قراءة في كتاب "التداولية عند العلماء العرب " لـ: د/ مسعود صحراوي - أ /عائشة برارات

بقلم: أ /عائشة برارات (*)
بات معروفا أنّ اللسانيات الحديثة تستهدف الدراسة العلمية للظاهرة اللغوية بمختلف أدواتها الإجرائية وعلى تنوّع جهازها المفاهيمي الواصف ، وبالنظر إلى عمق رصيد أسلافنا المتمثل في التراث اللغوي العربي بشتى حقوله المعرفية كعلم البلاغة ، وعلم النحو ، وأصول الفقه...وغيرها ، وانطلاقا من إشكالين كبيرين : كيف نفهم اللسانيات؟ وكيف نقرأ التراث؟ نتعاطى المقاربة .
إنّ دراسة التراث اللغوي الذي هو نتاج سياق تاريخي ومحيط معرفي خاص تفترض تجنب القطيعة أو الإسقاط قدر الإمكان ، ومن ثمّ تكون محاولة استثمار المناهج اللسانية للكشف عن التطبيقات المختلفة فيه ، إذن الغاية القصوى بين اللسانيات الحديثة والتراث اللغوي العربي تصوُرهما دون انبهار أو تقديس ، فربّ انبهار يقود إلى تحريف ، وتقديس يستطرد التزييف.
ومن خلال الوقوف على هذه المناهج وملاحظة قصور بعضها كالبنيوية والتوليدية التحويلية في استيعاب الظاهرة اللغوية من حيث ربطُها بالاستعمال ؛ ذلك أنّ البنيوية " تُعنى بدراسة المنجز في صورته الآنية بغضّ النظر عن السّياق الذي أُنتج فيه ، أو علاقته بالمرسل وقصده بإنتاجه ؛ ويتمّ ذلك بتحليل مستويات لغة بعينها مثل اللغة العربية بوصفها كيانا مستقلا ، ذات بنية كلية ، وإيجاد العلاقة بين هذه المستويات بدءا من تحليل الأصوات والصّرف والتراكيب إلى تحليل مستوى الدلالة" ، فالنظرة البنيوية للغة هي نظرة تجريدية صورية عامة تعتبر "الكلام والفرد والمتكلم والسّياق غير اللغوي عناصر خارجية عن اللغة ، ومن ثمّ تقوم بإقصائها من مجال الدراسة " ، أمّا التوليدية التحويلية فعلى الرّغم من سعيها نحو التفسير وعدم اكتفائها بوصف الظواهر وذلك "بوضع نظرية تعصم اللغة من سكونها وتمنحها طابعها الإبداعي الخلاق" ؛ فلا يُكتفى بالوصف المجرّد والتصنيف النموذجي لوحدات اللغة وتحديدها داخل نظامها بل مجاوزة ذلك إلى الاهتمام بكيفية حدوث اللغة منتقلة من الموجود بالقوة (اللغة) إلى الموجود بالفعل(الكلام) ؛ أي الكشف عن الحركية الداخلية للغة التي بإمكانها أن تُفسّر - ضمن عملية التبليغ اللغوي- سرّ الطاقة الإبداعية الخلاّقة عند الفرد المتكلم الذي لم يعد لدى التوليديين مجرّد مستقبل للغة يخزّنها في ذاكرته بكيفية سلبية ، إلا أنّ اعتبار اللغة مقدرة عقلية موجودة قبلا في ذهن الإنسان ، ومن ثمّ البحث عن "الكفاءة" التي يمتلكها "المتكلم السامع المثالي" دون الأداء الواقعي للمتكلم الحقيقي قد جعل منها دراسة شكلية تكتفي في دراسة اللغة بوصفها بنية مستقلّة بذاتها دون الاهتمام باستخداماتها وبالمتحدثين بها وبوظائفها ، وابتعدت بتجريدها من الكفاءة إلى نظرية الأداء عن آثار الاستخدام والسّياق .
وظهرت التداولية كمنهج سياقي موضوعه بيان فاعلية اللغة متعلقة بالاستعمال من حيث الوقوف على الأغراض والمقاصد ، ومراعاة الأحوال ، وفقه ملابسات الوضع والإنتاج والفهم ، فالتداولية تنظر إلى اللغة باعتبارها نشاطا يمارس من قبل المتكلمين لإفادة السامعين معنى ما ضمن إطار سياقي ، ولا تكتفي بوصف البنى في أشكالها الظاهرة ، ومن ثمّ فهي نظرية " لا تفصل الإنتاج اللغوي عن شروطه الخارجية ، ولا تدرس اللغة الميتة المعزولة بوصفها نظاما من القواعد المجرّدة ، وإنما تدرس اللغة بوصفها كيانا مستعملا من قبل شخص معين في مقام معين موجّها إلى مخاطب معين لأداء غرض معين " .
لقد عُنيت التداولية بالعناصر اللغوية والعناصر غير اللغوية التي يُنجز فيها الحدث الكلامي ، فلم تهمل الأشخاص المتكلمين ، ولم تقص الكلام ، فهذه العناصر من صميم بحثها ، وكذا لم تهمل السياق والظروف والملابسات ، فالمبدأ العام الذي تقوم عليه هو "الاستناد إلى الواقع الاستعمالي من أجل تفسير الظواهر اللغوية" وبذلك "تعطي للغة حجمها الحقيقي وتسدّ فراغات المناهج السابقة" .
وانطلاقا من مبدأ "الاستناد إلى الواقع الاستعمالي من أجل تفسير الظواهر اللغوية" ، وإيمانا بأهمية الربط بين اللسانيات الحديثة والتراث اللغوي العربي حدّد مؤلف "التداولية عند العلماء العرب" منهج دراسته من خلال إعادة قراءة التراث قراءة تبتعد عن التعسّف في تطبيق المفاهيم تطبيقا قسريا ، مع ضرورة استصحاب خصوصية هذا التراث واستقلاليته مما يجعل منه منظومة مستقلة ومتميزة ومتكاملة .
إنّ تطبيق المفاهيم التداولية على اللغة العربية-كما يرى المؤلف - سيُسهم في وصفها ورصد خصائصها وتفسير ظواهرها الخطابية ؛ فاللغة العربية تمتلك من وسائل الإيضاح والإبانة عن الدلالات المختلفة شأنها في ذلك شأن اللغات الطبيعية تتضمّن بنياتها وظائف دلالية تحقق آلية التواصل بين أفرادها.
ولعلّ أبرز هذه المفاهيم مفهوم "الفعل الكلامي" الذي يتجلى من خلال توظيف مبدأين هامين في دراسة اللغة:
أ.القـصدية: ربط اللغة كمنظومة من القواعد المجرّدة بالأغراض والمقاصد المراد تأديتها في إطار التواصل اللغوي ، فدلالة الكلام مبنية على معرفة المقاصد.
ب.المعطيات السياقية: استحضار متغيرات العالم الخارجي والمكونات الذاتية ، كالبيئة الاجتماعية ، والمعرفة المشتركة بين طرفي الخطاب ...وغيرها ، مما يجعل اللغة حية لا ميتة معزوله عن الدلالات اللغوية التي تستمدّ منه .
ومن هنا نطرح التساؤل الآتي: إلى أيّ مدى استثمار المفاهيم التداولية في رصد الأفعال الكلامية في اللغة العربية؟.
قسّم المؤلف كتابه إلى خمسة فصول ، تناول في الفصل الأول"الجهاز المفاهيمي للدرس التداولي المعاصر"ثلاث نقاط رئيسية:
- عرض المناخ العام للنظرية.
- تحديد ماهية التداولية .
- أبرز المفاهيم التداولية.
في تحديد "ماهية التداولية" أشار المؤلف إلى ضرورة ربط كلّ بنية لغوية بمجال الاستعمال ، أو كما عبّر عنه بوظيفة التواصل ، "فالتداولية ليست علما لغويا محضا، علما يكتفي بوصف وتفسير البنى اللغوية ويقف عند حدودها وأشكالها الظاهرة، بل هي علم جديد للتواصل الإنساني يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال ... ، فقضية التداولية هي إيجاد القوانين الكلية للاستعمال اللغوي والتعرّف على القدرات الإنسانية للتواصل اللغوي ، وتصير التداولية من ثمّ جديرة بأن تسمى: علم الاستعمال اللغوي" ، فمقياس البحث في اللغة " ربط بنية اللغة بوظيفتها التواصلية ارتباطا يجعل البنية انعكاسا للوظيفة " كما حدّد المتوكل في النظرية الوظيفية ؛ ذلك أنّ كلّ تركيب تترتب ألفاظه تبعا لوظيفة التواصل ؛ أي رصد العلاقات بين الأنماط التركيبية المختلفة والوظيفة الإفصاحية ، وهنا نطرح تساؤلين هامين : هل النظرية الوظيفية التي حدّد أصولها أحمد المتوكل هي نفسها التداولية بموازاة ربط البنية بالوظيفة ؟ ، وهل القول بأنّ التداولية هي علم الاستعمال اللغوي -بمفهومها الواسع- يحقق الكفاية التداولية من حيث الاستقراء أوّلا ، والتقعيد ثانيا ؟ ومعلوم أنّ الاستعمال اللغوي ليس تمثلا منطقيا لغويا فقط ، بل هو إنجاز حدث اجتماعي ذو صبغة تأثيرية فهو(الاستعمال اللغوي) عبارة عن مجموعة سلوكات وتفاعلات لا نهائية ، أليس ذلك أمرا مستعصيا ؟.
وفي حديث المؤلف عن " أبرز المفاهيم التداولية" نلمس طابعا اختياريا ، يبرّره الخلط بين النظريات والمفاهيم ؛ فنظرية الاستلزام الحواري لغرايس ، ونظرية الملاءمة لولسن وسبربر تستثمر المعطيات التداولية ولكن هل تصلح أن تكون مفاهيم إلاّ على وجه معين ؟ ، وكيف نرفع هذا الإلباس ؟.
حين عالج المؤلف مفهوم "الفعل الكلامي" كان جديرا به تقسيمه إلى قسمين : "فعل كلامي مباشر" و"فعل كلامي غير مباشر" ، هذا الأخير يرتبط بالاستلزام الحواري ومسلّماته عند غرايس ، أمّا حديثه عن "متضمنات القول" كمفهوم إجرائي يتعلق برصد جملة من الظواهر المتصلة بجوانب ضمنية من قوانين الخطاب بما تشتمل عليه من "افتراضات مسبقة" ، و"مضمرات قول" مع توضيح الأمثلة ، فحديث عن السّياق بشكل عام ، أو كما اصطلحنا عليه بمفهوم (المعطيات السياقية) -كما أوضحنا سابقا- إلا أنّ الإيجاز سمة غالبة في كشف حدود هذا المفهوم ومتضمناته .
ومن المفاهيم المهملة مفهوم القصدية ، فعلى الرغم من الإشارة إليه في مواضع مختلفة من الكتاب بوصفه مسلّمة تتضمن شبكة من المفاهيم المترابطة كمبدأ الإستراتيجية ، ونمط تنظيم الخطاب ...وغيرها إلاّ أنّ هذا المفهوم يحتاج إلى مزيد تفصيل وبسط ، بتخصيص عنصر مستقل يتناوله كون التداولية ، والأفعال الكلامية تتخذ أساسا لها الاستعمال ، والاستعمال ينبني على المقاصد ، فـ "القصد هو في كلّ لحظة من لحظات استعمال اللغة" .
ويمكن وضع المخطط التالي لتوضيح مفاهيم التداولية :
الفعل الكلامي
المعطيات الساقية [ الافتراضات المسبقة ، الأقوال المضمرة]
القصدية [الاستلزام الحواري ، الاسراتيجية ، الحجاج]
أمّا في الفصلين الثاني والثالث "معايير التمييز بين الخبر والإنشاء في التراث العربي" ، و "تقسيمات العلماء العرب للخبر والإنشاء " على التوالي ، فبعد تحديد موقع الظاهرة من منظومة البحث اللغوي ، وشرح معايير التمييز بين الخبر والإنشاء شرحا مفصلا مع توضيح الإشكالات الواردة ، والتوغل في تقسيمات إجمالية وتفصيلية تارة لبعض الفلاسفة (الفارابي ، وابن سينا) ، وأخرى للبلاغيين (السكاكي) ، وثالثة لعلماء اللغة (الجاحظ ، والمبرد ، والأستراباذي) يتبادر إلى أذهاننا التساؤل الآتي: لماذا نعتدّ بمعايير التمييز بين الخبر والإنشاء ما دام كلاهما يحمل فعلا كلاميا إنجازيا ؟ ، وهل تحديد المعايير التمييزية بين الخبر والإنشاء يُعتبر ضرورة منهجية لكشف الأفعال الكلامية ؟ .
وإذا كانت ظاهرة الأفعال الكلامية موسومة بنظرية الخبر والإنشاء في التراث العربي اللغوي ، وكان الخبر والإنشاء من موضوعات البلاغة - على الخصوص- مقصودا لذاته ، تتولّد الحاجة إلى تخصيص فصل تحت عنوان (الأفعال الكلامية عند البلاغيين) ، ولا سيّما في علم المعاني ، وهذا ما لم يشر إليه المؤلف البتة فمعلوم أنّ مباحث البلاغة أقرب منها إلى التداولية من غيرها ، فالبلاغة تداولية في جوهرها ، دليل ذلك تناولهم كيفية إنتاج النص لدى المتكلم وآلية فهمه عند السامع ، ومدى مراعاة الظروف والأحوال المتلبسة بإنجازه ، وذلك من خلال توخي المتكلم أثناء إصدار الحدث الكلامي حال السامع وهيأته ، إلى جانب إدراك السامع لما يبلغه الأوّل من أغراض ومقاصد يسعى إلى توضيحها – في تراكيب معينة – بدلالة القرائن اللفظية والحالية التي تحفّ الكلام الذي يتلفظ به ؛ فتقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء ، وتحديد أنواع الخبر باعتبار السامع والحديث عن مقتضى الحال ، وتأثير العناصر السياقية ، والمقامات المختلفة من صميم بحث التداولية ، وهذا ما نجده خاصة عند أبي يعقوب السكاكي في "مفتاح العلوم" ، وابن سنان الخفاجي في "سرّ الفصاحة" ، وأبي هلال العسكري في "كتاب الصناعتين" ، فمن كيفية الانتقال من المعنى الحرفي إلى المعنى المتضمّن (المستلزم) عبر سلسلة من اللوازم أو الوسائط القريبة والبعيدة ، إلى معاني الأساليب المستفادة من ملاحظة المقاصد والأحوال إلى الشروط التداولية المتعلقة بالمتكلم ، والسامع ، والنص من خلال القوانين العامة للخطاب من حيث اختيار اللفظ المناسب ، والمعنى المناسب ، واللحظة المناسبة... وغيرها من القضايا التداولية.
هذه الخصوبة والحيوية في المباحث البلاغية وتطبيقاتها المختلفة "قد تكون وحدها كافية لأن تمثل كثيرا من مباحث اللسانيات التداولية ، فهي لا تختلف عن اهتمامات التداولية التي هي دراسة اللغة حال الاستعمال" .
وبالوقوف على الفصلين الرابع والخامس الموسومين بـ: "الأفعال الكلامية عند الأصوليين" ، و" الأفعال الكلامية عند النحاة" نلحظ أنّ الأفعال الكلامية تختلف من مجال معرفي إلى آخر ، وأنها في التراث أخصب منها في غيره ، فالأفعال غير محدّدة ولا نهائية.
في"الأفعال الكلامية عند الأصوليين" عالج المؤلف كيفية استثمار مفهوم الأفعال الكلامية ضمن الأسلوبين الخبري والإنشائي ، فنتج عن ذلك مجموعة من الظواهر الكلامية المنبثقة عن الخبر كـ (الشهادة والرواية ، والكذب والخلف ، والوعد والوعيد…وغيرها) مع توضيح الفوارق بينها ؛ فرغم المشابهة الأسلوبية إلا أنّ الاختلاف واقع بحسب القصد والسياق ، من الأمثلة تفريقه بين الشهادة والرواية ؛ من جهتين:
- جهة "نوع المخبر عنه" ، إن كان"المخبر عنه" أمرا عاما لا يختص بمعين فهو (رواية) ، أو أمرا معينا خاصا فهو (شهادة).
- جهة السياق الاجتماعي العام "الرسمي" أو "غير الرسمي" ؛ فإن كان في مقام غير رسمي فهو "رواية" أو في مقام رسمي كأن يكون أمام القاضي ، مثلا فهو "شهادة" .
وهذا مما ينبني عليه معرفة إلى أيّ مدى تتدخّل المفاهيم التداولية كالقصدية (اعتقاد المخبر) ، والسياق (مطابقة الواقع) كأسس تمييزية في فهم معنى النص ، كما تعرّض للأفعال الكلامية المنبثقة عن الإنشاء كـ (الإباحة والإذن …وغيرها ) ، بما تتضمنه من دلالات ومعانٍ لإيضاح الأحكام الشرعية ، فتجليات البعد التداولي في دراسة الأصوليين من خلال تأكيدهم على الوظيفة التواصلية للغة بالنظر إلى جملة الأغراض والمقاصد والملابسات التي تكتنف الخطاب ؛ فاللغة عندهم نظام محكم البناء تشكّل لبناته ألفاظ و تراكيب تضمن التعبير بدقة عن المعاني المختلفة ، واستعمالها يرتبط ارتباطا وثيقا بأدائها التواصلي ، ملاحظة هذا الجانب أدّاهم إلى اشتراط معرفة أسباب النزول و استحضار النص القرآنـي جميعه عند تفسير بعضه ، واستقراء وجوه الدلالة...وغيرها من القضايا التي تتصل بدراسة اللغة حال استعمالها.
فالمؤلف بحقّ أبان الأفعال الكلامية بدقة متناهية لا نكاد نجد لها مثيلا عند غيره من الباحثين الذين تناولوا التداولية في التراث اللغوي العربي بالدراسة ؛ فقد جلّى المبهم ، وفتح كثيرا مما استغلق في كتب الأصوليين من مفاهيم وتطبيقات.
وفي "الأفعال الكلامية عند النحاة" أشار المؤلف إلى عدم إغفال القدماء العرب عن دراسة المعاني والأساليب والأغراض والمقاصد من خلال البحث في الإسناد وعلاقته بالظواهر الأسلوبية ، و ذلك من خلال التعريف بأهمّ المبادئ التداولية المعتمدة في التقعيد اللغوي ، كمبدأ "الإفادة" ، ومبدأ "الغرض والقصد" وكشف علاقتهما بظواهر لغوية كالتعيين (التعريف والتنكير) ، والإثبات والنفي، والتقديم والتأخير، وما ينجرّ عنهما من أساليب نحوية مختلفة كالتأكيد ، والقسَم ، والإغراء والتحذير ، والدعاء ، والاستغاثة والندبة…وغيرها ، إضافة إلى ما يتعلّق بحروف المعاني بما تتضمنه من قوى إنجازية تحدّدها السياقات المناسبة كالعرض والتوبيخ ، والزجر...وغيرها .
لم يقف النحاة في دراستهم للفظ عند حدود الجملة بل تجاوزوها إلى ما يفوقها بحكم أنّ هدفهم الأسمى فهم القرآن الكريم باعتباره نصا متكاملا ؛ فلجأوا إلى إبراز أغراض المتكلم التي ينوي إبلاغها للسامع كوسيلة هامة في التقعيد النحوي ، وتوسّلوا بشتى العناصر التي تتكفّل بإنتاج الخطاب سواء أكانت لغوية أم غير لغوية وسلكوا طريق المعنى في تأديتهم ، فالمعنى عندهم يتبوأ مكانة عالية ، وما تقدّم الألفاظ إلاّ تعبيرا عنه ، ولعلّ الإشارات المبثوثة في مؤلفاتهم توحي بمقدار أهمية ربط اللغة بمستعمليها ، ومن ثمّ اختيار العبارة المناسبة على هدي الظروف والملابسات. لقد أسس النحاة قواعدهم بمراعاة حصول الفائدة لدى المخاطب وتطبيق مبدإ أمن اللبس في أداء التركيب دون أن يعتريه (التركيب) إشكال أو غموض من شأنه أن يذهب بأغراض العرب ومقاصدها في الكلام ، كما سعوا إلى طرد وشمولية تلك القواعد ليتسنى لهم الإحاطة بما في اللغة من ظواهر لئلاّ يعرض إليها الفساد ، فكان تصوّرهم للعلاقة القائمة بين ما نطقت به العرب وما أرادته من العلل والأغراض والمقاصد المنسوبة إليها الأساسَ الذي يُبنى عليه التقعيد .
وهكذا لم يتخذ المفكرون العرب القدماء العبارة اللغوية موضوع دراسة مجرّدا مقطوعا عما يلابسه بل ركنا من أركان عملية تواصل تامة تتضمن مقاما ومتخاطبين بالإضافة إلى المقال نفسه ... ورأوا أنّ التواصل لا يتمّ بواسطة مفردات أو جمل بل بواسطة نصوص باعتبار النص وحدة تواصلية متكاملة ، وما يؤيّد أنّ النص هو الوسيلة الطبيعية و المثلى للتواصل هو أنّ علماءنا العرب ميزوا بين القدرة اللغوية والقدرة الخطابية(التواصلية) وهي عندهم (القدرة الخطابية) " تجاوز معرفة أوضاع اللغة إلى معرفة تنظيم الخطاب وأحكام بنيته بما يناسب الغرض المتوخى" ، هذا الترابط القائم بين التراكيب اللغوية و استعمالاتها من خلال الكشف عن ملامح نظرية المعنى والوقوف على تطبيقاتها المختلفة نجدها عند سيبويه في "الكتاب" ، وابن جني في "الخصائص" والرضي الأستراباذي في "شرح كافية ابن الحاجب" ...وغيرهم ؛ فمن دلالة الحواس إلى الاحتفاء بالقرائن اللفظية والمعنوية ، ومن امتناع إفساد الأغراض و نقض المعاني ، إلى اقتفاء آثار المعاني ، وتتبّع الوجوه والفروق ...وغيرها .
إنّ تبني المنهج التداولي وتوظيفه في قراءة التراث اللغوي العربي -كما يرى المؤلف- "يكون كفيلا بأن يفتح نافذة جديدة على هذا التراث العظيم ، ويوسّع من آفاق رؤيتنا له وإدراكنا لخصائصه الإبستمولوجية والمنهجية" ، وهكذا يعدّ تطبيق المفاهيم التداولية في التراث اللغوي العربي ما هو إلاّ استجابة طبيعية لتمظهرات النص موضوع الدراسة كخطاب تواصلي ، يربط الصلة بين المتكلم والسامع ، بين اللغة والاستعمال ، وعلى تنوّع هذه النصوص بدءا من كونها كلاما عاديا إلى أعلى مراتبه المتمثلة في الإعجاز لا يمكننا أن نحظى بتبيان المعاني والدلالات ما لم نستحضر المقاصد والسياقات ، وهي من عمق رصيد المنهج التداولي ، فـ "التداولية بمقولاتها ومفاهيمها الأساسية كسياق الحال ، وغرض المتكلم ، وإفادة المخاطب ...يمكن أن تكون أداة من أدوات قراءة التراث اللغوي العربي في شتى مناحيه ومفتاحا من مفاتيح فهمه بشرط كفايتها الوصفية والتفسيرية لدراسة ظواهر اللغة العربية" .
والحقيقة أنّ كتاب "التداولية عند العلماء العرب" قد ضمّنه صاحبه مباحث هامة تصلح أن تكون مقدمة تعين الباحثين والمبتدئين على وعي الأصول والمفاهيم بلغة سليمة دقيقة منهجية ، فهو محاولة جديدة لاستيعاب تراثنا اللغوي باستثمار المناهج الحديثة ، وإذا كان مدار هذا الكتاب الإشارة إلى قضية بالغة الأهمية تتصل باستعمال اللغة في السياق وخضوعها لمتطلباته إنتاجا وتأويلا ، ومن ثمّ ضرورة فقه الاستعمالات من أجل ضمان سيرورة عملية التواصل بنجاح ، فمن الواجب تتبّع الظاهرة اللغوية بكلّ معطياتها ، معنى ذلك حاجتنا إلى تكثيف الجهود للكشف عن الوجه الآخر للفكر اللغوي العربي تعميقا وإثراءً وتأصيلا.
________________________________________
(*) للتواصل: Aicha.bara@yahoo.fr

الهوامش:
عبد الهادي ظافر الشهري – استراتيجيات الخطاب – ص 7.
مسعود صحراوي – المنحى الوظيفي- ص 12.
عبد الهادي ظافر الشهري – استراتيجيات الخطاب – ص 8.
الطيب دبة – مبادئ اللسانيات البنيوية – ص 31.
محمود سليمان ياقوت – منهج البحث اللغوي –ص183.
صلاح الدين صالح حسنين - الدلالة والنحو- ص189 (بتصرّف).
مسعود صحراوي – المنحى الوظيفي- ص11.
الطيب دبة – مبادئ اللسانيات البنيوية – ص 31.
مسعود صحراوي – التداولية عند العلماء العرب – ص8.
المصدر نفسه ، ص 6.
المصدر نفسه ، ص 16.
المصدر نفسه ، ص 44.
خليفة بوجادي – في اللسانيات التداولية – ص 168.
المرجع نفسه ، ص216(تصرف).
مسعود صحراوي – التداولية عند العلماء العرب – ص 136 (بتصرّف).
أحمد المتوكل – المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي- ص199.
المرجع نفسه ، ص 207 /208(بتصرف).
المرجع نفسه ، ص199.
مسعود صحراوي – التداولية عند العلماء العرب – ص 222.
المصدر نفسه ، ص 226.
=======================
موقع الشهاب للإعلام :
http://www.chihab.net/modules.php?name=News&file=print&sid=2166

Air Force 1 Sage Low

التصنيف الفرعي: 
شارك: