاقها لعلها من بعض ما فقد أصله وبقي الحرف وحده".(15).‏

وقد ذهب إلى هذا القول أيضاً الدكتور حسن ضياء الدين عتر في بحثه: (نقاء القرآن من الكلام الأعجمي)(16).‏

وفي تعليقه على كتاب (فنون الأفنان)، لابن الجوزي، فقد ذكر العلماء في المسألة وأدلتهم ورجح قول الإمام الشافعي وجمهور المحققين من عدم وقوع أي لفظ أعجمي في القرآن الكريم، فقال: "ونحن نقطع ـ استناداً إلى الأدلة الآنف ذكرها ـ بأنه لا يوجد في القرآن أي لفظ أعجمي دخيل على العربية ناب عن خصائصها وأوزانها"(17).‏

هذا ماذهب إليه الفريق الأول من القول بعدم وقوع المعرب في القرآن الكريم.‏

آراء القائلين بجواز وقوع المعرب في القرآن الكريم:‏

وذهب الفريق الثاني إلى جواز وقوع المعرب في القرآن الكريم، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام والخويّي وابن النقيب والشوكاني وغيرهم ودليلهم ما يأتي:‏

1 ـ ما روي عن ابن عباس (18) ومجاهد وابن عكرمة وعطاء وغيرهم من أهل العلم أنهم قالوا في أحرف كثيرة إنها بلغات العجم، قوله تعالى: (طه واليم والطور والربانيون(، فيقال إنها بالسريانية.‏

والصراط والقسطاس والفردوس أنها بالرومية.‏

ومشكاة وكفلين، يقال أنها بالحبشية... وهذا قول أبي عبيد الذي نسبه إلى أهل العلم من الفقهاء (19).‏

2 ـ ما اتفق عليه النحاة على منع صرف كثير من الأسماء الموجودة في القرآن الكريم، للعلمية والعُجمة كإبراهيم مثلاً، وإذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس(20).‏

3 ـ ما ذكروه من حكمة وقوع المعرّب أن القرآن الكريم قد حوى علوم الأولين والآخرين، ونبأ كل شيء، فلابد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن، ليتم إحاطته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالاً للعرب(21)..‏

4 ـ وهذا ما صرَّح به ابن النقيب فقال: "من خصائص القرآن على سائر كتب الله المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، ولم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم. والقرآن احتوى على جميع لغات العرب وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير".(22).‏

وقد انضم إلى هذا الفريق من المعاصرين الدكتور رمضان عبد التواب فقال في كتابه (فصول في فقه العربية)، بعد أن انتقد الشيخ أحمد شاكر فيما ذهب إليه من عدم جواز وقوع المعرَّب في القرآن الكريم: "وهكذا نرى أنه من العبث إنكار وقوع المعرَّب في العربية الفصحى والقرآن الكريم"(23).‏

ومال إلى هذا الرأي أيضاً محمد السيد علي البلاسي في تعليقه على كتاب المهذب (24).‏

فقال بعد أن استعرض أقوال العلماء في المسألة: ونحن نقول: إن علماءنا الأفاضل يكادون يتفقون على وقوع الكلمات الأعجمية ـ التي عرَّبها العرب ـ في القرآن الكريم فيما عدا الفريق الذي منع هذا، وعلى أية حال فلا خلاف بين العلماء على جواز استعمال المعرَّب، وإذا كان الأمر كذلك، فلا ضير من وقوع المعرَّب في القرآن الكريم".(25)..‏

3- الرأي المتوسط بين المنع والجواز:‏

الفريق الثالث: وهو رأي أبي عبيد القاسم بن سلام، الذي يقول: "والصواب عندي مذهب فيه القولان جميعاً وذلك لأن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، ولكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية، فهو صادق، ومن قال إنها أعجمية فصادق.‏

قال: وإنما فسرنا هذا لئلا يقدم أحد على الفقهاء فينسبهم إلى الجهل، ويتوهم عليهم أنهم أقدموا على كتاب الله ـ جلَّ ثناؤه ـ بغير ما أراده الله جلَّ وعزَّ، كانوا أعلم بالتأويل، وأشد تعظيماً للقرآن (26).‏

وقد انضم إلى هذا الفريق الثالث من المعاصرين الدكتور طاهر حمودة فقال بعد أن عرض أقوال العلماء في ذلك "وثمة رأي حاول صاحبه التوسط بين المنكرين والمثبتين وهو في الحقيقة أصوب هذه الآراء وأكثرها إدراكاً للواقع اللغوي وما ينتج عن اختلاط اللغات بعضها ببعض من وقوع التأثير والتأثر في الألفاظ واستعمال كل لغة بعض ألفاظ الأخرى بعد تهذيبها وصقلها وصوغها بصيغها المألوفة، وهو ما يعرف في العربية بالتعريب"(27).‏

بعد أن استعرضنا أقوال العلماء في القضية، نصل إلى رأي السيوطي في التعريب وموقفه منه:‏

*اختيار السيوطي:‏

ذهب السيوطي إلى القول بوجود ألفاظ أعجمية في القرآن الكريم، وقد دل على رأيه بصراحة ووضوح فقال في كتابه (المهذب):‏

"وأقوى ما رأيته ـ وهو اختياري ـ ما أخرجه ابن جرير. قال: "أنبأنا ابن حميد، أنبأنا يعقوب القمي عن جعفر عن ابن المغيرة عن سعيد بن جبير، قال: "قالت قريش لولا أنزل هذا القرآن أعجمياً وعربياً؟"، فأنزل الله: (وقالوا لولا فصِّلت آياته أأعجمي وعربي(، (فصِّلت: 44)، الآية.‏

وأنزل الله بعد هذه الآية القرآن بكل لسان، فيه: (حجارة من سجيل((هود: 28). فارسية.‏

وقال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، أنبأنا إسرائيل عن ابن إسحاق عن أبي ميسرة، قال: "في القرآن من كل لسان".‏

قال ابن أبي شيبة في مصنفه: "حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، قال: "أنزل القرآن بكل لسان".‏

وقال: حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا سلمة بن سبط عن الضحاك، قال: "نزل القرآن بكل لسان".‏

ونقل الثعلبي عن بعضهم قال: "ليس لغة في الدنيا إلا وهي في القرآن"(29).‏

ثم ذكر رأي ابن النقيب الآنف الذكر وأشار إلى حكمة وقوع المعرب في القرآن الكريم وذلك لتتم إحاطته بكل شيء.‏

قال: وأيضاً فالنبي (() مرسل إلى كل أمة. وقد قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه(، (إبراهيم: 4). فلابد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم، وإن كان أصله بلغة قومه هو"(30).‏

ثم نقل عن الخُويّي فائدة لوجود المعرب فقال: "وقد رأيت الخُويّي ذكر لوقوع المعرب في القرآن فائدة أخرى، فقال: "إن قيل إن "استبرق"(31)، ليس بعربي، وغير العربي من الألفاظ دون العربي في الفصاحة والبلاغة، فنقول: "لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذه اللفظة ويأتوا بلفظ يقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك.‏

ولا يجد العربي لفظاً واحداً يدل عليه، لأن الثياب من الحرير عرفها العرب من الفرس، ولم يكن لهم بها عهد، ولا وُضع في اللغة العربية للديباج الثخين اسم. وإنما عرَّبوا ما سمعوا من العجم واستغنوا به عن الوضع لقلة وجوده عندهم وندرة تلفظهم به"(32).‏

وقد أكد السيوطي موقفه هذا بتأليفه في هذا الموضوع أكثر من كتاب كما مرَّ معنا في بداية البحث(33).‏

*مناقشة هذه الآراء:‏

لم يسلم الفريق الثاني للفريق الأول فيما ذهب إليه، وأجابوا عن قوله تعالى: (قرآناً عربياً( (يوسف: 2)، بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربياً، فالقصيدة الفارسية لا تخرج عنها بلفظة فيها عربية.‏

وأجابوا عن قوله تعالى: (أأعجمي وعربي( (فصِّلت:44) بأن المعنى من السياق أكلام أعجمي، ومخاطب عربي!(34).‏

ولكن هذا الرد لا يصمد طويلاً أمام صراحة القرآن الكريم بعربية كل ما جاء فيه وما نقله أبو عبيد من أهل العربية أن القرآن، ليس فيه من كلام العجمة شيء، وأنه كله بلسان عربي يتناولون قوله جلَّ ثناؤه: (إنا جعلناه قرآناً عربيا(.(الزخرف: 43)، وقوله: (بلسان عربي مبين(، (الشعراء: 195).‏

وقد أجاب الفريق الأول والثاني القائلين بوقوع المعرَّب في القرآن الكريم والتي رويت عن ابن عباس وغيره بأنها من باب توافق اللغات في بعض مفرداتها باللفظ والمعنى. والفريق الأول القائل بخلو القرآن من اللفظ الأعجمي لا يقبل رأي الفريق الثالث المتوسط بين المنع والإباحة، فقد أنكر ابن فارس كما رأينا على أبي عبيد رأيه فيقول:"فإن قال قائل، فما تأويل قول أبي عبيد فقد أعظم وأكبر؟ قيل له: تأويله أنه أتى بأمر عظيم، وذلك أن القرآن لو كان فيه من غير لغة العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها وفي ذلك مافيه"(35).‏

والناظر في أدلة الفريق الثاني لا يجدها قوية، فقولهم: إن القرآن الكريم قد احتوى على ألفاظ من جميع اللغات، لأن الرسول (() مرسل إلى كل أمة واستندوا في ذلك إلى قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه(، قالوا: فلابد أن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم وإن كان أصله بلغة قومه هو، هذه حجة واهية، فالقرآن الكريم لا يخاطب كل إنسان بلغته هو، بل على جميع المؤمنين به أن يتعلموا لغته، وقد نزل القرآن بلسان عربي مبين.‏

وأما أنصار الفريق الثالث القائلين بالتوسط، فهم أقرب مايكون إلى الواقعية إذ من المعروف أن الاختلاط بين العرب وغيرهم من الأمم كان موجوداً في مكة المكرمة عن طريق التجارة وغيرها، مما أدى إلى التأثر والتأثير في اللغة، فدخلت إلى العربية بعض ألفاظهم مع شيء من التحوير في الصيغة والصوت. ونجد ذلك في أشعار الجاهليين ولاسيما من أكثر من دخول بلاد فارس والروم من الشعراء.‏

وهذا ما نبه إليه ابن عطية في تفسيره، وتبعه القرطبي، وذكره السيوطي فقال: "كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم، فعلقت من لغاتهم ألفاظاً غيَّرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الفصيح، ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن".(36).‏

وقد خلص ابن عطية إلى هذه النتيجة بعد أن ذكر خلاف العلماء وقال: "إن القاعدة والعقيدة هي أن القرآن بلسان عربي مبين، فليس فيه لفظة تخرج عن كلام العرب، فلا تفهمها إلا من لسان آخر، فأما هذه الألفاظ وما جرى مجراها فإنه قد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات وبرحلتي قريش، وكَسفر مسافر بن أبي عمرو إلى الشام، وسفر عمر بن الخطاب، وكسفر عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة، وكسفر الأعشى إلى الحيرة، وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة، فعلقت العرب بهذا كله ألفاظاً أعجمية غيَّرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الصريح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن، فإن جهلها عربي ما، فكجهله الصريح مما في لغة غيره، كما لم يعرف ابن عباس معنى "فاخر" إلى غير ذلك.‏

فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه.‏

وابن عطية يرد على الطبري وعلى غيره من القائلين بتوافق اللغات، فيقول: "وما ذهب إليه الطبري من أن اللغتين اتفقتا في لفظة، فذلك بعيد بل إحداهما أصل والأخرى فرع في الأكثر، لأنها لا تدفع أيضاً جواز الاتفاق قليلاً شاذاً".(37).‏

وما ذكره ابن عطية ونقله القرطبي وأكده، كلام عملي واقعي، استندوا فيه إلى الواقع المشاهد فإن الاختلاط الحاصل بين الأمم والشعوب، مما لا شك فيه أن يتسرب بعض كلمات وألفاظ إلى لغة أخرى ثم تستعملها تلك الأمة بشيء من التحوير والتغيير فتصبح لغة لها وهذا هو التعريب.‏

وهذا ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في توفيق بين القولين، عندما قال: هذه الحروف أصولها أعجمية، ولكنها وقعت للعرب فعرَّبتها بألسنتها وحولتها من ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية. ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب..."(38).‏

ثم إن ما ذكره الفريق الثاني من قول ابن عباس (رضي الله عنه) في أحرف كثيرة في القرآن أنها من غير لسان العرب وهذا القول روي عن أبي عبيد يعارضه ما روي عن ابن عباس نفسه في قوله عزَّ وجل: (بلسان عربي مبين( (الشعراء: 195)، قال: بلسان قريش، ولو كان غير عربي ما فهموه، وما أنزل الله كتاباً من السماء إلا بالعربية، وكان جبريل (عليه السلام)، يترجم لكل نبي بلسان قومه. وذلك أن الله عزَّ وجلَّ قال: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم(. (إبراهيم: 4). وليس في ألسنة الأمم أوسع من لسان العرب. والقرآن ليس فيه لغة إلا لغة العرب، وربما وافقت اللغة اللغات، وأما الأصل والجنس فعربي، لا يخالطه شيء"(39).‏

فابن عباس: (رضي الله عنه)، يذهب هنا إلى القول بتوافق اللغات، وهذا ما صرح به محقق كتاب (اللغات في القرآن)، إذ يقول: "وكتابنا يقول قولاً جديداً فهو لم يشر إلى أن الألفاظ كانت أعجمية فعربت بل التمس سبيلاً جديداً، فقال: "وافقت لغة العرب في هذه اللفظة لغة النبط أو السريان أو القبط، ويستدل من هذا أن اللفظ وجد في اللغة العربية ووجد في لغة أعجمية ثانية وأن لغة العرب وافقت اللغة الأعجمية في هذا اللفظِ. فكأن اللغة العربية وتلك اللغات تنحدر من أصل واحد. وهذا المذهب هو تأييد لمن قال: "إن القرآن ليس فيه شيء من غير لسان العرب"(40).‏

وهذا ما ذهب إليه الإمام الطبري في تأويل قول ابن عباس وأن قوله بوقوع المعرَّب لا يصلح دليلاً لأن قولهم حدث كذا بلسان الحبشة معناه كذا، وحدث كذا بلسان العجم معناه كذا، ليس نصاً صريحاً بأن هذا اللفظ أصله حبشي أو أعجمي بل فيه احتمال كبير بأنهم أرادوا أينما ذكروه أنه من قبيل توافق اللغات ويشهد لهذا دخول الكثير من أصحاب اللغات المختلفة في الدين، فلا مانع أن يكون من الصحابة والتابعين من عرف منهم هذه الألفاظ المتفقة في اللغات وزيادة منهم في توضيح الألفاظ القرآنية نصوا على معانيها فيما وردت فيه من اللغات غير العربية".‏

وأما ما ذكره السيوطي للتدليل على رأيه واختياره من آثار أن في القرآن من كل لسان فقد أشار قديماً إلى هذا الإمام الطبري الذي نقل عنه السيوطي الأثر وتوجيهه عند الطبري أن فيه من كل لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرهم، من الأمم التي تنطق به"(41).‏

ثم إنها على فرض صحة سند هذه الآثار فلا تعدو أن تكون آراء شخصية، ليس لها سند يعتمد عليه من كتاب أو سنة، فلا تصلح لأن تكون دليلاً مسلماً به.‏

وما ذكروه من اتفاق النحاة على منع صرف الأسماء الأعجمية، وهذا أمر مسلَّم به لأن أسماء الأعلام لا تتغير بنقلها إلى لغة أخرى، بل تبقى كما هي في اللغة المنقولة، ومع هذا فلا يستلزم ولا يترتب عليه وقوع غيرها من الألفاظ.‏

وبعد استعراض أقوال العلماء ومناقشتها أخلص إلى مايلي:‏

إن الخلاف بين العلماء حول هذه القضية ينحصر في أمرين اثنين:‏

الأول: أن القرآن العربي نزل بلسان عربي مبين لا دخيل فيه ولا غريب، من لغة أخرى، وأن ما ذكر عن بعض الألفاظ أنها أعجمية فهي على سبيل التوافق أو التوارد، بين اللغات، وهذا أمر معروف في اللغات وهو قليل شاذ.‏

الثاني: أن القرآن الكريم عربي المبنى، فصيح المعنى وهذا أمر متفق عليه عند الجميع ولكن الخلاف حول هذه الكلمات التي نقل أنها أعجمية فذهب بعض العلماء إلى القول بأن أصولها أعجمية ولكن باستعمال العرب لها وتغيير بعض حروفها أصبحت عربية فصيحة.‏

وكوننا نجهل تاريخية اللغات بشكل دقيق فلا يمكننا القول إن هذه الكلمة مشتقة من تلك اللغة أو غيرها.‏

*المهذب فيما وقع في القرآن من المعرَّب:‏

رأينا فيما سبق موقف السيوطي من المعرَّب واختياره وقوع ألفاظ أعجمية في القرآن الكريم. وقد دلَّ على رأيه هذا وضعه أكثر من مؤلف في هذا الباب. منها هذا الكتاب الذي سنتناوله الآن بالدراسة، وكتاب (المتوكلي) الذي أشرنا إليه سابقاً، وسنقارن بينه وبين المهذب، بالإضافة إلى ما لخصه من المهذب في كتابه الإتقان.‏

طبع كتاب المهذب في مجلة المورد العراقية في العدد الأول والثاني سنة 1971، ثم صنفه التهامي الرابعي الهاشمي وطبع في المغرب تحت إشراف اللجنة المشتركة لنشر التراث الإسلامي بين المغرب والإمارات، وأخيراً حققه سمير حسن حلبي، وطبع في دار الكتب العلمية في بيروت سنة 1988م. ويتناول هذا الكتاب الألفاظ المعرَّبة التي وقعت في القرآن الكريم، بعد أن تتبعها السيوطي في مصادرها ومظانها، فيقول في آخر كتابه: "فهذا ما وقفت عليه من الألفاظ المعرَّبة في القرآن الكريم بعد الفحص الشديد سنين، وسعة النظر والمطالعة".(42).‏

والسيوطي شديد الاعتداد بنفسه ومؤلفاته، ونلمس هذا في معظم كتبه، فمثلاً في كتابه هذا يقول، بعد ذكر الكلمات المعرَّبة في القرآن الكريم: "ولم يجتمع قبل في كتاب قبل هذا".(43).‏

استهل السيوطي كتاب المهذب بمقدمة طويلة استعرض فيها موقف الأئمة من وقوع المعرَّب في القرآن الكريم، ثم ذكر رأيه المختار مستنداً في دعم رأيه إلى ما ورد من آثار في هذا الموضوع، متمشياً مع عقليته النقلية ومنهجه الحديثي في التأليف.(44).‏

وقد أبان عن منهجه هذا بقوله: "هذا الكتاب تتبعت فيه الألفاظ المعربة التي وقعت في القرآن، مستوعباً ما وقفت عليه من ذلك، مقروناً بالعزو والبيان"(45).‏

ثم بدأ بسرد الألفاظ الواردة في القرآن مرتبة على حروف المعجم، وجملة ما أورده في كتابه من الألفاظ المعربة(125)، لفظة، بدأ بحرف الهمزة وانتهى بحرف الياء، دون أن يذكر في حرف [الثاء والخاء والذال والضاد والظاء].‏

والسيوطي لم يرتب الكلمات المعرَّبة حسب المواد بل على أوائل حروفها كما وردت بحكم عجميتها ولعل في ذلك تيسيراً على الباحثين.‏
يتبـــــع
-----------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 51 - السنة 13 - نيسان "أبريل" 1993 - شوال 1413

AIR JORDAN

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: