إذا كنت من محبي هذه اللغة ، ومن الذين يجعلونها همهم في الليل والنهار ؛ فلا شك في أن همك سيزداد ، وشعورك بالقلق سيـتـضـاعف وأنـت تـرى حال هذه اللغة العظيمة وقد انحدرت على ألسنة أهلها وأقلامهم إلى مستوى لا يسر.
تُرى ، ما الذي أدى بورثة هذه اللغة (ولا أقول: بهذه اللغة) إلى أن وصل حالهم إلى أن لا تواجه طالباً ولا دارساً إلا شاكياً من تعلُّمها ، ناعياً على مدرسيها ، مفتخـراً بـأنـه كان لا يعيرها بالاً حينما كان على مقاعد الدراسة؟!
وعندما تسترعي انتباهه إلى خطورة ما استهان به يواجهك بـإحـدى اثـنـتين ، أو بكليهما معاً:
* باعتذاره بصعوبتها ، وتعقيد نحوها وصرفها ، وجفاف أسلوب تدريسها.
*أو بهز كتفيه غير مبالٍ بما تقول ، وبالتثقل من هذا الموضوع الذي تطرحه معه!
ومع أن مناقشة مثل هذه القضية تحتاج إلى مدى أوسع ، وعلم أغزر ، ومـجال غيـر هـذا المجال ، ولكن لا بأس بأن نقول فيها وجهة نظر لعلها تبعث الغيرة وتـستـنهض الحرص والنظر بجد إليها.
هناك مشكلة ، وهى جهل الكثير من الأجيال الجديدة من المتعلمين بلغتهم ، وهذا ملاحظ لا يُنكر. ويتفرع عن هذه المشكلة أمر آخر - وهو الأشد خطراً - وهو الكـراهية لهـذه اللغة بحجة أنها صعبة ومعقدة ، ونكران ذلك تجاهل للمشكلة ، وهروب من مواجهتها.
وإذا حللنا المشكلة إلى عناصرها لمعرفة الحل فإننا يجب أن نبحث في ثلاثة عناصر: المدرّس، والمنهج، والطالب ، وكل عيب في واحد من هذه العناصر يساهم بقدر من المشكلة.
* أما المدرس فـإن إعـداده إعـداداً كافياً ومنتجاً يتطلب تغيير الأسس المعمول بها في طول العالم العربي وعرضه في معاهد المعلمين وفي الجامعات من أجل تخريج المعلم ، وإقامة نظام تعليمى يشعر معلم اللغة العربـيـة بقـيـمته وأثره ، وذلك باختياره وإعداده وتوجيهه لهذه المهمة في وقت مبكر، وعدم إشغاله بدراسة أو تدريس معلومات تصرفه عن المهمة الرئيسية التي صرف إليها.
* وأما المنهج فإن النظر يتعلق بإعـداده ثـم تطبـيـقه ، والمناهج الموجودة -وإن لم تكن على مستوى عالٍ من التـركـيـز - لو طُبقـت ونُفذت بشكـل جدي لكانت النتيجة أفضل مما هي عليه الآن. ومن خلال التجربة يلاحَظ أن العمل الحـالي في كثـير مـن الـبـلـدان العربية في تطبيق مناهج اللغة العربية - هو بعيد عن الجدية في التطبيق ؛ حيـث إن جـهـد المـدرس المسكين يُستنفد في عمليات حسابية (جمع وضرب وتقسيم درجات الامتحانات) هي أبــعد ما تكون عن نفع الطالب أو إضافة أي مردود إلى تكوينه العقلي.
وإن مـهـنـدسـي هـذه العملـيات الحسابـية هم من المهارة والحرفة بالقدر الذي يجعل أبلد الطلبة وأبعدهم عن فهم العربية يقـتـنصون (أو تُقـتـنص لـهـم) درجة من هنا ودرجتين من هناك بفضل هذه الحيل الحسابية مع أنهم غير قادرين على كتابة فقرة صحيحة!
* وأما الطالب فإن مشكلته أعمق وأكثر تعقيداً ، فالهوة مـتسـعـة بـيـن اللغة التي يتعلمها والمجتمع الذي يعيش فيه ، فكل ما حوله ناطق بلغة غير صحيحة: المدرسون (بمن فيهم مدرسو العربية) والبيت ، والراديو ، والتلفزيون ، والشارع... فكيف يستطيع هذا الطالب أن يسبح ضد التيار ويتقن لغة تـلـقى مثل هذا الإهمال والجحود والاستهانة؟! ، وكيف يقتنع بفائدة ما يتعلمه وهو لا يجد له تطبيقاً معقولاً على ألسنة المتعلمين؟!
لابد من النظرة الـجـادة التي تـتفحص العوائق والأسباب التي تغرس الكراهية لهذه اللغة والبعد عنها ، وإلا فإن هذه الكراهية العملية (ودعْنا من الخطب والإنشاء في الإشادة بهذه اللغة وعبقريتها) سوف تؤدي إلى دفنها ، ويوم تُدفن هذه اللغة فاقرأ على هذه الأمة السلام!
------------
مجلة البيان – العدد 13 – ذو الحجة 1408هـ - أغسطس 1988م