ملخّص:
تشارك هذه الورقة أوراقًا أخرى مناقشة قضيّة مهمّة, تمسّ حياتنا اللغويّة, وهي قضيّة تعنى بها الأمم، حتّى إنّها لتجعل مسألة اللغة مسألة دستوريّة, وقد تكون أحيانًا حائلا دون استحقاق جنسية البلد؛ إذ هناك دول تشترط للجنسية معرفة اللغة الرسمية للبلد, والقدرة على التواصل بها, كما أن بعضها تشترط لبعض أعمالها القيادية إجادة اللغة الرسمية, وهذا شيءٌ سياديّ لا ينكر على أي دولة تشترطه أو تطلبه ممارسته. والعربيّة ليست بدْعًا بين اللغات في هذا, فلو اشترطت الدول العربيّة هذا الشرط لم يكن بالمستنكر، ولا الغريب.
واللغة هوّيّة الأفراد, ومطلب الشعوب, وإطارها الثقافي, وهي لغة اتّسع أفقها, وامتدّ مداها, وخلطت الشعوب على اختلاف أعراقها, وتفاوت أصولها, وأنسابها, في خليط واحد, وصهرتها في بوتقة واحدة, مصداقًا لأثر "إنما العربية اللسان" .
كان الحرف العربي ترميز كثير من لغات العالم, وكان مصدر فخار يفاخر به من يعرفه في أوروبا, وكانت اللغة العربيّة عملا يتسامى إليه المتسامون, ويفخرون به, وكانت لغة العلم والحضارة في المعمورة اللغة العربية, خاصة في العالم الإسلامي, وبعض مؤسسات العلم في أوروبا. هذا هو التاريخ, وهذا هو الماضي, فما حال العربية في هذا العصر؟ لقد انحسر نفوذها, وتقهقرت مكانتها, وقلّ منتحلوها, واستحيا عارفوها من التباهي بها, وآثر الراغبون في دراسة اللغات غيرها من اللغات, وكان لهذا أسبابه التي لا تخفى, والتي بإمكان الدارسين الوقوف عليها وحصرها, ومن هذه الأسباب أسباب من داخل البيت اللغويّ, وهي التي رأينا أن نناقشها في هذه الورقة, ولا نزعم أننا بتلافيها نأتي بالحلِّ السحريِّ لحلِّ القضيّة اللغويّة, ولكنّها مقاربة, وعمل قد يقود إلى نجاح إذا صاحبته عوامل مؤيِّدة, وآزرته أسباب من خارجه, وهذه الأمور التي ناقشناها تتلخّص في الآتي: مقدّمات . فمزايا وخصائص اللغة العربية من نحو (عمر العربية, ونظامها الصوتي المنقول شفاهًا, والتطور والثبات فيها, وارتباطها بكتاب مقدّس, وبتراث مدوَّنٍ كبير, وموقف الأقليات ذات اللغات الخاصة في الوطن العربي الإيجابي منها, وما يحيط بالإقليم العربي من جوار لا يعادي لغته, وسلامة العربية من الانشقاقات اللهجيّة وتحوّلها إلى لغات مستقلّة, وعالمية العربية). فحديث عن العربية والهويّة(مفاهيم عن حياة العربية, واللغة والهوّيّة في التراث، وأسئلة عن الهوّيّة) . فتصوّرات ومفاهيم (العربية بناء تراكميّ, وتقرير حقيقة ما يسمّى الفصحى, وأثرها في درس العربية, والحديث عن مستويين من اللغة: مكتوب ومنطوق, والفرق بينهما، وتقسيم اللغة إلى ثلاثة مستويات: تواصلي, وتداولي غير ثريّ, وتداولي أدبيّ ثريّ, والإفادة من هذا التقسيم في درس العربية, والعلاقة بين العامية وما يسمّى الفصحى, والدعوة إلى الاتزان في دراسة هذه العلاقة وتأثيرها). فممارسات (الإفراط في المحافظة والغيرة على اللغة, وما يترتّب عليه من عدم تطوير أساليب تدريسها، وطرائق الوصول إلى عقل الطالب وقلبه, ومعاملة العربية مادّة كسائر الموادّ, وممارسات معلمي اللغة العربية, وممارسات في مناهج اللغة العربية, وممارسات النشاط البحثيّ في اللغة العربيّة). فتوصيات. وقد انتهى العمل إلى توصياتٍ مسطورة في آخره, مجملها "إعادة بناء مناهج اللغة العربية, وفق تصوّراتٍ، وقيمٍ جديدة اقترحها الكاتب، وبناء مقرر, وتأليف كتب تؤصِّل وتكرِّس الهوّيّة اللغويّة, وإعادة النظر في تأهيل معلمي اللغة العربية, و تقرير صفاتهم وسماتهم, وفق رؤًى جديدة, وفرض قدرٍ من الإعداد اللغويِّ مناسبٍ على كلِّ من ينخرط في سلك التربية والتعليم, وتوجيه البحث العلمي في اللغة العربية وآدابها ومشاريعه وفق خطّة إستراتيجيّة, تخدم قضايا اللغة المعاصرة, وتجعل البحث متلائمًا, أو مستجيبًا للحاجات القائمة, خاصّة ما جدّ منها في هذا العصر". وهذه دعوة للإصلاح من الداخل, وهي غير كافية لإحداث تغييرات كبيرة، ولكن هذا هو الممكن في هذا الميدان, وإن كانت المقترحات بحاجة إلى إسناد.
*********
مقدّمـــة:
بمجرّد أن تلتقي شخصًا, وتسمع منه, وتحاوره, تستطيع أن تحدِّد أهو تكلّم بلغته الأم, أم تكلّم بلغة ثانية اكتسبها في مرحلة غير مرحلة الطفولة, كما يكون بإمكانك تحديد بيئته وفئته, أهو من البيئة الرعوية, أم البيئة الزراعية, أهو ابن البادية, أم ابن الحاضرة, أم من أرباب الحرف الأخرى, كما تحدّد أو تقارب في تقدير عمره, وجنسه, وهل هو من الطبقة المثقّفة أو من غيرها, كل هذا يمكن استخلاصه من لغته, ومفردات حديثه, وأصوات كلامه, وبناه، وتراكيبه, وطريقة أدائه, هذا على مستوى الأفراد, يقول جون جوزيف: (( إن اللغة من منطلق ما يقوله شخص معيّن أو يكتبه, من وجهة نظر تُهِمُّ الشكل والمضمون, على حدٍّ سواء, مسألة مركزيّة بالنسبة إلى الهوِّيّة الفرديّة, إنها تدوِّن الشخص ضمن هوِّيّات قوميّة, وأخرى مشتركة تتضمّن تعيين "منزلة" الشخص داخل الهوّيّة. إنّها لا تشكِّل نصًّا ممّا يقوله الشخص, بل تشكِّل نصًّا من الشخص ذاته؛ إذ من خلال ذلك سيقرأ الآخرون هوّيّة الشخص و يئوِّلونها بطرق أكثر غنًى, وتعقيدًا. وإن ما ينتجونه من إفراط في القراءة سيكون في واقع الأمر أغنى ممّا يتحمّل النصّ ذاته)).([1]) أمّا على مستوى الجماعات والمجتمعات والعرقيات والدول فالأمر مختلف, وفيه نوع صعوبة؛ إذ تتداخل اللغة مع غيرها, أو تتنازع, في تكوين الهوّيّة, ورسم الملامح الثقافية.
نعيش في عصر ثورة لغوية بما يتحقّق في عصرنا من محاولة للجمع بين التنظير اللغويّ وتسخير التكنولوجيا المتقدّمة لخدمتها من أجل تحويلها إلى أعمال آلية تجريها الآلة بعد إكسابها المهارات اللغويّة من صوت واشتقاق, وتصرف، وتركيب, واختصار, واستخلاص, وفهرسة, وبحث نصّي, حتّى صارت اللغات معرّضة للزوال والفناء في لغة واحدة, وحتّى صارت العولمة مهدّدة للهوّيّات الخاصة, والتمايزات القومية والعرقية, والدينية, فظهر إهمال العربية تنظيرًا وتعليمًا واستخدامًا على حساب أمور اللغة الأخرى(التقليدية) في غمرة تطوّرات علمية تقنية سريعة في عالم اللسانيات المعاصرة, ولم يستبعد د. نبيل علي حدوث فجوة لغويّة حادّة بين لغتنا العربية, ولغات العالم المتقدّم تكنولوجيًّا, في التنظير , والمعجم, والتعليم والتعلّم, واستخدام اللغة وتوثيقها, والمعالجة الآلية للغة, والترجمة الآلية ولهذا نتائج كارثية على العربية, قد تفقدنا هوِّيّتنا, وتحرمنا من التعليم بلغتنا العربية, لصالح اللغات الأجنبية. ([2])
بإطلالة سريعة على ما ينشر في الإنترنت عن اللغة والهوّيّة يجد القارئ مقالاتٍ كثيرة, وهي في أكثرها, مكرّرة المضمون, متشابهة الأفكار, متقاربة المقاصد والغايات, والذي نطمح إليه، في هذه المشاركة, تقديم شيءٍ لعلّه يكون منبهةً, لأمور قد تكون ضامرة لدى المتحدِّثين في هذا الموضوع, وقد اطّلعت على قوائم وملخّصات, وبعض أعمال ندوات ومؤتمرات, حملت في عنوانها "اللغة العربية والهوّيّة" وأقحموا فيها أشياء، تبحث الشأن اللغوي العام, وتناقش القضايا العامة, وتخدم اللغة, وتفيد درسها, وتغذو اهتماماتها, وتطرح رؤًى وأفكارًا من أجل تطوير برامج تعليمها, ولعلّ كثيرًا منها خارج إطار الحديث عن اللغة والهوّيّة.
وبزيارة لمعرض الكتاب في طهران, وزيارات لمعارض الكتب في البلاد العربية, نلحظ فرقًا كبيرًا بين الصورتين, فمعرض طهران ينمّ عن اعتزاز القوم بلغتهم, وحرصهم على إحيائها, وتخليدها, وإسهامها في رسم الصورة عن هوّيّة البلد, في حين توحي صورة المعارض في البلاد العربية باستهانة العرب بلغتهم, وغبش في إسهامها بتكوين صورة الهوّية؛ فلا تكاد في معرض طهران تجد شيئًا بغير الفارسية, حتّى الكتاب العربي نادرٌ جدًّا, وهو في الغالب من المطبوعات الرسمية, أو شبه الرسميّة, فعلام يدلّ هذا؟!
ليس أسهل على المرء من أن يلقي باللائمة على غيره؛ لما فيه من خداع النفس بالتخلّص ولو وهمًا من المسئولية, وتأنيب الضمير, وفي الشأن اللغوي بل في الإخفاق فيه, كان شيء من هذا, يلقي اللوم أحيانًا على المجتمع, وعلى بلادة التلاميذ, وضعف الأجيال جيلا بعد جيل, وأنظمة التعليم, ومكانة اللغة, وعدم احتفاء الساسة وأصحاب القرار النافذ بهذا التخصص, بل قد يطرح السبب على اللغة ذاتها, وكلّ هذا سهل ميسور, لكن أن يراجع الإنسان نفسه ليسائلها : ألديَّ قصور في عملي وبرنامجي, وذاتي, وما أقدِّمه للآخرين.
وهذه الورقة، يمكن إدراجها في النقد من الداخل, أو نقد الذات, أو محاسبة النفس, أو وقفة مع الذات؛ فالكلّ يشكو من ضعف تأثير اللغة في تكوين الهوية, وضعف الترابط بين الثلاثي: {اللغة, والثقافة, والهويّة}, ومع أهمّيّة دور اللغة, لا نرى من علماء اللغة تقويمًا, أو نقدًا لدرسها, ومحاولة لتلمّس أوجه ضعفها وقصورها, في الإسهام في تكوين أضلاع المثلّث, الآنف ذكره. والموضوع الذي سأطرحه في هذه الورقة يتألّف من العناصر التالية:
- 1- مقدّمات ..
- 2- مزايا وخصائص اللغة العربية.
- 3- حديث عن العربية والهويّة .
- 4- تصوّرات ومفاهيم.
- 5- ممارسات.
- 6- توصيات.
*******
أولا: مقدِّمات:
من أصعب الأشياء الحديث عن الواضحات؛ إذ لا يتحدّث فيها إلا أحد شخصين, إمّا فاقد للقدرة على الإبداع، فليس أمامه إلا أن يعيد ما يقوله الآخرون عن طريق القص واللصق, والحفظ والتسميع, والنقل والقراءة, وإلا اختلاف الوعاء. وإمّا شخص موهوب وهبه الله نظرة ثاقبة, وفكرًا متميِّزًا, ولسانًا ساحرًا، وبيانًا مؤثِّرًا يأسر المتلقّي, وشخصيّةً مؤثِّرة ليستطيع بهذه كلها أن يستخرج ما يخفى على غيره, وأن يجعل من الخسيس نفيسًا، ومن الزهيد ثمينًا, ومن المبتذل عزيزًا, وممّا لا يلفت الأنظار ما يشدّها إليه, من تفسير, وتعليل، ومعرفة أسباب, وربط للمتناظرات والمتشابهات؛ فكل من تتكلّم معه عن اللغة والهوِّيّة يرى أنّك تأخذه إلى ميدانٍ كثر والجوه, وأرض كثر واطئوها, وفناء كثر داخلوه, ومسلكٍ تزاحم سالكوه, وموردٍ كدّره الواردون, فاللغة مفهومة, وإن لم نتفق على تعريفها تعريفًا جامعًا مانعًا, والهوّيّة واضحة، وإن كثرت فيها التعاريف، واختلفت فيها المقالات؛ إذ لا يمكن أن يتصوّر مجتمع بدون الثلاثي: اللغة والثقافة, والهوّيّة، وبين هذه الثلاثة تلازم , ولا يصح أحدها من دون الآخرين؛ فالثقافة, مضمون الهوّية, واللغة وعاؤها, وشكلها . والهوّيّة مركّبة منهما, ونسوق بعض نصوص أو إشارات يمكن أن تنير لنا الطريق, ومنها:
- أن ((اللغة هي قدر الإنسان الاجتماعي, فكما تكشف عن طبقته وجذور نشأته تكشف أيضًا عن عقليّته, وقدراته, وميوله الفكرية, وكما أن اللغة ظاهرة وشائعة, فهي – بالقدر نفسه – دفينة ومستترة، غائرة في ثنايا النسيج الاجتماعي, ومتاهة العقل البشري، تمارس سلطتها علينا من أياديها الخفيّة ...)).([3])
- تعاظم دور اللغة في الحياة المعاصرة؛ فلم تعد اللغة محصورة في ميادين التعليم والتربية والثقافة, بل تغلغلت في مناشط الحياة كلّها, وصار لها دور مؤثِّر في السياسة والاقتصاد, والتقنية, وصار لها إسهام في تحديد أداء المجتمع من داخله، بتعرُّف نشاطه, المعرفي والإبداعي, ومن خارجه برسم علاقة مجتمعٍ ما بغيره من المجتمعات وتعرّفها, ومدى تأثيرها في التكتلات المختلفة.([4])
- توظيف اللغة لتأييد دعوات العولمة, أو مقاومتها، من منطلق المشترك اللغوي النظري الذي يصف اللغة بأنها غريزية, إنسانية, يشترك فيها جميع البشر, وفيها قوانين مشتركة بين اللغات, أو من منطلق أن اللغة تمثِّل خصوصيّة الأمم والقوميّات, إن لم تكن أبرز الخصوصيات, ومن العسير أن تتنازل الأمم عن لغاتها من أجل أن تسود لغة واحدة, مهما كان من عوائده الاقتصادية؛ لما يلزم عنه من تهميش اللغات والثقافات القوميّة, والسيطرة الاقتصادية والثقافية على شعوبها.([5]) ولما يكون فيه الفناء في غيرها, ولبس جلد ليس هو جلدها.
- أنه مهما حاولنا ستر القضية اللغويّة, وإخفاءها, وإبعادها عن الصراع البشري على النفوذ السياسي, والغلبة الاقتصادية, والهيمنة الثقافية, فلن نستطيع ذلك، والشواهد على ذلك كثيرة, بل إن بعض التكتّلات ذات السمة الاقتصادية, أو ذات الطابع السياسي مبنية على الوحدة اللغوية أولا, أو افتعالها, بل قد يكون داخل التكتل الاقتصادي أو السياسي تكتلات فرعية لغويّة, كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي, مثل تجمّعات وروابط "الأنجلوفونية, والفرانكوفونية, والإسبانفونية"([6] ) ونحن – العربَ - لا يغيب عن بالنا الجامعة التي تتسمّى باللغة (الجامعة العربية), وهذا ديدن الأمم والقوميات القويّة التي تريد الحفاظ على هوّيتها, بخلاف الأمم الضعيفة فليس لديها هذا, ولدينا في الجوار دعوات لتكتلات مبنيّة على أساس التكتل اللغوي, بل هناك صراع داخل التجمعات الكونية, أو الإقليمية يتمثّل في سعي الدول ليكون للغاتها حضور في المحافل الدولية، من خلال فرض لغتها, أو الاعتراف بها رسميًّا فيها.
- ما أحدثته تقنيات العصر في التواصل اللغوي, وما سيحدث فيه حتمًا من توسّعٍ وتنوّعٍ؛ فالتواصل قديمًا إمّا شفهيّ، وإمّا كتابيّ, في حين ظهر في عصرنا اتّصال مكتوب كتابة من نوعٍ خاصٍّ، يأخذ من سمات الاتصال الشفويّ العفويّ الارتجالي ، الذي يتسابق فيه التفكير مع اللسان, وقد يسبق فيه اللسانُ, وهذا النوع يأخذ من سمات الاتصال الكتابي, وطرحت تقنيات العصر وسيلة اتصال لغويّ هي خليطٌ من الشفوي والكتابي, ويأخذ من مزايا الاتصال الشفهي, والرموز الثابتة والمتحرّكة, وهي وسيلة تعرّفها صغار الأبناء, ومارسها الكبير والصغير. كما أن ميدان الحوار لم يعد مقتصرًا بين الإنسان وأخيه الإنسان, بل انتقل ليكون بين الإنسان والآلة, ومثل هذا يتوقّع أن يحدث ثورة في عالم التواصل والاتصال, وقد يحدث لغة جديدة لها خصائصها ومزاياها, ولها جاذبيّنها, تخالف ما اعتاده الإنسان في المعروف من وسائل الاتصال. ([7] )
*********
ثانيـــًا : مزايا وخصائص للغة العربية, وهي نقاط محسوبة للغة العربية:
ما تقدّم أمور مشتركة بين اللغات، ولا تختص بها لغة دون لغة, ولا نريد إجراء مقارنة بين العربية وغيرها من اللغات, فقد قام بهذا بعض من درسوا اللغات الأخرى وقارنوها بالعربية, وأشير هنا إلى دراسة للدكتور: عبد المجيد الطيّب, الأستاذ بجامعة أم القرى, كما لا نريد كذلك دفع ما يثار حول العربية من شبهاتٍ.([8] ) وهذا لا يمنع من طرح سؤال: هل تختلف العربية عن غيرها من اللغات؟ من المسلّم به أن كلّ لغة تتمايز عن غيرها من اللغات في شيءٍ من أنظمتها, الصوتية, والصرفية (بنية الكلمة) والتركيبية (النحو), والدلالية (المفردات والمعجم), وبعض إجراءاتها, ونحن هنا لا نتحدّث عن المزايا والخصائص المتعلِّقة بمكوِّنات النظام اللغويّ, من صوت وبنية, وتركيبٍ, ودلالة؛ لأن مثل هذا الحديث مهما كانت قوّته يبقى مجال شكٍّ وميدان مطارحة؛ إذ قد يقال فيه: إنّه دعوى, وسأقتصر على إشارة موجزة لشيءٍ منها ألخِّصها من كلام عبد المجيد الطيّب([9]), الذي ذكر مزايا للغة العربية في تكوينها؛ إذ ليس في العربيّة ما يفيد التدرُّج في النشأة والترقّي؛ فالعربية عرفت مكتملة في مبانيها ومعانيها, وهذا لا يناقض ما أضيف لها من عبارات, واستقبلته من تراكيب, وتوسّعت فيه من دلالات, في العصور اللاحقة، فنشأة اللغة العربية – كما يقول - معجزة وغير عاديّة, ولم يثبت للعربية مرحلة طفولة, أو شباب, أو شيخوخة, وأنها أحاديّة النشأة والتكوين, ذات أصلٍ واحد (غير هجين) كما ذكر من مزاياها نظامها الصوتيّ وتوزيع الأصوات العربيّة بشكلٍ عادل على المدرج الصوتي, والأحياز (المخارج) فلم تتراكم في حيّز أو مخرج واحد, أو اثنين. ومن مزايا نظامها الكتابيّ وترميزها نسبة التطابق العالية بين الرمز الكتابيّ والنطق, ما عدا استثناءاتٍ مردّها أنّها ألفاظٌ دوّارة, شائعة الاستعمال كثيرة الترداد والتكرار, كما أن نظرة منصفة في النحو العربي مقارنًا بغيره من الأنحاء في اللغات الأخرى, تبرز ميزة ونقطة قوّة للنظام النحويّ العربيّ, كما أشار إلى إسهام البنية الصرفيّة في تكوين المعنى الدقيق للكلمة, التي يتكوّن معناها العام من الأصوات, ومعناها الخاص أو الدقيق ممّا يعرض لها من صفاتٍ مردّها نظام البنية العربيّة, وأن بنية الكلمة لها دلالة خاصّة, تخرج بها عن المعنى العام للمادّة, ومثل هذا لم يكن غائبًا عمّن كتب عن فقه اللغة في تراثنا, بل كان العلماء, ومنهم ابن فارس, يستحضرونه حين يكتبون في فضل العربية, وقد عقد في كتابه "الصاحبي" ([10] )بابًا بعنوان "القول في أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها" وذكر من وجوه التفضيل نزول القرآن بها، وتميّزها في البيان, والترادف, والأساليب البيانية التي تستعصي أو تتأبّى على الترجمة, والتخفيف اللفظي بالقلب, والتخلّص من التقاء الساكنين، وعدم الابتداء بالساكن, واختلاس الحركات, والحذف والترخيم, والإدغام, والإضمار, والكلم الجوامع, وأمثال هذا كثير، كما يقول، وتركه خوف الإطالة, وهذا كلّه ليس مهمًّا؛ إمّا لأنّه بدهيّ ومسلَّم به عند المؤمنين به, وإما لأنّه ميدان شكّ وخلاف لمن لا يؤمن, وقد يقول قائل: هذه دعوى , وهي بحاجة إلى دليل؛ لأن الدعوى بدون دليل لا تغني شيئًا, والمهمّ هو ما تختلف أو تمتاز به العربية عن غيرها من اللغات من خارج بنية النظام اللغويّ: مثل:
- العمر الطويل, والتاريخ الضارب في أعماق الزمن, فهل بين اللغات المعروفة الآن ما لها ما للعربية من التاريخ, وهل يستطيع أبناء لغة ما أن يقرءوا ما سُطِر بلغاتهم قبل بضع مئات من السنين، إن كان لها هذا العمر.
- النظام الصوتي، الذي تناقلته الأمّة عبر أجيالها المتتابعة, من خلال الإقراء، والأسانيد المتصلة، التي يحافظ فيها القرأة على الأداء الصوتيّ, بتمكين الصوت من مخرجه, وتحقيق صفاته, وهذا شكّل مرجعيّة حفظت العربية من اعتماد التطورات الصوتية في العاميات التي قد تباعد بين الصوت المستعمل وأصله, وهي ليست إلا صورًا محرّفة عن أصوات العربية النموذجية، المسطورة في كتبها، والتي كتب بها التراث. من الممكن الميسَّر أن تحتفظ بنظامها مع شيءٍ من التغيير في أبنيتها, وفي نظامها النحوي, والمعجمي, غير أن الصوت يختلف؛ لأنه سريع التأثر, قابل للتغيير, وهو أهم مقوِّمات اللغة المنطوقة, واستطاعت العربية بصورتها النموذجية مقاومته؛ لأن لها صوتًا نموذجيًّا إليه تفيء وترجع, وإليه تحتكم.
- التطوّر والثبات: فأنظمة العربية الصوتية, والصرفية والتركيبية أنظمة ثابتة, وأنظمة مغلقة في جانبها القياسي, وهذا لا يعني: أن اللغة العربية غير قابلة للتطوير, وجامدة, بل هي قابلة للنماء والتوسّع, والاستجابة لجديد الحاجات, وللإحداث في اللغة, من أبواب الاستعمال, والمجاز, والوضع, والاشتقاق, والتوليد, والتعريب, ووسائل تنمية اللغة الأخرى, التي تستجيب للمعاني التي تجدّ للناس في حياتهم, وتصبح الحاجة قائمة للإبانة عنها، كما تجدّ للناس من المسمّيات ما يحتاج لوضع أسماء تدلّ عليها, ولا بدّ من استجابة اللغة.
- ارتباط العربية بكتاب مقدّس, وهذا قد يعدّه البعض عامل ضعف فيسمون العربية بأنّها لغة دينية، مثل العبرية والسريانية, والأمر في العربية مختلف، فهو في العربية عامل قوّة. وعامل جذب لا لتعليمها فحسب, بل لجعلها مظهر هوّيّة؛ إذ كلّ مسلمٍ مهما ثقل لسانه بالعربية فلا بدّ أن يمارس شيئًا في حياته بها, من ذكر وصلاة وتلاوة وكفاية, وأن يسمع منها في كلِّ يومٍ شيئًا منها.
- ارتباطها بتراثٍ مدوّن لا يعدله تراث آخر, أفادت منه الحضارة الإنسانية, وكان الواسطة لنقل التراث الإنساني, الآخر.
- أن الأقليّات ذات اللغات الخاصة في العالم العربي لا تصنع مشكلة في الوطن العربي, فهذه اللغات ليس بينها وبين العربية قطيعة، إذ ترتبط بالعربية بسبب ما من القيم, والمكوّنات , وحاجة أهلها للعربية، بل بعضها مرجعيّتها عربيّة, مثل الكردية والأمازيقيّة, ولا ترقى هذه اللغات المحلية الخاصة لمزاحمة العربية, وسيتّضح بعد مدّة صحّة هذا القول؛ لأسباب كثيرة. في حين تشكّل اللغات الأخرى في بعض البلدان مشكلة معقّدة, قد تؤدّي إلى تشرذم الدولة, وتمزيقها, كما هو الحال في كندا, وإسبانيا, وغيرها.
- أن هناك خطّ دفاع عن العربيّة, يحيط بالإقليم العربي, لا يبعد عن العربيّة كثيرًا, وإن لم تسمّ دولا عربيّة, وشعوبها تفهم أو تستطيع التواصل بها في حدّها الأدنى, ولولا تفريط العرب, وهمّة المستعمر في فصل هذه الشعوب والدول عن الأمّة العربيّة, لكانت عربيّة اللسان, رسميًّا لا شعبيًّا فحسب, مثل دول الصحراء الأفريقية, مثل: تشاد, ومالي, والنيجر, والسنغال, وأريتريا , هذه الدول أو أجزاء منها العربية لديها ليست غريبة, وكان بالإمكان تحويل لسانها الرسمي إلى العربيّة.
- أنّ العربية بسبب ما تقدّم سلمت من حالة الانشقاقات التي وقعت في اللغات الأخرى، كاللغة اللاتينية, التي تفرّعت عنها لغات مثل: الفرنسية, والإيطالية، والإسبانية, والبرتغالية وغيرها. أما في العربية فالعاميات لم ترتق لتكون لغة قائمة بذاتها, بل بقيت لغة ترتبط بأمها، وإن كانت مولودًا مشوَّهًا. وهناك محاولات لتضخيم التشتّت اللغوي العربي بتهويل الاختلاف وأعداد اللهجات, ومجاوزة المقبول في تصوير التباعد بينها, وهي في تعدّدها لها مرجعية واحدة, كما أنّها لا تصل لتتحوّل إلى تعدّد لغات, واستقلال بعضها عن بعض، وما نعلم أن لهجة عربية استقلّت وانفصلت عن العربية الأم لتكوّن لغة قائمة بذاتها, ولتكون لها مرجعيّتها الخاصّة, فالعربية ((مهما تعدّدت لهجاتها, لا يمكن مقارنتها بحدّة التعدّد اللغويّ لبلدٍ واحد, مثل نيجيريا (400) لهجة, وأثيوبيا (80) لهجة, وجنوب أفريقيا (11) لهجة ولغة, والهند (18) لغة, ويجوز لنا أن نضيف هنا العدد الهائل من لهجات اللغات الصينية, واختلافها عن لهجة بكين)).([11] ) وكنا مرة في مؤتمر لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في البحرين, ومعنا في المؤتمر د.غسان الصيني, وحضر الافتتاح سفير الصين في البحرين, وتكلّم معه د. غسان, وهو من تايوان، ثم فال لنا: إنه تكلّم معه باللهجة أو اللغة المشتركة, وأفادنا باختلاف لهجتهما, وأن اللهجات في الصين بنحو مما ذكر, وأن اختلافها أشد من اختلاف لهجات العربية. وإذا أراد أهل الأقاليم التفاهم, تركوا لهجاتهم المحليّة جانبًا, وتفاهموا باللغة المشتركة. والذي يلاحظ في العربية أنّها تسير عكس اتِّجاه اللغات الأخرى, فاللغات الأخرى تسير نحو التفرّق والتشتّت, والانشقاق, والعربية في عصورها القديمة والحديثة, تسير نحو الاتّحاد؛ ففي القديم اتّحدت لغة الشمال ولغة الجنوب، وذابت العربيّات في عربيّة واحدة, وهي الآن كذلك, فمهما أوغلت اللهجات الدارجة في البعد عن العربيّة النموذج الموحَّدة، هي تسير نحو الرجوع إلى الأم والاقتراب فيها, ووسائل العصر تعين على تحقيق ذلك, من وسائل إعلامية, وتربويّة, وحركات اتصال بطرقٍ متنوَّعة.
- عالمية العربية: أعلم أن مثل هذا الكلام سيقابل بالاستغراب, ويحسن بي أن أنقل شهادة د. تاج الدين نور الدين مرداني نائب رئيس جامعة الإمام أبي حنيفة في دوشنبيه عاصمة طاجيكستان؛ إذ قال لنا في جلسة خاصة: ليس في العالم لغة توصف بأنها عالمية إلا لغتان: العربية والإنجليزية, وهما تتنافسان مرة ترجح الإنجليزية, ومرّة ترجح العربية.([12] ) وإيضاح ذلك أن جميع لغات العالم إقليمية لا تصل إلى أرجاء الكون والمعمورة، فالفرنسية إذا جاوزت حدود تونس شرقًا لا تكاد تجد من يتكلّمها، وهي في اضمحلال, والصينية على الرغم من تعدادها السكاني لغة محلية, لم ترق بعد للعالمية, وكذا اليابانية، والروسية, وغيرها. وتتجلّى عالمية العربية – كما لدى د. نبيل علي- في تاريخها وانتشارها, وتأثيرها في اللغات الأخرى, ونجاحها في ذلك حتّى صارت أداة نقل المعارف المختلفة, وخصائصها التي تتمثّل في التوسط والتوازن اللغويّ, في الأصوات, والرموز الكتابية, وصرفها ونحوها ومعجمها, بتوازنٍ دقيق وتآخ محسوب، بين هذه الفروع, وقابليّتها للمعالجة الآليّة, وفق المعايير المقرّة في اللغات الأوروبية، مثل الإنجليزية.([13])
********
ثالثـــًا: مع العربية والهوّيّة :
مفاهيم, و صورة اللغة العربية في التراث, وأسئلة :
ý مفاهيم عن حياة العربية, فهناك صورة تكوّنت لدى كثيرٍ من الدارسين عن حال العربية في العصور الإسلامية، مردّها (سحر الغياب وهالة الغموض) حيث يتصوّر هؤلاء أن الناس في بغداد وسائر العواصم الإسلامية, من تبريز وأصبهان, وبلخ وبخارى, وترمذ إلى قرطبة, وإشبيلية, يتصوّرون أن ما يسمّونه الفصحى هي لغة الحياة اليومية في تلك المدن والأقاليم, وأن الشارع يعرب الكلمات، ويزنها بالميزان الصرفي, ولعل وصف أبي عبد الله المقدسي (ت381) للغات الأقاليم, يؤنس برأيٍ أكثر واقعيّةً, يقول في مقدمة "أحسن التقاسيم" إنه وصف ((اختلاف أهل البلدان في كلامهم وأصواتهم وألسنتهم)). ([14]) وبقراءة ما كتبه المقدسي يتضح أنه أحيانًا يصف لغة أهل الإقليم السائدة في حياتهم, وهذا لا غرابة فيه، وهي لغات أعجمية, وقد وصف لسان بلاد العرب فقال: ((وجميع لغات العرب موجودة في بوادي هذه الجزيرة إلّا أن اصحّ ما بها لغة هذيل ثم النجدين ثم بقيّة الحجاز إلا الأحقاف فان لسانهم وحش)).([15]) وقال عن لغة عمان: ((لغتهم العربيّة إلا بصحار فانّ نداءهم وكلامهم بالفارسيّة وأكثر أهل عدن وجدّة فرس إلا أن اللغة عربيّة, وبطرف الحميري قبيلة من العرب لا يفهم كلامهم وأهل عدن يقولون لرجليه رجلينه وليديه يدينه وقس عليه ويجعلون الجيم كافا فيقولون لرجب ركب ولرجل ركل)).([16]) وأمّا وصفه للغات أقاليم المشرق فهي لا تخرج عمّا قاله المتنبي:
مَغاني الشَعبِ طيباً في المَغاني بِمَنزِلَةِ الرَبيعِ مِنَ الزَمـــانِ
وَلَكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فيهـــا غَريبُ الوَجهِ وَاليَدِ وَاللِسانِ
مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَو ســـــارَ فيهـا سُـلَيمانٌ لَســــــارَ بِتَرجُمـانِ
وعلينا أن نتخلّص من الصورة التي ارتسمت بسبب سحر الغياب, وهالة الغموض. وقد لمس ابن جنّي (ت393هـ ) هذا المعنى بقوله: « ... وليس أحدٌ من العرب الفصحاء إلاّ يقول: إنه يحكي كلام أبيه وسلفه، يتوارثونه آخرٌ عن أوّل، وتابع عن مُتّبَعٍ، وليس كذلك أهل الحضر؛ لأنَّهم يتظاهرون بينهم بأنَّهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربيّة الفصيحة، غير أنّ كلام أهل الحضر مُضاهٍ لكلام فصحاء العرب في حروفهم، وتأليفهم، إلاّ أنّهم أخلُّوا بأشياءَ من إعراب الكلام الفصيح، وهذا رأي أبي الحَسَن، وهو الصواب »([17]). فالحديث عن صلة اللهجات العامية أو لغة العامة بالفصحى ليس وليد العصر، بل تطرّق له بعض من كتب في التاريخ والأدب في العصور الخالية، من أمثال ابن خلدون (ت808هـ ) الّذي سَمَّى لُغَة عصره لغة الجيل، وقارن بينها وبين اللُّغة المضريّة، وقد أفرد في مقدّمته فصولًا للبحث في هذا الشأن، منها فصلٌ عنوانه " لغة العرب لهذا العهد لغةٌ مستقلّةٌ مغايرة للغة مضر وحمير ". وآخر عنوانه " لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر " عالج فيها ابن خلدون مميزات لهجة عصره أو لغة جيله، كزوال الإعراب، ولزوم علامة الوقف في أواخر الكلام([18]).
ý اللغة والهويّة في التراث : لم تكن قضية اللغة والهوية غائبة عن تراثنا، فالحديث عن عربية القرآن حاضر لدى كل من يتكلّم عن اللغة العربية, أو شيء يتّصل بها, وفي الأثر عن حذيفة بن اليمان رسول الله r قال: "ألا إن الرب عزّ وجلّ واحد، وإن العربية اللسان الناطق، فمن تكلم بها فهو منهم، ألا وإن مولى القوم منهم، وابنه من أبنائهم، وابن ابنه من أنفسهم. ([19])وأما "قول " العربية اللسان " فصحيح! فإسماعيل عربيٌّ لأنّه نطق بها فأبوه إبراهيم ليس عربيّا ً , وذريّته من بعده ينسَبُون إليه"([20]) وطرق علماء المسلمين الموضوع, إذ تجد في كلام لابن تيمية قوله: ((اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق. وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية، وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة: قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أما بعد: فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن، فإنه عربي".وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم " وهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله)).([21]) وأما الكلام بغير العربية، فقال فيه: ((وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية - التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن - حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم، وهو مكروه كما تقدم. وقد نص على هذا بقوله: ((وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ تَغْيِيرَ شَعَائِرِ الْعَرَبِ حَتَّى فِي الْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ " التَّكَلُّم بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ " إلَّا لِحَاجَةِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِك وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بَلْ قَالَ مَالِك: مَنْ تَكَلَّمَ فِي مَسْجِدِنَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ أُخْرِجَ مِنْهُ. مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَلْسُنِ يَجُوزُ النُّطْقُ بِهَا لِأَصْحَابِهَا؛ وَلَكِنْ سَوَّغُوهَا لِلْحَاجَةِ وَكَرِهُوهَا لِغَيْرِ الْحَاجَةِ وَلِحِفْظِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَبَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ الْعَرَبِيَّ وَجَعَلَ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ خَيْرَ الْأُمَمِ فَصَارَ حِفْظُ شِعَارِهِمْ مِنْ تَمَامِ حِفْظِ الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ بِمَنْ تَقَدَّمَ عَلَى الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ - مُفْرَدِهِ وَمَنْظُومِهِ - فَيُغَيِّرُهُ وَيُبَدِّلُهُ وَيُخْرِجُهُ عَنْ قَانُونِهِ وَيُكَلِّفُ الِانْتِقَالَ عَنْهُ إنَّمَا هَذَا نَظِيرُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ الشُّيُوخِ الْجُهَّالِ)) ([22]) وَاَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَ اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ وَيُفْسِدُونَهُ لَهُمْ مِنْ هَذَا الذَّمِّ وَالْعِقَابِ بِقَدْرِ مَا يَفْتَحُونَهُ؛ فَإِنَّ صَلَاحَ الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ الْإِنْسَانُ. وَيُعِينُ ذَلِكَ عَلَى تَمَامِ الْإِيمَانِ وَضِدُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الشِّقَاقَ وَالضَّلَالَ وَالْخُسْرَانَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ([23]).
ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر، ولغة أهلهما رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية، وأهل المغرب، ولغة أهلها بربرية عوّدوا أهل هذه البلاد العربية، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار: مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديما. ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت عليهم وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه، وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة، ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب)). ([24]) بل جعل ابن تيمية ((اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون)).([25]) وهم مع تشدّدهم في اعتياد غير العربية والنهي عن تعلّم رطانة العجم, يترخّصون في الكلمة بعد الكلمة، يقول ابن تيميّة: ((وفي الجملة: فالكلمة بعد الكلمة من العجمية، أمرها قريب، وأكثر ما يفعلون ذلك إما لكون المخاطب أعجميا، أو قد اعتاد العجمية، يريدون تقريب الأفهام عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص - وكانت صغيرة قد ولدت بأرض الحبشة لما هاجر أبوها، فكساها النبي صلى الله عليه وسلم خميصة وقال: «يا أم خالد، هذا سنا» والسنا بلغة الحبشة: الحسن)).([26] ) ولم يكن هذا غائبًا عن ممارسة علماء العربية، فقد كان أبو عمرو شيخ العربية في البصرة يتكلّم مع العمّال في كلاء البصرة (الميناء بالفارسية). هذا في الحالة الفردية, والسلوك الخاص, فكيف إذا تحوّل الأمر إلى ظاهرة اجتماعية, يتحوّل المجتمع كلّه إلى لغة غير العربية, في تواصله, وفي معاملاته, لتصبح هذه الظاهرة منقبة ومحمدة ومظهر كمال في أفراد المجتمع، بل تصبح ضرورة معاشية لأفراده؛ فالمهزوم يأخذه الغالب إلى ثقافته, ويلبسه جلبابها، فالأوروبيون فيما يسمّى العصور الوسطى, فعلوا ما نفعله الآن: تعلّموا العربية، ليدرسوا بها علوم العرب واليونان وغيرهم من الأمم, وكانوا يتباهون بذلك, والغالب يأخذ ما عند الآخرين, ليصوغه بما يناسبه, ويعيد تشكيله بما يتناسب وثقافته, وحاجاته؛ فالعرب حين كانوا أمّة غالبة, أخذوا ما عند الآخرين, ونقلوه إلى لسانهم, وأعادوا صياغته، وتشكيله على ما يناسبهم، ويلائم حاجاتهم, ولا يتناقض مع قيمهم, وتصوّراتهم, في حين أن العرب في الوقت الراهن يأخذهم الآخرون إلى ثقافتهم, ويفرضون عليهم لغاتهم, وليس لهم أن يختاروا, بل عليهم أن يلبسوا ما خِيط لهم وفصِّل, وصنِع بأيدي غيرهم. لم نسمع أن العرب افتتحوا أقسامًا تدرس علوم اليونان باللغة اليونانية, ولا علوم الفرس باللغة الفارسية, ولا علوم الهند باللغات الهندية, وإنّما قاموا بنقل ما احتاجوا إليه من علومهم ودرسوه بلغتهم, فانتدبوا نفرًا منهم قاموا بعملية النقل, ودرِست بلسان عربيٍّ مبينٍ, ولم نسمع أن تلك العلوم تأبّت على الترجمة, ولا استعصت على النقل. ومن كلام للبشير الإبراهيمي: ((قامت اللغة العربية في أقل من نصف قرن بترجمة علوم هذه الأمم ونظمها الاجتماعية وآدابها فوعت الفلسفة بجميع فروعها، و الرياضيات بجميع أصنافها، و الطب و الهندسة والآداب والاجتماع، وهذه هي العلوم التي تقوم عليها الحضارة العقلية في الأمم الغابرة و الحاضرة . وهذا هو التراث العقلي المشاع الذي لا يزال يأخذه الأخير عن الأول، وهذا هو الجزء الضروري في الحياة الذي إما أن تنقله إليك فيكون قوّة فيك، وإما أن تنتقل إليه في لغة غيرك فتكون قوة لغيرك، وقد تفطّن أسلافنا لهذه الدقيقة فنقلوا العلم ولم ينتقلوا إليه))([27]).
ý أسئلة : عن الهويّة، إن الإغراق بالإجابات والأحاديث الفلسفية يسهِم في حجب الحقيقة, وإنّ تبسيط الأمر والدخول إلى عموم المخاطبين من المداخل السهلة أنجح عمل, وأيسر طريق لإيصال الحقيقة, وطرح الأسئلة يقود لإجاباتٍ واضحة.فما الذي تعنيه الهوّيّة؟ لا نريد أن ندخل في تعريفات جدليّة, وفلسفات صورية, وتنظيرات كلامية, بل نريد ربط ذلك بالواقع, فلو قدِمت إلى بلدٍ, فوجدت نفسك لست مضطرًّا إلى لغته، ولست بحاجة إلى تغيير لسانك للتواصل مع الآخرين, ولتتمكّن من تسيير شأنك اليومي, وقضاء حاجاتك بلغة أخرى ، هي لغة ذلك البلد, فهل تعدّ هذا البلد حريصّا على مقوّمات هويّته, أو محافظًا على تلك الهوّيّة؟ إذا وفدت على بلدٍ ولم تكد أذنك تسمع شيئًا من لسان أهله, ولم تشنِّف آذانك بلغته, ولم تلامس أوتار قلبك، ولا مسامعك إيقاعات ذلك اللسان, ولا بيانه المعبّر عنه, في تعاملك معهم، في المسكن, والمتجر, والطريق، والنادي والمقهى, وفي غدوِّك ورواحك, فكيف يكون انطباعك عنه؟ وإذا لم يعلق باستعمالك شيء مما سمِعت, أو لم يسبق إلى لسانك وبيانك شيءٌ من مفردات لغته، وتراكيبها, فضلا عن اكتسابها وتحصيلها, فهل تعدّ هذا البلد ذا هوِّيّة يحرص عليها؟ إذا قدِمت إلى بلدٍ لتعلِّم أبناءه, فلم تجد نفسك مضطرًّا لاستعمال لغتهم, ولا لخطابهم بها, ولا لانتحال طريقتهم في الاتصال, فهل تتصوّر أن لهذا البلد هوّيّة؟ بل كيف يكون تصوّرك له إذا وجدت نفسك في موقف لا يحمل على تغيير لغتك، بل هناك ما يدعوك إلى الاستمرار عليها, والتمسّك بها؛ لأن أبناءه يجارونك إمّا رغبة بمحاكاتك, وإمّا إنفاذًا لنظامٍ يلزمه الدراسة بغير لغته, والداعي للتغيُّر قويّ, لأنك طالب مصلحة، فما ذا أنت قائل والحالة هذه؟ فإذا كنت تذهب إلى المتجر ويوافيك التاجر أو البائع بفاتورة كتبت بغير لغة البلد, وليس أمامه خيار غيره, فماذا أنت قائل عن هوّيّته؟ إذا زرت بلدًا فلم تجد في مطاراته ولا في أسواقه, ولا متاجره, ولا فنادقه, ولا مطاعمه من يخاطبك بلغة البلد الأصليّة, فهل تجد في نفسك أن لهذا البلد هوِّيّة؟ إذا جئت لبلدٍ أو نظر إليك أهله أو بعضهم أو من تقابله منهم نظرة ليس فيها الرضا والاحترام والتقدير؛ لأنّك تتكلّم لسانك ولسانهم ولا ترطن رطانة الأجانب, فماذا أنت قائل عن هوِّيّته؟ وإذا كان العامل الوافد يشعر أنّ بإمكانه أن يعمل في هذا البلد سنين عددًا, وهو ليس مضطرًّا بل ليس بحاجةٍ إلى أن يتعلّم لغة هذا البلد كي يتواصل بها؛ لأنّ المجتمع سيتعلّم لغته؛ ليتواصل معه, وليس مضطرًّا للتواصل بلغة المواطن, بل المواطن مضطرٌّ أو ملزَمٌ بالتواصل بلغته, فماذا تقول عن هوِّيّته؟ إذا أتيت إلى بلدٍ ورأيت مواطنه يشعر بعجز لغته القوميّة عن إدارة حياته, وأنّه مضطرٌّ لكي يدير حياته, ويسير أموره كما ينبغي إلى تعلّم وسيلة اتصال أخرى فماذا نقول عن هذا البلد؟ هذه أسئلة, ومثلها كثير, الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تغني عن كلام كثيرٍ في شرح الهوّيّة.
*******
ولسائلٍ أن يسأل هل يمكن لنا أن نتلمّس من داخل البيئة اللغويّة أسبابًا أو مظاهر تسهم في إضعاف أثر اللغة في تكوين هويّتنا العربية، لنقول:
لا يمكن لنا في هذه المقالة أن نأتي على كثير من الأسباب التي تضعف اللغة العربية في كونها عاملا من عوامل تكوين الهوِّيّة؛ فمن المعلوم أن هناك سننًا في العمران البشري, والحياة البشريّة, من نحو ما ذكره ابن خلدون من تقليد المغلوب للغالب, كما أن هناك ظروفًا ومحيطًا يحيط بالدول العربية, يؤثِّر فيها, مثل الوضع الاستعماري, الذي رزحت تحته البلاد العربية, وبقيت آثاره بعد خروج الاستعمار, والظروف الاقتصادية, وظروف أخرى كثيرة, منها الداخلي, ومنها الخارجي, ولن يكون بوسعنا إلا الحديث عن عوامل من داخل الدرس اللغوي العربي, ومنها:
********
رابعـــًا: التصورات والمفاهيم:
لا يمكن أن نتحدّث في هذه المقالة عن كلّ تصوّر أو مفهوم, نظنّ أنّه بحاجة إلى المراجعة, والحوار ولعلّ من الجائز أن نأخذ منها ثلاثة، وهي حقيقة الفصحى, وتعدّد المستويات اللغوية, والعلاقة بين ما يسمّى الفصحى والعاميّات.
- 1اللغة العربية بناء تراكميّ دخل في تكوينه عوامل كثيرة، منها ما يعود إلى طبيعة اللغة العربية، ومراحلها التي مرّت بها في تكويناتها الأولى واللاحقة، ومنها ما يعود إلى تدوين نصوصها ومصادرها الأولى، ووضع علومها وتصنيفها، وكيف تعامل علماء العربية مع النصوص العربية من أجل أن يخلصوا إلى قوانين يصنعون من خلالها نموذجًا لغويًّا، يكون مقياسًا لمعرفة الصواب والخطأ، وما يحسن وما لا يحسن، وليكون جهازًا رقابيًّا يتتبّع به المتكلّم بالعربية ومستعملها، كما يسترشد به ويوجِّه سلوكه اللغويَّ، وفق قواعد وقوانين منضبطة، قد تبنى على منطق مقبول وقد لا تبنى؛ فعلماء العربية قاموا بتعميم بعض الظواهر اللهجيّة الخاصّة، وجعلوها قوانين لغويّة عامّة لكلّ متكلّم باللغة أن يستعملها، وبالمقابل قاموا هم أو غيرهم ممّن استوحى فعلهم، فاستبعدوا بعض الظواهر التي لها حكم العموم والاطّراد من كلام الفصحاء، واستبدلوا بها ظواهر عامّة أخرى، بمعنى أنّهم اختاروا من الظواهر العامّة المتقابلة ما رأوها وجهًا جديرًا بأن يكون هو المستعمل والمختار من اللغة خاصة في جانب الأداء الصوتي، وكان هذا ظاهرًا في تصنيف متون النحو. كما أنّهم توسّعوا في القياس حتّى إنّ القياس ليغيِّب المسموع أحيانًا، والقياس ما دام في مصلحة التوسعة والتيسير لا ضير منه، وإنما يصير موضع نظر إذا استبعِدت به أنماط لغويّة، كان بالإمكان توجيهها والإفادة منها في تحقيق مرونة لغوية. ولو كانت اللغة بهذا الوضع فلماذا يتعيَّن الإلزام بها، وبنمطٍ واحد، لا يجوز لمن سما لأن يحشر في زمرة الفصحاء وأرباب البيان، أن يتجاوزه، وليس له أن ينتحل صورًا من الأداء، ولو كانت ممّا يتعاوره فصحاء العرب؟
واللغة المنطوقة لغة متحولة سريعة التغير، لا تكاد تثبت على حال، بخلاف اللغة المكتوبة التي تقف في طريق التغير الذي يلحق لغة الكلام « بما فيها من صواب قد ضبطته معيارية دقيقة، تقف في وجه التغير السريع الذي هو طبيعة اللغة المنطوقة، ولها فائدة في تحسين وسائل الاتصال وصبغ اللغة المنطوقة بصبغة أدبية مشتركة »([28]) .
وعلم اللغة الحديث يتوقع مستقبلًا للغة المنطوقة، يقول ماريوباي: « والمستقبل يوحي بأنه سيعنى باللغة المنطوقة بصورةٍ ما، وهي ستسهم بإيجاد لغةٍ أدبية منطوقة إلى حدٍّ ما، وهذا يعني تقريب المنطوقة (العاميات) من اللغة المكتوبة »([29]) . كما يقرر حقيقة «أن لغة الحديث هي أهم وسائل الاتصال الإنساني ، وأوسعها انتشارًا، ومتوسط ما ينتجه الإنسان من حديث أكثر مما ينتجه من كلام مكتوبٍ، وإيماءات، وإشاراتٍ، ولهذا فإنه من السائغ للغوي ( Linguist ) على عكس دارس فقه اللغة ( Philologist ) أن يهتم أولًا باللغة المنطوقة، ثم ثانيًا باللغة المكتوبة ( باعتبارها إلى حدٍّ كبير أو صغير - تمثيلًا صادقًا للغة المنطوقة([30]) ... » .
إن اللغة المنطوقة المتكلمة تختلف عنها اللغة المكتوبة في قواعدها ، واستعمالاتها، وميادينها؛ إذ اللغة المكتوبة تمثل عددًا من اللهجات واللغات المتكلمة داخل هذه اللغة، على حين تجنح المنطوقة إلى الابتعاد عن المثل الأعلى الذي تحتذيه اللغة المكتوبة ( المشتركة ) وهي - أي : اللغة المكتوبة - تتأثر باللغة المتكلمة من أوجه متعددة .
واللغة المتكلمة (أي: المنطوقة) تعنى برءوس الأفكار، دون أدوات الربط التي تربط بينها, اكتفاءً بدلالات صوتية أخرى، أو ذهنية ، أو أعمال أخرى كالإشارة .
وتمتاز اللغة المكتوبة بإمكانية توسيع رقعتها بخلاف المنطوقة التي لا يمكن مدُّ رقعتها, إلا في نطاقٍ محدودٍ، على حين تمتاز المنطوقة بالسهولة؛ إذ تستخدم أبسط وسائل التعبير اللغوي في الأصوات، والبنية، والتراكيب، ودلالة المفردات، وتتخلى عن كثير من القواعد المنضبطة في ذلك كله. كما تمتاز المكتوبة بإمكانية التنقية والتصحيح، بخلاف اللغة المنطوقة التي لا يستطاع فيها ذلك ؛ لصعوبة الإحاطة بها , وصعوبة السيطرة على حركتها, وتغيُّراتها.
- 2.تعدّد مستوى الدرس اللغويّ: مما لا يؤمن به مدرّسو اللغة العربية, وأساتيذها, والمعنيّون بشأنها, على الرغم من تقسيم اللغة إلى منطوق ومكتوب, ففي حين نجد تعدّدًا في الدرس اللغوي في اللغات الأخرى لا نجد إلا نمطًا واحدًا لدى معلمي اللغة العربية، وغاب عنهم أنّ اللغة من مشتركات الحياة؛ إذ الناس بل مستعملوها فيها على درجة سواء من ناحية الإتاحة، ولكلٍّ منهم أن يتعلّم منها حسب حاجته، وأن يكتسب منها حسب طاقته، ولأهل اللغة كما لطلابها تلمّس الحاجة والطاقة، وفي اللغة ثلاثة مستويات، كما أسلفنا، وليس مستوًى واحدًا كما هو جارٍ في درس العربية :
المستوى الأوّل : مستوًى أدبيّ يوظّف اللغة توظيفًا خاصًّا ، ويجنح إلى التسامي فوق اللغة العاديّة، في أنظمتها المختلفة من بنية وتركيب، ومن خروج في معانيها عن مقتضى الظاهر. ومن خروج دلالة ألفاظها من حقلٍ دلالي إلى حقل دلالي آخر، ويتمثّل هذا المستوى في الشعر والخطابة، والكتابات الأدبية، وكلّ ما يقصد به إلى الجمع بين جودة المعنى ، وجودة العبارة، ويوظف إمكانات اللغة والخيال، وقدرات أخرى.وهذا المستوى له طلابه ، وهم من نوعٍ خاصٍّ، وليسوا كلّ الأنواع والفئات، وهذا النوع أعلى المستويات وأرفعها، ولغة هذا المستوى قابلة للمراجعة والتصحيح والتنقيح، لتخرج بصورة تلائم مستواها التداولي.
المستوى الثاني: وهو مستوًى تداوليٌّ، لا يحتاج إلا أساسيات اللغة في مفرداتها التي توظّف في معانيها الوضعية غالبًا، كما لا يحتاج إلى كثير ممّا يرد في كتب النحو من قواعد فرعية، وخلاف، ومعانٍ، كما أن من يكتب بهذا المستوى أو يتحدّث ليس بحاجة لأن يوظِّف إمكانات اللغة التي تخرج عن القياس والمطّرد، وما تدعو إليه ضرورة الإبداع. وطلاّب هذا النوع لا بدَّ من تحديد حاجاتهم ، ولا بدَّ من الرأفة بهم، وعدم تكليفهم ما لا يحتاجون، والاكتفاء بالحدِّ الأدنى من الكفايات اللغويّة، ذات الصبغة العملية، وبإمكانهم توظيفها في استعمالهم اللغويِّ.ومن هذه الفئة طلاّب الأقسام في العلوم الطبيعية والطبية، والعلوم الأخرى.
المستوى الثالث: المستوى التواصلي الذي يقال في مقام خاص، يؤدّي غرضًا آنيًّا محدودًا بالزمان والمكان وأطراف الخطاب، ولا يجري عليه التدوين في الغالب؛ لعدم الحاجة إلى تدوينه، ثم هو لا يصلح للتداول فيما بعد، وهو معظم كلام البشر وأكثره ، ولو قيل 99% من الكلام وما يدور من لغة وحديث وحوار هو من هذا المستوى، بل كلّ ما يجري على الألسنة من حديث المجالس والفكاهة والطرفة، بل لغة المدرِّس في فصله من هذا المستوى، ولا يرقى إلى المستوى التداولي، وهو بحكم آنيّته يتطلّب شيئًا من اليسر، والسهولة، والاقتصاد، ولا يلتزم بقواعد النحو القياسية بقدر ما يلتزمه من نجاح في الأداء والفائدة، ثم هو مستوًى يتميّز بالأخذ في الترخصات، وأن الكلام فيه تغلب عليه العفوية، ثمّ هو يمثِّل كلام الناس العفويَّ، وكلامهم الفطريّ على سجيّتِهم، دون تكلُّف؛ فالمتكلّم يهمّه أن يتواصل مع الآخرين، وأن يفهم ما يريد، باقتصاد وجهدٍ قليلٍ، وبأخصر طريق، وأيسر سبيلٍ. وأن بعضه يؤدَّى بالصوت وبعضه يؤدّى بوسيلة دلالية أخرى غير لغويّة، مثل الإشارة وحركات العين، وأخيرًا هو مستوًى يراعي المقام، ولا يتكلّف كالمستوى التداوليّ، ولو أريد نقله للمستوى التداولي لتعيّنت صياغته صياغةً جديدة مناسبة, وقد أسلفنا الحديث عنه.
وهذا التنوّع ما بين مكتوبة ومنطوقة, وما بين مستوًى ومستوًى لابدَّ من مراعاته حين نخطّط برامج اللغة العربية, ونضع مكوِّنات المقرّرات الدراسية, وفق هذا التنوّع, وأن نتخلّص من العمل السائد, وهو مراعاة مستوًى واحد, لأن لغة كلِّ نوعٍ, ولغة كلِّ مستوًى تصحّ في مجالها وميدانها, والتزام مستوًى واحد, أضرّ بتعليمنا, ويمكن أن ننظر في حال من يتعلّمون العربية من غير العرب, إذا نزلوا للشارع, واختلطوا بالناس, وتندّروا عليهم, وقالوا لهم: أنتم تتكلّمون لغة الكتاب.
- 3.العلاقة بين العاميّة وما يسمّى الفصحى:
إنّنا لو نظرنا إلى واقع العرب، وكيفيّة أدائهم للعربيّة لوجدنا أنّ الخلاف بينهم ليس اختلاف تراكيب، أو ألفاظ (مفردات). صحيح أنّه قد يقع خلافٌ في استعمال المفردات من بيئةٍ لأخرى، لكن هل يؤثّر هذا في الوحدة اللغويّة؟ إنّه منذ القدم ما يزال العرب يختلفون في طريقة الأداء بين إمالةٍ وتفخيم، وإشباعٍ وقصر، وتفخيم وترقيق، غير أنّ هذا لم يكن حائلًا أبدًا بين العرب والوحدة اللُّغويّة، إنّنا نعدُّهم رغم ذلك متَّحدَيّ اللُّغة .
إنّنا لا نستطيع أن نسم ما يجري بين الفصحى والعاميّات بأنّه صراعٌ، وإنّما هو شذوذٌ، وخروجٌ عن الأصل، لا يصعب على الناظر معرفته، ولا مقاومته، ولا إصلاحه، ولا رَدُّه إلى وجه الصواب والجادّة؛ لأنَّ اللغة الموحدة ما زالتْ حَيَّةً في حياتنا الثقافية، وفي كتابتنا، وفي مظاهر الرقيّ والتقدُّم، وهي عنوان الثقافة والعلم، والحاجة إليها قائمة؛ لأنّها من أهمّ أسس تحقيق هويّتنا، غير أنّنا بحاجةٍ إلى شيءٍ من الجهد، ودعم القرار بقرارٍ سياسـيّ، تتمثّله قدوةٌ حَيَّةٌ ذات تأثيرٍ على الجماهير الشعبية .
((يجدر تجنّب إقحام الفصحى في صراع عقيم مع اللهجات المحلية, مما هو على شاكلة صراع الأم مع أبنائها, بل إن الفصحى لغة الثقافة والعلم والامتياز والتفكير, واللهجات هي نتاج تاريخي ثقافي تقليدي, لا يضرّ طالما لم يفرض كبديل عن اللغة الأم, ولم يأخذ مكان اللغة الوالدة صاحبة الفصل. وكما أن العصبية مرفوضة، فإنّ التفريط في اللغة العربية غير مقبول على الإطلاق)).([31]) ويحسن أن أنبِّه إلى أمرين:
أولهما : أنّ العاميّة هي المنطلق الذي بسببه نتذوّق اللغة الفصحى، واللغة بدون ذوقٍ ثقيلة وخيمة، فمن تكلّم العامية استطاع تذوق ألفاظها(أي الفصحى) وتراكيبها ، ومعانيها، وأحسّ بجرسها وإيقاعها، ومردّ هذا أنّ الفصحى والعامية في أصلهما شيءٌ واحد، وهذا الذوقُ لا يحسُّ به من تعلّم لغةً أجنبيَّةً، وفي هذا رَدٌّ على الذين يعدُّون العربيّة الفصحى لغة ميّتةً، ناسين امتدادها في الحياة من خلال العامية التي لا يلبث متحدِّثها أن يئوبَ إلى لغته الأصلية بشيءٍ من التعليم والتوجيه والمجاهدة .
ثانيهما: أنّ أيَّ لغة ذات مستويات مختلفة، ما بين لغة كتاب، ولغة خطابٍ وحوارٍ، ولغة أدبيّة، ولغة علميّة، ولغات لفئاتٍ مختلفة في قدراتها البيانية، ومكانتها العلمية أو الاجتماعية، هذا شيءٌ لا تخرج عنه العربية، وبعض هذه المستويات ينحلُّ من كثيرٍ من ضوابط الفصحى وقواعدها، ويتسامح فيه خاصَّةً مقام لغة الخطاب اليوميّ، والحياة اليوميّة، ولعلّ أقرب ما نمثِّل به مما يقال عنه الفصحى لغة الأمثال التي لا تتوافق مع قوانين اللغة المطردة؛ حتّى الأمثال العربية الفصيحة سمتها الخروج عن القواعد، حتّى إذا أعياهم تركيب قالوا : لغةُ أمثال ، أو هذا مثل, أو جرى مجرى المثل. وقد سبق ابن فارس إلى تقسيم كلام العرب إلى ثلاثة مستويات، فقال: (( الكلام ثلاثة أضرب: ضربٌ يشترك فيه العلية والدُّونُ, وذلك أدنى منازل القول, وضربٌ هو الوحشيُّ, كان طباع قومٍ فذهب بذهابهم, وبين هذين ضربٌ لم ينزل نزولَ الأوّل, ولا ارتفع ارتفاع الثاني, وهو أحسن الثلاثة في السماع, وألذُّها على الأفواه, وأزينها في الخطابة, وأعذبها في القريض, وأدلّها على معرفة من يختارها, وإنّما ألّفت كتابي هذا على الطريقة المثلى والرتبة الوسطى)).([32])
ومن الواقعية أن نقرر أن كلًا من الفصحى والعاميات الدارجة تصح في مجالها، فغير مقبول تكلف الفصحى في مجالات العامية، كما أنه من غير المقبول إقحام العامية في مجالات لغة الأدب والعلوم، والخاصة من العلماء والمسئولين، وذوي الفكر والنباهة، والمكانة الاجتماعية إلا في المقام التواصلي؛ فمثل هذا العمل سائغ فيه. واللغة العربية الفصحى لا يضارها كثيرًا قيام لهجات محلية أو لغة خطاب يومي دارجة، يتداولها العامة، وتقضي بها شئون الحياة اليومية، وإن كان ببينها نوع اختلاف, أذكر أننا لمّا كنّا ندرس في المرحلة الجامعية في الرياض, وكنا في الفصل خليطًا من مناطق المملكة, وغيرها, ومن جهات متباعدة, مختلفة اللهجات, وكانت بعض المجموعات الآتية من بعض المناطق، إذا تحدّثوا فيما بينهم لا نكاد ندرك شيئًا مما يقولون, وإذا تحدّثوا معنا فهمناهم وفهموا عنا بلا مشقة, وهذا يذكر بحديث رسول الله r : أنه كانت تأتيه وفود الأعراب فيكلّمهم بكلام لا يفقهه من حوله من أصحابه, يقول د. محمد محمد حسين: « وكل دارس للغات والمجتمعات يعرف أن ما يسمونه ( الازدواج ) في المراوحة بين استعمال الفصحى والعامية الذي يزعمونه ظاهرة فريدة خصت به اللغة العربية دون اللغات ، وهو ظاهرة بشرية، تشمل كل اللغات: قديمها وحديثها، لهما جميعًا لغة متأنقة دقيقة للفكر وللأدب، ولها لغة أخرى أقل دقة وجمالًا، وأدنى درجة ووقارًا، للتعامل اليومي، وهي لغة متحولة متغيرة»([33]) .
********
خـامسـًا: ممارسات حول اللغة العربية:
- vالإفراط في المحافظة وادّعاء الغيرة:
من غير المقبول ((أن تبقى اللغة العربية سجينة الماضي التليد, ترضع من بقاياه,وتترقّب ثمرة لم تزرع لها بذرة؛ فاللغة العربية تحتاج أن تقتحم الميدان بكل ثقة ومسئولية وانفتاح, والتطوير يحتاج اتخاذ قرارات صعبة مريرة. كما يتخذ الصقر قراره بكسر مخالبه, ونتف ريشه, وكسر منقاره القديم, كي يتيسّر له التجدّد ومضاعفة أمله في الحياة؛ إن ما يسمّى "المحافظة"كثيرًا, ما يكون سببًا للموت البطيء)).([34] )
غالب من يحمل اللغة العربية, ويقدِّمها للمجتمع فئة رأت تعليمها صنعة ومهنة, تقتات منها, وتعول أولادها, وهذا أمر ضروري, لكن لا يجوز الوقوف عنده, والاقتصار عليه, وقلّ أن نجد بينهم من يحمل همًّا, ولديه سعة أفق, ونظرة استشرافية, يربط اللغة بالحياة, ونشاط المجتمع, يراها مسئولية, وتكليفًا, لا تشريفًا؛ فغالب معلمي اللغة ليس لديهم أكثر من درس أبنية الكلم الصرفية، وإعرابها, يردِّد من الأبنية في أحيانٍ كثيرة ما لا وجود له في العربية إلا من خلال أمثلته المكرورة في كتب الصرف, ويردِّد في الإعراب الأعاريب الأربعة: رفع, ونصب, وجرٍّ, وجزم, وهي أحوال آخر الكلم المتغيّرة, وخامسها البناء, وهو لزوم حالة واحدة؛ فكلّ همّه ضبط أواخر الكلم, وتصحيح الإعراب, وتتبع اللحن, وتصيّد الأخطاء, وتفسير الكلمات تفسيرًا معجميًّا, وهم بمعزلٍ عن التفكير في فلسفة اللغة, وأبعادها النفسية والاجتماعية, وعلاقتها بالاقتصاد والسياسة, وسائر مناشط الحياة,. بل يغلو هؤلاء المحافظون, فيرفضون ما سمِّي باللغة الوسيطة أو الثالثة في حوار المثقفين وتخاطبهم, وإدارة اللقاءات والحوارات العلمية, التي تبحث في الأمور العامة, وشئون المجتمع, واهتمامات الأفراد, وقضايا العلم, ومواجهة الجمهور, والأنشطة المنبرية المتنوّعة, وغيرها. فقلّ أن يفكّروا في الحدِّ الأدنى في تعليم اللغات المهارات اللغويّة من حوار وخطاب, ومحادثة واستماع, وإلقاء وإنشاد, وقراءة وكتابة, وتواصل واتصال, يؤدّون درسهم ببرود لا نفس فيها ولا روح, ولا ماء ولا حياة, يمرّون عليه ثقيلا عليهم وعلى طلابهم, لديهم مسائل يتحفّظونها, ويعيدونها على مسامع طلابهم, وعلى الطالب أن يفعل ما فعل شيخه، يحفظ ويكتب في ورقة الامتحان ما حفظ.
قصارى ما يبلغه أستاذ اللغة العربية ومعلِّمها أن يكون لديه مهارات, وهذا في عالم اللغة لا يكفي, ولا بدَّ أن يكون لدينا من حملة العربية من هم قادرون على التفكير العلمي, وتفعيل دورها في تكوين الهوّيّة؛ لأن الحفظ عملية يستطيع التلميذ أن يقوم بها من دون معلِّم, أمّا المهارة فتحتاج إلى ممارسة وتكرار واعٍ, ليمرّ العمل بهذه المراحل: معاناة، فممارسة, فعادة, فسليقة, وهي بحاجة إلى اعتياد الدّقّة في الأداء, والالتزام, والانضباط, والانتباه, والتركيز, وقد يكون لدينا من يتقن مهارات اللغة, غير أنّه خلوٌ من التفكير في اللغة, وهؤلاء مهنيّون مهرة, ونحن نحتاج إلى جانب هؤلاء, مع أهمّيّتهم, إلى مفكِّرين يحيلون اللغة إلى فكر فاعل, مؤثِّر.
ويغلب على فئة معلمي العربية غموض الهدف أو غيابه لديها، وأول أسباب النجاح وضوح الأهداف، وواقعيّتها، وقابليّتها للقياس، ومن أول معايير الجودة وضوح الهدف. التفريق بين من يطلب المعرفة اللغوية ، وبين من يطلب المهارات اللغوية، وتنوع الدرس حسب الفئات؛ فالدرس عند معظم معلمي العربية وأساتذتها واحد ، وفي الغالب يعتمد قراءة نصّ تراثيّ ، أو إذا أحسنّا الظنّ شرح نصٍّ تراثيّ، وهذا على الرغم من جلالته وقيمته ليس بالضرورة صالحًا لجميع الفئات التي تدرس العربية.
وقد ترتّب على هذا أن نشأ جيل بل أجيال ليس لديهم إلمام أو تصوّر للقضيّة أو المسألة اللغويّة؛ إذ يختزلونها في الجانب التعليمي, ولا يريدون إقحام أنفسهم في قضايا اللغة الإستراتيجية, رضوا أو قنعوا أن يقتصروا على الجانب السهل, وينأوا بأنفسهم عمّا هو مستوعر من شأنها؛ (( تجنّبًا للخوض في المناطق الحسّاسة, التي تتداخل فيها قضايا اللغة العربية مع القضايا الاجتماعية, وأمورنا الدينية, وسياساتنا الوطنية, والقوميّة, {وهو} حديث لا يروق للحرس القديم من سدنة اللغة العربية التقليديين، من حيث فحواه، ونبرته، بل ربما من حيث الهدف ...)). ([35]) ((ثمّ إن مجتمع المعرفة يحتاج لمحتوى مكتوب, سمعي وبصري باللغة العربية, يتمّ نشره على شبكة المعلومات, ويكون ذلك بكم وبجودة, يليقان بلغة كانت في وقت مضى مرجعًا للحضارات الإنسانية, وعلى سبيل المثال لا الحصر, يمكن الإشارة إلى أن المشاركة بالعربية في موسوعة"ويكبيديا"ما زالت محتشمة رغم تحسُّنها الملحوظ، في السنوات القليلة الماضية, كذلك نحن بحاجة لمراجع رقمية في ترجمة المصطلحات العلمية بالتوافق بين المشرق والمغرب كي تعمّ الفائدة)).[36]
أهداف التربية في العصر الحديث أربعة : ((تعلّم لتعرف، تعلّم لتعمل، تعلّم لتكون، تعلّم لتشارك الآخرين)).([37]) والعربية ليست بمنأًى عن هذه الأهداف، بل هي الأقرب, والأولى؛ لأنها وإن كان فيها تخصّص, داخلة في برامج الإعداد العام, والمهارات المشتركة.
ومن مشاركة الآخرين تنمية مهارات الحوار مع الآخر (بالاهتمام بتنمية مهارات التواصل، والتفاوض الثقافي، وتنمية القدرة على الإقناع، وهندسة الحوار، وإبرام الصفقات المتوازية)([38])؛ (إذ يشكو معظم طلابنا من ضمور مهارات التواصل اللغويّ الأربع: القراءة، والكتابة، والشفاهة، والاستماع، نتيجة لآفة التلقِّي السلبي التي تعاني منها أنظمة التعليم لدينا، ويحتاج هذا من التربويين ومعلمي العربية ومنظِّميها تغييرًا جوهريًّا في تعليم العربية وأنماط تقديم المادة التعليمية، بحيث لا تقتصر على أسلوب المحاضرة بل تشمل أساليب جذّابة توظّف أساليب التعلّم المختلفة وتنوِّع بين الأساليب التقليدية والندوات وحلقات النقاش،وغيرها من مستنتجات العصر والتربية).([39] ) . والذي يشعر أن لغته لا تسعفه في هذه الأعمال, أو لا تستجيب له, أو يكون لديه إحساس أنه مهما حاول الصواب في كلامه, ومهما حاول تحسين أدائه فلن يتحسّن, وأنه لو تكلّم بلغة المتعلّمين أو المثقّفين السائدة, المسمّاة لدى البعض باللغة الثالثة, أو بعامية منقّحة, فمثل هذا لا يمكن أن يتكوّن لديه انتماء واعتزاز بها, ولذلك كان لا بدّ من مراجعة أشياء كثيرة لدينا, في المنهج, وإعداد المعلِّم, والتصوّرات, وغيرها.
- vكيفية الوصول إلى عقل الطالب وقلبه: هل الوصول إلى عقل الطالب ووجدانه وقلبه مطلب أو أولويّة لمن يقوم بأمانة العربية؟ يترتّب على الإغراق في المحافظة, والغيرة الشديدة تقليص فرص الوصول إلى عقل التلميذ, ووجدانه, حتّى يشعر الطالب وهو يتلقّى درس اللغة العربية بأنه يتلقّى شيئًا لا صلة له به, بل يتلقّى شيئًا غريبًا عنه، في حين كان المفترض أن يكون درسها مؤنسًا للطالب, قريبًا منه, يأتي المدرِّس يقرِّر قواعد النحو, ويضرب أمثلتها التي فقدت الروح, والتأثير من كثرة تردادها, وابتذلها الطالب, وهي أمثلة منتزعة في الغالب من عمق التاريخ, لا تميز بين من يعيش في سكك البصرة, وخطط الكوفة, ومرابع البادية, وبين من يعيش عصر التكنولوجيا, وأدوات الاتصال المتطوّرة. كان عليه أن يغرس فيه ذوقها ليغرس عشقها وحبّها, وكان الجدير بالأستاذ أن يربط درس العربية, وعلى الأخص نحوها بواقع الطالب, إذ من المسلّم أنّه ليس هناك لغة مهما أغرقت في البدائية, ولا لهجة مهما انحرفت عن أصلها, إلا ولها نظامها, والنحو متغلغل في ألفاظها, في أداء المعاني, والتعبير عن المقاصد, فلو أن الأستاذ ربط درس اللغة بحياته, وقال لهم: النداء, والاستفهام, والأمر والنهي, معانٍ نحويّة, ومثّل لها من لغته اليومية, فهل هناك من يخطئ في النداء, أو الاستفهام, وهل يعجز متكلِّم عن إصدار أمر أو نهي, وهل يتلجلج في ذلك وهما بما فيهما من نزعة التسلّط, وهي نزعة إنسانية, لا يتخلّى عنها الإنسان إلا للعجز. فهل دخل معلم العربية إلى قلب الطالب هذا المدخل, فضلا عن إعمال الذوق في درس العربية, والذوق يفعل ما لا يفعل غيره في إذكاء تفاعل الدارس, وتنمية استجابته, واستثارة مكامن الاستعداد والقدرات, وتوظيفها مجتمعة في معرفة حيّةٍ تستجيب وتؤثِّر. فكل ما لدينا في درس العربية أنماط رتيبة, وأداء يتوارثه اللاحق عن السابق, غير قابل للتجديد والإنماء,والتحوّل، فدرس العربية كغيره من الدروس, وإن كان المأمول منه أكبر, كما يتقوقع على نفسه، في حين أنه كان من واجبه أن يتغلغل في جميع المقرّرات.
فكيف نأمل ممّن لم تكن علاقته مع العربية حميمية أن يتبنّاها, وأن يدعو إليها, ومثل هذا السؤال جدير أن يوجّه لأساتذة اللغة العربية, فمن كان طالبًا في الطب أو الهندسة, أو العلوم ماذا سيكون شعوره تجاه العربية إذا كان لديه ذكريات سيّئة عن العربية ودرسها, أو شعر أنّها لا تفيد, ولا تعدو إضاعة وقت, كيف نتوقّع منه أن يدعو إلى تدريس العلوم بالعربية, أم كيف نقنعه بجدارة العربية لهذا؟! أم كيف نغرس فيه روح الانتماء والاعتزاز بهذه اللغة, وقدرتها لتكون لغة حياة, وإبداع, لغة ماضٍ، ولغة حاضر, ولغة مستقبل ؟! أسئلة من هذا الباب يمكن أن تثار, وقد تجد الإجابة، أو لا تجدها.
- vالعربية مادّة كسائر الموادّ:
اختزلت العربية في برامجنا الدراسية, لتكون مادّة مقرّرة, حكمها حكم أيِّ مادّة يدرسها الطالب في المراحل المختلفة, عليه أن يستوعب مقرّرها ولو لفترة محدودة, تنتهي بتسليم ورقة الاختبار, ومغادرة قاعة الامتحان, وكان من حقّها أن تكون ممارسة لا ينفكّ عنها الطالب في جميع مراحله, وفي مناشط حياته المختلفة, وفي دراسته للمقررات التي يقرؤها بهذه اللغة, ويطبِّق فيها قوانينها, ويقوِّي بالممارسة مهاراته, لتكون هذه المقرّرات إضافة لدرسه النظري في العربية.
ليس المقصود أن يتكلّم كل معلِّم وأستاذ في محاضرته عن أهمّيّة اللغة, وضرورة إتقانها, وقيمة من يتقنها, إن هذا تبسيط للأمور, إنما المقصود أن يجعل في حسِّ كل معلِّم تعميق جذور الهويّة من خلال الممارسات اللغويّة في المقرّر, وجعل اللغة جزءًا من كلّ مقرّر, وإن لم تنصّ مفردات المادّة على جزءٍ خاصٍّ للعربيّة, ويمكن أن يمُارَسَ في كلِّ درسٍ أمور مهارية لغويّة, كثيرة ابتداءً من الرسم, إلى المفردات, ودلالتها, إلى التراكيب، إلى الكتابة, وشكليّاتها من تقسيم للنصِّ, ووضع علامات الترقيم, إلى استيعاب المقروء, والقدرة على وضع عنوان رئيسيّ, وعناوين للمواضيع الجزئيّة, مع ممارسة ربط الجمل في الكلام, بعضها ببعض, وتذوّق النصوص, وإلقائها, ومحاكاتها, وتمثّل دور أصحابها وشخصيتّهم, وغير هذا من الممارسات التي يمكن أن تجري في كلِّ درس ومقرّر.
صحيح , أن هذا يتطلّب عملا تربويًّا يستدعي كثيرًا من الجهود, وإعادة التأهيل, وبناء قيم تربوية جديدة, ولكنه ضرورة لنجعل من لغتنا العربية جذرًا حقيقيًّا لهوّيّتنا, كما يتطلّب تغيير كثير من المفاهيم والتصورات عن اللغة ودرسها, ويمكن أن تتطلّب أشياء أخرى, المهمّ هو أن نعمل لهذه اللغة شيئًا ما.
*********
- vمعلمو اللغة العربية:
أساتذة اللغة العربية, أو معلّموها هم الأساس لكل ما ينتج عن مقرراتها وموادّها, إن أحسنوا حسنت النتائج, وإن أساءوا ساءت النتائج, ولا قيمة لأيِّ إصلاح, أو تطوير للمقرّرات, والمناهج ما دام أن الإصلاح لم يخاطب المعلّم, ولم يتّجه إليه, المعلّم الناجح يستطيع أن يجعل من المنهج والمقرّر مهما ضعف شيئًا, وأن يجعل له آثرًا تربويًّا, وإن كثيرًا من البرامج الجيِّدة, لم تؤتِ الثمرة المرجوّة, بسبب العنصر البشري, الذي يقدِّمها ويتولاها, ومهما تحدّثنا عن أهمية المعلّم فلا يمكن لنا أن نفيه حقَّه, وعلى الأقلِّ يجب أن يكون مقدِّم اللغة العربية, متحلِّيًا بالصفات الآتية:
- أ-تكوين فلسفي جيّد, في الكفايات اللغوية, والتربوية, والفكرية, تجعل الأهداف لديه واضحة, ولديه رؤية واقعية ذات طموح ملائم، ويحمل رسالة قابلة للتنفيذ.
- ب-تأهيل لغويّ كافٍ من خلال برامج الإعداد التي تؤهِّله للعمل في هذا المجال, ومن خلال برامج إعادة التأهيل, والتدريب المتواصل للعاملين في هذا الحقل وهم على رأس العمل, على أن يكون كلّما أمضى المعلّم فترة ما في العمل, وبعد كل مدّة من سنوات العمل.
- ت-تأهيل تربوي جيِّد يؤهِّله لاستخدام الوسائل التربوية والتعليمية التقليدية, والحديثة بما فيها من تقنيات وحاسوب.
- ث-مهارات لغوية عالية, وكافية لأداء عمله على الوجه الأفضل.
- ج-تكوين علاقة تكامل بين مقررات اللغة العربية من جهة, ومن جهة أخرى تكوين علاقة بين اللغة العربية والعلوم الأخرى من جهة أخرى, وبناء علاقة تكامل بين معلمي اللغة العربية, وغيرهم من المعلِّمين.
- ح-تهيئة بيئة عمل مناسبة.
وهذه أمور ومقترحات عامة, لا مجال للتفصيل فيها في هذا المقام.
***********
- vمناهج اللغة العربية:
الحديث عن المناهج لا جديد فيه, غير أن يحسن الإشارة إلى ما يقوله أصحابها، فالأصل أن منهاج اللغة العربية ((يوفر للمتعلم فرصاً شتى من خلال ما يتضمنه من محتوى وأنشطة وخبرات، يلمس فيها المتعلم سعة لغته، ودقتها، وتفرد أنظمتها، وجمالها، وطاقاتها التعبيرية، وإمكاناتها التصويرية، ويتيح له مواقف متنوعة تمكّنه من التعبير عن أفكاره، ومشاعره، وتجاربه، وآماله، وآلامه، والاتصال بغيره من أبناء مجتمعه، ويمكنه من امتلاك مهارات التفكير والتعلم الذاتي، ويشده إلى قومه من خلال الأدب المعبّر الموحي، الذي يشاركه فيه أبناء الوطن العربي الكبير؛ فيشعر بأواصر القربى التي تجمعه بهم، وتتكون لديه صورة واضحة لهويته المتميزة))([40]).
ولو التزمنا هذا لكانت النتيجة أن أحدثنا تغييرًا في نتاج درس العربية, وبنينا علاقة جيِّدة بينها وبين الطالب, يقول عبد الله بن مسلم الهاشمي((إن منهاج الّلغة العربية حين يوجه جهوده نحو إكساب الناشئة لغتهم بما يمكنهم من استخدامها في تحقيق الاتصال والتعبير وتسهيل التفكير، وحين يلمسون واقعاً عبقرية لغتهم في أنظمتها المختلفة، ويمارسون عمليات التفكير في تحليل النصوص، وتقويمها، وتذوقها، واكتشاف أغراضها ومضامينها، وحين يتصلون بتراثهم الأدبي الخالد عبر العصور - حين يفعل المنهاج ذلك- يقدّم خير ردّ على أدعياء تخلف العربية وجمودها، وعجزها عن مجاراة العصر، والتعبير عن العلم والتقنية؛ فلا تزيده هذه الادعاءات إلا تمسكاً بلغته، وحرصاً على المحافظة عليها.
ثم إنه يدرك بذلك أنه سيخسر خسارة عظيمة، لو أزيحت هذه الّلغة، واستبدلت بها لغة أجنبية أو لهجة عامية، فلن يتهيأ له أن يتصل بالتراث العلمي والأدبي لأسلافه، ولن يتاح له أن يكوِّن الأخوة اللغوية التي تصله بعدد كبير من البشر على امتداد رقعة واسعة من المعمورة؛ فلا تكون النتيجة إلا العزلة، وضيق الأفق، والتقوقع في إطار إقليمية ضيقة.
وهو في الوقت ذاته يعطي المتعلم مفاتيح مواجهة تحديات العولمة، من مهارات يحتاجها للتعامل مع طوفان مواد الاتصال اللغوي الذي يصل عبر وسائل شتى، فيستخدم كفاياته في التحليل والتصنيف والنقد والتقويم، ليصل إلى ما تحمله من غايات، وينتقي منها ما يتوافق مع أهدافه، ومبادئه))([41]).
ويؤكِّد الحاجة لمراجعة مناهج اللغة العربية, فيقول: ((لقد باتت الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى، لتطوير منهاج الّلغة العربية، بحيث يوجه نحو غاياته الحقيقية، واعتماد مدخلي الاتصال والوظيفية في اختيار محتواه وأنشطته، وتقديمه بحيث يكون مزوداً بعناصر الجذب والتشويق؛ وتخليصه مما يعانيه من عيوب في أهدافه، ومحتواه، وأنشطته، وخبراته، وطرق تدريسه، وأساليب تقويمه؛ ليكون مؤهلاً ليأخذ بيد المتعلم للاستعداد لتحديات العولمة، ومواجهتها، والتعامل معها بما يتناسب ومعطياتها))([42]) . وبناءً عليه يتعيّن علينا:
ü مراجعة وتقويم فائدة بعض المقررات، مثل الأصوات، وعلم اللغة العام النظري. ويتعيّن تخليص البرنامج من المقررات ذات المردود العملي، والمهاري المحدود، والتي يغلب عليها الجانب النظري، ولا تفيد إلا مجرّد المعرفة, ولعلها معرفة ترفية, لا تسهم في غرس قيمة, ولا في تكوين مهارة.
ü التركيز على الجانب الوظيفي: يتعيّن تنشيط الجانب الوظيفي لعلوم اللغة العربية الأخرى، من صرف، ونحو، وبلاغة ونقد, وأدب ، وهذا يعني الاقتصار في الجانب الفلسفي على ما تدعو إليه الحاجة، ويكون من مستلزمات البرنامج، وفي كلّ مقرر من علوم العربية ما يدعو إلى الوقوف، والمراجعة ، وطرح أسئلة حول جدواه ، ومدى إسهامه في صناعة ممارسي المهن ذات العلاقة باللغة العربية، من مثل التوسع في مسائل الخلاف، واستنفاد معظم الزمن المخصص للدراسة في استيفائه وفهمه على حساب أمور أكثر أهمّيّة، وأمسّ بحاجة الدارس، وأكثر التصاقًا بتكوينه المهاري، وهي مسائل بإمكان الطالب الاستغناء عنها، .
********
- vالنشاط البحثي, وأثره في تطوير درس العربية بما يسهم في تجذير الهوّيّة:
نحن لو ألقينا نظرة عجلى على نتاج البحث اللغويّ, والبحث هو منطلق التطوير والتجديد, وطرح التنظير للفحص والاختبار, وموطن الممارسة التطبيقية للتنظير؛ فكل الأعمال البحثية إلا ما ندر لا تخرج في غايتها عن تجميع مفترق, وتفريق مجتمع, وهي في مجملها إعادة, لا تحمل فكرًا جديدًا, ولا إبداعًا علميًّا, فهي ما بين تصنيف مدرسيّ, أو كتابة موسوعيّة, أو مختارات علمية, أو شرح مختصر, أو اختصار مطوَّل, و لا تعدو في أحيانٍ أخرى نشرًا يسمّى تحقيقًا, أو نقلاً يسمّى ترجمة, وهذا الأمر أو الشأن يتساوى فيه, الباحثون المبتدئون من طلاّب المرحلة الجامعية والدراسات العليا والباحثون المبرِّزون – كما يرون أنفسهم – من أساتذتهم ومشرفيهم.
إن البحث العلميّ في برامج الدراسات العليا أو أعمال أعضاء هيئة التدريس يجب أن يكون همّه الأوّل تطوير برامج اللغة العربية, والانتقال بها من حال إلى حال, وما لم يتوفّر هذا الأمر فعلينا ألا نسرّ بكثرة ما ننتج, ولا بوفرة ما نكتب, إلا بمقدار ما تمنحه لكاتبها من فرحة التخرّج, والشعور بالغبطة بإكمال مرحلة, والتهيُّؤ لمرحلة أخرى, وإلا تغييرًا في لقبٍ, وزيادة في الراتب, وامتلاءً خادعًا يخفي وراءه ضحالة الفكر, ورداءة النتاج, والعجز عن الإضافة والإبداع, والتخاذل عن الإصلاح وحمل الهمِّ, وتوظيف النواتج فيما يعود على تلك البرامج بالفائدة, وإلا الانصراف عن تنمية الذات, وانعدام ما يمكن أن نقدِّمه لمن يحسن الظنّ بهذه الفئة.
وهل مثل هذه الأعمال والأنشطة البحثية تسهم في تجذير الهوّيّة, وهل تسهم في نقلنا من التعليم الشكلي إلى تعليم يبني الهوّيّة, معلمه يحمل همًّا, وتلميذه يتّقد ذكاءً وحماسة, وتفكيرًا وإبداعًا. وهل تسهم هذه الأعمال بطريق مباشر أو غير مباشر في تكوين الهوّيّة. بل هل لدينا في برامجنا ما يوجّه شطرًا من أعمالنا ومشاريعنا البحثية إلى الأمور الإستراتيجية, في زمن العولمة, وصراع الهوّيّة.
إن البحث العلمي في اللغة العربية, وآدابها, فلسفة وتنظيرًا, ممارسة وتطبيقًا يجب توجيهه أو توجيه جزءٍ منه على الأقلّ إلى تجذير الهوّيّة العربية, وغرس قيم الحب, والولاء, والانتماء, والاعتزاز, بهذه اللغة, وتطوير الأساليب التي تؤثِّر في هذا الغرس, من تنويع لأساليب درس العربية, ومن تقديمها بطريقة لا تختزل فيها العربية بالإعراب والقواعد، تنويع في الميادين, وتنويع في الطرح, وتنويع في الموضوعات, والاهتمامات, وتغيير في الأولويّات؛ فاللغة أكبر من أن تختزل في شكليّات, وأوسع ميدانيّا ممّا يرسمه المحافظون والتقليديّون؛ فاللغة إلى جانب كونها معارف وشكليّات هي مهارات, كما هي قيم, وهي فكر وتنظيم, كما هي فلسفة, وهي انتماء, كما هي إطار هوِّيّة, بل هي الهوِّيّة, وهي مضامين, كما هي أشكال, وهي كلٌّ لا يتجزأ, وأجزاء لا تتنافر, أجزاء تتكامل ولا تتنافى, ويجب أن يكون البحث أو المشاريع البحثيّة, والتجارب الميدانية, مسخّرة لتحقيق هذه الغايات, والوفاء بهذه المقاصد, ولا مانع أن ننظر فيما يقدّمه أصحاب اللغات الأخرى للغاتهم؛ إذ ما يزال تصوّر العاملين في حقل اللغة وأبحاثها محصورًا على الأنماط التقليدية للبحث, وأهملنا ميادين بحثيّة كثيرة, مثل: المعالجة الآلية للغة، وهو باب واسع. واللغويات الحاسوبية, واللغويات التطبيقية, واللغويات التربوية, وأساليب تعليم اللغة, وميدان التعليم واللغة, وتهيئة اللغة العربية لعصر المعلومات والاتصالات، ولعل الأسلم تهيئة اللغويين العرب لعصر العولمة، والتعامل مع تقنيات العصر.كما أهملنا أنماطًا للبحث متعدّدة, وغلبت على أبحاثنا صورة واحدة, وكأن دائرة البحث لا تستوعب مستجدّات العصر, وتقنياته, جعلنا البحث في جزئيّات تتلاءم مع تصوّراتنا المتوارثة, وإن لم تفِ بحاجتنا في وقتنا.
توصـــيات:
التوصيات التي أوردها هنا ليست المفتاح السحري نحو توظيف اللغة العربية في مسائل الهوّية, إطارًا, ومكوّنًا, وموجّهًا؛ إذ لا بدّ من تضافر عوامل أخرى من ميادين مختلفة، منها السياسي, والاقتصادي, والتربوي, والاجتماعي, والسلوكي, والروحي، ولا يمكن أن يكون علاج قضية اللغة والهوّيّة من خلال اللغة وحدها, وكل ما أملكه أن أقف القارئ على مقترحات في الميدان اللغوي, يمكن أن يكون لها إسهام. ومن هذه التوصيات:
- 1)إعادة بناء مناهج اللغة العربية وفق تصوّرات جديدة, وقيم تنبع منها، تناسب عصرنا, وتراعي مستجدّاته , وتقنياته, وتأخذ من غيرها ما يلائمها، ويضيف لها شيئًا, في المنهج والممارسة. في الأسلوب والوسيلة.
- 2)بناء مقرّر جديد يؤصّل ويكرِّس الهوّيّة اللغويّة, ويؤكِّد دور اللغة العربية في بناء هوِّيّتنا, كما يؤصّل فلسفيًّا هذه القيم, ويشرحها, ويبسّطها لعموم المتلقّين على اختلاف توجّهاتهم واهتماماتهم, وثقافاتهم, ويطرق موضوعاتٍ، مثل: اللغة والهوّيّة, ومزايا اللغة العربية، ونستبعد منها تلك المزايا الغامضة التي تتدثّر بالأسرار والنكت، ونبرز المزايا الواضحة التي يسهل على الطالب فهمها، واستيعابها, من مثل ما ورد في هذه المقالة, وإيراد تجارب الأمم التي تعتزّ بلغاتها, وليس لها ما للعربيّة من التاريخ والمجد, في تدريس العلوم بلغاتها المحلّيّة, والمحافظة على السلامة اللغويّة, وخدمتها في النواحي المختلفة, ويكون فيه بيان فوائد التعليم والتدريس والبحث والنشر باللغة المحلّيّة, كما أن لهذا المقرّر أن يبن عن مدى الخسارة التي تخسرها الأمّة بكتابة علومها, وتدريسها بغير لغتها؛ إذ تحسَب هذه الأعمال, وهذه الإنجازات للغات الأخرى، التي سُطِرت بها. ومن مثل الحديث باعتدال عن الصراع المصطنع بين العاميات وما يسمّى الفصحى، وعدم اصطناع معركة بينهما, ومكانة اللغة في تراثنا, مع التركيز على بيان الجائز والمحظور, والحديث عن وظائف اللغة في الحياة, وعن اللغة في حياة الأمم, وما يجب أن يكون فرصة أو نقطة قوّة في استعمال اللغة العربية, مثل القوّة الاقتصاديّة, التي يجب أن تكون إيجابيّة بالنسبة للغتنا, وهي الآن على العكس نقطة سالبة, فمن أجل السياحة, وتحقيق مكاسب للشركات وغيرها, بعنا هوِّيّتنا, وصرنا نجاريهم باستعمال لغتهم في بلادنا, والمفروض العكس. ولهذا العمل أن يناقش ما كان نحوًا من هذه الموضوعات. وهذا المؤلّف يمكن أن يكون على مستويات: مستوًى لدارسي اللغة العربية, ومن يؤهّلون للعمل في ميادينها, ومستوًى لطلاّب الكلّيّات التي علومها في الوقت الحاضر بغير لغتنا, مثل كلّيّات الطبّ, والهندسة, والعلوم, ومستوًى يخاطب الجمهور العام, والمثقّفين, وفئات القرّاء الأخرى, وهو كتاب ثقافي, يعنى بمخاطبة من يدخل في نطاقه. ولنا أن نطلب إلى الجهات صاحبة القرار جعل مثل هذا الكتاب مقرّرًا دراسيًّا مثل مقرّر الثقافة الإسلاميّة, أو التربية الوطنية, أو أيّ تربية أخرى, سواء كانت حزبيّة أو غير حزبية, بل يمكن أن يحلّ محلّ شيء ممّا ذكر. وأنا على ثقةٍ أن المادّة العلميّة لمثل هذا الكتاب أوسع وأعمق, وأقرب إلى قلب الطالب وغيره من كثيرٍ مما ذكِر. وهذه الأفكار المطروحة لهذا المقرّر أفكار أوّليّة, يمكن تطويرها، من خلال جلسات العصف الذهني, وورش العمل التي تطوِّر الأفكار, لتحيلها إلى مشاريع عمليّة.
- 3)إعادة النظر في تأهيل معلِّمي اللغة العربيّة, وفق رؤًى جديدة, تخرج عن الفكر النحويّ الأحادي المتزمِّت, والذي يستأثر بالساحة اللغويّة, إلى فكر لغويٍّ مستنير, يستشرف المستقبل, ويأخذ في اعتباره مستجدّات العصر, ونواتج التقنية.
- 4)جعل الإعداد اللغويّ المناسب من أساسيّات ترشيح وقبول المعلمين في التعليم العام, في مختلف التخصصات, بأن نجعل من مهارات اللغة الأساسية, ومهارات الاتصال, وغيرها من أساسيّات قبول المعلِّمين.
- 5)توجيه البحث العلمي والمشاريع البحثيّة في اللغة العربية وتعليمها إلى القضايا الإستراتيجية, والاكتفاء من القضايا الجزئيّة, والأفكار التقليدية, بما يكفي, ويأتي على الحاجة, والاحتفاء بالمشاريع البحثيّة التي تسهم في تطوير درس العربية, وتعميق الهوّيّة من خلال اللغة, ودرسها, وممارستها, وتطبيقها.
خاتمــة:
وبعد، فقد أتينا في هذه الورقة على نقاط قوّة محسوبة للغة العربية, في صراعها أو حوارها مع اللغات الأخرى, كما أنّنا أتينا على ذكر قيم تنافسية في صالحها, مثل العمق التاريخي, والعمق الديني, وبقايا تأثير العربية على لغات الشعوب الإسلامية، مثل الفارسية, والأوردية, والسواحلية, والجاوية, ولغات أخرى, بعضها ما زال يكتب بالحرف العربي, الذي يسمّى عندهم بالحرف الشريف, وهذه نقاط قوّة مردودها على اللغة العربية ذاتها, وهي إيجابيّات تفتقر إليها كثير من اللغات التي طغت على لغات العالم بما لها من نفوذ اقتصادي و سياسيّ, وهل يسوغ للعربية وأهلها أن يفرّطوا في هذه الإيجابيّات؟! إننا بالتفريط فيها نفرط في شيء مهمٍّ جدًّا في صالح اللغة العربية .
وهناك نقاط قوّة من غير البنية اللغويّة, مثل القوّة الاقتصادية, والوزن أو الثقل المالي لبعض الدول العربية, ومثل الدوافع الدينية لتعلّمها, كلّ هذه الإيجابيّات علينا أن نحسن استثمارها في تصحيح وضع اللغة العربية وأثرها في رسم ملامح هوّيتنا, وفي إيجاد مكان لها بين لغات العالم, ومكانة تليق بها كلغة حملت رسالة سماوية, وسطِر بها كتاب خالد، لا يأتيه الباطل من بين يديه, ولا من خلفه, تنزيل من حكيم حميد. وكل هذه الإيجابيّات لا تنسينا ما يجب فعله على أهل العربية من معلمين, وأساتذة, وباحثين, من بذل مزيدٍ من الجهد, ومراجعة أعمالهم, وتصحيح ما يحتاج إلى تصحيح, واستدراك ما حلّ بها من نقص, وذلك من أجل تقديم أو صنع برامج في تعليم العربيّة وآدابها بما يعود على اللغة والأمة, وثقافتها بنواتج تسهم في تكوين هوِّيّة واضحة, وتغرس في أبنائها روح الاعتزاز وفخر الانتماء, معبّرة عن أصالة فيها, وتفرّد, وتميّز, وخصوصيّة.
وهذه دعوة للإصلاح من الداخل, وهي غير كافية لإحداث تغييرات كبيرة، ولكن هذا هو الممكن في هذا الميدان, وإن كانت المقترحات بحاجة إلى إسناد.
تمّت, والحمد لله ربّ العالمين.
-------------------------------
حواشي البحث:
ح
[2] - نبيل علي: الثقافة العربية وعصر المعلومات, سلسلة عالم المعرفة (265) الكويت, عام 2001م ينظر ص229ص35وص38
[8] - للاطلاع على خلاصة هذه الدراسة يرجع إلى http://www.fikria.org/news.php?action=show&;news_id=171#myGallery-picture(3)
[9] - للاطلاع على خلاصة هذه الدراسة يرجع إلى: http://www.fikria.org/news.php?action=show&;news_id=171#myGallery-picture(3)
[10] - ابن فارس: الصاحبي, تحقيق السيد أحمد صقر, الناشر عيسى البابي الحلبي, القاهرة, سنة 1977م ص 16-25
[12] - كان هذا جلسة علمية خاصة, في طاجيكستان في جامعة الإمام أبي حنيفة في دوشنبيه في 27/8/1431هـ الموافق 8 أغسطس 2010
[14] - محمد بن أحمد : المقدسي أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم, مكتبة خياط , بيروت , صورة عن طبعة أوروبا ص: 1
([17]) أبو الفتح عثمان بن جني : الخصائص , تحقيق محمد عليّ النجّار , دار الهدى, بيروت , صورة عن طبعة مصر 2/29 .
[19] - عبد الملك بن محمد النيسابوري الخركوشي: شرف المصطفى 4/ 74 دار البشائر الإسلامية – مكة، ط أولى، عام 1424 هـ.
[20] - أرشيف ملتقى أهل الحديث - 1 124/ 161 من المكتبة الشاملة، تم تحميله في المحرم 1432 هـ ديسمبر 2010 م http://www.ahlalhdeeth.com
[21] - ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق ناصر العقل , دار عالم الكتب، بيروت، لبنان, ط السابعة، 1419هـ - 1999م (1/527- 528)
[22] - ابن تيمية : مجموع الفتاوى، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم, الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية عام النشر: 1416هـ/1995م 32/255
[27] - نجيب بن خيرة : اللغة العربية واختراق الهوية في عصر العولمة/ من مقالة له في موقع الملتقى للإبداع http://www.almultaka.net/ShowMaqal.php?cat=16&;id=767
[28]- ماريو باي: أسس علم اللغة , ترجمة أحمد مختار عمر، عالم الكتب، ط الثامنة 1419هـ-1998م ص 61 - 62 .
[31] - المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية بيان المشرق والمغرب من أجل تصحيح وضعية اللغة الأم 21يناير2012 موقع http://www.europarabic.org/wp -content/uploads/2012/01/arabic-report.pdf http://www.europarabic.org/wp-content/uploads/2012/01/arabic-report.pdf
[33]- محمد محمد حسين: فقة اللغة بين الأصالة والتعريب ( مجلة كلية اللغة العربية بالرياض ) ، عدد (11)
ينظر ص : 214
[40] - عبد الله بن مسلم الهاشمي\العربية والهوية\دور منهاج الّلغة العربية في الحفاظ على الهوية العربية ومواجهة تحديات العولمة مؤسسة الفكر العربي C:\Documents and Settings\fahd
[42] عبد الله بن مسلم الهاشمي, مقال سابق.
-------------------------
قائمة المصادر والمراجع:
- ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق ناصر العقل , دار عالم الكتب، بيروت، لبنان, ط السابعة عام 1419هـ - 1999م.
: مجموع الفتاوى، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم, الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية عام النشر: 1416هـ/1995م
- ابن فارس : متخيّر الألفاظ, تحقيق هلال ناجي, ط. أولى 1390هـ 1970م
- : الصاحبي, تحقيق السيد أحمد صقر, الناشر عيسى البابي الحلبي, القاهرة, سنة 1977م
- أبو الفتح عثمان بن جني : الخصائص , تحقيق محمد عليّ النجّار , دار الهدى, بيروت, صورة عن طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب, مصر .
- جون جوزيف: اللغة والهوّيّة/ترجمة عبد النور خرافي,سلسلة عالم المعرفة,342 أغسطس7 200م .
- عبد الملك بن محمد النيسابوري الخركوشي: شرف المصطفى 4/ 74 دار البشائر الإسلامية – مكة، ط أولى.
- ماريو باي: أسس علم اللغة , ترجمة أحمد مختار عمر، عالم الكتب، ط الثامنة 1419هـ-1998م .
- محمد بن أحمد : المقدسي أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم, مكتبة خياط , بيروت , صورة عن طبعة أوروبا .
- نبيل علي: الثقافة العربية وعصر المعلومات, سلسلة عالم المعرفة (265) الكويت, عام 2001م .
- محمد محمد حسين "فقه اللغة بين الأصالة والتغريب" ( مجلة كلية اللغة العربية بالرياض ) ، عدد ( 11 ) سنة 1401هـ - 1981م
--------------------------
ســليمان بن إبراهـــيم العـــايد
جـامعـــة أم القــرى - مـكــة