من الأخطاء المتداولة: اعتقاد أن مهنة المصحح اللغوي قد نشأت مع نشوء الطباعة، فقد جاء في ترجمة ابن بابشاذ : واستُخدم في ديوان الرسائل (متأمِّلا) يتأمل ما يخرج من الديوان من الإنشاء ويصلح ما يراه من الخطأ في الهجاء أو في النحو أو في اللغة [بغية الوعاة 2/17] ، وفي وفيات الأعيان 2/516 : وكان له على هذه الوظيفة راتب من الخزانة يتناوله كل شهر ، وأقام على ذلك زمنًا .وابن بابشاذ متوفى عام 469هـ، فنشأة هذه المهنة تعود إلى هذا التاريخ فيما نعلم، أي إلى القرن الخامس الهجري الموازي للقرن الحادي عشر الميلادي، وليس في عصر الطباعة وهو القرن الخامس عشر الميلادي.
أما كيف نشأت هذه المهنة على نطاق أوسع فنعلم أنه قبل اختراع المطبعة كان تداول الكتب يعتمد على النسخ اليدوي، سواء نسخ الراغب في الكتاب بيده أو لجأ إلى أحد الوراقين الذين يمتهنون هذه المهنة، وحين كانت الأمور كذلك كان صاحب النسخة يطمئن على نسخته بقراءتها على المؤلف لإصلاح ما فيها من عوج وإكمال ما فيها من سقط، وهو ما يعرف باسم "المقابلة"، وبعد المقابلة يزيد عليها ملحوظاته الخاصة عن طريق كتابة التعاليق مثلاً.
حين نشأت الطباعة ـ ذلك الفعل الميكانيكي ـ في منتصف القرن الخامس عشر كان تحضير الكتاب يتم بجمع الحروف وضم الأسطر، وبطبيعة الحال كان يقوم بهذه المهمة عمال ربما ـ في الغالب ـ لا يجيدون القراءة، فكان لا بد من وجود شخص مثقف يقوم بمراجعة تحضيرات الكتاب قبل الشروع في الطباعة، ومن هنا نشأت مهنة المصحح اللغوي.
في سنة 1716 أنشئت أول مطبعة عربية في الآستانة في عهد السلطان سليم الثالث حيث كانت تطبع تلك المطبعة الكتب غير الدينية فقط، ثم شجع السلطان سليم الثالث طباعة كتب الدين والفقه وأمر بفتح مطبعتين أخريين، وقد ظلت مصر بدون مطبعة حتى العام 1819 عندما أمر والي مصر محمد علي بإنشاء مطبعة في مصر وهي التي عُرفت باسم المطبعة الأميرية أو مطبعة بولاق وأنشئت عام 1922، ثم انتشرت مطابع المصريين إلى جانب مطبعة بولاق تؤدي دورها في مسيرة التقدم والتطوير المستمر لثقافة المجتمع المصري، فعلى سبيل المثال أنشئت المطبعة الوهبية نسبة إلى منشئها وصاحبها مصطفى وهبي بن محمد الذي كان رئيس مصححي اللغة التركية بمطبعة بولاق في عام 1863 م.
ويذكر لنا التاريخ بعض الأسماء الشهيرة في مجال التصحيح اللغوي، فعلى سبيل المثال:
نصر الهوريني، شيخ مصححي مطبعة بولاق
الشيخ محمد بن عبد الرحمن المعروف بالشيخ قطة العدوي، مطبعة بولاق
الشيخ طه قطريه، رئيس المصححين بمطبعة بولاق الأميرية
محمد الزهري الغمراوي، المطبعة الميمنية، مصر
عثمان حلمي قره حصاري، المطبعة العامرة، اسطنبول
الشيخ أحمد سعد علي، رئيس التصحيح بمطبعة الحلبي
كان المصححون في ذلك الجيل يلجأون إلى إعادة المراجعة بعد الطباعة ليزيدوا على النسخة المطبوعة عدة صفحات عبارة عن جدول فيه الموضع ـ مذكورا بالصفحة والسطر ـ واللفظ الخطأ وتصويبه، ولكن للأسف، ولأن العمل البشري دائما يعتوره الضعف والنقص، حتى هذه التصويبات كان يدخلها الخطأ، ولم يسلم منها على الإطلاق سوى القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه في جميع الأزمنة والأمكنة.
وتعد الأخطاء الطباعية نقطة مثيرة للجدل في هذه المهنة العجيبة، فحتى مع إعادة التصحيح أكثر من مرة ـ قد تصل إلى ثلاث بروفات أو خمس ـ يظل دائما الخطأ موجودا، والتفاضل بين المصححين لا يكون بانعدام الأخطاء وإنما بندرتها.
وتحتاج مهنة المصحح اللغوي مع الإلمام بقواعد اللغة إلى ثقافة عامة واسعة، ففي عالم الكتب كثير من المزلاَّت، والثقافة تعطي الذكاء الذي يجعل المصحح يتصرف لتفادي الأخطاء الكبيرة التي قد تشوه الكتاب وتضر بمادته العلمية.
ويحتاج المصحح مع الثقافة إلى التواصل مع المؤلف، ففي كثير من الأحيان لا يمكن الحكم على الصواب والخطأ إلا عن طريق المؤلف، فهو أدرى بما كتب وما يقصد.
وهذه الاحتياجات المذكورة في حكم المصحح الذي تمرَّس في التصحيح وأصبح لا يقتصر على التصحيح اللغوي وإنما قد يتدخل في المادة العلمية حذفًا وإضافة واقتراحًا، وهي مهنة (المحرر) المهضوم حقها في عالم الكتاب العربي، والتي يهتمون بها جدا في أمريكا والغرب، ويعدُّونه شريكًا للمؤلف ومسؤولاً عن محتوى الكتاب وكيف تأهل للنشر وكيف خرج على صورته النهائية، أما في مهنة المصحح المعروفة في بلادنا العربية، فلا يحتاج إلى أكثر من القواعد النحوية والصرفية والإملائية، ويستطيع أي حاصل على "دبلوم تجارة" أن يمارس هذه المهنة في إحدى صحفنا الغرَّاء.