من المعلوم أنّ اللغة فكر، فضلا عن كونها وسيلة تعبير، وأنّ الفكر الناجع والناجح إنما هو تطبيق أكثر منه نظر. لكنّ العربية اليوم، وكذلك سائر اللغات التي يتعلمها العربيّ، تتخبط في مستنقع من النظر ليس له مثيل. وأكبر دليل على ذلك أنّ المحاصيل الحضارية التي أنتجها فكرنا اللغوي المستسلم للمنحى النظري والتلقيني تعدّ ضحلة بالقياس مع طموحات الشعوب الناطقة بالعربية.
وفي محاولة للخروج من هذا المستنقع ما انفك الفكر السياسي العربي وخبراء التعليم العرب، والحق يقال، يقترحون الحلول على المدرسة العربية. لكن المشكل أنّ كل مرة تقدموا باقتراح أو نفذوا إجراءا إلاّ وكان في جرابهم أحد الخيارين الاثنين التاليين لا ثالث لهما: إمّا التعريب، وذلك بتكثيف دروس اللغة مع تدريس العلوم بالعربية، وإمّا الانفتاح على اللغات ولو أدّى ذلك إلى تدريس العلوم بواسطتها.
والمعضلة أننا قلّما نسمع صوتا يخرج عن الطرق المدُوسة، مناديا مثلا بدمج هذا الخيار في ذاك الخيار لا لشيء سوى لأنّ التعريب إنما هو انفتاح على اللغات. ويعني هذا التصور أنّ الارتقاء بلغة الهوية، العربية، موثوق الصلة بحسن استغلال اللغات الأجنبية الناطقة بالحضارة المعاصرة. وتلافيا للتكرار، و بالرغم من ضرورة الإحاطة الشاملة بهذا الطرح الذي يفترض بيان العلاقة الجدلية والتفاعلية بين العربية وسائر اللغات المستعملة في المجتمع (1)، أودّ أن أختصر المسافة وأقتصر على الجانب التعليمي الميداني الصرف دون الجانب العلمي.
وفي هذا الباب، سواء في ظروف مدرسة التعريب أو في ظروف مدرسة الانفتاح على اللغات، ألاحظ ما يلي:
- كلّما كان الحرص أكثر على تعريب الحياة المعاصرة (معارف وعلوم وتكنولوجيا)، كلّما تقوّى التوجه التلقيني في تدريس اللغة العربية ، وكلّما باءت محاولات التعريب بالفشل(2).
- ما زالت العربية تدرّس على أنها بنية مستقلة عن الواقع المعاصر، و نظامٌ للنحو والصرف لا بدّ من احترام بُعده البنوي دون سواه من الأبعاد مثل الاستعمال في السياق والتوظيف الخطابي. وكانت النتيجة استفحال حالة الفصام من جرّاء اتساع الهوة بين "كلام" الناطقين بالعربية والواقع المعيش. كما كانت نتيجة الفصام أن تمّت التضحية باللغة، وكذلك بوظيفة التخاطب بواسطتها، حتى أنّ البنية أضحت كأنها هي اللغة. وكأني بالتعريب أريدَ به أن يكون لغة أخرى.
- تأثر تدريس اللغة الأجنبية أيضا بهذا المنحى الفوقي والبنيوي وكانت النتيجة أن حصل ما يمكن أن أسميه "تعريب اللغة الأجنبية"، أي فرض الأسلوب المتوخى في تدريس العربية على درس اللغة الأجنبية وذلك بتقديم الجانب البنيوي على جوانب تواصلية مثل التعبير السياقي والتمكين المقاصدي. ووضع اللغة الفرنسية وهي تُدَرّس كلغة ثانية في المجتمع العربي دليل صارخ على هذا الخلل (3).
- تبيانا لفضل تعليم اللغة "من تحت إلى فوق" أي بواسطة استقراء القواعد من خلال الفعل الخطابي و بحسب الحاجيات الخطابية للباث، أثبتت بعض التجارب الرائدة أنّ التحصيل المدرسي يكون أفضل لمّا يتم، في مرحلة سابقة (مرحلة ما قبل سنّ الدراسة)، تعليم العربية بواسطة "الطريقة التنشيطية" وذلك حسب مبدأ "فضلُ الفعل على القول مَكرُمة" (4). كما أنّ التجربة المتمثلة في استبدال "تدريس القواعد اللغوية"، في السنة الثالثة من المحلة الابتدائية (لمّا يكون عمر التلاميذ ثمانية سنوات)، بمادة أطلقَ عليها اسم "ممارسات لغوية شاملة"(5) قد استأثرت بعناية التلاميذ والمعلمين على حدّ سواء، لا سيما أنها مركزة على "اهتمامات التلاميذ التلقائية وهمومهم اليومية" (6).
في ضوء الملاحظات السابقة أستنتج أنّ التعريب انطباعٌ، وأنّ هذا الانطباع عادة ما يكون غير واعٍ، أكثر منه إجراء ضروري للارتقاء باللغة العربية، ومنه بالناطقين بها. وهو انطباع لم يرتق بعدُ إلى مرتبة الإجراء لأنّ المنادين به يبجلون تلبية رغبتهم في الارتقاء بالأداء اللغوي للعربية ولا يعيرون ما يلزم من الاهتمام للأداء التواصلي. وهؤلاء المعرّبون يُعرِبون هكذا عن تصوّر ناقص للتعريب. ويتمثل النقص في عدم الوعي بتكامل البعدين اللغوي والتواصلي ثمّ في غياب المنهاج الذي من شأنه أن يعزز "القدرة اللغوية" بواسطة تعزيز "القدرة التواصلية".
والخطر في كَون التعريب بات انطباعا ولم يفِ بالحاجة الحقيقية (التواصلية) يكمن في إفساد اللغة العربية في المقام الأوّل، ثمّ كنتيجة لذلك، في تعطيل مساعي الارتقاء بها إلى مستوى العصر كوسيلة معبرة عن الحضارة وفي نفس الوقت كفكرٍ متحضر. كما أنّ الخطر يكمن، أخيرا وليس آخرا، في تكريس مجتمع عربي بلا لغة طالما أنّ حتى اللغة الأجنبية لم تسلم من الاستبداد البنيوي. ولا أعتقد، في هذا السياق، أنه من مصلحة العربية ولا من مصلحة المجتمع العربي الناطق بها أن تبقى اللغة الأجنبية في وضع فاسد هي الأخرى.
على صعيد آخر لكنه موازٍ، يبدو أنّ هذه الحالة اللغوية المشوبة بالمغالاة بالبنيوية، وباستنباط الأقوال من القواعد عوضا عن استقراء هذه الأخيرة من خلال الأقوال والنصوص، وبالاستدلال بالقاعدة لتبرير الخطاب عوضا عن تحليل هذا الأخير بحثا عن القاعدة فيه، قد تسبب في استنساخ عقلية مماثلة ونموذج مماثل في مجال التديّن. أو لنقلْ على الأقل إنّ هذه العقلية وهذا النموذج قد نشآ جنبا إلى جنب مع الحالة اللغوية التعيسة.
فعوضا عن أن "يتعلّم" مسلم القرن الحادي والعشرين الإسلام بفضل استساغة معانيه السامية واستبطان دلالاته ومقاصده النيّرة، في الخلد وفي العقل وفي الوعي وفي العمل، تراه "يتعلمه" من الباب الصغير، باب تركيبته وشكله والجدال حول المظاهر المرتبطة به. وبالتالي عوضا عن ممارسة فعل الخير وأداء العمل الصالح بواسطة إعداد البرامج وتصميم الخطط لذلك وبواسطة إنجاز المشاريع وإصلاح ما بالنفس وما بالواقع لإبانة الوجود الإسلامي والبرهنة عليه شرعة ومنهاجا، ترى المسلم المعاصر يمارس على نفسه الضغط تلو الضغط ليفعل كل شيء سوى أنه يعمل من لآخرته كأنه يموت غدا ولدنياه كأنه يعيش أبدا، كما جاء في الأثر الشهير(7). فمثلما حكم على نفسه بالانتظار أن تكون العربية تعبيرا لوجوده، تراه يركن أيضا إلى نفس أسلوب الانتظار رغبة منه في أن يكون الإسلام تعبيرا لوجوده. هكذا يكون التعريب والإسلاموية وجهين لنفس العُملة.
وما يؤكد صعوبة تصريف هذه العملة، إن صح التعبير، أنّ وجهيها الاثنين قلّما يتقابلان. فلننظر إلى التاريخ المعاصر للمجتمع العربي، وسوف نلاحظ أنّ الذين ينادون بالعروبة وبالتعريب ليسوا هُم أنفسهم الذين ينادون بالحل الإسلامي. إنّ التعريب والإسلاموية ضرّتان على ما يبدو، وكيدهما للمجتمع العربي عظيم.
في الختام ليس وجه الشبه بين الحالة اللغوية والحالة التديّنية للمجتمع العربي ملاحظة أسوقها من باب المداعبة أو التفنن في التشبيه، ولكنّ القصد منها أنّ التحدي اللغوي من هنا فصاعدا، ليس فقط واحدا من التحديات الخطيرة للإنسان لعربي المسلم المعاصر، إنما هو القاطرة التي تجترّ التحدّي الإسلامي، بالمعنى التاريخي والحضاري العام. بكلام آخر، إنّ التحدي الإسلامي تحدٍّ لغوي بالأساس؛ والذي لم يُحسَم بالسياسة يُمكن أن يُحسَم باللغة. فمتى ستكون للعرب لغة واحدة؟
محمد الحمّار
"الاجتهاد الثالث": الكلام إسلام
(1) نشر لي على المشباك مقال في هذا الصدد بعنوان "التعريب انفتاح على اللغات".
(2) من الأمثلة على ذلك إدراج مادة "التنمية اللغوية" في درس العربية. وكان ذلك في الثمانينات من القرن الماضي في المدرسة الثانوية التونسية. وهي تجربة لم تعمّر طويلا.
(3) في المدرسة التونسية مثلا وفي مدارس المغرب العربي عموما.
(4) تجربة المربي البشير الهاشمي. وهو صاحب فكرة أنجزتها السلطة التربوية بضاحية شنني بمدينة قابس (الجنوب التونسي)؛ والفكرة هي إنشاء "المدرسة الحديثة التجريبية بشنني قابس"؛ تأسست في سنة 1984.
(5)تجربة البشير الهاشمي في نفس المدرسة المذكورة بالمرجع رقم 4؛ وقد شرحها المربي بنفسه في محاضرة بعنوان "التجديد في المدرسة التونسية" ألقاها بـ"منتدى الجاحظ" بتاريخ 30-10-2010. وتعتمد الطريقة على ما يسمية الهاشمي "منهجية النصوص الخمس" (الحر والتقريري والخيالي والتلخيصي والمُعاد بناؤه).
(6) المرجع السابق.
(7) للإمام الحسن البصري.