الاحتلال اللغوي في الوطن العربي :
تعرّضت اللغة العربية منذ قرون عدّة إلى هجمات شرسة ومؤامرات كثيرة للنيل منها وبالتالي النيل من أصحابها ودينهم وثقافتهم وهويتهم، وفي عصرنا الحالي وصل استهداف اللغة العربية أشرس مراحله مع ظهور "الإنترنت" والقنوات الفضائية الهدّامة، وفي ظل هيمنة ثقافية غربية تقوم عليها جهات تعمل جاهدة على نشر ثقافتها من خلال لغتها بالوسائل كافة.
إن أول أعمال الاحتلال أيّ احتلال هو العمل على تحطيم اللغة ومحاربتها بطرق شتّى، وهذا ما قام به المحتل لأرضنا، فقد أقنعنا بأن اللغة العربية لغة صعبة معقّدة، وأن التفاوت بينها وبين العامية يجعل من المستحيل أن تكون لغة علم أو ثقافة، وأنها لغة قديمة غير صالحة للتعبير عن مفردات العصر، وللأسف أن احتلال أرضنا انتهى وهذه الأفكار ما زالت في رؤوسنا نتناقلها كما النسب! فأصبح هناك احتلال من نوع جديد في الوطن العربي ليس للأرض وإنما للعقول، احتلال نحن فيه المحتلون، محتلو عقول أنفسنا وأبنائنا، احتلال يزداد ضراوة عاماً بعد آخر، احتلال نسهم فيه نحن وتسهم فيه الحكومات العربية ويغذيه أشباه المثقفين والكتّاب العرب، فمنهم من يطالب بالتدريس باللغة الإنجليزية، ومنهم من يطلق صيحات استخدام اللهجات المحلية المحكية على حساب العربية الفصيحة، ومنهم من يؤيد استخدام الحرف اللاتيني بديلاً للحرف العربي، والدعوة إلى إغراق العربية في سيل من الألفاظ الأجنبية، وإلى تطبيق مناهج اللغات الأوروبية والأمريكية على اللغة العربية، ووصل الأمر أن ثمّة مؤسسات حكومية وغير حكومية في الوطن العربي، من المفترض أن تكون في مقدّمة المدافعين عن العربية مثل المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية، نجدها تسهم إسهاماً خطراً في استهداف اللغة العربية!
لا بدّ أن يُفهم أنه ليس ثمّة شكّ في أن المعركة ضد اللغة العربية معركة ممتدة في الأرض والزمن ولن تتوقف، فاللغة العربية في عصرنا الحالي في خطر عظيم، وهي القلعة الأخيرة التي تحمي كيان الأمة، في وقت أصبحت فيه اللغات الأجنبية في الأقطار العربية مقدَّمة على اللغة العربية، ومظاهر هذا الواقع كثيرة جليّة واضحة لا تخفى على أحد، ونتاجه مزيد من الفرقة ومزيد من تمزيق الأمة العربية، في عصر تبحث فيه هذه الأمة عن وحدتها وترفع فيه شعار قوميّتها. لا ينكر أحد أن اللغة العربية كانت لغة العلم والحضارة في وقت من الأوقات، لكن ما الذي يمنع أن تعود الآن لغة العلم والحضارة والدّين والثقافة والهوية؟
إن لغتنا العربية من أقدم اللغات فأصولها وجذورها ثابتة متينة، تستطيع محاكاة لغة العصر لغناها الفريد من نوعه في المفردات والدلالات، وهي في الوقت نفسه لغة متجدّدة بفضل ما تتمتع به من خصائص ومميزات من ألفاظ وتراكيب ومعانٍ وصرف ونحو، مع القدرة على التعبير عن مدارك العلم المختلفة.وما التردّي الذي وصلت إليه العربية، إلا نتاج تأخّر أصحابها، وليس تأخّرها، وما الفيروس اللغوي الذي أصابها إلا نتاج عجزنا نحن عن التعبير عن متطلبات الحضارة الحديثة، وليس عجزها هي؟ اللغة العربية تحتاج إلى لقاح فعّال يصنعه العرب أنفسهم ، كي تُشفى من علّتها، وتقف على قدميها من جديد لغة عظيمة شامخة، لغة القرآن الكريم، الذي تحدّى الله عزّ وجل الخلائق أن يأتوا بمثله.
ولكي تعود اللغة العربية إلى سابق عهدها يجب رصد أسباب تراجعها على أعلى المستويات السياسية في الوطن العربي، لأنه دون موقف سياسي واضح ودون إرادة سياسية حقيقية، لا يمكن أن تعود للغة هيبتها وكرامتها، ويجب وضع حلول وأسس جديدة صحيحة وتدرجية لوقف هذا التدهور ولإنعاش اللغة العربية، ولاتخاذ موقف جماعي واعٍ لوضع خطة موحّدة للنهوض بها من جديد ونفض الغبار عنها وما لحق بها من أذى، ووضع القوانين الملزمة التي تحمي العربية وتعيد لها مكانتها العظيمة، وتحجز لها مكاناً ضمن لغات البحث العلمي والتأليف والنشر، وكذلك توفير التمويل الكافي، وإعداد برامج تدريب للمتخصّصين والمعنيين للقيام بهذا الدور.
وإن كنا على يقين تامّ بأن شأن العربية أكبر من أن يترك للجهود الحكومية بمؤسساتها وهيئاتها فقط، بل لا بدّ من مشاركة مجتمعية حقيقية يقوم بها الأفراد الذين تقع على عاتق كل منهم مسؤولية بشكل ما تجاهها عبر الوسائل المتاحة، فإننا نؤكد ضرورة الدور الحكومي من منطلق أنه الأساس في وضع أولى لبنات حائط الصد الأول في الدفاع عن اللغة، وأنه دون قرار سياسي لن يكون هناك جهد مجتمعي.
إن الدفاع عن اللغة العربية والنهوض بها واجب ديني ووطني، فهي السبيل إلى عودة الأمجاد وإلى نبذ العنف وفهم الدّين بطريقة صحيحة. فلنسأل أنفسنا اليوم: أين نحن -أبناء اللغة العربية- من الأعاجم الذين دخلوا الإسلام وكانت لهم إسهامات كبيرة جداً في رفعة اللغة ورقيها، وشاركوا-وهم كثر- في شرح قواعد العربية وآدابها للآخرين فكانوا من أهم علماء النحو والصرف والبلاغة؟ وأين همّتنا من همّتهم في العناية بها ومقاومة عمليات الهدم التي تتعرض لها؟ وفي الوقت الذي لم يملك العالم فيه إلا الاعتراف بالعربية لغة عالمية لها أمجادها وماضيها العريق المشهود له، فاعتمدتها هيئة الأمم المتحدة واحدة من خمس لغات عالمية لمنظمات دولية تابعة للهيئة، ومنها "اليونسكو"، نجد من أبنائها العاقين من يصرّ على التشكيك في عظمتها ومكانتها وقدراتها، ظناً منه أنه سينال بهذا استحسان الغرب وثقته! فهل اللغة العربية في مأمن في وطنها وبين أهلها من أمثال هؤلاء؟
------------------------
حسام حسني عبدالله
husamawayih@hotmail.com
رئيس قسم التدقيق اللغوي – إدارة الإعلام
"مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية" - أبوظبي