منذ أمد طويل والمعارك تُشَنُّ بعض المعارك ، واللغة العربية الفصحى هي المستهدفة في تلك المعارك ، وأمّا أعداء اللغة العربية الفصحى فهم كالبعوض كثرة وأذىً لا يكتفون بما لديهم من جراثيم بل يستوردون وينقلون الجراثيم الخارجية ليزداد السوء سوءاً، واستيراد المؤذي والضار ليس أمراً جديداً ، وإنما عرفه حُمَاة اللغة العربية الفصحى منذ القديم، وكان فريق الأعـداء مكوناً من الأعاجم الشعوبيين بالإضافة إلى عملائهم الذين هم أكثر مـنهـم ضِـعـَــةً وانـحــلالاً وتآمراً وأذىً ، لأن العدو الداخلي أخطر من العدو الخارجي لتمكنه من نسف البناء من الداخل .
ذهبت القرون تلو القرون ، وانقرضت طبقات وطبقات فخلَّف أنصار اللغة العربية الفصحى ميراثاً نزيـهـاً تـفــوح مـنــه عطور الإخلاص والأمانة ، أما الأعداء فخلفوا ورائهم روائح الخيانة العفنة النتنة.
رفع راية العداء في العصـر العباس أعاجم شعوبيون ومجوس ، وتتالت القرون ، ومرَّ ما يسمى عصر اليقظة ، وهو عصر السُّبات العميق ، وأعقبه ما يسمى عصر النهضة - زيفاً وبهتاناً - لأنه عصـر الغيبوبة والخدر ، ومصداق ذلك ما آلت إليه الثقافة العربية التي قُلبت رأساً على عقب ، فحلّ الهجين محل الأصيل ، والعميل محل الوطني ، والخائن محل المخلص، والجاهل مـحــل الـعـالم ، والكافر محل المؤمن ، والغبي محل الذكي ، وعديم الشعور محل الشاعر ، والمغفل محــل النبيه ، والأصاغر محل الأكابر ، وزُوِّرت الأسماء والصفات فأطلق على الأوضاع الشاذة مصطلح "عصر الحداثة"!!
في عصر الحداثة سُنَّت الحروب على اللغة العربية الفصحى ، فرُفِعت بـيـارق الـلـهجات العامية الضحلة في أكثر من قطر عربي ، وبلغ البعض أسفل درجة من الانحطاط فدعوا إلى استخدام الحروف اللاتينية محل الحروف العربية ، واتخذوا مما نفذه يهود الدونمـــــة نبراساً يهتدون به .
إن سبب إعلانات الحروب على اللغة العربية الفصحى هي كون تلك اللغة : لغة القرآن الكريم ، ولغة السُّنة النبوية ، ولغة التراث الإسلامي بشكل عام . فإذا ما هُزِمت تسهل هزيمة ما تحتويه من تراث مشرف ، فاللغة كالإناء إذا كسر ضاع محتواه .
لم تـتـوقـف أنواع المعارك، كما لم تقتصر على الدعوات إلى العامية، واستبدال الحروف، وإلى آخر ما هنالك من جِيَفٍ فاحت عفونتها من مصر وسوريا ولبنان والعراق والجزائر .
لعل الغريب أتى هذه المرة من تونس الخضراء،وذلك بالدعوة إلى الاهتمام باللغة التونسية، نعم اللغة التونسية ، وربما يدعون إلى القومية التونسية غداً ، والدين التونسي (البورقيبي + ورثته) بعد غد .
لـقـد تضمنت أخبار الثقافة - خبراً تقشعر منه أبدان الذين ما زال عندهم بقية باقية من غيرة وحياء. وهذا هو الخبر:
"تونس/ إصدارات
كتاب : "الأمثلة الشعبية التونسية" محاولة لتأكيد وجود "لغة" تونسية .
تونس 10/5/1993 : يتضمن كتاب "الأمثلة الشعبية التونسية" للأستاذ الجامعي التونسي (الهادي بالغ) مدرس اللغة الفرنسية في إحدى الكليات التونسية ، اعتقاداً راسخاً بوجود "لغة" تونسية بعيدة عن اللغة العربية الأم ، وقد جمع فيه المأثورات الشعبية المتداولة في تونس معتمداً منهجية دقيقة قوامها تصنيف المأثورات بحسب التوزيع الأبجدي .
وفي لقاء مع (وكالة فرانس برس) لم يعتبر المؤلف كتابه شاملاً لكل المأثورات التونسية بل خطوة ستليها خطوات أخرى "موضحاً أن فكرة الكتاب نبعت من تجربته مع صحيفة (لا بريس) اليومية الصادرة باللغة الفرنسية حيث كان يقوم أسبوعياً بترجمة الأمثلة التونسية إلى اللـغـــة الفرنسية . وبعد ما توافر له عدد كبير من الأمثال الشعبية جمعها في الكتاب المشار إليه .
وأضاف: إن كـتـابـه "أمس لقيام مُنجد خاصّ باللغة "التونسية" الأمر الـــذي يحمله على الاعتقاد الراسخ - بوجود لغة تونسية بعيدة عن اللغة الأم العربية". وقــال: إن "الحديث عن لهجة تونسية على غرار اللهجات العربية الأخرى أمر مغلوط وأوضــــــح : إن "اللغة التونسية" لغة أصيلة يعتمدها أفرد الشعب التونسي في تخاطبهم اليومي"، وهـــــي حسب رأيه "وإن تعرضت إلى ضغوطات سابقة نتيجة الاستعمار ، تظل دائماً محـــــافـظــة عـلى شخصيتها المستقلة ، وعلى كيانها اللغوي المتكامل والمتناسق" ، ويؤكد المؤلف أن كـتـابــه "يقـيــم مصالحة بين الإرث الثقافي في تونس وبين نخبتها المثقفة" ، ويسعى إلى البحث في ثقـافــات أخــــرى ولا سيما الفرنسية منها عن مأثورات نظيرة لما وجده في المخزون الثقافي التونسـي الأمر الـــــذي استغرقه جهداً كبيراً . وقد أراده قناة تؤمِّن التواصل بين الثقافات الإنسانية في الجنوب والشمال وفي الشرق والغرب.
ولا ينكر (الهادي بالغ) وجـــــود مأثورات تونسية شعبية منقولة عن اللغة الأم وهي تُمثل الجانب الأوفـــر مما هو متداول . كـذلـك يـــرى جانباً من هذه الأمثلة متجانس مع بعض الأمثلة الأخرى المتداولة في أقطار عربية أخرى . ويـؤكـــد على أن نسبة لا تَقِلُّ أهمية عن سابقاتها تونسـيـة محضة ، وهي من إبداعات التونسي ، ومـعـبـرة عــن واقعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي .
ويتمنى المؤلف أن يتمكن الكاتب من أن يُطلِعَ التونسي على إرثه الثقافي الثري وأن يتجاوز رواجه الحـدود التونسية على غرار شريط الخرج التونسي (فريد بوغـدير) "عصفور سطح" الذي حقق نجاحات كبيرة في السنوات القليلة الماضية ، لأنه ضمـنــه أمثلة شعوب أخرى متعددة ناطقة بالعربية والألمانية والسويدية والإيطالية والإسبانية .
وسيصدر المؤلف الأجزاء الأخرى من "الأمثلة الشعبية التونسية" في مرحلة لاحقة" .
***
هذا هو الخبر ، اكتشاف بحجم المآسي التي تصفع وجه العالم الذي يدعي الحضارة زيفاً ونفـاقــاً ، ومختـصـر القول : من تونس لم يأت الجديـد ، وإنـما من هناك فاحت رائحة العداء للغة العربية بعد معاداة الإسلام والمسلمين .
-----------
مجلة البيان – العدد 65 – المحرم 1414هـ - يوليو 1993م