(محاضرة ألقيت في الموسم الثقافي لكلية اللغة العربية في 20 /6/ 1432 هـ)
سؤال أستهلّ به كلمتي : أ إتقان اللغة أو معرفتها يتمثَّل حين نتخاطب، بقولنا : يا أبا محمّد، يا أبا أسامة، يا أبا صالح، أم يتمثّل بشيءٍ آخر، هو أكبر من هذا؟ إذا كان الأمر كذلك فكلّنا متقنون للغة ونحوها، ولا عذرَ لواحدٍ منّا في عدم بلوغه هذه المرحلة، والتقصير في الوصول إليها؛ فوظيفة النحو ليست ضبط الكلم في الجملة، أو النص، بل وظيفته، الإبانة عن المعنى وتحديده، ومع هذه المكانة للنحو، فليس النحو إلا جزءًا من نظام لغوي يتناول الصوت، والمفردات والبنية، والبيان، ونصوصها المختلفة، متآزرة مع بعضها، يكمل بعضها بعضًا.
أنا لا أرى أن نتلهّى بجلد الذات، فليس الوقت وقته، وعلينا أن نفكّر فيما يجب عمله خدمة للغة، وتحقيقًا لأهداف طالبيها، وعلى الجهات المختصة مؤازرة هذا التوجه، وتكوين فرق عمل لإنجاز مشروع تعليم لغوي ينهض بحاجاتنا وتطلعات أبناء العربية.
مقدمات:
من طرائق تعليم العربية :
التعليم بحفظ القواعد .
التعليم بقراءة نص تراثيٍّ، تسطر فيه القواعد، وهذه الطريقة والتي قبلها شيء واحد.
التعليم بالطريقة المباشرة ((الخلطة ، والإغماس)).
التعليم بالطريقة التكاملية بالمزج بين فروع العربية والانطلاق من النصٍّ .
من خلال اتصالي بأساتذة اللغة العربية، وأنا واحد منهم، ألمس تواطؤًا منهم، واتفاقًا على حصر عملهم في التدريس، وعلى توجيه جميع مناشطهم إليه، وعلى ضرورة أن تسخّر المناهج كلها لهذا النشاط فحسب. هذه هي حدود تفكيرهم في الغالب، كما تنطق بذلك الشواهد والأدلّة من الواقع.
وحتّى لا أكون متجنِّيًا فيما أقول أرغب لمن لديه غير ما أعلم أن يفيدني بذلك، فلعلّ في الميدان ما لا أعلمه؛ إذ كلّ ما أقوله من تجربة وممارسة، وتصوّرات كوّنتها من خلال عملي، ومن خلال اطلاعي على الخطط الدراسية في أقسام اللغة العربية المختلفة، ومن خلال الخلطة بالطلاب والأساتذة.
وليس الأمر واقفًا عند هذا الحدِّ ؛ فالنمط التعليمي في الغالب واحد، غير قابل للتنوّع والتعدّد بحسب الغاية والمقاصد والأهداف، ولا بحسب الفئات التي تقدّم لهم هذه البرامج، فالكل يدرس مقرّرًا واحدًا، ومنهجًا واحدًا ، لتحقيق أهداف واحدة ، وإن وجد اختلاف فالاختلاف في الكمية ، والاختيار، وصنف لمتعلّم واحد، غير متنوِّع وغير متعدِّد، وليس لديهم اعتبار لمن يدرس اللغة لأغراضٍ خاصّة، وليس في حسابهم من يحتاج إليها وسيلة اتصال مؤقّت، وليس لديهم من يقصد إلى مهاراتها ، ولا يهمّه التزيّد من معارفها وقواعدها.....إلخ.
بغضّ النظر عمّن يتكلّم اللغة هناك فئاتٌ تستخدم اللغة كالباحثين ، والمترجمين ، والتربويين والإعلاميين، والمشتغلين بالحاسب الآلي وميكنة اللغة أو المعالجة الآلية للغة، والطلاب، ولها أهداف ومقاصد خاصة، ولا بدّ من مراعاتها والاستجابة لها، ولا يجوز لأهل اللغة أن يستمسكوا بطريقتهم الوحيدة في الدرس اللغوي ، كما يجري عليه العمل في درس اللغة التقليدي، والتعليم الناجح هو الذي يراعي فئات المستفيدين، وتنوّع تلك الفئات، وأهدافها الخاصة.
غياب الهدف عن الأستاذ، وأول أسباب النجاح وضوح الأهداف، وواقعيّتها، وقابليّتها للقياس، ومن أول معايير الجودة وضوح الهدف. التفريق بين من يطلب المعرفة اللغوية ، وبين من يطلب المهارات اللغوية، وتنوع الدرس حسب الفئات؛ فالدرس عند معظم معلمي العربية وأساتذتها واحد ، وفي الغالب يعتمد قراءة نصّ تراثيّ ، أو إذا أحسنّا الظنّ شرح نصٍّ تراثيّ، وهذا على الرغم من جلالته وقيمته ليس بالضرورة صالحًا لجميع الفئات التي تدرس العربية.
أهداف التربية في العصر الحديث أربعة : ((تعلّم لتعرف، تعلّم لتعمل، تعلّم لتكون، تعلّم لتشارك الآخرين)).(الثقافة العربية وعصر المعلومات ص307)
ومن مشاركة الآخرين( تنمية مهارات الحوار مع الآخر (بالاهتمام بتنمية مهارات التواصل، والتفاوض الثقافي، وتنمية القدرة على الإقناع، وهندسة الحوار، وإبرام الصفقات المتوازية) (الثقافة العربية وعصر المعلومات ص320) (إذ يشكو معظم طلابنا من ضمور مهارات التواصل اللغويّ الأربع: القراءة، والكتابة، والمشافهة، والاستماع ، نتيجة لآفة التلقِّي السلبي التي تعاني منها أنظمة التعليم لدينا، ويحتاج هذا من التربويين ومعلمي العربية ومنظِّميها تغييرًا جوهريًّا في تعليم العربية وأنماط تقديم المادة التعليمية، بحيث لا تقتصر على أسلوب المحاضرة بل تشمل أساليب جذّابة توظّف أساليب التعلّم المختلفة وتنوِّع بين الأساليب التقليدية والندوات وحلقات النقاش،وغيرها من مستنتجات العصر والتربية). (ينظر الثقافة العربية ص321 ).
وكلية اللغة العربية، تتفرّد بتدريس طلابها مقررات اللغة العربية، وتسهم بتقديم مقرر اللغة العربية لجميع الأقسام الجامعية، إلى جانب تقديم مقررات أخرى لبعض الأقسام التي لها مزيد عناية باللغة العربية نحوًا وبلاغة، ومن الطبيعي أن يختلف تقديم المقررات ، حسب الأقسام والغاية من تدريس المقرر، غير أن هناك نوعين يمكن أن يشملا جميع الطلاب، وهما : من يدرس اللغة من أجل التكوين المهاري العام، ومن يدرس اللغة لأغراض معرفية، ومهارية خاصة، وعلى كلٍّ التفريق بينهما لازم، فتدريس اللغة العربية لغير المختصين تدريس مهارات ويجب أن يلتزم بهذه المهمّة، ولا يخرج عنها.ولا أكون مبالغًا إذا قلت : إن هذه الفئة يجب أن تكون فئاتٍ.
و((تشمل تربية اللغة الأمور المتعلقة بتعليمها وتعلّمها ، سواء كلغة أولى للناطقين بها، أم لغة ثانية لغير الناطقين بها ، وتغطّي تنمية مهارات التواصل اللغوي الأربع: القراءة، والكتابة، والتحدّث, والاستماع. ويحظى تعليم اللغة الأم بأهمية متزايدة هذه الأيام بعد أن ثبت للجميع خطورة الدور الذي تلعبه في تنمية فكر الفرد، وتوطيد عرى التماسك الاجتماعي ، علاوة على كون تعلم اللغة الأم بمنزلة (طبقة الأساس) التي يبنى فوقها تعلم اللغات الأجنبية، وهو يحظى بأهمية متزايدة بفعل ظاهرة العولمة وما يصاحبها من عولمة سوق العمل {هناك ما يزيد على خمسين مليونً صيني يتعلّمون الإنجليزية}يشهد على ذلك هذا العدد الكبير من مواقع الإنترنت لتعليم اللغات وتعلّمها ذاتيًّا، علاوة على توفير كمٍّ هائل من برمجيّات تعليم اللغات والمناهج البرمجية، ونظم تأليف المنهج وما شابه)) [الثقافة العربية وعصر المعلومات ص268-269]
*********
هل عندنا مشكلة في تعليم النحو، أو اللغة في الجامعة، وتلقينه طلابنا؟
لا أظنّ أنّ مخالفًا يخالف في أن لدينا غير مشكلة ، غير أن الذي يهمّنا أن نورد مشيراتٍ قد تنتهي بنا إلى وصف وضع ، وتقرير حالة ، يتطلّب اقتراح بعض الحلول ، وطرح رؤًى تخرج بنا من مأزق في تعليم النحو ، ودرس العربية على العموم, ومن هذه المشيرات:
أ) فقدان أو ضعف أثر النحو فيما يقوله الطلاب أو يكتبونه. وهذا أمر من الوضوح بمكان لا يسيغ لنا شرحه، وتفصيله.
ب) ضعف الحصيلة المعرفية المستوعبة لدى طلابنا بقواعد النحو وكلّياته ، فضلا عن العجز عن مهاراتها، وتوظيفها واستعمالها أو الاسترشاد بها عند إنشاء الكلام ، والكتابة، أو عدم الرغبة في هذا التوظيف، والزهد فيه.
ج) غياب الرغبة في الصحّة النحويّة، والسلامة اللغويّة فضلا عن فقد التميّز أو الإبداع اللغويّ في الأداء لكونه قيمة يقدّرها المجتمع، ويتسامى إليها المتكلِّمون والمنشئون ، والكتّاب.
د) برودة في علاقة الطلاب بالنحو وعلوم اللغة الأخرى، يتمثّل بالآتي :
- v شكاوى الطلاب, وتذمّرهم من مقررات اللغة العربية, ومن معلِّميها، وضيق ذرعهم بها وبهم.
- v شعور لدى الطلاب أن ما يدرسونه بعيدٌ عن مشاعرهم ، وبمعزلٍ عن عواطفهم، وبغربته عنهم، وغربتهم عنه، وأنه شيء أو علم من كوكبٍ آخر.
- v تلبّس الطلاب بالملل، وانتشار التثاؤب، وغيبوبة الطلاب عن الدرس إما بنوم أو بتكلّفه، وإمّا برحلة ذهنية بعيدًا عن الدرس والفصل.
- v غياب أو ضعف التذوّق في دراسة النحو وتدريسه، وغياب أثر الذوق في التفريق بين المعاني، وطرائق أدائها، الأعاريب والأنواع، والأحكام، والوظائف النحوية، وعدم وضوح مدى تأثير الذوق في ذلك كلّه.
ه) شعور الطلاب بصعوبة اللغة العربية، وتعقيد أفكارها، وكثرة تقسيماتها، وتداخلها في حسِّه، وأين يذهب بطالب محدود الإدراك، حين يجد مثلا تقسيمات في بعض الأبواب، وحين يجد تلك التقسيمات العقلية وغير العقلية في علم يفترض أن يكون أبعد العلوم عن كدِّ العقل، وأقربها لتذوّق النصِّ، بل أين يذهب بطالب محدود التفكير والإدراك حين تفجؤه بمثل هذا ؛ إنّ إدراك ترابط الكلام، أو تفكّكه، وترتيب بعض أجزائه على بعض، وتعيين العلاقة بين هذه الأجزاء، لا يحتاج منا أن نعقِّده بمسائل الوصل والفصل، وتنويع الكلام بين كمال الانقطاع، وكمال الاتصال، وشبه كمال الانقطاع، وشبه كمال الاتصال، والتوسط بين حالتي كمال الانقطاع، وكمال الاتصال.
النحو مفصول عن حياة الطالب وشعوره. وهل يسوغ أن يكون النحو بمعزلٍ عن معايشة الطالب له؟! يدرس الطالب وهو يحسُّ أنّه يتعلّم، أو يتلقّن قواعد وقوانين بعيدة عنه، وعن حياته، ولغته، ليس بينهما أدنى ارتباط، وأول مسئوليات معلِّم اللغة رفع هذه الوحشة، وإيجاد ألفة بين الطالب من جهة، وبين النحو وممارسته ومهاراته من جهة أخرى، ويجب أن يستيقن الطالب أن النحو جزء من كلامه اليومي، وأنه النظام الذي يحكم كلامه، وأنّ المعاني التي يتكلّمها هي معاني النحو التي لا يمكن لمتكلِّم أن يستغنيَ عنها، وأن لا يعرفها عمليًّا، وإن خفيت عليه تنظيرًا، كما هو شأن كلِّ علم له جانبان: نظري، وتطبيقي، كعلم التجويد في جانبه التنظيري، قد يخفى على كثيرٍ من مجيدي القراءة، وإن كان تطبيقًا طوع إرادتهم، وآلة قراءتهم، بل هو عادتهم، وسليقتهم التي تطبّعوا عليها.
التذوق أساس لدرس النحو، بل الذوق والتذوُّق أساس الإبداع في كل شيء، ومدخل الفهم والاستيعاب، ويهمنا التذوّق في دراسة العربية خاصّة نحوها، وكثير من معلمي العربية وأساتذتها لا يلتفتون إلى هذا الأمر، بل كثير منهم يصعب إفهامه هذه الأهمية، فضلا عن أن يسهم في إحياء ذوق الدارسين وإنمائه، وقد يسأل كثير فيقول: هل في اللغة والنحو ذوق وهو لا يعدو كونها قواعد ومطردات؟! ولعلّه غاب عن هؤلاء أن الذوق أساس فهم جميع العلوم دون استثناء، والنحو ليس بِدْعًا بين العلوم، وقد جرى لي مع بعض الطلاب شيءٌ من هذا، حين شرحت لهم التفريق بين المنصوبات، وكيف يقال عن منصوب: إنّه مفعول، أو مفعول به، أو مفعول لأجله، أو مفعول معه، أو حال، أو تمييز، أو استثناء، والفرق بين هذه المفاعيل، خاصة إذا كان هناك احتمال تعدُّد الإعراب. وكذا التفريق بين الخبر والصفة والحال، وهي من باب واحد، ومجال توظيف الذوق في إدراك النحو وحبّه واستيعابه، وإقامة علاقة ودّ بين الطالب ودرس العربية.
وأذكر هنا قصة ابنتي طالبة الابتدائي التي ما كنت تحبّ درس القواعد، وتعدّ هذه المادّة ثقيلة، درست لها معلمة اللغة العربية في السنة السادسة من المرحلة بطريقة قلبت علاقتها بالمادّة، وغيّرت موقفها منها.
من أوجه القصور في تعليم اللغة العربية :
أ) (( التركيز على الجوانب الصورية سواء في تعليم النحو أو الصرف ، أو تنمية مهارات الخطابة والحوار. وقد طغت سطحية قراءة النصوص وضبط أواخر الكلمات على حساب عمق استيعابها ، والربط بين جملها وفقراتها، وإدراك هيكلتها الشاملة)) [الثقافة ص269 ] فقلّما يعنى معلِّم اللغة باستيعاب المقروء ، وصناعة العناوين الرئيسية والفرعية، وتقسيم النص ، وترقيمه، فضلا عن محاكاته.
(( إهمال عنصر الدلالة {المعنى}إذ طغت الوظائف النحوية من فاعل، ومفعول، وتمييز، وحال، ومجرور، ومضاف ... على المعاني النحوية معاني التراكيب والأبنية والمفردات، فليس بمكنة كثير من الطلاب التفريق بين التراكيب المتقاربة التي تؤدّي معنًى واحدًا ، مثل: رأيته يخرج من الباب، ورأيته خارجًا من الباب، ورأيته وقد خرج من الباب ، وهي تراكيب تؤدّي معنًى نحويّا واحدًا وهو تقييد الرؤية حال الخروج ؛ وهو قيد للعامل، والاختلاف في تفصيلات وقيود المعنى، التي يمكن لغير دارس العربية ، ولمن يلمّ ببسيط القواعد النحويّة أن يدركها. ولا يدرك كثير منهم الفرق بين "ضربه ضربًا" و"ضربه ضربة" ولا الفرق بين سامع وسميع ، وغيرها من الأمثلة والأوزان الصرفية. ولا بين معاني صيغ الجموع ، و لا بين معاني زوائد الأفعال، ولا بين الاستفهام بالهمزة و(هل).
غالب أساتذة ومعلمي النحو لا يعنون منه إلا بالجانب الشكلي المتعلّق بالإعراب، وما يتصل به، في حين يهمل المعنى، وإدراك المعنى النحوي هو الذي يشدّ الدارس ويجذبه، وقد لاحظنا هذا من خلال الممارسة، حتّى إنك لتجد الطالب يفغر فاه بما يسمع في درس النحو ممّا لم يتعوّد سماعه فيه .
وينأى معلِّمو اللغة العربية وأساتذتها عن توظيف الفطرة اللغوية في درس العربية، حيث يشعر الطالب من خلال الدرس أنّه يتعلّم شيئًا لا علاقة له به ، بل هو شيء بعيد عن حياته؛ من المسلّم به أن أيّ لغة بل أيّ مستوًى لا يخلو من نظام يدركه مستعمل اللغة بفطرته، وحسِّه، ليس بحاجة أن يتعلّمه من خلال دروسٍ يقدّمها ملقِّنون أو معلِّمون؛ ومن النحو الفطري ما يحسن أن يكون منطلقًا لدرس العربية ، مثل تقرير المعاني النحوية العامة، التي هي معانٍ متغلغلة في الحياة اليومية ، مثل تقرير معاني كالنداء، والتعجّب، والإخبار، والأمر، والنهي، والتمني، والدعاء، والتنبيه، والبيان، والتفصيل، وغير ذلك من المعاني التي بمكنة الشخص أن يعبّر عنها من غير حاجة إلى أن يتعلّمها من معلِّم . بل الفطرة اللغوية تتجاوز هذا القدر إلى إدراك ما بين الجمل والكلام من تمايز، يدركه من لا يعرف شيئًا من النحو ، وعلوم العربية، كما فال عبد القاهر: ((فإذا عرَفَ البدويُّ الفرْقَ بين أنْ يقولَ: ﴿جاءني زيدٌ راكباً"، وبين قولهِ: ﴿جاءني زيدٌ الراكبُ"، لم يَضُرَّهُ أنْ لا يعرفَ أَنه إِذا قال: ﴿راكباً"، كانتْ عبارةُ النحويينَ فيهِ أن يقولوا في ﴿راكب": إنَّه حالٌ، وإِذا قال: ﴿الراكبُ"، إِنه صفةٌ جاريةٌ على (زيد) وإِذا عرَف في قوله: ﴿زيدٌ منطلقٌ" أَنَّ (زيداً) مُخْبَرٌ عنه، و (منطلق) خَبرٌ، لم يضره أن لا يعلم أن نسمى (زيدًا) مبتدأ وإذا عرف في قولِنا: ﴿ضربْتُه تأديباً له"، أنَّ المعنى في التأديب أنه غرضه من الضرب، وأنه ضرْبَه ليتأدَّبَ، لم يضرَّه أنْ لا يَعْلَم أن نسمى (التأديب) مفعولًا له)). [عبد القاهر الجرجاني(ت471هـ) دلائل الإعجاز 1/ 418 تحقيق محمود شاكر/ ط الثالثة/1413هـ 1992م دار المدني/ القاهرة]
ويتعيّن ترك التركيز على الأخطاء المفردة في الأعاريب، والتراكيب، والأبنية، و توجيه العناية بالكليّات التي تعود على المعنى بالإفادة، وصحّة المعنى، ووفائه بالغرض، حسب مقتضى الحال، وتعويد الطلبة على الانطلاق في الإبانة عمّا يريدونه بيانًا مناسبًا، مؤدِّيًا، وبلغة ذات مستوًى، جماليّ مقبول، إنّ علينا أن نعلم الناس كيف يتكلّمون، وكيف يوفّون أغراضهم من خلال كلامهم، وهذا يقتضي منّا أن نغيِّر إستراتيجيات تعليم اللغة.
وقد ((أغفلت معظم دراساتنا اللغوية استخدام اللغة وظيفيًّا، بمعنى استخدامها في مسار الحياة الواقعية, استخدامها في إبداء الآراء والدفاع عنها، وفي عمليات التبادل والتفاوض والتراسل والتهاتف، وهلمّ جرًّا . يتّضح ذلك بصورة سافرة في ضعف مهارات الاتّصال لدى الغالبية منّا: كتابة وقراءة وشفاهة واستماعًا، وليس هذا – حتمًا – نتيجة قصور في العربية؛ فهي تملك العديد من الخصائص والأدوات التي تؤهِّلها لتكون لغة حوار فعّالة، إننا ما زلنا أسرى اللغة المكتوبة غير ملمِّين بالعلاقات اللغويّة والتداوليّة والمقامية التي تربط بين أدائنا الشفهي وأدائنا الكتابي، ويتجلّى ذلك – بوضوح – في أساليب حوارنا وتفاوضنا)). [الثقافة العربية وعصر المعلومات ص239]
ب) ((إهمال الجانب الوظيفي لاستخدام اللغة ، وعدم تنمية المهارات اللغوية المطلوبة في الحياة العملية؛ فنحن ننحاز إلى جانب الخطابة[أي اللغة الأدبية ولغة الشعر، واللغة التداولية] على حساب فاعلية التواصل)) الثقافة ص269
ج) إهمال تنمية التذوّق للكلام ولمآثر اللغة العربية شعرًا ونثرًا . الثقافة ص269
د) نقص في برمجيات تعليم العربية وتعلّمها ، وإهمال أو قلة العناية بتعلّم اللغة العربية ذاتيًّا حين لا يتوفّر تعليمها تلقينًا لأيّ سبب ، أو يكون في تلقينها قصور, أو حين يكون هناك رغبة في الاستجابة لمتطلبات غايات التربية في العصر الحديث ((تعلّم لتعرف)) ولمبدأ التعلّم مدى الحياة . وهذا المشروع يمكن تنفيذه عن طريق الإنترنت أو البرمجيات التعليمية . ينظر الثقافة ص269-270
ه) لم يدّع النحويّون أنهم يقصدون إلى تعليم الناس كيف ينشئون الكلام، ولا كيف يكوّنونه، وإن زعموا أنهم يعلِّمونهم قوانين صحة الكلام، وملاءمته للموقف؛ إذ الكلام مغروس في طبائع البشر، وهم مفطورون عليه مجبولون ، وإنما قصد النحاة إلى وضع ميزان يزنون به كلامهم، يمايزون به بين الصحة والخطأ، ووضع نموذج مستخلص من كلام العرب يكون نبراسًا لكل من أراد محاكاتهم فيما يقولون، وما ينتجون، ومن هنا جاء تكوين الكلمة واشتقاقها.
و) تدريس النحو مفصولا عن علوم العربية ونصوصها الإبداعية، وتدريسه بدون الالتفات إلى المهارات والقدرات وتوظيفه في حياة المتعلِّم ولغته.
***********
وماذا بعد هذا؟
((اللسان في تصور اللغويين المحدثين جملة من الصيغ، أو ذخيرة كوّنتها الممارسات الكلامية، لدى المتكلمين باللغة، وهو نظام نحويّ، قائم في عقل كل متكلِّم لتلبية كل المقاصد والأغراض، واللغة الشرط اللازم لكي يكون الكلام مفهومًا)) ينظر المرايا المقعّرة ص207ص208وبناء عليه لا بدَّ من الانطلاق من النحو الفطري الذي يمارسه الطالب وإن لم يعلم به. وضرورة ربط النحو بالبدهيات اللغوية الفطرية لدى الطالب؛ حيث إن النحو فطري يلتزمه كل متكلم في كل لغة .فكل متكلم يعرف كيف يستفهم وكيف ينادي وكيف يتعجّب؟ وهذا ما يعرف بالمعاني النحويّة، ولا يمكن له أن يخلط حين يقصد إلى معنى من هذه المعاني بينها فلا يستفهم وهو يريد التعجب، ولا ينادي وهو يريد الاستفهام، ولا يخبر وهو يريد الإنشاء، وهو قادر على إخراج كلامه على مقتضى الظاهر؛ فقد يستعمل الاستفهام للتعجّب والخبر للإنشاء، مثل((رحمه الله))، فكلٌّ كلام مهما كانت منزلة من ينشئه،
ومن ربط النحو بالبدهيات اللغوية التفريق بين المنصوبات : حال تمييز، ظرف ، مفعول به ، مفعول مطلق ، مفعول لأجله ، مستثنى بشرح دلالتها شرحًا مبسّطًا بعيدًا عن التعقيد ، والوعورة المصاحبة لها في كتب النحو، وإن كان أصله من كلام النحاة.
تبسيط المفاهيم النحوية وتقريبها، ومن الظاهر أن السائد هو صرف للطالب عنه، وتعقيد درس النحو من غير ضرورة، كتعقيد الطالب بالعمدة والفضلة، وتعليق الظرف والجار والمجرور ... يأتي المدرس ، ويظل يشحذ في ذهن الطالب من أجل ترسيخ مفهوم العمدة والفضلة . ويجب تبسيط مثل هذا المفاهيم لدى متعلّم العربية للأغراض المهارية بأن يقال : العمدة في النحو من وجهة نظري ما يبنى عليها المعنى ، ويقصد إليه المتكلِّم ، نحو : ((وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين)) لا يمكن الاستغناء عن الحال (لاعبين). وإن كان النحاة يعدون الحال فضلة، ولكن الفضلة التي يجب أن يستوعبها الطالب هي ما يمكن أن يستغنى عنه من الكلام من دون أن يفقد الكلام مدلوله، أو شيئًا ذا بال من مدلوله.
توظيف إبداع اللغة في ذاتها في درسها ((ويقصد به ذلك الكامن في صلب منظومتها، والذي يمكن لكل ناطق بها أن يمارسه ، إن للغة ابتكاريّتها الخاصة بها،و لا تتوقّف الجماعة الناطقة باللغة عن ابتكار العبارات المستجدّة،وإضافة المفردات الجديدة إلى معجم اللغة،وإضافة معانٍ جديدة إلى مفرداتها القائمة بالفعل، ويبدو إبداع اللغة نحويًّا في قدرتها على توليد عدد لا نهائيّ من تراكيب الجمل، وذلك بفضل ما سمِّي بالتداخل الحلقي[الذي تتضمّن فيه الجملة الفعلية شبه جملة اسمية،في حين يمكن لشبه الجملة الاسمية تضمّن جملة فعلية، أو أكثر، وهكذا، مثل: جاء الرجل الذي قابلنا أخاه يعمل في المؤسسة...](انظر الثقافة العربية ص251).
أما إبداع المجاز فيكمن في قدرة صاحبه على هذا التنقّل الحرّ بين الحقول الدلالية المختلفة. ينتقل من حقل العواطف البشرية إلى حقل النيران ؛ فيجعل من العواطف لهيبًا يحرق شغاف القلوب ويؤجِّج المشاعر ويكتوي به قلب العاشق، وينتقل من حقل الوقت إلى حقل المال، فيجعل الوقت ذهبًا وموردًا يدخر، وينفق من ميزانيته، ويبدِّد إسرافًا وتبذيرًا، وينتقل من حقل الشخصية الإنسانية إلى حقل البناء، فيجعل من الشخصية – مثلها مثل البناء تتحطّم وتنهار ويعاد بناؤها وترميمها.
إنّ الإبداع الكامن في اللغة هو بمنزلة(دمقرطة) {إشاعة الملكية} لحق الإبداع ، وهو أول قدرة إبداعية يتحلّى بها الطفل خلال عملية اكتسابه لغته الأمَّ، وهل هناك إبداع أروع من أن يتعلّم الطفل لغته دون مدرس، فنراه يستنتج قواعدها بمنطقه الغريزي، من وسط تلك العينة العشوائية التي تتنامى إلى سمعه البكر من لغة الكبار. إنّ إبداع اللغة يوفِّر جرعة الإبداع اليوميّة، التي تضمن لعقولنا الاحتفاظ بحيويّتها ويقظتها، ولكل مهارة لغوية إبداعها الخاص بها، فكما أنّ هناك إبداعًا للكتابة فهناك أيضًا قراءة مبدعة ، تنفذ إلى قرار النصِّ ، وتعيد تأليف مؤلِّفه. كما أنّ هناك إبداعًا في التحدث ، فهناك أيضًا استماع مبدِع، يستوعب ليتفاعل ويقبل ويرفض، في صمتٍ، ويعلِّق الحكم مرجئًا إيّاه للبوح به في اللحظة المناسبة.
ولا شكّ في أنّ ثقافة عصرنا تتطلّب إبداعًا لغويًّا جديدًا، إبداعًا مغايرًا في فنِّ كتابة النصوص- حتّى تتألّف وتنصهر في "سبيكةْ الوسائط المتعدِّدة مع أنساق الرموز الأمور الأخرى، من صور و أصوات – وإبداعًا جديدًا في فنِّ قراءة غير الخطيّة، يلمّ شتات شظاياها، ويقتفي أثر تشعّبها الداخليّ، وتناصّها الخارجيّ مع غيرها من النصوص، وإبداعًا جديدًا في الحوار عن بعدٍ، تحدُّثًا واستماعًا، لا يرى الحوار نوعًا من عشوائيّة التفوُّه بالكلام بل بناء يخضع لهندسة الحوار، تتآلف فيه الآراء وتتباعد، وتخلص فيه النوايا وتتآمر ، وتحيل الأسئلة وردودها إلى ما قبلها وتمهد الطريق إلى ما بعدها، وفقًا لغايات المتحدِّثين، وتكتيكات حوارهم)) (الثقافة العربيةص275ص277)
توظيف الفوائض، والقرائن المتعدِّدة في صناعة كلام مفهوم، وفهمه كلامًا لا يستوفي شرائط النظام اللغويّ الصحيح؛ إذ ((تعتمد اللغات الإنسانية دون استثناء على مفهوم الفائض أو الحشو، ويقصد بالفائض، اللغوي تلك العلاقات الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية والمقامية التي تربط بين الحروف والكلمات والجمل والفقرات، والتي يمكن الترخّص فيها لكونها فائضًا مع احتفاظ التعبير اللغوي بقدرته على نقل المعنى، وإليك مثالا لتبسيط الفكرة الأساسية للفائض اللغويّ، لنفرض أنه بدلا من أن نلتزم بالقواعد اللغويّة في قولنا(اشترى أخوها تفاحتين من أحد الباعة) ترخصنا في علاقات الإعراب، فنصبنا الفاعل ورفعنا المفعول به، وأهملنا بعض النقاط، وأضفنا من لدينا همزة إلى ألف الوصل، وأغفلنا وجوب التذكير في (أحد) لتصبح الجملة(اشترى أخاها تفاحتان من إحدى الباعة) فعلى الرغم من مجموعة الأخطاء، تظلّ هذه الجملة الممسوخة أشدّ ما يكون عليه المسخ، مفهومة، يمكن لنا قراءتها، والفضل في ذلك يرجع إلى الفائض اللغويّ، فائض العلاقات والقرائن التي يشتمل عليها التعبير اللغويّ، إن فائض اللغة أو حشوها الزائد ليس بعيب ينتقصها، بل هو سند لمرونتها ومصدر لقوّتها، فهو الذي يكسبها المناعة ضدّ التشويش والضوضاء، والخطأ واللبس والغموض، وهو يسهم أيضًا في قدرتها على قلب المعنى، جاعلة من الوعد وعيدًا، ومن المدح ذمًّا، لتظلّ قادرة على توصيل المعنى بين المتكلِّم والسامع)). الثقافة العربية ص213
********
ولعل لسلوك بعض أساتذة اللغة ما يجعلهم لا يفكِّرون بمثل هذا عوامل، تصيب درسهم بالضعف وممّا رصدته من هذه العوامل تهافت مدرِّسي اللغة العربية وأعضاء هيئة التدريس في أقسام اللغة العربية على المحاضرات الزائدة من أجل تحسين أوضاعهم المادّيّة، وهذا عمل فيه من الجهد ما يشلّ عمل الفكر والنظر والمراجعة، والقراءة الحرّة ومتابعة ما يكتب في قضايا اللغة ، فليس من المعقول أن يقوم الأستاذ بتدريس خمسٍ وعشرين محاضرة مثلا ، نحن نقول : إن أربع عشرة (14) محاضرة كثيرة ، فكيف إذا تضاعفت؟! ويجب الحجر على من يتنافسون في المحاضرات الزائدة ومحاضرات خدمة المجتمع ، والتعليم الموازي، ويحسن غرس قيم بحثية بها يقوّم الأستاذ وأداؤه ، بل كيف لشخصٍ كلّ وقته من محاضرة إلى محاضرة، من غير أن يكون لديه فرصة للمراجعة والنظر والتأمل، والتفكير الجادّ في جديد مادّته العلمية، وطرائق تقديمها، فكيف له؟ بل أنّى له أن يفكِّر بالإبداع؟! وكلّ جهدِه منصرف إلى أداء الواجب، وعمل ما يلزمه، وهذا الإسراف في التدريس لا يصنع إبداعًا.
و ما علينا الآن إلا أن نراجع منطلقات درسنا للغة، فندرسها بمفهوم اللغة لا بمفهوم النحو، وهو نظام من أنظمة من أنظمة اللغة، في حين أن اللغة مجموع الأنظمة اللغويّة، وأن ندرسها باعتبار أنها إبداع، واللغة من أظهر وأبرز مواطن ظهور الإبداع. .
ولعلنا لو درسنا النحو أو اللغة على ثلاثة مستويات، كما سيأتي لكان أجدى :
أولها: المستوى التواصلي ، ونقصد به ما يؤدِّي غرضًا آنيًّا محدودًا بالزمان والمكان وأطراف الخطاب، ولا يقبل التدوين لعدم الحاجة إلى تدوينه ، وهو معظم كلام البشر، بحيث لو قلنا : إن 99% من الكلام وما يدور من لغة وكلام وحديث وحوار هو من هذا المستوى، ولا يرقى إلى المستوى التداولي، وهو غير ملائم للكتابة، وهو بحكم آنيّته، يتطلّب شيئًا من اليسر والسهولة والاقتصاد، ولا يلتزم بقواعد اللغة بقدر ما يلتزمه من نجاح في الأداء والفائدة، وكل ما يجري على ألسنة الناس من حديث المجالس والفكاهة والطرفة بل لغة المدرس في فصله داخل في هذا المستوى، وهو يمثِّل كلام الناس العفويّ، وكلامهم الفطري على سجيّتهم دون تكلّف، فالمتكلِّم يهمه أن يتواصل مع الآخرين، وأن يفهم ما يريد، باقتصاد وجهدٍ قليل، وبأخصر طريق، وأيسر سبيل، هذا المستوى يراعي المقام ، ولا يتكلف كالمستوى التداولي، وله مزايا، منها: التوسّع في الترخّصات، ومشاركة اللغة المنطوقة للدلالات الأخرى، كالإشارة، وأنها لغة خاصة بمقامها الذي أنشئت من أجله، مثل كلام الفرّاء مع الخليفة، والحوار، ولغة المعلّم، بل أكثرية الكلام ينشأ من أجل التواصل. واللغة التواصلية لغة عفوية ، لا تكلّف فيها، ولا مراجعة لها ولا تنقيح؛ فقد يوظِّف المتكلّم الإشارة باليد حين تقول: زيد، وأنت تشير إليه بيدِك، وفي النداء تشير بيدك، وتقول: تعالَ، أو العكس: تقول: محمّد، وتشير بيدك: أن تعالَ، أو تستغني بالإشارة عن اللفظين تعبيرًا عن المعنيين: النداء، والإشارة،تقول بيدك : أن يا محمّد أقبلْ أو تعالَ. كما يوظّف المكملات الصوتية الأخرى، من نبرٍ، وتنغيمٍ، وتزمين، وتلوين، للتعبير عمّا يريده من معنًى. وهذا مستوى يصلح أن يستعمل في المقامات الخاصة، ثم هو لا يصلح للتداول فيما بعد، وأكثر كلام البشر على هذا المستوى، وهو مستوًى يتميّز بالأخذ في الترخصات، وأن الكلام فيه تغلب عليه العفوية، وأن بعضه يؤدَّى بالصوت وبعضه يؤدّى بوسيلة دلالية أخرى غير لغويّة، مثل الإشارة وحركات العين، وهذا يمكن لنا أن نسميه مستوى المقام أو الموقف.
وثانيها: المستوى المعتاد الذي يعبّر عن المعنى بتحقيق الحدِّ الأدنى من الصحة، وسلامة النظام، بما يوصل الفكرة إلى المتلقِّي، وهو صالح للتداول ، ويمكن تداوله وتناقله في غير المقام الخاص الذي أنشئ من أجله. وهذا: المستوى مستوًى تداوليٌّ، لا يحتاج إلا أساسيات اللغة في مفرداتها التي توظّف في معانيها الوضعية غالبًا، كما لا يحتاج إلى كثير ممّا يرد في كتب النحو من قواعد فرعية، وخلاف، ومعانٍ، كما أن من يكتب بهذا المستوى أو يتحدّث ليس بحاجة لأن يوظِّف إمكانات اللغة التي تخرج عن القياس والمطّرد، وما تدعو إليه ضرورة الإبداع. وطلاّب هذا النوع لا بدَّ من تحديد حاجاتهم ، ولا بدَّ من الرأفة بهم، وعدم تكليفهم ما لا يحتاجون، والاكتفاء بالحدِّ الأدنى من الكفايات اللغويّة، ذات الصبغة العملية، وبإمكانهم توظيفها في استعمالهم اللغويِّ.ومن هذه الفئة طلاّب الأقسام في العلوم الطبيعية والطبية، والعلوم الأخرى، ويمكن أن يسمّى هذا المستوى بمستوى الموضوع.
وثالثها: المستوى الإبداعي: ويمثِّل اللغة العالية التي تجمع مزايا الكلام الجيِّد، في مضمونه، وصياغته،وهو مستوًى ذو قيمة فنية عالية،فيها مقوِّمات أعلى من مقوِّمات اللغة المعتادة، كالشعر،والنثر الفني،وبعض الأنماط الشعرية. وهذا المستوى يكون غالبًا في التعبير عمّا في النفس من مشاعر وأحاسيس ووجدان وهو مستوًى أدبيّ يوظّف اللغة توظيفًا خاصًّا ، ويجنح إلى التسامي فوق اللغة العاديّة، في أنظمتها المختلفة من بنية وتركيب، ومن خروج في معانيها عن مقتضى الظاهر. ومن خروج دلالة ألفاظها من حقلٍ دلالي إلى حقل دلالي آخر، ويتمثّل هذا المستوى في الشعر والخطابة، والكتابات الأدبية، وكلّ ما يقصد إلى الجمع بين جودة المعنى ، وجودة العبارة، ويوظف إمكانات اللغة والخيال، وقدرات أخرى.وهذا المستوى له طلابه ، وهم من نوعٍ خاصٍّ، وليسوا كلّ الأنواع والفئات، وهذا النوع أعلى المستويات وأرفعها، ولغة هذا المستوى قابلة للمراجعة والتصحيح والتنقيح، لتخرج بصورة تلائم مستواها التداولي.
وكان التواصل ينحصر في اللغة الشفويّة ، والخطأ الشفهيّ والحوار ، وقد كان هذا النوع يمثِّل نسبة تجاوز 95% من اللغة المستعملة ، والتي تصدر عن مستخدمي اللغة، أيّ لغة كانت، بل هناك لغات لا تعرف غير هذا النمط ، ولا تعرف لغة مكتوبة فضلا عن لغة أدبية إبداعية عالية. ثمّ تغيّر التواصل في عصرنا ، وظهرت أنماط صارت تضارع أو تقارب لغة المشافهة، فصار لدينا البريد الإليكتروني، والماسنجر، ولغات المحادثة و الحوار والمخاطبة المكتوبة، كما يجري في غرف المحادثة من خلال الشبكة، من مثل ما يسمونه (الشات)، ولغتها في الغالب لا تختلف عن لغة الخطاب والحوار الشفهي إلا في كتابته في وسيلة أليكترونية، وهذا يفرض على أهل العربية أن يقتحموه؛ ليكون لهم رأيٌ واجتهاد في صناعة لغة تواصل جديدة تتوزّع بين المشافهة والكتابة بالوسائل الأليكترونية، التي هي أشبه بالمشافهة.
وكما يغفل أهل اللغة عن هذا النمط من لغة التواصل يغفلون عن لغة البرامج الحوارية في الإذاعات، والقنوات التلفزيونية، وهي تتطلّب قدراتٍ تواصليّة مناسبة أكثر ممّا تطلبه من إتقانٍ للنظام اللغويِّ، وصحّةٍ في التركيب النحوي.
لا شكّ أنّ الحديث في هذه المقامات التواصلية، بهذه الوسائل ليس كحديث في مستوًى تداولي، سواء كان نصًّا ثريًّا ، أي: أدبيًّا ، أو كان نصًّا محدودًا في لغته ، ومعانيه، وأساليبه، وتراكيبه، ومفرداته. ومن المعلوم أن المستوى التداولي يشمل النوعين؛ إذ التواصلي ما لا يناسب غير المقام الذي ورد فيه. والتداولي ما يصلح لمقامه الذي أنشئ من أجله، وهو صالح لاجتياز الجغرافيا والتاريخ، وتناقله عبر الحدود ، بحيث يصح ويسوغ استعماله في سياقات غير المقام أو الموقف الذي دعا إلى إنشائه.
إن أهمّ شيءٍ في لغة التواصل حنكة التعامل مع الغير، وما من شكٍّ في أهمّيّة التواصل مع الآخرين، ومن أهمّ الوسائل لإنجاح هذا التواصل أن يكون لدى الشخص قدرة على الإقناع والتأثير في الآخرين، وممّا يحسن توظيفه لهذه المهمّة اللغة ومهاراتها، والقدرة على توظيفها، كما ينبغي.
اللغة من مشتركات الحياة؛ إذ الناس بل مستعملوها فيها على درجة سواء من ناحية الإتاحة، ولكلٍّ منهم أن يتعلّم منها حسب حاجته، وأن يكتسب منها حسب طاقته، ولأهل اللغة كما لطلابها تلمّس الحاجة والطاقة، وفي اللغة ثلاثة مستويات، كما أسلفنا، وليس مستوًى واحدًا كما هو جارٍ في درس العربية :
المستوى الأوّل : مستوًى أدبيّ يوظّف اللغة توظيفًا خاصًّا ، ويجنح إلى التسامي فوق اللغة العاديّة، في أنظمتها المختلفة من بنية وتركيب، ومن خروج في معانيها عن مقتضى الظاهر. ومن خروج دلالة ألفاظها من حقلٍ دلالي إلى حقل دلالي آخر، ويتمثّل هذا المستوى في الشعر والخطابة، والكتابات الأدبية، وكلّ ما يقصد إلى الجمع بين جودة المعنى ، وجودة العبارة، ويوظف إمكانات اللغة والخيال، وقدرات أخرى.وهذا المستوى له طلابه ، وهم من نوعٍ خاصٍّ، وليسوا كلّ الأنواع والفئات، وهذا النوع أعلى المستويات وأرفعها، ولغة هذا المستوى قابلة للمراجعة والتصحيح والتنقيح، لتخرج بصورة تلائم مستواها التداولي.
المستوى الثاني: وهو مستوًى تداوليٌّ، لا يحتاج إلا أساسيات اللغة في مفرداتها التي توظّف في معانيها الوضعية غالبًا، كما لا يحتاج إلى كثير ممّا يرد في كتب النحو من قواعد فرعية، وخلاف، ومعانٍ، كما أن من يكتب بهذا المستوى أو يتحدّث ليس بحاجة لأن يوظِّف إمكانات اللغة التي تخرج عن القياس والمطّرد، وما تدعو إليه ضرورة الإبداع. وطلاّب هذا النوع لا بدَّ من تحديد حاجاتهم ، ولا بدَّ من الرأفة بهم، وعدم تكليفهم ما لا يحتاجون، والاكتفاء بالحدِّ الأدنى من الكفايات اللغويّة، ذات الصبغة العملية، وبإمكانهم توظيفها في استعمالهم اللغويِّ.ومن هذه الفئة طلاّب الأقسام في العلوم الطبيعية والطبية، والعلوم الأخرى.
المستوى الثالث: المستوى التواصلي الذي يقال في مقام خاص، ويؤدّي غرضًا آنيًّا محدودًا بالزمان والمكان وأطراف الخطاب، ولا يجري عليه التدوين في الغالب؛ لعدم الحاجة إلى تدوينه، ثم هو لا يصلح للتداول فيما بعد، وهو معظم كلام البشر وأكثره ، ولو قيل 99% من الكلام وما يدور من لغة وحديث وحوار هو من هذا المستوى، بل كلّ ما يجري على الألسنة من حديث المجالس والفكاهة والطرفة، بل لغة المدرِّس في فصله من هذا المستوى، ولا يرقى إلى المستوى التداولي، وهو بحكم آنيّته يتطلّب شيئًا من اليسر، والسهولة، والاقتصاد، ولا يلتزم بقواعد النحو القياسية بقدر ما يلتزمه من نجاح في الأداء والفائدة، ثم هو مستوًى يتميّز بالأخذ في الترخصات، وأن الكلام فيه تغلب عليه العفوية، ثمّ هو يمثِّل كلام الناس العفويَّ ، وكلامهم الفطريّ على سجيّتِهم، دون تكلُّف؛ فالمتكلّم يهمّه أن يتواصل مع الآخرين، وأن يفهم ما يريد، باقتصاد وجهدٍ قليلٍ، وبأخصر طريق، وأيسر سبيلٍ. وأن بعضه يؤدَّى بالصوت وبعضه يؤدّى بوسيلة دلالية أخرى غير لغويّة، مثل الإشارة وحركات العين، وأخيرًا هو مستوًى يراعي المقام، ولا يتكلّف كالمستوى التداوليّ، وقد أسلفنا الحديث عنه.
*********
توصيات و مقترحات :
- 1.مراجعة وتقويم فائدة المقررات، مثل الأصوات، وعلم اللغة، وبعض مداخل العلوم، والتخلّص من الموادِّ الفلسفية التي لا تسهم إسهامًا واضحًا في تكوين المهارات، وتوظيف اللغة.
- 2.التركيز على الجوانب الوظيفية من النحو وغيره من علوم العربية.
- 3.الخروج بالنحو عن النحو النصي إلى نحوٍ أشمل وأكمل وأكبر نفعًا وأثرًا، يصنع الفكر، ويسهم في تذوُّق الكلام وبنائه.
- 4.ضرورة ربط النحو بالبدهيات لدى الطالب ؛ حيث إنه فطري يلتزمه كل متكلم في كل لغة .فكل متكلم يعرف كيف يستفهم وكيف ينادي وكيف يتعجّب؟ ولا يمكن له أن يخلط حين يقصد إلى معنى من هذه المعاني بينها فلا يستفهم وهو يريد التعجب ، ولا ينادي وهو يريد التعجب ، ولا يخبر وهو يريد الإنشاء . فكل كلام مهما كانت منزلة من ينشئه له معنًى نحويٌّ.
- 5.ربط النحو بالبدهيات اللغوية مثل التفريق بين المنصوبات : حال تمييز، ظرف ، مفعول به ، مفعول مطلق ، مفعول لأجله ، مستثنى بشرح دلالتها شرحًا مبسّطًا بعيدًا عن التعقيد ، والوعورة المصاحبة لها في كتب النحو .
- 6.لا بدَّ أن نأخذ بأسباب تطوير الدرس اللغوي ، ولا يمكن أن يتطوّر ما لم نأخذ بثلاث، وندع ثلاثًا، فالثلاث التي نأخذ بها، هي :
- أن ندرس النحو على أساس أنّه مادّة فكر، يجب فهمه، واستيعابه، وليس محفوظات، يكفي فيها الحفظ والترديد.
- أن ندرسه على أساس من الذوق، الذي يصنع ألفة بينه وبين دارسه.
- أن ندرسه مصحوبًا بالممارسة الجيّدة، والتطبيق المؤازر للمادة النظرية.
والثلاث التي نجتنبها:
- اللفظية، التي تعتمد حفظ القواعد دون فهم، وتكريرها؛ إذ يحفظ الطالب القاعدة ، ومثالها أو أمثلتها، ويحصل على الدرجة الكاملة في الاختبار، وإذا ما قرأ وكتب وقع في لحنٍ مشين شنيع ، ولو تغيَّر عليه المثال، الذي حفظه من المقرر، أو فقد من حافظته كلمة أو عبارة لم يهتد إلى إجابة صحيحة، وهو مع ذلك في عداد الممتازين المتفوِّقين؛ لأنّه استطاع أو قدر على استرجاع محفوظه، ولو بدون فهم، وما خطؤه إلا من الطريقة التي تعلّم عليها : الحفظ دون الفهم والاستيعاب لما حفظ.
- الحجب التي تحول بين الدارس والنحو، من خلال ربطه بلغته المحكية المعتادة نظامًا ولفظًا وشكلا ، موافقة ومخالفة لمقتضى الظاهر.
- الإغراق في التنظير؛ فمن الحتم أن نخلِّص الدراسة النحوية بل اللغويّة من كونها تنظيرًا محضًا لا صلة لها بالواقع، ولا بلغة الدارس، لنرتقي بها، لتكون مهارات، وممارسات – على الأقلِّ - يعيشها الدارس في حياته، ومن المعلوم أن ربط المعرفة بسلوك المتعلِّم يمرّ بأربع مراحل: المعاناة، فالممارسة، فالمهارة، فالعادة، فالسليقة. والمهارة لا تأتي إلا بتكرار الممارسة الواعية على شدّة المعاناة التي ستقع للممارس، والاعتياد على دقّة الأداء، والالتزام بالانضباط، وتكلّف التركيز والانتباه، واستحضار قواعد العلم النظريّة، و إذا كان هذا في المهارة فمتى تأتي أو تتكوّن العادة والسليقة؟!
- 7.عمل مقرر للجامعة جديد يشمل جميع مكوِّنات الدرس اللغوي، ولا يستأثر به فرع دون فرع، ويراعي الأهداف الخاصة للفئات المستهدفة، وكل ما من شأنه الإسهام في تطوير الدرس اللغويِّ. ومقرر اللغةوهذا المقرر الذي يقدّميقدَّم لعموم الطلبة، يجب أن يعلم اللغة، ويطلق الألسنة للإبانة عمّا لدى المتعلِّم من أفكار، وخواطر بخطاب يناسب المقام، وأن يكون خليطًا من المعارف اللغويةاللغويّة البسيطة، والمهارات، والتدريبات، مع التركيز على جوانب الاتصال، والتواصل، وتعلم الناس اللغة، وإطلاق ألسنتهم للإبانة عمّا لديهم من أفكار وخواطر، وكل من شأنه قضاء حاجات الحياة اليومية، والتواصل الإنساني المتكرر.والتواصل.
تمّت بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله الكريم.