- 1 -
اللغة العربية هي أقدم لُغةٍ ما تزال على قيد الحياة اليوم. تلك حقيقة، لا ينكرها إلّا الجاهل، أو الحائد عن الحق. وأنت حينما تعود إلى أقدم نصٍّ أدبيٍّ عُثِرَ عليه في العالم، تجد أن الكثير من (المفردات، والصيغ، والأبنية الصرفيَّة، والنحويَّة) ما زالت مستعملةً في لغتنا العربيَّة الفصحى حتى الآن. ذلك النصُّ الأدبيّ هو «أُخْذَةُ كِشْ»، الذي يعود إلى (حضارة كِشْ) في العراق، التي تعود إلى السلالة الأكاديَّة القديمة، ما بين 2400 و2200 قبل الميلاد، أي قبل أكثر من أربعة آلاف سنة. والنص- فيما يبدو- تعويذةٌ من شاعرٍ لامرأةٍ محبوبة. نقرأ فيه، مثلًا:
«إِلُ حَيا إِرْحَمَ يِرَءَّمْ
إِرْحمَ مَرَءْ إِلَتُ عَشْتَرْ إِنْ زَجِّ يُثَّبْ
إِنْ رُغْتِ كَنَكْتِ يُدَرَّءْ
وَرْدَتا دَمِقْتا تُحْتَنّا.
...
آخُذْ فاكِ شَ رُقَّتِ آخُذْ بُرَّماتِ عنِيكِ آخُذْ عُرْكِ شَ ثِنتتِ.»
وهو بعربيَّتنا اليوم:
«الإله حَيَا يَرْأَمُ اليَرْحَمَ
اليَرْحَمُ ابنُ الإلهَةِ عَشتَر [عشتار] قائِمٌ في المِحْرابِ
بِبَخُورِ المُرِّ يَتَجَلَّى
البَتولَتَانِ الحَسَنَتانِ اسْتُشْفِعَتا.
...
أَخَّذْتُ فَاكِ ذا (الـ)رِقَّةِ. أَخَّذتُ (الـ)زَّرقاوَيْنِ عَيْنَيْكِ. أَخَّذْتُ عُرْوَتَكِ ذات (الـ)ثِنَةِ.»(1)
والأُخْذَة: التعويذة، كما في المعجمات العربيَّة. وواضحة علاقة النص بالعربيَّة؛ حتى إن كلمة «فاكِ» ما زالت بإعرابها، بالألف في حالة النصب، كما هي قاعدة الأسماء الخمسة. وكذا المثنَّى في: «وَرْدَتا دَمِقْتا تُحْتَنّا= البَتولَتَانِ الحَسَنَتانِ اسْتُشْفِعَتا»، «آخُذْ بُرَّماتِ عنِيكِ= أَخَّذتُ (الـ)زَّرقاوَيْنِ عَيْنَيْكِ». والظواهر من هذا القبيل كثيرة، يمكن تتبعُّها في ذلك النصّ الوثيقة. في حين نجد كلمة «إِنْ»، بمعنى «في»، وكأنها الكلمة الإنجليزيَّة: «in». على أن في ترجمة هذا النص إلى اللسان العربي الفصيح، وما اختاره المترجمان من كلمات مقابلة، نظرًا. فكلمة «يُدَرَّءْ»، مثلًا، تبدو من «دَرَأَ دُروءًا»، في العربية الفصحى، إذا طلع وظهر وخَرَجَ فُجاءةً. ويُقال: دَرَأَ الكوكبُ دُرُوءاً من ذلك. ودَرَأَتِ النَّارُ: أَضاءتْ.(2)
فعلامَ يُستدلّ بهذا؟
إن هذا كلّه ليدلّ على جُملة حقائق، أهمها:
1- قِدَم العربيَّة، ورسوخ بناها المعجميَّة، والصرفيَّة، والنحويَّة.
2- يدلّ على المنحدر الذي تريد أن تأخذها إليه العامِّيَّات الحديثة.
3- يدلّ على بُطلان تلك المزاعم الذاهبة إلى أن العربيَّة الفُصحى لم تكن على هذا النحو الذي قُعِّدت عليه بعد الإسلام، وإنما كانت قبل الإسلام في رخاوتها القواعديَّة، وتحلّلها البنائيّ، كعاميّاتنا اليوم، أو قريبًا من ذاك؛ وأن تلك الصرامة التي أُخذتْ بها إنما جاءت وليدة حمل اللغة على ما وافق لغة القرآن الكريم.
4- إذا كانت النقوش التي تعود إلى ما قبل الإسلام، بنحو ما يربو على ألفي سنة وخمس مئة، تحمل خصائص العربيَّة الفصحى، كما نعرفها، مع أنها نقوشٌ تعود إلى شعوب عاشت خارج شِبْه الجزيرة العربيَّة، ولأفراد بدائيِّين، وضِمن سياقات يوميَّة بسيطة، وعامَّة، فذلك مؤشِّرٌ على ميراثٍ لغويٍّ عربيٍّ مُغرق في القِدَم. وأن النظريَّة القائلة بمستويين للغة كانا قبل الإسلام، مستوى أدبيٍّ ومستوى شعبيٍّ، وأن الأخير كان مُباينًا لقواعد الأوَّل مباينةً كبيرةً، إنما تقوم على قياسٍ متخيَّلٍ، مع الفارق الذي تدلّ عليه بقايا الوثائق اللغويَّة.
5- إن العربيَّة إنما تَحلَّلت في القرون المتأخِّرة بتشتُّت العرب حضاريًّا ولغويًّا، ولغزو العُجمة أصول لغتهم وفروعها.
ـ 2 ـ
وكما أن العربيَّة أقدم لُغة ما تزال حيَّة في العالم حتى اليوم، فإن لتاريخ الشِّعر العربي، بفنِّيَّاته الأصيلة، إيغالًا كذلك في الزمن. لذا يرى بعض الباحثين أن الشِّعر العربي ظلّ بكامل بنياته الأساسيَّة المعروفة ينتمي إلى ما قبل القرن السادس الميلادي بكثير. واقفين على بقايا آثاره في القرنين الخامس والرابع الميلاديَّين. ولولا الشفاهيَّة الغالبة على توارث الشِّعر العربي، لأمكن تتبُّع ذلك قبل تلك القرون. مستشهدين على هذا، مثلًا، بشِعر (الضجاعمة أو السليحيّين)، حلفاء الروم في بلاد الشام قبل الغساسنة، خلال القرن الخامس الميلادي. ومن ذلك أبياتُ (ثَعْلبة بن عامِر بن عوف بن بكر بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة)، من بني كلب، التي يفخر فيها بقتل داوود بن هبالة (ملك قضاعة). وكان مَلِكُ الروم قد غَلَبَ داوود بن هبالة على مُلْكِه، فصالحه داوودُ على أن يُقِرَّه في دياره، ويكون تحت ولائه له. ثم قتله (ثعلبةُ بن عامر) و(معاويةُ بن حجية)، في مكانٍ يُسمَّى: (برقة حارب). فقال ثعلبة فاخرًا:
نحنُ الأُلَى أَرْدَتْ ظُبَاتُ سُيوفِنا * داوودَ بينَ البُرْقـتَينِ فحارِبِ
خَطَرتْ عليهِ رماحُنا فتركْـنَهُ * لمَّا شَرَعْــنَ لهُ كأمـسِ الذاهـبِ
وكـذاكَ إنَّا لا تزالُ رماحُنا * تَنفي العِدا وتُفيدُ رُعبَ الراعبِ
فردَّت عليه (ابنةُ الملك داوود بن هبالة) بشِعرٍ، منه:
أصابكَ دُونانِ، الخليعُ بنُ عامرٍ * وشجَّعُهُ الأوباشُ رهطُ ابنِ قاربِ(3)
بل لعلّ أقدم الشعراء العرب المعروفين، حسب بعض الدارسين، هو (أيُّوب الأدومي)، عليه السلام- نسبةً إلى (دُومة الجندل)، شمال المملكة العربية السعودية، اليوم. وهو صاحب السِّفر المعروف في «العهد القديم»، من (الكتاب المقدَّس)، والمضروب المثل بنموذجه الإنساني في الصَّبْر. ثُمَّةَ جاءنا بأخرة من يسعى إلى التهوين من ذلك التاريخ كلِّه، ويحاول التبرير لتحلُّل العربيَّة وشِعرها من أصولهما، ذاهبًا في التنظير ودعاوَى التأصيل (لعدم الأصالة) كلَّ مذهب!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: (1989)، أُخْذَةُ كِش: أقدم نصٍّ أدبيٍّ في العالم، تقديم وتحقيق: ألبير فريد هنري نقاش، وحسني زينة (بيروت: مكتبة لسان المشرق).
(2) انظر: الزبيدي، تاج العروس، (درأ).
(3) انظر حول هذا، مثلًا: شهيد، عرفان، (رمضان- شوال 1433هـ= أغسطس- سبتمبر 2012م)، في حوار أجراه معه: عوض البادي، مجلَّة الفيصل (ع435- 436)، ص ص77- 78. ورواية الأبيات فيها اختلاف، وعجُز البيت الأخير فيه: «ومشجعه الأوباش رهط بن قارب». ولعلّ صوابه نحو ما ذكرنا.
[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: « أقدمُ نَصٍّ شِعريٍّ في العالم!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12251، الثلاثاء 15 يناير 2013، ص24]