تأملات دلالية في أصول الفقه وحُرّية المعجم - د . عبد السلام حامد(*)

بين يدي المقال :
رُوي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال :" نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم أدّاها إلى من لم يسمعها، فرُبّ حاملِ فقهٍ لا فقهَ له، وربّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه ... " (ورد في مسند أحمد، والمستدرك على الصحيحين للحاكم : كتاب العلم)

الحديث عن المعنى يثير أفكاراً ومقولات كثيرة، منها قول المتنبي مادحاً أبا العشائر ومشبّهاً إياه بالمعنى : 
الناس ما لم يرَوْك أشبــاهُ    والـدهر لفظ وأنت معنـاهُ
والجـودُ عينٌ وأنت ناظرُها   والبأسُ بـاعٌ وأنـت يُمنـاهُ
ومنها ما ذكره الجاحظ على لسان بعضهم عن المعاني المجردة في الذهن :" المعاني القائمة في صدور الناس المُتصوَّرة في أذهانهم، والمتخلِّجة في نفوسهم والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فِكَرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون لـه على أموره، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره. وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها وإخبارهم عنها واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم وتجلّيها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهراً والغائب شاهداً، والبعيد قريباً "(1) . ومعنى هذا الكلام أن اللفظ له قيمته أيضاً؛ لأنه هو الذي يبين عن المعاني ويكشفها .
ولسنا هنا بسبيل الحديث عن قضية اللفظ والمعنى أو الشكل والمضمون والمفاضلة بينهما على النحو المعروف في النقد، وإنما سنشير إلى هذه القضية من زاوية أخرى لغوية أصولية ربما يغيب صداها عن البعض، بالرغم من أن الوقوف عندها لتأملها يضيء جوانب مهمة .  
وبيان ذلك أن المعنى والدلالة من أهم الأسس التي يقوم عليها علم "أصول الفقه" كما سنبين، والجمع بين هاتين الكلمتين أو هذين المصطلحين وعلم أصول الفقه، أمر طبيعي ومألوف لدى الدارسين والعلماء المشتغلين بالدلالة وأصول الفقه . وأما غير المألوف الذي أود أن ألفت الانتباه إليه هو : كيف يكون الأمر، لو وسعنا دائرة هاتين الكلمتين وتناولنهما من زاوية معجمية أوسع تضم في جنباتها أهم الاستعمالات القديمة والحديثة المعاصرة ؟ ما الذي سنخرج به؟ وما ذا عسانا نجد ؟
أتساءل هذا السؤال لأن طريق الإجابة عنه الرئيس أو مدخله الأول، هو السياحة المعجمية في معاجمنا القديمة والمعاصرة، بالإضافة طبعاً إلى الرجوع إلى علم أصول الفقه. وهذه السياحة أراها ـ كما يراها المعجميون ـ واجبة لعدة أسباب أهمها : أن المعجم هو الطريق الأساس للإلمام بثقافة ما، وكون الاطلاع على المعاني والاستعمالات المختلفة يبين لنا جانباً من تطور العربية وتجدد شبابها وحياتها. ومعنى هذا أنني أتساءل هذا السؤال؛ لأن المقارنة بين بحث الدلالة في علوم الأصول وبحثها في المعجم تكشف لنا ما يمكن أن نسميه بضبط العلم وحرية المعجم، وأعني "بضبط العلم" رصد محاولة علم أصول الفقه ضبط مفاهيم المعنى والدلالة من أجل توظيفها في استنباط الأحكام، وأما "حرية المعجم"، فأعني بها : سعة الألفاظ والمفاهيم والاستعمالات المرتبطة بالمعنى والدلالة وانطلاقها، خاصة مع تطور الزمن واستحداث الجديد والرغبة في التعبير عنه، وتراكم القديم مع الجديد، بالإضافة إلى كثرة الشواهد والأمثلة وتتابع ما تثيره وتعكسه . وسأبدأ أولاً بعرض المعنى والدلالة عند الأصوليين، ثم أردفه بالحديث عن حرية المعجم .
أولاً ـ مثال من ضبط العلم، مبحث المعنى والدلالة عند الأصوليين :
"معنى الكلام" ومعناته مقصده والمراد منه، والفعل من ذلك : عنَى يعني، وقد جاء في المثل :" إياكِ أعني واسمعي يا جارة "، ويقال أيضاً : عناه الأمرُ يَعنيه وأعناه يُعنيه بمعنى شغله وأهمّه، وقد ورد في الحديث :" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يَعنيه " . أما عنِيَ يعنَى فمن معانيه : تعِبَ (والمصدر عناء) واهتمَّ بالأمر (والمصدر عناية)، قال الأعشى :
لَعمرُك ما طولُ هذا الزمنْ    على المرء إلا عَناءٌ مُعنّْ
و"الدّلالة"(بفتح الدال وكسرها) هي ما يفهم من اللفظ عند إطلاقه، والعلم المختص بدراسة هذا هو "علم الدلالة"، والفعل من ذلك  دلّ يدُلّ . أما دلّ يدِلّ، فالمشهور فيه معنى الدلال وهو تغنج المرأة وجرأتها على الرجل في تكسر وملاحة، قال الشاعر :
اليـومَ عندكَ دَلُّها وحديـثُها    وغدًا لغيرك كفُّها والمِعصمُ
وأدلَ الشخص بكذا : افتخر به، وأدلّ على فلان : وثق بمحبته فتجرأ عليه وعامله بلا تكلف، ومن هذا قولهم في المثل :" أدلّ فأملّ " . 
والفرق في المعنى بين لفظ "المعنى" ولفظ "الدلالة" في مجال بيان المراد والقصد من الكلام، أن الدلالة أعم لأنها تطلق على ما كان عن طريق اللغة وغيرها، كدلالة الكون وما فيه على الخالق سبحانه، وأما "المعنى" فلا يكون إلا عن طرق الألفاظ واللغة .
وأصل الشيء أساسه؛ فالذي لا أصل له لا أساس له . وبذلك فضلت الكلمة الطيبة الكلمة الخبيثة كما بيّن المولى ـ عز وجل ـ في قوله :"  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء 24 تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 25 وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ 26 (سورة إبراهيم 24 ـ 26) . ولذا قالوا : رجل أصيل الرأي أي محكمه، وقال الطُّغرائي في مطلع قصيدته اللامية المشهورة  المسماة بلامية العجم :  
أصالةُ الرأي صانتني عن الخطلِ    وحِليةُ الفضلِ زانتني لدى العَطَلِ
ولأهمية الأصل أو الأساس كان للعلوم والآداب والمعرفة والفنون وغيرها عناية خاصة بالأصول؛ فهناك أصول النحو وأصول اللغة وأصول البحث العلمي وأصول التفكير وأصول النَّظْم وأصول النقد . ومن أهم العلوم التي اعتنت بالأصول نظرًا لما يترتب عليها من أحكام شرعية عملية، الفقه الإسلامي، وقد ظهر هذا في علم "أصول الفقه" .     
وعلم أصول الفقه هو " العلم بالقواعد والبحوث التي يُتوصَّل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية "(2)، أي هو العلم الذي تؤدي المعرفة بقواعده إلي  استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الخاصة بها كالقرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها . ونظراً لاتصال هذا العلم بالنصوص التي هي من أهم ما يستنبط منه الأحكام، كان لعلماء أصول الفقه مباحث مستفيضة في دلالة الألفاظ والعبارات والجمل والنصوص التي هي جزء من اللغة، وكان ينبغي معرفة سننه في الاستخدام والفهم لدى العرب الذين خاطبهم القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، ولدى من جاءوا بعده .
وهذا الجانب الدلالي عند الأصوليين، هو ما نريد أن نبينه عندهم لنؤكد محاولتهم ضبطه وتقعيده وتنظيمه . ونستطيع أن نعرض هذا، من خلال زاويتين : الأولى : تحديد مقدار البحث الدلالي بالقياس لمباحث علم أصول الفقه، والثانية : وسائلهم لتحديد المعنى .
الزاوية الأولى ـ تحديد مقدار البحث الدلالي بالقياس لمباحث علم أصول الفقه :
وفي هذا السياق نذكر أن مباحث هذا العلم أربعة أقسام (3) هي : القسم الأول في الأدلة الشرعية (وهي عشرة على وجه الإجمال وفيها مباحث لغوية دلالية كالبحث في خصائص القرآن وإعجازه)، والقسم الثاني في الأحكام الشرعية (كالواجب والمكروه وغيرهما)، والقسم الثالث في القواعد الأصولية اللغوية ( وهي سبعة أنواع من القواعد ترجع في الحقيقة إلى أربعة فقط، وهذا يمثل أهم مبحث دلالي عند الأصوليين وفي التراث العربي بصفة عامة)، والقسم الرابع والأخير: في القواعد الأصولية التشريعية، وهي خمس قواعد، ما يتعلق منها بالدلالة هو القاعدة الأولى : وهي أن المقصد العام من التشريع تحقيق مصالح الناس بتحقيق ضرورياتهم وحاجياتهم وتحسينياتهم وحفظها، وكذلك القاعدة الخاصة بالتعارض والترجيح .
إذن نستطيع أن نحدد مقدار البحث الدلالي عند الأصوليين من خلال النظر إلى هذه المحاور أو الأقسام الأربعة لمباحث العلم، وبناءً على ذلك سندرك أن البحث الدلالي لا يقتصر على القسم الثالث الخاص بالقواعد الأصولية اللغوية الذي هو من أهم مباحث الدلالة في التراث العربي والعلوم العربية ؛ على النحو الذي سنراه من خلال عرض تقاسيم علاقة اللفظ بالمعنى عندهم ـ بل مواضعُ الدرس الدلالي مبثوثةٌ ومتفرقة بصور مختلفة، في المباحث والأقسام الثلاثة الأخرى وخاصة القسم الرابع . والمسألة الآتية تبين ذلك وتؤكده .  
الزاوية الثانيةـ  وسائل تحديد المعنى عند الأصوليين :  
لتحديد المعنى عند الأصوليين وسائل ثلاث هي (4) : مراعاة المقاصد الشرعية للأحكام، ومراعاة السياق، ومراعاة علاقة المعنى باللفظ، وفي هذه النقطة، أي مراعاة العلاقة بينهما، ترد أربعة تقاسيم عامة للفظ : باعتبار استعماله، وباعتبار قوة دلالته على المعنى، وباعتبار طرق دلالته عليه، وباعتبار وضعه له .
فأما الوسيلة الأولى وهي ـ مراعاة المقاصد الشرعية للأحكام ـ فنجد أن الأصوليين وهم يتحدثون عن القواعد الأصولية الشرعية ذكروا وبينوا قاعدة في المقصد الأساسي من التشريع، وحصروا ذلك في تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجيّاتهم وتحسينيّاتهم .
"فالضروريات" هي التي لا تستقيم الحياة من دونها، وتختل وتعم الفوضى ويسود الفساد بغيرها، و"الحاجيات" ما يحتاج إليه الناس لتحقيق اليسر والسعة ورفع الحرج والمشقة عنهم ولا تختل الحياة إذا فقد، و"التحسينيات" هي الأمور الكمالية وما تقتضيه المروءة والآداب وما لا يتحقق بتركه اختلال نظام الحياة، ولا ينتج عن فواته حرج ولا مشقة . والضروريات خمسة أشياء هي : حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض . ومن أمثلة الحاجيات الرُّخص في العبادات، وفي المعاملات شرع البيوع والعقود المختلفة، والطلاق للخلاص من الزوجية عند الحاجة، والصيد وميتة البحر وأكل الطيبات من الرزق . ومن أمثلة التحسينيات شرع طهارة البدن والثوب والمكان وستر العورة، وندب أخذ الزينة عند كل مسجد وغير ذلك في العبادات، وكذلك النهي عن الغش والتدليس والتغرير والإسراف والتقتير في المعاملات، وتحريم قتل الرهبان والصبية، وقتل الأعزل وإحراق حي أو ميت في الجهاد والعقوبات، وغير ذلك من أمهات الأخلاق والفضائل .
ومن دقة العلماء في هذا الشأن أنهم رتبوا الأحكام الشرعية بحسب المقصود منها، وأنهم جعلوا الأولوية للأهم إذا كان سيؤدي المهم إلى ضياعه والإخلال به، وبناء على ذلك لا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري أو حاجي، ولا يراعى حكم حاجي إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري . وبناء على قاعدة مراعاة المقاصد الأساسية من التشريع هذه، وضعت المبادئ الشرعية الخاصة بدفع الضرر، مثل : الضرر يُرفع شرعاً، والضرر لا يُزال بالضرر، ويُرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما، والضرورات تبيح المحظورات، وكذلك وضعت الأحكام المتعلقة برفع الحرج، كقاعدة المشقة تجلب التيسير وفروعها (5). ومن القواعد المرتبطة بفلسفة القصد كما بينها الأصوليون قاعدتان هما : الأمور بمقاصدها، والعبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني .
وأما الوسيلة الثانية وهي مراعاة السياق، فلهم في ذلك باع طويل يتعلق بجميع أنواع السياق اللغوية والمقامية . ومن ذلك حديثهم عن المعنى المقصود من سياقه فيما يسمى "بعبارة النص"، وكذلك المعنى الذي يتبادر من اللفظ ولا يكون مقصوداً من سياق الكلام فيما يسمى "بالظاهر"، وهو من أقسام "واضح الدلالة"، وحديثهم كذلك عن المعنى المستفاد من صيغة الكلام وهو مقصود من السياق فيما يسمى "بالنص" وهو من أقسام "واضح الدلالة" أيضاً .
ومن ذلك اتساع مفهوم السياق اللغوي ليشمل نص القرآن كله حيث نجد بعضه يفسر بعضاً، كما في قوله تعالى في سورة البقرة [الآية 234]:" والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً " وقوله تعالى في سورة الطلاق [الآية :4] :" وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " ؛ فقد دفع العلماء التعارض البادي بين الآيتين بأن الثانية مخصصة لعموم الأولى واستدلوا على ذلك بأدلة أخرى . بل إن السياق اللغوي اتسع أكثر من ذلك ليشمل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارها مكملة لنص القرآن ومخصصة لعمومه وموضحة لمجمله، ومن ذلك بيان قوله تعالى " وأقيموا الصلاة " بقوله صلى الله عليه وسلم " " صلوا كما رأيتموني أصلي "، وتحديد الحكم في قوله تعالى :" كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده " [الأنعام : 141] بقوله عليه الصلاة والسلام :" فيما سقت السماء العُشر "، وتخصيص قوله تعالى :" حرمت عليكم الميتة " [المائدة : 3] بقوله عليه الصلاة والسلام :" هو الطهور ماؤه الحِل ميتتُه ". ومن صور وعيهم بالسياق استقصاء دلالات الأمر والنهي التي وجدوها متعددة ومتنوعة بتعدد السياقات وتنوعها، كدلالة الأمر على الوجوب أو الندب أو الإرشاد أو الإهانة أو الإنذار، ودلالة النهي على التحريم أو الكراهة أو التحقير وغير ذلك .
ومن أمثلة قرائن المقام أو الحال عندهم تقديمهم خبر عائشة ـ رضي الله عنها ـ على خبر أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في قوله :" إنما الماء من الماء "، وتقديمهم ما روت عن النبي عليه الصلاة والسلام، من أنه " كان يصبح جنباً وهو صائم " ـ على ما رواه أبو هريرة أيضاً من قوله عليه الصلاة والسلام " من أصبح جنباً فلا صوم له " ؛ لكونها أعرف بحال النبي صلى الله عليه وسلم . وكذلك سكوته صلى الله عليه وسلم على عدم الأذان والإقامة لصلاة العيد ؛ إذ يعد إقراراً لهذا الفعل . وقد اتسعت قرائن المقام لتشمل بيئة النص، وهو ما جعل الأصوليين يعدون عمل أهل المدينة من الأمور المرجحة لأحد الدليلين لأنهم أعرف بالتنزيل وأخبر بمواقع الوحي والتأويل .
ونستطيع أن نقول إن السياق عند الأصوليين يكاد يكون من أوسع صور السياق في التراث العربي؛ لأنه يشمل نص القرآن كاملاً، ونصوص السنة القولية والفعلية بما فيها من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وحركاته وسكناته وأدائه، وأحوال الصحابة رضوان الله عليه أيضاً وبيئتهم، يقول الغزالي :" أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد عرفوه بقرائن أحوال النبي عليه السلام وتكريراته، وعاداته المتكررة، وعلم التابعون بقرائن أحوال الصحابة وإشاراتهم ورموزهم وتكريراتهم المختلفة " (6).
وأما الوسيلة الثالثة من وسائل الأصوليين في تحديد المعنى ـ وهي مراعاة علاقة المعنى باللفظ ـ ففي هذا الإطار يأتي باب أصولي لغوي مهم، يعد شقه اللغوي من أكثر أبواب دراسة الدلالة طرافة ودقة وإمتاعاً ولملمة لنظرات وجهود متفرقة هنا وهناك ؛ حيث بذل الأصوليون فيه جهداً غير عادي لاستقصاء دراسة المعنى وجمع أقسامه ووضع قواعد منضبطة لذلك، من أجل فهم النصوص فهماً دقيقاً يؤدي إلى الاستنباط الصحيح للأحكام منها، وقد انتهى ذلك في شكل وضع أقسام محددة للمعنى، هي كما يأتي ـ وسنكتفي بتفصيل بعضها دون بعض باعتبارها نماذج، لعدم اتساع المقام لتفصيلها جميعاً ـ  :
التقسيم الأول : تقسيم اللفظ باعتبار استعماله إلى قسمين : لفظ حقيقي ولفظ مجازي .
وفي هذا الصدد قسمت الحقيقة اللغوية إلى : حقيقة لغوية وضعية، وحقيقة لغوية عرفية تكون باعتبار تخصيص العام ليدل على بعض مسمياته كتخصيص الدابة بذوات الأربع، أو باعتبار نقل اللفظ بالمجاز لغير ما وضع له ثم موت المجاز ونسيان أصل الوضع، كاستعمال الغائط في الخارج المستقذر من الإنسان . ويظهر أثر التفريق بين الحقيقة والمجاز في استنباط الحكم في مثل قوله تعالى :" أو لامستم النساء " [النساء :43، والمائدة : 6] بين كون الملامسة تنقض الوضوء؛ لأنها بمعناها الحقيقي ـ وهذا هو رأي بعض الفقهاء والمالكية ـ وكونها لا تنقض الوضوء؛ لأن المقصود بها المعنى المجازي وهو الجماع، وهذا هو رأي الحنفية .
التقسيم الثاني : تقسيم اللفظ باعتبار قوة دلالته على المعنى إلى قسمين كبيرين :
أ ـ الواضح الدلالة .
ب ـ غير الواضح الدلالة .
وكل واحد من هذين القسمين قسموه إلى أقسام أربعة بناءً على التفصيل الآتي :
أ ـ القسم الأول : الواضح الدلالة :
الواضح الدلالة عند الأصوليين هو اللفظ الذي يفهم المراد منه بصيغته نفسها من غير توقف على أمر خارجي . وقد استطاعوا بدقة أن يقسموا هذا النوع إلى أربعة أنواع، بناء على إدراك بعض الفروق الدلالية أو الملامح التمييزية في كل نوع، وهذه الفروق أو الأسس هي : قصد اللفظ أصالة من السياق، واحتماله التأويل، واحتماله النسخ . والأنواع الأربعة هي (7) : الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم .
1 ـ  فالظاهر هو ما دل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي، ولم يكن المراد منه هو المقصود أصالة من السياق ويحتمل التأويل . ومثال ذلك معنى الحل والحرمة في قوله تعالى :" وأحل الله البيع وحرم الربا "[ البقرة : 275]، لأن المقصود أصالة من السياق نفي المماثلة بين البيع والربا .
2 ـ والنص هو ما دل بنفس صيغته على المعنى المقصود أصالة من سياقه، ولا يتوقف فهمه على أمر خارجي، ويحتمل التأويل والنسخ . فقوله تعالى :" وأحل الله البيع وحرم الربا " نص على نفي المماثلة بين البيع والربا، وقوله تعالى :" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع "  [النساء : 3] نص على قصر أقصى عدد الزوجات على أربع .
3 ـ والمفسر هو ما دل بنفس صيغته على معناه المفصل تفصيلاً لا يبقى معه احتمال للتأويل ولكنه يقبل النسخ، ومثل ذلك قوله تعالى في قاذفي المحصنات :" فاجلدوهم ثمانين جلدة " [النور : 4] لأن العدد المعين لا يحتمل زيادة ولا نقصاناً، وقوله تعالى :" وقاتلوا المشركين كافة " [التوبة : 36]، فإن كلمة "كافة" تنفي احتمال التخصيص .
4 ـ والمحكم هو ما دل على معناه المقصود من السياق ولا يقبل التأويل ولا النسخ . ومنه قوله تعالى في قاذفي المحصنات :" ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً " [النور : 4]، وكذلك قوله تعالى :" وهو بكل شيء عليم " .
وثمرة هذه الدقة تظهر في ترتيب قوة هذه الأنواع واستنباط الأحكام منها سواء أكان هناك تعارض بين بعض النصوص أم لا . فأقواها المحكم ثم المفسر ثم النص ثم الظاهر، وحكم الظاهر والنص وجوب العمل بهما حتى يقوم دليل على تفسيرهما أو تأويلهما، وحكم المفسر وجوب العمل به حتى يقوم دليل على نسخه، وحكم المحكم وجوب العمل به قطعاً لأنه لا يحتمل غير معناه .
ومن أمثلة ترجيح القوي عند التعارض بينه وبين الأقل قوة منه التعارض بين نص ومفسر، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم :" المستحاضة تتوضأ لكل صلاة " فهذا نص على أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة سواء أصلت صلاة واحدة في الوقت الواحد أم عدة صلوات في الوقت الواحد، وهذا مفسر بقوله صلى الله عليه وسلم :" المستحاضة تتوضأ وقت كل صلاة"؛ إذ إن ذلك يدل على إيجاب وضوء واحد في الوقت الواحد حتى لو صلت عدة صلوات، وقد رُجِّح المفسر على النص لأنه أوضح دلالة منه .
ب ـ وأما القسم الثاني وهو غير الواضح الدلالة، فالمقصود به ما لا يدل على معناه بنفس صيغته، بل يتوقف تحديد المراد منه على أمر خارجي، وقد قسم ـ كما أشرنا ـ إلى أربعة أنواع أيضاً، بناءً على محددات دلالية مميزة هي : ألا يكون الخفاء في صيغة اللفظ، وأنه يزال بالاجتهاد، أو يزال من الشرع فقط، أو أن يستأثر الشارع بعلمه . والأنواع الأربعة هي (8) : الخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابه، وهي مرتبة بحسب الأقل خفاءً ثم الأكثر .
1 ـ فالخفي هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة ظاهرة فلا خفاء في صيغته، ولكن في انطباق معناه على بعض الأفراد نوع من الغموض والخفاء، تحتاج إزالته إلى فضل نظر وتأمل. ومثال ذلك لفظ "السارق" معناه ظاهر، وهو آخذ المال المتقوّم المملوك للغير خفية من حرز مثله، ولكن في انطباق هذا المعنى على بعض الأفراد نوع غموض، كالطرَّار (النشال) فهو آخذ المال من حاضر يقظان بنوع من المهارة وخفة اليد ومسارقة الأعين، وهذا يحتاج إلى فضل تأمل لجعله " سارقاً " وتطبيق حكمه عليه، ومثل ذلك "النباش" .
2 ـ وأما المشكل فهو اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، بل لا بد من قرينة خارجية تبين المراد منه، وهذه القرينة في متناول البحث، كأن يكون اللفظ مشتركاً، فيترجح أحد المعاني بقرينة خارجية، مثل قرينة تأنيث العدد التي تدل على تذكير المعدود  وصرفِ معنى "ثلاثة قروء" في قوله تعالى :" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " [البقرة : 228] ـ إلى معنى : ثلاثة أطهار ـ كما ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي ـ أو صرف المعنى إلى أن "القَرْء" بمعنى : الحيض، بناء على قرائن أخرى كما رأى الأحناف .
3 ـ وأما المجمل فهو اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، ولا توجد قرائن لفظية أو حالية تبينه، فسبب الخفاء فيه لفظي لا عارض، ولا سبيل لإزالة خفائه إلا بالرجوع إلى الشارع نفسه . ومن ذلك الألفاظ التي نقلها الشارع من معانيها اللغوية إلى معانٍ شرعية اصطلاحية خاصة بينتها السنة العملية والقولية، كألفاظ الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكذلك الألفاظ الغريبة التي فسرتها النصوص نفسها بمعانٍ خاصة كلفظ "القارعة" في قوله تعالى :" القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة " .
4 ـ وأما المتشابه فهو اللفظ الذي لا تدل صيغته بنفسها على المراد منه، ولا توجد قرائن خارجية تبينه، واستأثر الشارع بعلمه فلم يفسره . ولا توجد نماذج من المتشابه إلا في الحروف المقطعة في أوائل السور مثل : ألم، ألمر، كهيعص، طسم، ص، وغيرها، وكذلك في الآيات التي ظاهرها أن الله سبحانه وتعالى يشبه خلقه مثل :" يد الله فوق أيديهم " [الفتح : 10] وقوله تعالى :" واصنع الفلك بأعيننا ووحينا" [هود : 37] . ورأي السلف في مثل هذا الإيمان به وتفويض العلم به لله جل شأنه والتوقف عن البحث فيه وعدم تأويله، ورأي الخلف تأويله بما يتناسب مع ذاته وصفاته(9).
 التقسيم الثالث : تقسيم اللفظ باعتبار طرق دلالته على المعنى :
هنا نجد أن الأصوليين قسموا طرق دلالة اللفظ على معناه إلى أربعة أنواع هي : دلالة " العبارة " وهي دلالة الصيغة على المعنى المتبادر فهمه منها وهو مقصود أصالة أو تبعاً، ودلالة " الإشارة " وتكون عن طريق اللزوم كما في دلالة قوله تعالى :" وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " [البقرة : 233] ـ على أن الأب لا يشاركه أحد في وجوب النفقة لولده عليه، لأن ولده له لا لغيره، وأن الأب عند الاحتياج يأخذ من مال ابنه ما يسد حاجته دون تعويض، والنوع الثالث في هذا التقسيم دلالة " النص " أو " الفحوى " وتفهم عن طريق الأَْولى وروح النص ومعقوله كما في قوله تعالى :" فلا تقل لهما أفٍ " [الإسراء : 67]، والنوع الرابع هو دلالة " الاقتضاء " كما في قوله تعالى :" حُرّمت عليكم أمهاتكم ...." [النساء : 23] أي زواجهن (10) . ومن صور طرق دلالة اللفظ على المعنى عندهم مفهوم " المخالفة " ومعناه : ثبوت نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه، ويكون في الوصف والغاية والشرط والعدد واللقب . ولكي يكون واضحاً فمثاله في الوصف قوله تعالى في المحرمات :" وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " [النساء : 23] فالمخالفة هنا تتمثل في حلائل الأبناء الذين ليسوا من الأصلاب كابن الابن رضاعاً، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم :" في السائمة زكاة " فمفهوم المخالفة فيه المعلوفة التي ليست سائمة . وفي الاستدلال بالمخالفة عدم اتفاق بين الأصوليين، إلا في مخالفة الوصف أو الشرط أو العدد أو الغاية في غير النصوص الشرعية كالعقود وأقوال الناس ومصطلحات الفقهاء .
 التقسيم الرابع : تقسيم اللفظ باعتبار وضعه للمعنى :
المشهور في هذا تقسيم اللفظ من هذه الناحية إلى ثلاثة أنواع : الخاص، والعام، والمشترك (11).
فأما الخاص فهو ما وضع للدلالة على فرد واحد شخصاً كان أو نوعاً أو جنساً أو معنى أو اعتباراً، وذلك مثل : محمد ورجل ونبات وعِلْم وثلاثة . وصور الخاص هي : المطلق والمقيد والأمر والنهي .
وأما العام فهو لفظ وضع للدلالة على أفراد غير محصورين على سبيل الشمول والاستغراق . وصيغه هي : الجموع المعرفة بأل الجنسية أو الإضافة، وأسماؤها، والمفرد المعرف بأل الجنسية، وأسماء الشرط، وأسماء الاستفهام، والأسماء الموصولة، والنكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط، وما أضيف إليه كل وجميع لفظاً .
وقد أثارت دراسة ألفاظ العموم عند الأصوليين قضايا دلالية مهمة تبين دقتهم في هذا الشأن، من ذلك قضية مدى دلالة صيغ العموم على الاستغراق وطبيعة هذه الدلالة، وقضية مدى شمول دلالة هذه الصيغ لأفراد الإناث، وقضية العموم في السياق الخاص، وقضية تخصيص العام (12).
وأما المشترك فهو اللفظ الذي يحمل أكثر من معنى، مثل "القرء" للحيض والطهر و"المولى" للسيد والعبد، و"العين" للباصرة والذهب والشمس وعين الماء والجاسوس، و"دَرَسَ" بمعنى عفا وتعلم . والمشترك ـ كما هو بيّن ـ يمكن أن يكون اسماً كالقرء والمولى والصلاة، ويمكن أن يكون فعلاً كما في " وترغبون أن تنكحوهن " [النساء : 127] حيث يمكن أن يكون المعنى : (وترغبون في) أو (وترغبون عن)  وكقوله :" كلوا " وقوله :" ولا تأكلوا " في اشتراكه بين الوجوب والندب والإباحة وغيرها من المعاني .
ويرى الأصوليون أن المشترك إذا ورد في نص شرعي وكان متراوحاً بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي وجب حمله على المعنى الشرعي، وإن كان مشتركاً بين معنيين أو أكثر من المعاني اللغوية وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يعينه، ولا يصح أن يراد بالمشترك معنياه أو معانيه معاً (13). 
إن ما مر من الحديث عن دراسة الأصوليين للدلالة من خلال الوسائل الثلاث التي تحدثنا عنها خاصة (مراعاة المقاصد الشرعية للأحكام، ومراعاة السياق، ومراعاة علاقة المعنى باللفظ وتحليل هذا في أربعة أقسام رئيسة)  ـ يبين ما قلناه من قبل من أن دراستهم للمعنى والدلالة تعد مثالاً لمحاولة ضبط الدلالة وتقعيدها وتوظيفها في مجال مهم هو استنباط الأحكام الشرعية. وذلك  في مقابل ما نراه من حرية الألفاظ الخاصة بالدلالة والمعنى ـ وبالطبع غيرها ـ في مجال المعجم الحي الذي من أهم سماته التجدد والتطور والتغير والاتساع .

ثانياً ـ حرية المعجم :
من أمثلة ما يدل على ما أسميناه بحرية المعجم في مجال لفظي المعنى والدلالة ومشتقاتهما، هذه الظلال الدلالية التي بينها القدماء ونجدها في بعض الأبواب والتقاسيم :
أ ـ ما تقارب لفظه واختلف معناه، مثل : التحسُّس (الاستماع لحديث القوم وطلب خبرهم) والتجسُّس (وهو طلب الخبر في الشر والبحث عن العورات)، والوعد يستعمل في الخير غالباً، أما الإيعاد والوعيد فلا يستعملان إلا في الشر، والأَكْل بالفتح مصدر والأُكُل بضمتين هو الثمر، ومنه قوله تعالى:" أكلُها دائم وظلُّها " [الرعد : 35]، والحَمل بالفتح مصدر لما تحمله الإناث في بطونها، والحِمل بالكسر ما يحمل على الظهر أو البطن .
ب ـ ما يستعمل للمعنى وضده، مثل "شرى" فهو يستعمل بمعنى (باع) كما في قوله تعالى :" وشروه بثمن بخس " [يوسف : 20 ]، ويستعمل بمعنى (اشترى)، وبالمعنيين وُجِّه قوله تعالى :" فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة " [النساء : 74] إن أريد المؤمنون فمعناه : يبيعون، وأما إذا أريد المنافقون فمعناه : يشترون، والوجه الأول هنا أشهر وأرجح (14) . ومثل ذلك "الجلل" يستعمل في الأمر العظيم والهين الحقير . ومن الواضح أن هذا النوع تطور معناه واتجه للتخصص في أحد المعنيين دفعاً للبس . 
ج ـ ما يستعمل مخالفاً لمعناه الأصلي، مثل تأثّمّ وتهجّدَ، إذا كف عن الإثم ـ والأصل أثِمَ بمعنى وقع في الإثم ـ وتهجّدَ إذا امتنع عن الهجود وهو النوم ليلاً ؛ ولذا قيل لصلاة الليل التهجد، ومنه قوله تعالى :" ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [الإسراء : 79] والمعنى الأصلي هَجَدَ إذا نام (15)
وأما في مجال الاستعمال المعاصر الواسع واللغة المستحدثة، فنجد أن من أوجه الاستعمالات الغالب حداثتها للفظ "المعنى" ومشتقاته هذه الاستعمالات :
بالمعنى الواسع/نظرات لها معنى/بكل معنى الكلمة، أي بكل ما في الكلمة من تعبير/رجل بمعنى الكلمة/العناية الإلهية/ حجرة العناية المركزة/ التعنية، وهي الحالة المرضية المعروفة .  
ومن ذلك أيضاً : دفعة معنوية/ دعم معنوي/تقدير معنوي/رفعَ روحه المعنوية/المعنويات، جمع معنوية وهي موقف الفرد أو الجماعة من الثقة بالنفس، والتمسك بالمثل العليا عند مواجهة الخطر والتعب أو الصعوبات، كما في قولهم : معنويات الجنود عالية (16).
ومما يرتبط بذلك في مجال التصحيح اللغوي قول بعضهم :" انصرفتُ عن قراءة القصيدة لأن فيها معانٍ غامضة "؛ وذلك للخطأ في نصب المنقوص بفتحة مقدرة بعد حذف الياء . وقد وجّه هذا بأن الفصيح إثبات الياء في حالة النصب وظهور الفتحة، أي أن يقال : (لأن فيها معانيَ غامضة) لأن الاسم المنقوص تحذف ياؤه في حالتي الرفع والجر ويعرب فيهما بحركتين مقدرتين، أما النصب مع حذف الياء فيمكن توجيهه بأنه صحيح بناءً على تجويز بعض اللغويين إياه وورود نظائر له منها قول الشاعر(17) :
ولــو أنّ واشٍ باليـــمامة دارُه    وداري بأعلى حضرموتَ اهتدى ليا
وأنا أرى أن يقصر هذا على ضرورة الشعر .
ومن أوجه الاستعمالات الغالب حداثتها للفظ "الدلالة" ومشتقاته هذه الاستعمالات :
اندلّ على الطريق، مطاوع دلّ أي أُرشدَ واهتدى إليه/ دلّل على المسألة، أي أقام الدليل على صحتها/دلل على السلعة، أي عرضها للبيع منادياً بصوت مرتفع/ الدالّ والدالة والجمع دالات ودوالّ، وهي صفة تطلق على الكلمات التي تشير إلى شيء بعينه مميزًا عن غيره مثل أسماء الإشارة والضمائر/اللحن الدال، وهو مقطع موسيقي له سمة مميزة أو عنصر مميز/المصباح الدال، وهو مصباح كهربائي صغير يستخدم ليدل على أن الكهربائية عاملة/ الدالّة في الجبر، وهي متغير تتوقف قيمته على متغير آخر، وفي الحاسوب، مؤشر يتحرك على شاشة العرض يبين موقع الرمز المطلوب إدخاله أو تصحيحه أو حذفه/انحطاط الدلالة في اللغة، وهو تغير معنى الكلمة على مر الزمن من دلالة مرغوب فيها إلى دلالة غير مرغوب فيها/ الدلاّل: السمسار الذي يتوسط ويجمع بين البائع والمشتري، ومن ينادي على السلعة لتباع بالمزاد أو بالمساومة/الدليل: ما يستدل به، ومن معانيه : كتاب يدل القارئ ويرشده إلى معلومات خاصة بموضوع ما، مثل دليل الفنادق والمطبوعات والجامعات والهاتف/ الدليل الإبهامي، وهو الثقوب النصفية في حافة المعجم ونحوه يستعين بها المرء للاهتداء إلى الصفحة الأولى من الحرف الذي يريد مراجعته/ الدليل الظرفي في القانون، وهو دليل متعلق بالعديد من الملابسات التي قد يستدل بها القاضي على حقيقة الواقعة التي هي موضع الجدل (18).
ويقال : دلدلَ رجليه في الماء، وهو استعمال معاصر مرفوض عند بعضهم؛ بناءً على الأصل : دلّى، وقد أجازه مجمع اللغة المصري مراعاة لكثرة التبادل بين مضعف الثلاثي ومضعف الرباعي عند قصد المبالغة، مثل دبَ ودبدب وفتّ وفتفت وكبّ وكبكب (19).
إن المقابلة التي ذكرناها كانت بين أمرين : الأول : رصد محاولة علم أصول الفقه ضبط مفاهيم المعنى والدلالة من أجل توظيفها في مجال استنباط الأحكام ـ وهو ما أسميناه "ضبط العلم" ـ والثاني : سعة الألفاظ والمفاهيم والاستعمالات المرتبطة بالمعنى والدلالة وانطلاقها، وهو ما أسميناه بـ" حرية المعجم ". ويكفي للدلالة على حرية المعجم، أنك تذكر الشاهد أو المثال من القرآن الكريم بقراءاته المختلفة ومن الحديث النبوي الشريف ومن الأمثال والشعر وغير هذه الأنواع، وتجمع بين القديم والحديث من المعاني، وتعرف ما اتسع  وما ضاق منها وما استُحدث وما أُهمل، ولو كانت عندك فسحة أو دعت ضرورة لجُلت في العلوم والفروع المختلفة؛ لتعرف كيف توضع المصطلحات في معانيها، وكيف تنتقل من مجال إلى مجال، إلى آخر ذلك . وكل هذا يجسد لك حياة اللغة لتعرف منه طرفاً مهماً من ثقافة حياتك وأمّتك، ولتبني عليه موقفك من ماضيك وحاضرك كي تصنع مستقبلك .
وحرية المعجم بالفهم الذي ذكرته لا تعني انفلاته وخروجه عن الضوابط والقيود، بل هي تعني الاتساع والتشعب والتكاثر والامتداد، وتلبية حاجات العصر ومقتضيات الظروف، وذلك كله يجمعه وينظمه أمور كثيرة أهمها اتحاد جذور الكلمات وأصول المعاني .
وكلا الأمرين مطلوب : الضبط والحرية . فضبط العلم ـ كما عرضنا مثاله من علم أصول الفقه، وكما يمكن أن يُستلهم ويُدرك من أي علم أو أمر منضبط ـ مطلوب؛ لأنه يناط به التنظيم والعصمة من الفوضى، والحرية ـ كما عرضنا مثالها من المعجم ـ مطلوبة؛ لأنها تعني الحياة والتجدد ونبذ الجمود والاستبداد . وما دام الشيء بالشيء يُذكر، أيمكن أن تثير المقابلةُ السابقةُ مقابلةً بين" الأصولية " و"الحداثة"؟
--------------

الحواشي :
(*) أستاذ مشارك بقسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم ـ جامعة قطر . وقد نُشر أصل هذا المقال في مجلة الدوحة ـ العدد 33 ـ يوليو 2010. 
(1) البيان والتبيين للجاحظ ، تحقيق وشرح عبدالسلام هارون ( مكتبة الخانجي بالقاهرة ـ ط7- 1988 ) 1/75.
(2) علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف : 12 .
(3) اعتمدت في هذا على منهج عبد الوهاب خلاف وطريقة عرضه للمادة في كتابه " علم أصول الفقه " .
(4) راجع في هذا :" البحث الدلالي عند الأصوليين " للدكتور محمد حبلص (عالم الكتب ـ القاهرة ـ 1991 م ) 
(5) انظر : علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف 197 وما بعدها .
(6) المستصفى للغزالي ، نقلاً عن البحث الدلالي عند الأصوليين 58 .
(7) انظر : دراسة المعنى عند الأصوليين ، للدكتور طاهر سليمان حموده (الدار الجامعية ـ الإسكندرية) 129 وما بعدها .
(8) انظر : دراسة المعنى عند الأصوليين 136 وما بعدها .
(9) انظر : علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف 176 .
(10) انظر : دراسة المعنى عند الأصوليين 151 ـ 157 .
(11) انظر : السابق 23 .
(12) انظر : البحث الدلالي عند الأصوليين 126 وما بعدها .
(13) انظر : علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف 177 .
(14) انظر : أزاهير الفصحى في دقائق اللغة ، لعباس أبو السعود (دار المعارف بالقاهرة ـ ط 2) 272 ، والمحرر الوجيز لابن عطية 2/602  .
(15) انظر :  أزاهير الفصحى في دقائق اللغة ، لعباس أبو السعود 265 ، 266 ، 272 ، 273 ، 343 .
(16) انظر :  معجم اللغة العربية المعاصرة ، للدكتور أحمد مختار عمر (عالم الكتب بالقاهرة ـ  2008 م) 2/ 1566 ع ن يَ  .
(17) انظر : معجم الصواب اللغوي ، دليل المثقف العربي ، للدكتور أحمد مختار عمر (عالم الكتب بالقاهرة ـ 2008 م) 1/711 .
(18) انظر :  معجم اللغة العربية المعاصرة ، للدكتور أحمد مختار عمر  1/762 د ل ل .
(19) انظر : معجم الصواب اللغوي ، دليل المثقف العربي ، للدكتور أحمد مختار عمر 1/376 .

Nike

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: