لا ينكر الإنسان فضل المستشرقين على الثقافة العربية بغض الطرف عن نواياهم ومقاصده، فمنهم من ارتحل في بلادنا كما ارتحل الأجداد وكابدوا عناء الرحلة ومشاقها وعاشوا مع البدو حلوا حيث حلوا وارتحلوا حين ارتحلوا، ومنهم من ارتحل في التراث فاستوعبه وعبر عنه، ومن يزر المكتبات الغربية يجد عنايتهم الفائقة بحفظ مخطوطاتنا حفظًا ما كان سيتيسر لها في بلادنا، وهم الرواد في تحقيق تلك الكتب تحقيقًا علميًّا فكانوا القدوة والمعلمين لنا في هذا العصر بعد أن أُنسينا طريقة أجدادنا في التحقيق والتدقيق، واهتموا بأمر الفهرسة لهذا التراث ففهرسوا آي القرآن والأحاديث الشريفة وفهرسوا لمواطن المخطوطات العربية، ولهم جهود بارزة في تقديم التراث والتأليف بفنونه ونقده وتحليله، وهي جهود تستحق منا الدرس والتبيان للاستفادة منها قدر الإمكان.
وفي هذا الإطار يأتي عمل أخي الدكتور عبد العزيز بن حميد الحميد عن أعمال المستشرقين العربية في المعجم العربي الذي نشرته عمادة البحث العلمي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1433هـ - 2012م في جزأين ومجلد للفهارس، وهو عمل رائد مبني على منهج علمي رصين ومتكئ على استقراء دقيق، وهو ثمرة سنوات من البحث والتدقيق والجمع والتصنيف والقراءة الناقدة جهودَ المستشرقين في هذا الحقل.
استطاع الحميد الكشف عن طريقة تعامل المستشرقين وقدرتهم على فهم التراث، وكشف عن مناهجهم في صناعة المعاجم والفهرسة اللغوية، وكشفت دراسة الحميد التحليلية نظرياتهم العلمية ومدى تطبيقها ومدى استفادتهم من مناهج البحث الحديثة في دراستهم معاجم العربية كالجيم والمخصص والمحكم، وبيّن الحميد أن أعمال المستشرقين أثرت في الدراسات اللغوية الحديثة من حيث اهتمامها بالتفاصيل، وهي أعمال متنوعة في ميادينها ومناهجها، وامتازوا باعتمادهم نصوص الكتب الأصلية لا ما تداولته المعجمات العربية، واعتنى المستشرقون بصناعة المعجم العربي لأنه مفتاح اللغة العربية وسعوا إلى تعلم العربية وتيسير تعلمها فوضعوا المعاجم الثنائية.
وأوصى الحميد بأن يطلع الباحثون على طرائق المستشرقين في التحقيق والاستفادة منها، وكذلك الاطلاع على جهودهم في صناعة المعجم الذي نال قدرًا عظيمًا في لغاتهم، في حين يظهر افتقارنا إلى دراسات متخصصة في مجال الصنعة المعجمية، وأوصى الحميد بعرض جهود المستشرقين وعرضها للتحليل والنقد واكتشاف حسناتها للاستفادة منها.
وبين لي الدكتور الحميد في اتصال هاتفي أهمية الجوانب الثقافية الأخرى كالدراسة النحوية والصرفية وغيرها من الجوانب التي هي بحاجة جهود الباحثين. وعمل الحميد رائد يمكن أن يحتذيه النابهون من طلاب الدراسات العليا إن رزقوا هدوءه وصبره وأناته وعمق نظرته وسداد رأيه.
وكنت حضرت معه ورشة نظمتها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بالتعاون مع المنظمة العربية للثقافة والعلوم كان موضوعها المعجم التفاعلي، ويقصد به معجم عنكبي يكون على الشابكة يغني عن كثير من المعاجم القديمة، وكان النموذج الفرنسي الذي عرض لنا من أبرز تلك النماذج؛ ولكن إنجاز معجم كالمعجم الفرنسي هو أمر يحتاج إلى حال واحتوال وحيلة كما يقول عامّتنا.