محاضرة ألقيت في موسم نشاط كلية اللغة العربية/جامعة أم القرى مساء الثلاثاء الموافق 11 /1/1433هـ
سياق المحاضرة بدء حوار، وإثارة من أجل تحقيق مصلحة لدرس العربية، الذي ارتبطت به حياتنا ومصالحنا، كما ارتبطت به حياة من نعول، وهذا السياق في إطار مجتمعٍ يستبطن شيئًا غير قليل من الغيرة على العربية ودرسها، وأنا على ثقةٍ أنّ لدى كلِّ واحدٍ منكم ما هو خير مما أقول، وأفضل ممّا أطرح، ولا يعدو ما أذكره وجهة نظر هي أقرب للخواطر, ولا ترقى لتكون نظريّة، ولا تحمل نتيجة نهائيّة، بل هي مطارحة فكرية، وسجال مباح في وجهات النظر، وكلّ ما أتمنّاه أن يوضع ما يسمع هذا اليوم في هذا الإطار. وسوف يكون كلامي في الأفكار التالية:
- مقدمات.
- مقاصد النظام اللغويّ.
- النحو بين اللفظ والمعنى(جولة مع اللفظيين, النحو بين تصوّرين).
- نماذج .
- أفكار , وتوصيات, ونداء.
هناك في الأذهان اقتران بين أشياء, فاسم بلال لا يصلح إلا لحبشي, ولا يناسب التشيّع إلا الفارسي, ولا دارس النحو إلا تراثيًّا منكفئًا على ذاته, كما تقترن التبولة باللبناني, وكما يرتبط الخليجي مع النفط, والأمريكي مع الدولار
ويبدو أن أهل اللغة واقعون في هذا الارتباط الذي يعسر انفكاكه , فقليل من المشتغلين بعلوم العربية من يستطيع أن نفكّه من هذا الأسر , فالنحوي مثلا : إمّا موغِل في النحو النصّي المؤسِّس على قراءة كتاب من كتب التراث, وتقريره على الطلاب, فهو منغلق على ما تحفّظه من النحو الأصيل, وليس عنده استعداد لتفهّم ما لدى الآخرين فضلا عن الإفادة منه؛ لأنّه لا يرى العلم إلا ما تعلّمه، فهو يعيده على طلابه, وإمّا شخص ليس بينه وبين التراث النحويّ العربيّ أيّ صلة؛ فهو كافر به وبمعطياته. فكلّ هؤلاء لا يفيدون دروس النحو ولا العربية، ولا يسهمون في تجديدها وإنمائها.
قال إبراهيم بن هانئ: من تمام آلة القصص أن يكون القاص أعمى، ويكون شيخا بعيد مدى الصوت. ومن تمام آلة الزّمر أن تكون الزامرة سوداء. ومن تمام آلة المغني أن يكون فاره البرذون. برّق الثياب عظيم الكبر، سيء الخلق. ومن تمام آلة الخمار أن يكون ذميا، ويكون اسمه أذين أو شلوما، أو مازيار، أو ازدانقاذار، أو ميشا، ويكون أرقط الثياب، مختوم العنق. ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابيا، ومن تمام آلة الدعوة أن يكون الداعي إلى الله صوفيا. ومن تمام آلة السؤدد أن يكون السيد ثقيل السمع، عظيم الرأس. ولذلك قال ابن سنان الجديدي، لراشد بن سلمة الهذلي: «ما أنت بعظيم الرأس ولا ثقيل السمع فتكون سيدا، ولا بأرسح فتكون فارسا» .
وقال شبيب بن شيبة الخطيب، لبعض فتيان بني منقر: «والله ما مطلت مطل الفرسان، ولا فتقت فتق السادة » .
وقال الشاعر:
فقبّلت رأسا لم يكن رأس سيد وكفا ككف الضبّ أو هي أحقر
فعاب صغر رأسه وصغر كفه، كما عاب الشاعر كف عبد الله بن مطيع «1» العدوي، حين وجدها غليظة جافية، فقال: [البيان والتبيين 1/ 96]
دعـــا ابن مطيع للبياع فجئته إلى بيعـــة قلبي لهــا غير آلف
فناولني خشــناء لما لمســــتها بكفي ليست من أكف الخلائف
وهذا الباب يقع (في كتاب الجوارح) «1» مع ذكر البرص والعرج والعسر والأدر والصلع والحدب والقرع، وغير ذلك من علل الجوارح. وهو وارد عليكم إن شاء الله بعد هذا الكتاب.
وقال إبراهيم بن هانئ: من تمام آلة الشيعي أن يكون وافر الجمة، صاحب بازيكند «2». ومن تمام آلة صاحب الحرس أن يكون زمّيتا, قطوبا, أبيض اللحية، أقنى, أجنى «3»، ويتكلم بالفارسية.
وأخبرني إبراهيم بن السندي قال: دخل العماني الراجز على الرشيد، لينشده شعرا، وعليه قلنسوة طويلة، وخف ساذج، فقال: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور, وخفان دمالقان «4» .
قال إبراهيم: قال أبو نصر: فبكر عليه من الغد وقد تزيّا بزِيِّ الأعراب، فأنشده ثم دنا فقبّل يده، ثم قال: يا أمير المؤمنين، قد -والله-أنشدت مروان ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته، وأنشدت المنصور ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته، وأنشدت المهدي ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته. وأنشدت الهادي ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته. هذا إلى كثير من أشباه الخلفاء وكبار الأمراء، والسادة الرؤساء، ولا والله إن رأيت فيهم أبهى منظرا، ولا أحسن وجها، ولا أنعم كفا، ولا أندى راحة منك يا أمير المؤمنين. و و الله لو ألقي في روعي أني أتحدث عنك ما قلت لك ما قلت. قال: فأعظم له الجائزة على شعره، وأضعف له على كلامه، وأقبل عليه فبسطه، حتى تمنى، والله، جميع من حضر أنهم قاموا ذلك المقام. [البيان والتبيين 1/97- 98]
وإنني لأخشى أن يصاب كثير من المهتمّين بالدرس اللغويّ وبحثه بمتلازمةٍ ما, كمتلازمة داون – كما يقول الأطبّاء-مثل متلازمة التراثيّة, والمحافظة, والغيرة على العربية, والخوف عليها من الإفساد, وما يمكن أن يقال من هذه البابة, ويصدق علينا شيء ما من مثل تلازمات الجاحظ, ويحقّ لنا حينئذٍ أن نضيف متلازمات أخرى تتعلّق بتخصصات اللغة العربية, فهناك متلازمة الحفاظ على التراث اللغوي, ومتلازمة النحو النصيّ, ومتلازمة عدم قابلية علوم العربية للتطوير، من مثل مقالة "النحو شاط حتّى احترق", ومتلازمة بلاغة معيّنة, ومتلازمة طرائق نقدية معروفة, ومتلازمة دراسة الأدب بطريقة ما, يتحصّن بها كل أصحاب طريقة, ومنتحلو كل اتجاه أمام زحف لا يستطيعون مواجهته إلا بالانكفاء على الذات, والتحرّز بما لديهم.
وقد صرنا إلى هذه الحالة, فلا يصحّ أن يكون لدينا نحويّ أو بلاغي, إلا وهو يمانع أشدّ الممانعة في نظر ما عند الآخرين, ويمانع أشدّ من مراجعة مسلّماته و بدهيّاته, كما يرفض إعادة صياغة أو تشكيل علمه, بصورة تناسب العصر, وتقرِّب من طلابها. حتّى غدا النحو في مؤسّساتنا أشبه باللعب البلاستكية, صورة بلا حياة, وجسدًا بلا روح.
رحم الله الجاحظ, وصرف عنّا شؤم مقالته، وطالع فكرته, والتطيّر من النظر فيها, (اللهم حوالينا ولا علينا).
إن القائمين بتعليم العربية بل كل العلوم في التعليم الجامعي, وخلافه من معلمين وأعضاء هيئة تدريس ثلاث فئات أو ثلاثة أصناف, على الصورة التالية:
1) نوع حكمه حكم النافورة تخرج ما يدخل فيها دون معالجة أو تغيير؛ فهم ليسوا إلا ممرًّا أو معبرًا للمعرفة, فهم كما قال (صلّى الله عليه وسلّم) : "بلّغوا عنّي ولو آية, فربّ مبلّغٍ أوعى من سامع, وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه" وهؤلاء يؤدِّون ما حفظوا أو حُفِّظوا, وهم غالبية المنتمين للعلم, وغالبية البيئة الجامعية, وهم أشبه بمحطّات الوقود, يتزوَّد منها العابرون, ولا يقفون عندها أكثر ممّا تقضي به حاجتهم للتزوُّد.
2) نوع كالمعصرة تقوم بتنقية ما يُدْخَل فيها وتصفيته, ثمّ تخرجه نقيًّا خالصًا من كثيرٍ ممّا يشوبه, كتخليص المسائل ممّا لا تدعو إليه حاجة, والتخلّص ممّا يعدّ تزيُّدًا أو لا تعلّق له بالعلم, أو يكون مسلكًا لتيسير العلم، وتسهيل الفهم للطالب والإدراك ,أو سبيلا لإحكام العبارة, وتحريرها, مثل عمل المشجّرات, وكتابة الملخَّصات والمختصرات, وما في حكمها, وهؤلاء معلِّمون بدرجة جيِّدة, لا يجاوزون هذه الرتبة, ولا يرتقون فوق هذه الدرجة, وهم بالنجوم المضيئة, والعلامات الهادية التي يهتدي بها الحائرون, ويسترشد بها الضالون أشبه, فهم مؤدّون لما عليهم حسب طاقتهم, وعلى قدر وسعهم, وبما تقضي به إمكاناتهم, )لا يكلّف الله نفسًا إلا ما آتاها (فهم مفيدون ونافعون, فهم – كما قلت- أشبه بالنجوم في سماء الأقسام العلمية, وجامعاتهم.
3) نوع لديهم قدرات تفوق ما لدى سابقيهم, لديهم قدرة على إعادة تشكيل المعرفة, وإعادة صياغتها, وإخراجها بصورة جديدة, كأنها نتاج جديد, مع إمكانية الإضافة لها بمهاراتهم ومعارفهم وأدواتهم, والقدرة على توظيفها, وهؤلاء يمكن أن أمثِّلهم بالمصانع التي تتعامل مع نواتج الصناعات التحويلية، التي تقدِّم لهم موادّ ببعض تصنيع, أو بدونه, أو بتصنيع أوّليٍّ؛ إذ يمكن أن نقدِّم لمصانع مختلفة كتلة من منتج المواد البتروكيمائية, ونلقمها لمصانع مختلفة, لتخرج لنا هذه المصانع خزانات المياه, وأوعية التغليف، وأكياس النفايات, وخيوط النسيج, وألعاب الأطفال وعرائسهم, وقطع غيار السيّارات, وغير ذلك, وهؤلاء مثل الأقمار المنيرة, التي يستضيء الناس بنورها في سماء العلم والمعرفة, والمؤسسات العلمية, وقليل ما هم.
وهناك صنف دون هذه, فذاك أعوذ بالله من ذكره؛ فهو غصة يغصّ بها طلبة العلم, وهو فجّ الطعم, عسير الهضم, ولا يكاد يسيغه أحد, يضرّ أكثر ممّا ينفع, يصدّ ولا يجذب، ينفِّر ولا يبشِّر, وهو من البلاء, ومن نكد الدنيا. وصنف يحلِّق في سماء الإبداع, كالشموس الوهّاجة, فذاك غاية المنى, وهو نادر عزيز, وأنّى لنا به؟!.
وعلى العموم , من الظاهر للمعاينة واقع أساتذة اللغة العربية ومعلِّميها الذين رضوا بان يكون أقصى جهدهم في درسهم أن يعيدوا في العام اللاحق ما قاموا به في سابقه, غير عابئين بإبداع أو تميُّز, أو تنويع الطرح والتناول، فقد رضوا أن يكرِّروا أنفسهم في كل عامٍ، والمكرّر في ظنِّهم يحلو, وعند غيرهم نوعٌ من الكسل, وضرب من العجز.
*********
نحن لو ألقينا نظرة عجلى على نتاج البحث اللغويّ, والبحث هو منطلق التطوير والتجديد, وطرح التنظير للفحص والاختبار, وموطن الممارسة التطبيقية للتنظير؛ فكل الأعمال البحثية إلا ما ندر لا تخرج في غايتها عن تجميع مفترق, وتفريق مجتمع, وهي في مجملها إعادة, لا تحمل فكرًا جديدًا, ولا إبداعًا علميًّا, فهي ما بين تصنيف مدرسيّ, أو كتابة موسوعيّة, أو مختارات علمية, أو شرح مختصر, أو اختصار مطوَّل, و لا تعدو في أحيانٍ أخرى نشرًا يسمّى تحقيقًا, أو نقلاً يسمّى ترجمة, وهذا الأمر أو الشأن يتساوى فيه, الباحثون المبتدئون من طلاّب المرحلة الجامعية والدراسات العليا والباحثون المبرِّزون – كما يرون أنفسهم – من أساتذتهم ومشرفيهم.
إن البحث العلميّ في برامج الدراسات العليا أو أعمال أعضاء هيئة التدريس يجب أن يكون همّه الأوّل تطوير برامج اللغة العربية, والانتقال بها من حال إلى حال, وما لم يتوفّر هذا الأمر فعلينا ألا نسرّ بكثرة ما ننتج, ولا بوفرة ما نكتب, إلا بمقدار ما تمنحه لكاتبها من فرحة التخرّج, والشعور بالغبطة بإكمال مرحلة, والتهيُّؤ لمرحلة أخرى, وإلا تغييرًا في لقبٍ, وزيادة في الراتب, وامتلاءً خادعًا يخفي وراءه ضحالة الفكر, ورداءة النتاج, والعجز عن الإضافة والإبداع, والتخاذل عن الإصلاح وحمل الهمِّ, وتوظيف النواتج فيما يعود على تلك البرامج بالفائدة, وإلا الانصراف عن تنمية الذات, وانعدام ما يمكن أن نقدِّمه لمن يحسن الظنّ بهذه الفئة.
*************
مقاصد النظام اللغوي أو الأنظمة اللغويّة:
- الإفهام
- الإبانة
- رفع اللبس أو الإلباس
- المواءمة أو الملاءمة
- تحسين اللفظ
الإفهام :
مثل الإسناد، العمدة والفضلة ، والإفهام عملية تخصّ المتلقّي ، وإن كان القائم بها المتكلِّم . ويمكن جمع الإفهام والإبانة في نقطة واحدة.
الإبـــــانة :
1. التفصيل بعد الإجمال .
2. الإيضاح بعد الإبهام.
3. التفسير والشرح.
4. التمييز.
5. الإطناب/المساواة/الاختصار/الاقتصار(الإفادة).
6. التعريف.
7. الوصف.
8. الأدوات النحويّة.
9. الاستغاثة /التعجّب/النداء/الاختصاص/الإغراء والتحذير.
10. الفضلات من مفعول، ومفعول به، ومطلق، ولأجله، ومعه، وحال، وتمييز، واستثناء.
11. توخِّي المعاني النحويّة.
12. صور البيان.
رفع اللبس أو الإلباس:
1) التنصيص: التأكيد بأنواعه، الحال المؤكِّدة .
2) البدل بدل الاشتمال، والبعض من الكلِّ.
3) خاط لي عمروٌ قباء ..... وترغبون أن تنكحوهنّ.
4) الاعتراض.
5) حرف العطف في الجملة الدعائية: لا، وهداك الله .
6) التورية والمعاريض.
المواءمة: مطابقة الكلام مقتضى الحال، الاقتصاد، مطابقة الكلام بعضه لبعض :
1. مطابقة ركني الجملة (تذكيرًا وتأنيثًا، إفرادًا وتثنيةً وجمعًا) .
2. مطابقة التوابع في خمسة من اثنين ، أو أربعة من عشرة .
3. العاقل وغير العاقل، (من، ما، هؤلاء).
4. جموع القلّة والكثرة – بين مطابقة الواقع أو الاستعمال.
5. الاستعمال والقواعد.
6. التواصل والتداول.
7. الإشارة ، والموصول، والضمائر.
8. الحقيقة والمجاز – المجاز العقلي.
9. الكناية (اللازم والملزوم).
10. الروابط.
11. الاقتصاد في مقامات التواصل, وما فيه من تعاقب اللغة المنطوقة, ومكمِّلات البيان الأخرى, من إشارة, أو حركة جسدٍ، أو رمز.
12. الاقتصاد في استعمال الضمائر ، والحذف ، والاستتار.
13. علامات التثنية والجمع.
14. أدوات ، مثل "أل" العهدية، "أل" للاستغراق في الأفراد والصفات.
15. حذف متعلّق الظرف والجار والمجرور إذا كان كونًا عامًّا .
16. لغة القانونيين وما فيها من تحرّزات، والتعاريف العلمية .
تحسين اللفظ وتخفيفه, ويدخل فيه التيسير على المتكلِّم:
1) الإعلال والإبدال .
2) الإمالة وما في حكمها.
3) التخلّص من التقاء الساكنين.
4) الإضافة – الإضافة اللفظية- الصفة المشبّهة.
5) الإبدال اللغويّ.
6) الحذف غير المطّرد – الحذف المطّرد.
7) المحسِّنات البديعية اللفظيّة.
8) منع توالي أربعة متحرِّكات في الكلمة الواحدة أو فيما هو كالكلمة الواحدة .
9) بنية الكلم ، وامتناع توالي بعض الأصوات (جص، منجنيق).
10) التفريع وما في حكمه.
11) العروض والقافية ، وما يتّصل بهما.
12) عود الضمير على متأخِّرٍ لفظًا ورتبة، أو رتبة لا لفظًا ... إلخ.
***********
1) مقاصد النحو : كما تقدّم في النظام .
2) نظام النحو: مثل نظام الجملة, والرتبة(التقديم والتأخير) والمطابقة, والذكر والحذف, والإسناد, والمعنى, والمفرد والمركّب, والربط.
3) مقتضيات: علامات الإعراب والبناء, التخلص من التقاء الساكنين, امتناع توالي أربعة متحركات فيما هو كلمة واحدة, أو كالكلمة الواحدة.
4) إجرائيّات: الإعراب, التأويل, التقدير, التخريج والتوجيه, التفسير, التعليل.
********
يقول كثير: إن النحو العربيَّ مغرق في الشكليات, ولا يعنى بالمضمون بمثل ما يعنى بالشكل, واللفظ, وكلّ ما يقوم به النحو هو دراسة الجانب اللفظيّ, وتعليم شكليّات في اللغة لا يتوقَّف عليها الفهم والإدراك, ولذلك يكثر تعسُّف النحاة, وتكلُّف التخريجات, والبحث عن التأويلات ولو بعُدت, ويقولون: إنّ هذا الإغراق يحرم النحو العربيّ من أهمِّ مزايا موضوعه, وهو دراسة المعنى.وقضية اللفظ والمعنى في النحو قديمة، تناولها بعض نحاة العربية, كابن جنِّيّ , وهو صاحب تجلِّيات في هذا الأمر، فقال : المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوظ, ويؤكِّده قول الشاعر :
قاتلي القـــومَ يا خزاعُ ولا يأخــذكم من قــتالهم فشَلُ
فتمام الوزن أن يقال: فقاتلي القومَ..... (الخصائص 1/288). ومثل هذا الحذف اللازم في نحو: "زيدٌ في الدار", وقرّر أن حكم المحذوف إذا دلّت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به إلا أن يعترض هناك من صناعة اللفظ ما يمنع , مثل القرطاسَ واللهِ . (الخصائص 1/284) وعقد بابًا آخر بعنوان "باب في تجاذب المعاني والإعراب" وقال فيه: هذا موضِع كان أبو عليّ (رحمه الله) يعتاده, ويلمّ به كثيرًا, ويبعث على المراجعة, له, وإلطاف النظر فيه, وذلك أنّك تجد في كثير من المنثور والمنظوم الإعراب والمعنى متجاذبين: هذا يدعوك إلى أمر, وهذا يمنعك, فمتى اعتورا كلامًا ما أمسكت بعروة المعنى, وارتحت لتصحيح الإعراب؛ فمن ذلك )إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر( وأورد آياتٍ, ونماذج أخرى( انظر الخصائص 1/284-290).
وعقد بابًا آخر بعنوان((باب في التفسير على المعنى دون اللفظ)) اعلم أن هذا موضع, قد أتعب كثيرًا من الناس واستهواهم, ودعاهم من سوء الرأي وفساد الاعتقاد إلى ما مذِلوا به, وتتابعوا فيه, حتّى إنّ أكثر ما ترى من هذه الآراء المختلفة, والأقوال المستشنعة, وإنما دعا إليها القائلين بها تعلّقهم بظواهر هذه الأماكن, دون أن يبحثوا عن سرِّ معانيها, ومعاقد أغراضها, فيقولون: حتّى الناصبة في نحو "اتق اللهَ حتّى يدخِلَك الجنّةَ" ويقولون: "أهلَك والليلَ".( انظر الخصائص 3/260-240).
أسهم النحاة من أجل تيسيره – كما يقولون - في تصغير النحو, فحذفوا كثيرًا من أصوله, واستغنوا عن كثيرٍ منه, في حين أنهم في التصغير يحذفون الزيادات وما لا تستقيم به البنية من الأصول بعد التصغير, فقصروه على الإعراب, وحركة آخر الكلمة, من إعراب وبناء, بعد أن قصروه على الكلمة, وربّما ألمّوا بالجملة, وبعدوا عن دراسة الكلام؛ فقد حفظنا في ألفية ابن مالك:
كلامنا لفظ مفيد كاســـــتقم واســــم وفعل ثم حرف الكلمْ
فالإعراب وظيفة نحويّة؛ والوظيفة النحويّة قسمان: إعرابية, وغير إعرابية, فالإعرابية لا بدَّ فيها من العامل, و تتعلّق بأحوال آخر الكلم, وغير الإعرابية، تتعلّق ببقيّة النظام النحويّ، والإعراب أثر العامل, والبناء فعل الواضع، نحو: ضربَ زيدٌ، وهذا لكَ أو لكِ, أو لكمْ, أو لكنَّ, أو لكما, والإعراب غير ثابت, بل يتغيَّر بحسب العوامل, والبناء ثابت, لا تؤثِّر فيه العوامل المختلفة.
وهذه مقدّمة حسنة, وهي تبين عن موضوع النحو, وتصوُّر النحاة له, غير أنّنا لا نجده واضحًا في تعاطيهم للنحو, ولا في التصنيف النحويّ, خاصّة التعليمي, لا في النظام المدوّن, ولا في تطبيقاته, ولا في إجرائيّاته؛ فالنحو لا يخرج عن مفرد – وهو الغالب – وجملة – وهو القليل- أو مفرد وتركيب, من خلال درس آليّ, لا يمتدُّ إلى السياقات, والمعاني, والذوق, ولا إلى بقيّة مكوِّنات الكلام، ممّا أفسح المجال لميلاد علم آخر يكمّله, وهو علم المعاني, وكان بالإمكان أن يكونا علمًا واحدًا.
وقد غُمِسَ النحو في العصور المتأخرة في شكليّات، وأغرق في الجانب اللفظي، وقد أسهم في ذلك تعريف المتأخرين للنحو الذي يختزل النحو في حركة أواخر الكلم من إعراب وبناء, فـالنحو في اصطلاح متأخِّري النحاة هو"العلم بالقواعد التي يُعْرَف بها أحكامُ أوَاخِرِ الكلمات العربية في حال تركيبها: من الإعراب، والبناء وما يتبع ذلك".وموضوعُه: "الكلمات العربيةُ، من جهة البحث عن أحوالها المذكورة".وهذا التعريف هو الذي سوّغ لدعاة تجديد النحو أن يدعوا للتجديد. ودعوا إلى العناية بالمعنى؛ حتّى دعوا إلى إعادة تصنيف النحو على المعاني النحوية. فهم "يقصرون بحثه على الحرف الأخير من الكلمة, بل على خاصة من خواصه, وهي الإعراب والبناء..."(إحياء النحو ص1) "فغاية النحو بيان الإعراب, وتفصيل أحكامه, حتّى سمّاه بعضهم علم الإعراب؛ وفي هذا التحديد تضييق شديد لدائرة البحث النحوي, وتقصير لمداه, وحصر له في جزء يسير ممّا ينبغي أن يتناوله, فإن النحو.... هو قانون تأليف الكلام, وبيان لكل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة, والجملة مع الجمل, حتّى تتّسق العبارة ويمكن أن تؤدِّي معناها".(إحياء النحو ص1).
وتعريف النحو عند المتقدمين هو العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها. وهذا التعريف يشمل النحو والصرف كما هو معلوم في شأنه الأول .
وقد وقع دعاة التجديد فيما أرادوا تجنبه، فأوغلوا في لفظيّة النحو العربي، حين اختصروا الوظائف وجعلوا المنصوبات شيئًا واحدًا مكملات: تكملة أو فضلة، في حين أن تبويب النحاة وتنوّعه مرتبط بالمعاني، فعنوانات الأبواب هي المفعول, والمفعول المطلق، والمفعول لأجله، والمفعول معه, والظرف، والحال، والاستثناء، هذه كلها معانٍ. إذا أعربوها قالوا فضلة، وهي مختلفة الدلالة والمعنى.ويقال مثل هذا في التوابع فهي نوع واحد من ناحية العمل, وهي مختلفة من حيث المعنى, ومن هنا جاء تفريقها على أربعة أبواب أو خمسة.
يتجاهل اللفظيّون من النحاة ما يوحي أو يومئ إليه التبويب النحوي, فنحن لو نظرنا إلى التبويب لوجدنا أنّه إمّا أن يكون تبويبًا يرجع إلى الوظائف النحويّة(معاني النحو الوظيفية) وهي في الغالب أشياء ترجع إلى الشكل واللفظ, مثل تصنيف المتون إلى مرفوعات فمنصوبات, فمجرورات, فمجزومات, ومثل التبويب لالتقاء الساكنين, والوقف, والإدغام, والإمالة, والإعلال والإبدال, والتوابع, وهذا لا يمنع أن يأخذ هذا التبويب بشيءٍ من المعاني النحوية, مثل : الفاعل, والمفعول به, والمفعول المطلق, والمفعول لأجله, أو معه, والحال والاستثناء, والتوابع من بدل, وعطف بيان، وعطف نسق, ونعت, فهذه معانٍ, والوظيفة هي تبعيّة اللاحق للسابق في الإعراب, ومثل الإضافة المعنوية دون اللفظية, ومثل أبواب الإغراء والتحذير, والنداء, والاستغاثة, والتعجّب, فهذه كلّها أبواب للمعاني, وليست أبوابًا للوظائف. وهناك أبواب تؤسّس على الأمرين, مثل الجرِّ, فالجرّ وظيفة, ومعاني حروف الجرِّ معانٍ نحويّة إضافيّة, ولو جرّدنا هذا الباب من معاني الحروف لكفاه سطرٌ أو سطران. ويقال: مثل هذا في عطف النسق, إذ يكفي لبيانه وظيفيًّا سطر بل كلمات معدودة على أصابع اليد, غالبها حروف العطف, وحين قصد النحاة بيان المعاني النحوية, والتفريق بين هذه المعاني كان هذا البسط الذي هو في المعنى لا في الوظيفة, و لولا المعنى لم يكن.
**********
1.) وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين([2/45]
2.) وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله([2/143]
3.) لتأتنّني به إلا أن يحاط بكم([12/66]
فهذا الإثبات المؤكّد بـ"إنْ" و"اللام" أو بالقسم ونون التوكيد لا يسوغ حمله على معنى النفي، فإنّنا لو سلكنا هذا الطريق, وسوّغنا هذا التأويل ما وجدنا في لغة العرب إثباتًا يستعصي على تأويله بالنفي؛ لذلك لا أستسيغ تأويل ابن هشام في المغني(2/189) والزركشي في البرهان (4/24) تأوّلا قوله (تعالى) )وإنها لكبيرة ( بقولهما : إنها لا تسهل. وكذلك تأويل الزمخشري قوله (تعالى) ) لتأتنّني به( بقوله : لا تمتنعون من الإتيان. (دراسات لأسلوب القرآن الكريم1/370 )
ولو تأمّل شيخنا المعنى في الاستثناء المفرّغ لما وقع فيما وقع فيه, ولما خالف جمهور النحاة الذين لم يشذَّ عنهم إلا ابن الحاجب في اشتراط النفي أو شبهه؛ إذ الاستثناء في التامّ عملية إخراج, بمعنى أنّه نفيٌ, فحين نقول: "نجح الطلاب إلا صالحًا" فصالح أخرجناه من حكم النجاح, والاستثناء المفرّغ عملية إدخال, أي: إثبات, فإذا قلنا: "ما نجح إلا صالح" فالكلام فيه نفيان "ما" و"إلا" ونفي النفي إثبات , وليس كأيِّ إثبات, فليس هو إثباتًا مجرَّدًا, بل هو إثبات مؤكّد, يسمّى "القصر أو الحصر" وهو أسلوب من أساليب التأكيد, وقد تكوّن من تآلف أداتي النفي والاستثناء, في حين أن الذي يفيد المعنى في التامّ أداة الاستثناء, وما في الآيات الثلاث, والآيات التي تكثَّرَ منها, وهي ثمانِ عشرة آية, كلها استثناء تامّ, فيها إخراج؛ فالصلاة كبيرة شاقّة إلا على الخاشعين, ويقال: هذا في بقيّة الآيات.
ثمّ إن العامل في الاستثناء المفرّغ ما قبل "إلا" قولا واحدًا, و"إلا" ليس لها عمل, ولا تأثير لها في الاسم الواقع بعدها, فكأنّها لم تكن, بخلاف التام ، فالأمر فيه تفصيل يجعل لـ"إلا" أو بالتبعية لما قبلها, أي: المستثنى منه, ذكِر في كتب النحو.
ومثل هذا ما عقده من تقسيم الاستثناء المفرَّغ إلى متّصل ومنقطع, قال:"الاتّصال والانقطاع يكونان في الاستثناء المفرّغ أيضًا" وهذا غريب ؛ فالاتّصال والانقطاع أمر يرجع إلى علاقة المستثنى بالمستثنى منه, إن كان من جنسه فهو اتّصال, والاستثناء متّصل, مثل "نجح الطلاب إلا زيدًا" وإن كان من غير جنسه فهو منقطع, كما يمثِّل النحاة بقولهم "جاء القوم إلا حمارًا" وهذا غير قائم في الاستثناء المفرّغ؛ إذ ليس فيه مستثنًى منه, وليس له من الاستثناء إلا الصورة اللفظية "أداة الاستثناء" ولو نظر الشيخ إلى المعنى لم يذهب إلى ما ذهب إليه, ممّا لم يسبَق إليه. كما أنّه لا يفوتني أن أشير إلى أن المعنى النحوي إنما يتكوّن بعد أن نجمع بين النفي والاستثناء, وليس النظر إلى أحدهما في الاستثناء المفرّغ بمغنٍ شيئًا.
وقد أورد شيخنا ما يقوّي ما قلناه, فقال: "يرى النحويّون أنّ الاستثناء المفرّغ لا يأتي بعد الإيجاب, وإنّما اشترطوا له تقدّم نفي أو شبهه, وعلّلوا بأنّ وقوع المفرَّغ بعد الإيجاب يتضمّن المحال أو الكذب, ونذكر طرفًا من أحاديثهم.
في معاني القرآن للفرّاء 1/433 "ولولا الجحد ... لم تجِزْ دخول (إلا) كما أنّك لا تقول: ضربت إلا أخاك, ولا ذهب إلا أخوك".
وفي المقتضب4/389 : "والاستثناء على وجهين:
أحدهما: أن يكون الكلام محمولا على ما كان عليه قبل دخول الاستثناء وذلك قولك: ما جاءني إلا زيد, وما ضربت إلا زيدًا, وما مررت إلا بزيدٍ ... وإنّما احتجت إلى النفي والاستثناء؛ لأنّك إذا قلت: جاءني زيدٌ, فقد يجوز أن يكون معه غيره, فإذا قلتَ: ما جاءني إلا زيد, نفيت المجيء كلّه إلا مجيئه, وكذلك جميع ما ذكرناه".وانظر سيبويه 1/360
ومن الإغراق في اللفظية: الخلاف الممتدّ بين النحاة, وبين علماء الشريعة في إعراب كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله)), وهم – على الرغم من ذلك – لا يختلفون في معناها, فما بالهم يتّفقون على المعنى, ويختلفون على الإعراب؟! إنهم يختلفون في الإعراب؛ لأنّهم يغلون في اللفظ, ويعطون مقتضيات الصناعة النحويّة أكثر ممّا تستحقّ, وليس النحو إلا آلة بيد المعنى, وبيد المعنى آلات أخرى, ويمكن لمستعمل اللغة أن يقرِّب ما بين اللفظ والمعنى, ويجعل اللفظ تمثيلا له, فهم يختلفون في إعراب لفظ الجلالة من بدل مع اختلاف في المبدل منه, أو مبتدأ , ووقع في الكلام تقديم وتأخير, كما هو تخريج الزمخشري وتوجيهه, ومنع النحاة إعرابها خبرًا؛ لأنّ "لا" لا تعمل في المعارف, ولما يلزم من جعل المبتدأ نكرة والخبر معرفة, كما منعوا جعلها خبرًا لـ"لا" التبرئة لثلاثة أسباب:
أحدها: أنّ "لا" هذه لا تعمل إلا في النكرات.
الثاني: أن ما بعد"لا" موجب, ولا تعمل في الموجب.
الثالث: الابتداء بالنكرة, والخبر معرفة, وهو عكس ما توجِبه الصناعة النحويّة.(ينظر دراسات لأسلوب القرآن الكريم 1/256-157)
ومع هذا الخلاف والجدل لا نجد إشكالا في معناها, فلماذا لا نقف مع بساطة المدركين لمعناها, ونتجاوز هذا الجدل, لنقول: إن معناها "لا معبود بحقٍّ , أو لا مستحقَّ للعبادة, أو لا مألوه إلا الله, وتحتمل غير وجه: أن يكون لفظ الجلالة خبرًا, أو مرفوعًا بـ"إله" باعتباره في حكم المشتقِّ سدّ مسدّ الخبر, حيث الاتفاق على الإسناد من منطوق المعنى, الذي يقول:"لا مألوهَ إلاّ الله", فإذا كان النحو يحار في كلمة تحمل أكبر حقيقة كونيّة بسبب ما اصطنعه من ضوابط, وما تقيّد به من قيودٍ, فهل تلزمنا حيرته فيها؟! وهل قول "لا إلهَ إلا اللهُ" إلا قول "الإله الحقّ الله" وإن كان النفي ب"التبرئة" أقوى معنًى, وأبلغ عبارة. .
ومن إغراق النحو باللفظيّة إعراب المعرّف بـ"أل" بعد اسم الإشارة نعتًا أو بدلا, وبشيء من التأمل وتوظيف الذوق يتبيّن تعيُّن إعرابه بدلا؛ لأنّه المقصود بالحكم, وهذه وظيفة البدل , والنعت يجعل المقصود المنعوت, والنعت بيان ونوع تحديد للمنعوت, ولا معنى للنعت هنا، فلو قلت: "مررت بهؤلاء الرجالِ "لأعربت الرجال بدلا. ينظر عبده الراجحي/التطبيق النحوي ص54 ويقال مثل هذا في إعراب الرجل في نحو "يا أيُّها الرجلُ" فهم يعربونه نعتًا, والأولى أن يعرب بدلا؛ لأنه المقصود, ولا تلتفت لمسألة "أل" ومسألة إحلال البدل, أو امتناع دخول حرف النداء على ما فيه "أل"فهذه أصول مفترضة.
ومن الخداع الصوري أو الإغراق في اللفظية : ما يقع فيه بعض النحاة ويشاركهم في ذلك البلاغيّون حين يعدّون "أنت"من قولك : "ادخُل أنت وعمرو" يجعلون "أنت" تأكيدًا , وهي في حقيقة أمرها لا تعدو كونها مسوِّغًا للعطف؛ لتحقيق الحدِّ الأدنى من الصحة النحويّة. ومثل اعتبارهم ما يجب تقديمه أو يتعيّن في الجملة المعنيّة (بمعنى أنّه لا يصحّ غيره في سعة الكلام) لعارض نحويٍّ يوجب التقديم تقديمًا, مثل "في الدار رجل" , و"في الدار صاحبها", فمثل هذا التقديم جبريّ اضطراري, لا يجوز غيره, ولا يصح نظم الكلام بدونه, كما ينص على ذلك النحاة, فلا يجوز تقديم المبتدأ النكرة, ولا يجوز عود الضمير على متأخِّرٍ لفظًا ورتبةً, ذلك أنّه يجب أن نستحضر أمرًا خلاصته" شروط الكلام موضع البحث البلاغي ثلاثة : 1-القصد . 2- الحرية في أن يستعمله أولا . 3- إمكانية التعاقب في الرتبة (التقديم والتأخير) الموقع ، أو الاستبدال، وهو تنوُّع في طرائق التعبير, ما بين حقيقة ومجاز، ومباشر ولازم, مثل "واشتعل الرأس شيبًا"
فالتكرار قد يكون للتأكيد ، وقد يكون لغيره ، فنحو حديث "فطُف أنت ومن معك" التكرار هنا من أجل تسويغ العطف ، بخلاف حديث"لأنك أنت ضيّعت" فالتكرار للتأكيد".
وأصحاب المعاني يقعون في اللفظية, كما وقع غيرهم من النحاة, فنظروا إلى ظاهر الشيء ولفظه, ولم يتأمّلوا المعنى, ولا مقصد المتكلِّم, فيجعلون نحو قوله ((ما كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ)) من قوله تعالى)قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ( (64) القصص يقول: لم يكونوا يعبدوننا, [تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر 19/ 606] يجعلونه من القصر , وما هو منه؛ لأن التقديم في الآية لغرضٍ لفظيٍّ, لا لغرض معنويٍّ, وهو مراعاة الفواصل, والغرضان اللفظيّ والمعنوي إذا تنازعا قدِّم اللفظيّ, وأهمل المعنويّ, وهذا يحتاج إلى بسطٍ وشرحٍ, من خلال عرض أبواب النحو والبلاغة,
ما يذكره النحاة من معاني "أو" كان موضع توقُّفٍ لابن هشامٍ في المغني, وإن جارى النحاة في "أوضح المسالك", فالتحقيق – عنده - أن (أو) موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء، وهو الذي يقوله المتقدمون، وقد تخرج إلى معنى "بل"، وإلى معنى "الواو"، وأما بقية المعاني فمستفادة من غيرها، ومن العجب أنهم ذكروا أن من معاني صيغة افعل التخيير والإباحة، ومثلوه بنحو (خذ من مالى درهما أو دينارا) أو (جالس الحسن أو ابن سيرين) ثم ذكروا أن "أو" تفيدهما، ومثلوا بالمثالين المذكورين لذلك، ومن البين الفساد هذا المعنى العاشر، ((والعاشر: التقريب، نحو (ما أدرى أسلم أو ودع) قاله الحريري وغيره. ))و"أو" فيه إنما هي للشك على زعمهم، وإنما استفيد [معنى] التقريب من إثبات اشتباه السلام بالتوديع، إذ حصول ذلك - مع تباعد ما بين الوقتين - ممتنع أو مستبعد، وينبغي لمن قال: إنها تأتى للشرطية أن يقول: وللعطف لأنه قدر مكانها "وإن"، والحق أن الفعل الذي قبلها دال على معنى حرف الشرط, كَمَا قدره هَذَا الْقَائِل وَأَن "أَو" على بَابهَا وَلكنهَا لما عطفت على مَا فِيهِ معنى الشَّرْط دخل المعطُوف فِي معنى الشَّرْط)) [مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ص: 95]
ومن مراعاة المعنى والذوق ما اختاره ابن هشام من إعراب "لايسَّمَّعون" استئنافًا لا صفةً, ولا حالا وعدّه مشكلا, قال: ((وَالْجَوَاب عَنْهَا أَن جملَة {لَا يسمعُونَ} مستأنفة أخبر بهَا عَن حَال المسترقين لَا صفة لكل شَيْطَان وَلَا حَال مِنْهُ؛ إِذْ لَا معنى للْحِفْظ من شَيْطَان لَا يسَّمَّع وَحِينَئِذٍ فَلَا يلْزم عود الضَّمِير إِلَى كل، وَلَا إِلَى مَا أضيفت إِلَيْهِ, وَإِنَّمَا هُوَ عَائِد إِلَى الْجمع الْمُسْتَفَادِ من الْكَلَام)) [مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ص: 263] وقصة المازني مع الواثق دالة على أثر الذوق في فهم النحو والإعراب في قول الشاعر:
أظــــــلومُ إن مصابكم رجــــــلا أهـــدى الســــــلام تحـــيّةً ظــــــلمُ
يربط بعض دارسي النحو العربي بين عمليات التفسير والشرح للعبارات النحوية, حتّى يجعلوها بمنزلة الإعراب, وتحليل النظام, فإذا قال المتكلِّم: "ما أعظم الأمر", وقرّبه النحاة بأنّه مثل قولك ((شيء أعظم الأمر)) وحين نقول في "يا رجل": إنّه بمثابة"أدعو رجلا" , فيحيلون الإنشاء إلى خبر, فالكلام المفسَّر إنشاء طلبي, والتفسير خبر, وكذا كلّ ما يقوله النحاة في هذا الشأن, أو مثل ما يقرِّرونه من أحكام, مثل قولهم "البدل على نيّة إحلاله محلَّ المبدَل منه"فيرتِّبون على ذلك منع بعض صور البدل, والتكلّف بإعرابها نعتًا, وقد فاتهم أن هذا في التقدير لا في الفعل , وفي المفترض لا في الواقع, بمعنى أنه كسائر الأصول الافتراضية في نحو "قال" أصلها ((قَوَلَ)) ليس معنى هذا أن العرب كانت تقول: "قَوَل", ثمّ عدلت عنها إلى"قال".
*********
إن النحاة لا ينازعون في المفرد والجملة, لكن لغيرهم أن يسأل : ألا يتكوّن الكلام من غير هذا؟ إنّ معنى هذا أن الكلام يتكوَّن من جملٍ, والجملة لا بدَّ فيها من ركنين: مسندٍ ومسندٍ إليه, ولدينا من الكلام المفيد ما لا يتحقّق فيه هذا القول, مثل: النداء (يا رجلُ) فأين المسند والمسند إليه؟! فالكلام ليس إسنادًا فحسب, بل قد يفاد المعنى من الصوت وحده, مثل : و"ي" و "صه"، فالنحو يجب أن يكون ثلاثة مستويات : المفرد, والجملة، والكلام. والتردُّد بين الكلام والجملة, فهناك خلطٌ بين مكوِّنات الكلام ومكوِّنات الجملة, فمكوِّنات الجملة الخبريّة الإسناد (مسند ومسند إليه), ومكوِّنات الكلام الإفادة (ما يفيد ولو كان صوتًا, أو كلامًا إنشائيًّا طلبيًّا, وغير طلبيّ, أو ما يحتاج إلى الشيء وجوابه) وهناك فرق بين أن ندرس الجملة وبين أن ندرس الكلام, وما يظهر للبعض من أن النحاة يركِّزون على المفردات (مكوِّنات الجملة) لا يلزم منه إهمالهم الجملة والكلام, فللنحاة جهودٌ غير منكورة في دراسة الكلام, كما نجده في كتاب سيبويه, وما فعله ابن جنّيّ في الخصائص, وما فعله ابن فارس في الصاحبي؛ فالمتكلِّم لا يلزمه الوقوف عند الجملة, بل يجاوزها إلى إكمال كلامه, ولو تطلّب عددًا من الجمل, ونحن نقف في درسنا النحويِّ على الجملة, فكما أنّه لا يسوغ للنحويّ أن يقف عند حدِّ المفردات, لا يسوغ له كذلك الوقوف على حدِّ الجملة, كما لم يجز من قبلُ الوقوف على الأصوات قبل تضامِّها لتكوِّن المفردات.
**********
جعل الجاحظ حذق اللغة وتذوّقها شرطًا أساسيًّا في فهم المتلقي رسالة المتكلِّم ، فقال: ((فللعرب أمثال واشتقاقات وأبنية، وموضع كلام يدلّ عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضع أخر، ولها حينئذ دلالات أخر، فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسّنّة، والشاهد والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم، وليس هو من أهل هذا الشأن، هلك وأهلك)). [الحيوان 1/ 102]
ونحن لو قرأنا مثل هذه الإشارات ، واسترجعنا مجمل ما يقوله كتبة نحو النص أو لسانيات النص، الذي يرتكز على مقوِّمات، أهمّها: الكمّيّة والاقتصاد، والملاءمة للمعنى وللمقام، ووفاء الكلام بأغراض المتكلِّم وحاجة المتلقِّي، والترابط بين أجزاء النص وأطرافه, وصحة ترتب آخره على أوله، والوضوح في الكلام والمراد، لوجدناها داخلة في سياق هذا النحو, وواقعة في نطاق هذا الدرس.
كما أننا لو تأمّلنا كثيرًا ممّا كتبه لوجدناه صالحًا ليوظَّف في دراسة نحو النص، أو لسانياته؛ إذ تحدّث عن أمورٍ تبثُّ في النصِّ روح التأثير في السامع أو المتلقِّي، من أمثال هيئة الخطيب، وتنويع الكلام وأدائه, في تراكيبه وأساليبه، ونسبة ارتفاع الصوت أو انخفاضه، وهو ما يسمّى بالتلوين، وما يكون في مكوِّنات المرسل أو الخطيب، من حسن الهيئة , وجهارة الصوت, وسلامة المخارج, وتحقيق الصفات, وحضور البديهة, وامتلاك زمام الملكة اللغوية, مع مناسبة المقام مكانًا, وزمانًا, وبيئة، وأشخاصًا, إضافة إلى طبيعة الموضوع, وإمساسه حياة المتلقِّي واهتماماته, وكل هذه وأمثالها نجد لها صدًى فيما كتبه, سواء أكان ذلك صريحًا, أو كان مستخرجًا مستنبطًا ممّا يورده من قصص، وحكايات, وأخبار، ومن ذلك:
الإجابة بحسب ما يعانيه المسئول [ينظر البيان والتبيين (هارون)1/114]
مراعاة أقدار المستمعين [ينظر البيان والتبيين (هارون)1/138-141]
وينظر في هيئات الخطيب [ينظر البيان والتبيين (هارون) 1/370 فما بعدها وص383فما بعدها].
كما أورد بعض القيم الصوتية للخطيب. [ينظر البيان والتبيين (هارون) 1/121و123و125و127]
اختلاف القيم اللغوية ، مثل الإسهاب والإيجاز، بين الحاضرة والبادية [ينظر البيان والتبيين (هارون) 1/102]
إطالة خطب النكاح وتقصير الجواب [ينظر البيان والتبيين (هارون)1/104و116]
إطالة خطاب الصلح [ينظر البيان والتبيين (هارون)1/116]
اختلاف المقامات والقيم [ينظر البيان والتبيين (هارون) 1/116]
وفد نقل عن ابن المقفع كلاما طويلا عن الخطبة وما يليق بكل نوع من الكلام، والاستهلال، والإيجاز والإطناب، [ينظر البيان والتبيين (هارون) 1/115-117]
********
ولقائل أن يقول: بم نصلح هذه الحال؟
مراجعة أسلوب التعليم الذي يعتمد أسلوب التلقِّي السالب, ويقصد إلى الامتلاء الخادع, إلى طريقة تؤسِّس لحوارٍ بين طرفي العمليّة التعليمية بنّاء مثمر, وتعتمد على أن لا يتلقّى أيَّ شيءٍ حتّى البدهيّات إلا ببرهان يشفع لها, ودليل يبين عن صحّتها, وصدقها, وثباتها, واطِّرادها, والمشاهد من الطلبة والأساتذة أن لا يجيزوا ولا يجاز لهم أن يتأمّلوا تلك المسلَّمات, إلا بطريقة تحترم العقل, وتجعل من حقِّ المتلقِّي أن يسأل, وأن يطلب الدليل, ويحاور ليفهم, وأن يبحث عن العلّة والتفسير, وأن لا يتنازل عن هذه المطالب المشروعة, التي تؤسِّس لمشروع عالم, بإمكانه أن يعيد تشكيل المعرفة من جديد.
أن تؤسَّس دراسة النحو على الانطلاق من خبرة التلميذ, وعلى ما لديه من نحوٍ فطريٍّ, يمكن توظيفه لإزالة الغربة أو الوحشة بينه وبين النحو, وقد جرى لي تجربة هذا الأمر , وحقّق نجاحًا. كأن نقرر أن النحو من بدهيات البشر, ونظام ضروري لكل لغة سواء كانت عالية الجودة أم كانت عامية منحرفة عن لغة راقية, مثل تقرير المعاني النحوية, مثل النداء، والاستغاثة، والتعجب, والاستفهام, والمطابقة تذكيرًا وتأنيثًا, إفرادا وجمعا, والإفادة.
وضرورة ربط النحو بالبدهيات لدى الطالب ؛ حيث إنه فطري يلتزمه كل متكلم في كل لغة .فكل متكلم يعرف كيف يستفهم وكيف ينادي وكيف يتعجّب؟ ولا يمكن له أن يخلط حين يقصد إلى معنى من هذه المعاني بينها فلا يستفهم وهو يريد التعجب ، ولا ينادي وهو يريد التعجب ، ولا يخبر وهو يريد الإنشاء . فكل كلام مهما كانت منزلة من ينشئه له نظام لا يمكن أن يصح فضلا عن قبوله بدونه.
ومن ربط النحو بالبدهيات اللغوية التفريق بين المنصوبات: حال, تمييز، ظرف، مفعول به، مفعول مطلق، مفعول لأجله، مستثنى, وذلك بشرح دلالتها شرحًا مبسّطًا بعيدًا عن التعقيد ، والوعورة المصاحبة لها في كتب النحو.
ومن ذلك أسلوب التنظير سواء كان التنظير بما يعرفه الطالب بداهة من لغته اليومية، أو التنظير بين أشياء في الفصحى يسهل على الطالب إدراكها، مثل: نفقتك دينارا أصلح من درهم، تنظر بنحو: ضربك زيدًا خير لك. (انظر الزبيدي الطبقات ص88)
********
توصيـــات:
- تكوين حلقات دراسية لمناقشة تدريس النحو, ومراجعته, وتقويمه, وفحص أدواته وأساليبه, ليخرج من هذه الحلقات بمقترحات , ودراستها, وتجربتها, وهذا من المغيَّبات التي لا أظنّ أنّها تلوح في الأفق, أو واقعة في المنظور القريب؛ لأسباب لا داعي للإفصاح عنها, ولأنّها تقع في دائرة الشريف من علمكم.
- أن نستبدل في درس النحو بالإعراب التحليل النحوي، وهو عملية شاملة تقوم على ممارسةٍ عمليةٍ توظِّف مكوِّنات الكلام وهي (الأصوات، الكلم، الأبنية، التراكيب، الأدوات، السياقان: المقامي والمقالي، مقاصد المتكلِّم) ومقوِّمات الصناعة النحويّة من عامل، ورابط، ومطابقة، ومعنًى نحوي، ومعنًى عام، ورتبة، وموقع، وقرينة.والنحو بين الكفاية والأداء.ودراسة الفروق النحوية، وتوظيف الذوق، والفطرية اللغويّة، وربط الأعاريب والتحليل باستحضار المبادئ والمقدّمات النحوية مثل خصائص الاسم, والفعل، والكليات، والأصول.
*******
وبعــد,
إننا أمام خيار صعب, إمّا أن يشعر حملة العربية بمسئوليّتهم, نحو العربية, وأن يتحمّلوا ما ائتمنوا عليه, وأن يؤدّوا واجبهم والتزامهم, وما كلِّفوه, وإمّا أن يدعوا الأمر لغيرهم؛ ليقوموا بالمسئولية نيابة عنهم, حسب ما أمكنهم الله, وأقدرهم عليه, وليحمل أهل العربية مسئولية ما يترتّب على ذلك.
مسئولية العربية ليست قاصرة على معلِّميها ودارسيها, ومن يدّعون الاختصاص بها, وأنهم أهلها من دون الناس, بل هي مسئولية أمّة؛ لأنّها من مكوِّنات الهوِّيّة, ولهذا لا بدَّ أن نشرك فئاتٍ أخرى ذات اهتمامات أخرى في حمل همّ العربيّة, وتقديمها للحياة بصورة تناسب العصر, وتفتح أمامها آفاق الانتشار, وتكسر رتاج المغاليق الموصدة, وتستثمر إيجابيّات العصر, فأهل اللغة لا بدَّ أن يمدّوا يد التعاون مع رجال التربية, والإعلام والحاسوب, وأصحاب تخصصات أخرى, وذوي اهتمامات لها علاقة ما بالعربية, باعتبارها مكوِّن هوِّيّة, ووسيلة اتصال, وباعتبارها وعاءً للفكر, أو جزءًا منه, أو هي الفكر. وعليهم أن يحملوا راية المبادرة, قبل أن يتقدّم لحملها آخرون, يسيِّرونها حسب ما لديهم, من تصوّرات, وبقدر ما لديهم من رؤية. وبحماس لا يقلّ عن حماسة مدّعي أهليّتها, والاختصاص بها. تمّت, والحمد لله رب العالمين.