رسالةٌ في لُغةٍ مَيِّتةٍ !- عبد الجليل الكور

هذا المقال مكتوبٌ على شكل رسالةٍ إلى من يَهُمّه الأمر، خصوصا إذَا كانت اللُّغةُ التي ٱستُعملتْ في كتابتها لم يَعُدْ أيُّ ناطق - كما يظنّ بعضُهم- يَتكلّمُها أو يَفهمها في الحياة اليوميّة!

إلى كل قارئ من مُتصفِّحي "هسبريس"،  تحية طيِّبة، وبعد:

اِعلَمْ، أيُّها الكريم، أنّكـ - وأنتَ الحيّ النّاطق!- بصدد قراءةِ رسالةٍ مكتوبة في لُغةٍ ميِّتةٍ، لُغة كانت تُسمّى «العربيّة»، وهي لُغة يُقال - وٱللّـهُ أعلم!- بأنّ قبائل شتّى بشبه الجزيرة العربيّة قد ٱستعملتها لُغةً مُشترَكةً بينها منذ أواسط القرن الخامس بعد ميلاد المسيح عيسى (عليه السلام)، وبأنّها عَرفتْ ٱزدهارًا كبيرًا منذ قيام "الإسلام" في بداية القرن السابع حيث صارتْ - بعد نحو قرنين من ذلكـ- اللُّغةَ الأساسيّةَ في حضارةٍ عالميّةٍ ٱمتدّت من حدود الصين شرقا إلى شبه الجزيرة الإيبيريّة غربا (الأندلس)، وذلكـ طيلة ثمانية قُرون تقريبا!

وأكيد أنّكَـ، أيّها الفاضل، تُدْرِكُـ أنّ "الميِّت" هو من فَقَد نَسمةَ الحياة فذهبتْ منه القُوّةُ الفاعلة وصار أَثَرًا بعد عَيْنٍ، حيث يأخُذ مُرورُ الزّمان في تَعْفيَةِ مَعالمه شيئا فشيئا فيَقِلّ ذِكرُه بين الأحياء أو يَنْقطع إلى الأبد! و"العربيّة"، بما أنّها قد أصبحت لُغةً ميِّتةً، لا تملكـ تلكـ "الرُّوح" التي تُسمعكـ كلاما مفهوما أو تُحرِّكـ فيكـ جارحةً ساكنةً، وبَلْه أن تُشْعركـ بالحياة في نَضْرتها وحلاوتها!

ولا شكّـ أنّكـ سترى أنّه من عجيبِ المُفارَقات أن تُكتَبَ رسالةٌ بلسانٍ ما عادَ يَتكلّم به أحد! ورُبّما يكون كاتبُ هذه الرسالة (وقارئُها أيضا) آخرَ الأحياء النّاطقين بذلكـ اللِّسان الذي قد تكون رسالتي هذه آخر ما يُكتَب به! ما عدا إذَا بدا لكـ أن تُجيب عنها برسالةٍ تَبْعثُها إلى كاتب هذه الأَسطُر ولو في تعليق على الهامش (مثلا: «ما أشدّ حماقتكـ، أيّها الكُويْتِب! أتَكتُب بلُغةٍ مَيِّتة رسالةً يُستبعَد أن يقرأها أحد؟!»)!

طبعا، لن يَغيب عنكـ أنّني قد أكون واهمًا بالفعل إلى الحدّ الذي لم أتَبيّنْ أنّ الكتابةَ في لُغة ميِّتة تمرينٌ غير مُجدٍ إلّا لمن كان يلهو أو يعبث! لكنْ، قد تَستغرب كيف أنّني رُبّما أقلّ وهمًا ليس مِمّنْ لا يزال يَكتُب مُؤلفات أو يُترجمها في لُغةٍ "ميّتةٍ"، بل مِمّنْ يَعتقد أنّها لُغةٌ "ميِّتة"، ثُمّ تجده يَكتُب بها مقالاته (وأيضا شهادتَه فيها بما هي كذلكـ) كأنّه قد عَدِم الوسائل فلم يَبْق له سواها لتأكيد موتها! بل كأنّه لا يُحْيِيها بالكتابة فيها إلّا بقدر ما تُسعفه للتعبير عن موتها غير المأسوف عليه عنده!

وقد يَزدادُ عَجبُكَـ إذَا عَلِمْتَ أنّ كاتبَ هذه الرسالة ليس الوحيد الذي ما زال يَكُتب بـ«اللِّسان العربيّ»، بل هناكـ المئات من أمثاله في هذا البلد (وفي واحد وعشرين بلدًا آخر) ممّن يَستعملونه في الكتابة، كما يَتبادلون به الحديث على قَدْرِ ما يُطيقون أو حينما يُضْطَرُّون!

وأكثر من ذلكـ، فهو لسانٌ يُعلَّم ويُتَعلَّم في كل تلكـ البُلْدان، بل حتّى خارجها ببعض بُلدان العالم غير العربيّة حيث يَطلُب أُناسٌ معرفتَه بحكم الفُضول أو بغرض الدِّراسة والبحث أو طلبًا لمزيد من المعرفة بالحضارة التي عُرِفتْ عموما بـ"العربيّة" (أو، بالأحرى، «الإسلاميّة/العربيّة») والتي يرى بعض الباحثين أنّ شُعْلتَها لم تَنطفئْ إلّا بنهاية القرن السابع عشر (حينما كان كتاب "ابن سينا" المعنون بـ«القانون في الطبّ» لا يزال مُعتمدًا في بعض جامعات أُرُوبا)!

لا يخفى عليكـ أنّه حيثما ذُكِرَ «اللِّسان العربيّ» يَحضُر "الشِّعْر" بصفته «ديوان العرب» الذي جمع العشرات من أسماء الشعراء (والشّاعرات) الذين تَنافسوا في فُنُون النَّظْم بقصائد سارتْ بها الرُّكْبان! كما يحضر "القُرآن" الذي هو كتاب "الإسلام" مُعجزًا ومَتْلُوًّا بين يديْ مليار ونصف من سُكّان هذا العالَم! وفضلا عن ذلكـ، فإنّ أسماء مثل "الفارابي" و"ابن سينا" و"الغزالي" و"الخُوارزميّ" و"الرازي" و"البيروني" و"ابن الهيثم" و"الزهراوي" و"ابن النفيس" و"ابن رشد" و"ابن عربي" و"ابن البنّاء" و"ابن خلدون" (وغيرهم كثير) لم يكتبوا مؤلفاتهم إلّا بهذا اللسان في وقتٍ كانت أُروبا غارقةً في ظُلمات الجهل والبُؤس!

ولكـ أن تَتصوّر كيف أنّ لسانًا ذاكـ شأنُه قد صار ميّتا! بل كيف أنّه، رغم موته هذا، لا يزال كثيرون يَكتُبون به أعمالَهم (بدءًا بالأدب وٱنتهاءً بالفلسفة) حتّى وهُمْ - على الأقل بعضهم- يُجيدون غيره من الألسن التي تُعَدّ "حيّةً" و"مُزدهرةً" في العالم المعاصر! والأدهى من هذا كلِّه كيف أنّ ٱللّـه - وهو العليم القدير- أَنزل به وحيَه الخاتم وتكفّل بحفظه ولو كَرِه المُكذِّبون!

عزيزي القارئ، إذَا ٱنتهيْتَ إلى هذه النّقطة ولم تَفهمْ شيئا مِمّا قرأتَه أو لامستَه ببصركـ، فاعلمْ أنّكـ كُنْتَ بصددِ تصفُّح رسالةٍ كُتبتْ بلِسانٍ مَيّتٍ. وفي هذه الحالة، إذَا كُنتَ حقًّا مَعْنيًّا بمعرفةِ مُحتوى هذه الرسالة، فعليكـ بالبحث عن مُعجمٍ لفكِّـ رُمُوزها التي قد تكتشف من خلالها هَوْلَ مُصيبةٍ يَهمُّكـ أمرُها! وقد لا تستطيع فهمَها تماما إلّا إذَا ٱستطعتَ العُثور على أحد "المُستعربِين" الأجانب مِمّنْ لا يزالون يَعرفون هذا اللِّسان لحاجةٍ في أنفُسهم!

أمّا إذَا فهمتَ كل لفظ وكل جُملة ممّا هو مكتوب هُنا، فـﭑعلم أنّكـ لم تكن تقرأ رسالةً في لُغةٍ ميِّتةٍ أراد صاحبُها نَعْيَها بتعديد شيء من مَحاسنها وآثارها، وإنّما كُنْتَ في حُلْمٍ مُرْعب يُراوِد خيال بعض دُعاة إماتة «اللِّسان العربيّ»، أولئكـ الذين يَغيظُهم (ويُغيظُهم) أنّي وإيّاكـ لا نزال نتواصل بهذا اللِّسان الذي يَرجع تاريخُه إلى أكثر من خمسة عشر قرنا! ولأنّه لا لسان بين الألسن المُستعملة الآن فوق الأرض يَحتفظ ببِنْياته الأساسيّة مِثل هذا اللِّسان «ٱلْإِعْرابيّ» (وليس «ٱلْأَعرابيّ»)، فإنّ الأمر لا يَتعلّق بلِسان يجب العمل على إماتته ونِسيانه، بل يَهُمّ لسانًا فريدًا يَنْبغي أن يُعَدّ من الآثار العالميّة التي يَلْزم حفظُها ورعايتُها كما ٱنتبهتْ إليه مُنظّمة "اليونسكو" فجعلتْ له يوما (18 ديسمبر) ليُحتفَل به عالميّا كل سنة!

فهي، إذًا، رسالةٌ للتّذْكير بأنّ «ٱللِّسان ٱلعربيّ» ليس لسانًا "عتيقا" و"مُعقَّدًا" يُستحسَن إهمَالُه كما يَزْعُم (ويَتشهّى) خُصومُه، وإنّما هو لسانٌ مُستعمَلٌ في حياة مَلايين النّاطقين عبر العالم بما يُؤكِّد أنّ نعْتَه بـ"ٱلميِّت" لا يَأتي إلّا ممّن أُشْربتْ قُلوبُهم كراهيّتَه فصاروا يَستعجلون خبرَ موته! وعليه، فالأمر لا يَتعلّق بلُغةٍ ميِّتةٍ، بل بمُستعملِين أُميتَ حسُّهم اللُّغويُّ فيها، فهُم لا يَشْعُرون بموتهم كناطقين بها، موتهم الذي يَتصوّرُونه موتًا لِلُغةٍ وُجدتْ قبلهم وسَتستمرّ حتما بعد ذهابهم!

ولكَـ مِنّي، أيّها الكريم، أطيب تحيّةٍ وأزكى سلام بلِسان عَربيّ مُبين!

-------------

المصدر: صحيفة هسبريس:

 http://hespress.com/writers/71157.html

nike

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: