في تقريرها العام دقت اليونيسكو ناقوس الخطر في ما يخص اللغات البشرية المهددة بالانقراض من الآن وحتى نهاية القرن الحالي. والشيء المهين الذي لا يكاد يصدق هو أن لغتنا العربية هي إحداها! التقرير يقول بأنه توجد في العالم حاليا 6700 لغة حية نصفها مهدد بالموت إذا لم تتخذ الحكومات المعنية وجماعات الناطقين بهذه اللغات الإجراءات المناسبة لدعمها وحمايتها.
هل يعقل أن تكون لغة الضاد هشة إلى مثل هذا الحد؟ هل يعقل أن تكون اللغة التي أكتب بها هذه السطور حاليا هي لغة ميتة أو شبه ميتة أو مرشحة للموت؟ معنى ذلك أنني أنا شخص ميت لأنني أكتب بلغة ميتة. ولا أعرف لماذا لا أقبر نفسي وأنا حي؟ خسرنا كل المعارك، فقدنا كل شيء في السنوات الأخيرة. خسرنا الأرض والتاريخ والجغرافيا.. والآن جاء دور اللغة. حتى اللغة لم تعد مضمونة! عيب على اليونيسكو أن تقارن بين العربية واللغات الثانوية أو لغات بعض قبائل استراليا أو أفريقيا حيث لم يعد يتجاوز عدد الناطقين بها العشرة أشخاص، أصغرهم سنا عمره تسعون سنة!
لا ريب في أن لغتنا تتعرض الآن لهجمات عنيفة، سواء من جهة الفرنسية فيما يخص المغرب العربي، أو الانكليزية فيما يخص الخليج والمشرق العربي ككل. ولا ريب في أن بعض جهلة المستغربين الذين فهموا الحداثة من ذنبها أصبحوا يشمتون بها علنا ويدعون إلى التخلي عنها. بل ويفتخرون لأنهم يكتبون بالفرنسية أو بالانكليزية: أي بلغات «حضارية» لا بلغة متخلفة جامدة عفى عليها الزمن.. برافو! في الوقت الذي أحيا فيه اليهود لغتهم الميتة وبعثوها من تحت الأنقاض وبذلوا جهودا جبارة لإنعاشها وعمموها حتى على الشارع الإسرائيلي وليس فقط على المدارس والجامعات، ندعو نحن إلى دفن اللغة العربية! حتى العلوم الدقيقة يدرسونها بالعبرية وليس فقط الآداب والدراسات اللاهوتية والتوراتية.
لماذا تدرس إسرائيل الطب باللغة العبرية وتدرسه مصر باللغة الانكليزية؟ لأننا مصابون بعقدة الخواجا ونعتقد بأن العربية ليست صالحة إلا للآداب والعلوم القرآنية وكلية الشريعة. ولذا فإن معظم الجامعات العربية ما عدا جامعة دمشق وأربع كليات أخرى تدرس الطب وبقية العلوم الطبيعية باللغات الأجنبية. بل وحتى العلوم الإنسانية أصبحوا يدرسونها بالانكليزية أو بالفرنسية فيما يخص الدراسات العليا وشهادات الدكتوراه. وهكذا تتحول اللغة العربية إلى لغة فولكلورية تقريبا. ثم يستغربون إذا ما انقرضت اللغة العربية يوما ما..
أتذكر بهذا المجال حادثة شخصية. كنا في جامعة حلب ندرس الطب عام 1969. وكانت الجامعة قررت تدريسه باللغة الانكليزية خلافا لجامعة دمشق وربما نكاية بها، لا أعرف. وبعد بضعة أشهر جمعنا العميد في المدرج الكبير وكان اسمه الدكتور عبد الرحمن الأكتع إن لم تخني الذاكرة وقال لنا: إننا نتعرض لهجوم شديد من جامعة دمشق لأننا اعتمدنا الانكليزية. ثم تراجعت جامعة حلب بعدئذ عن غرورها ومشاكستها واعتمدت العربية.
لا ريب في أنه توجد مراجع في الانكليزية عن علم الطب أكثر بمائة مرة عما هو متوافر في العربية. ولكن لماذا لا نترجمها ونضيف إليها كما فعل أجدادنا أيام عبد الملك بن مروان والرشيد والمأمون بدلا من أن نتخلى كليا ودفعة واحدة عن هويتنا التاريخية؟ هل نريد ممارسة عملية الهاراكيري أو الانتحار الجماعي؟ فلندرس إذن العلوم، كل العلوم، باللغات الأجنبية. فلنستسلم لعمليات التشكيك والإحباط وتحطيم المعنويات. ولنحول العربية إلى لغة أدعية وصلوات وابتهالات فقط كما يشجعنا على ذلك قادة الغرب الذين يريدون بنا خيرا..
هكذا نعود إلى مسألة الترجمة وضرورتها الملحة حاليا. فما ينطبق على علم الطب ينطبق أيضا على الفيزياء والكيمياء والرياضيات وسوى ذلك. بل وينطبق حتى على العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والنفس والتحليل النفسي وعلم الإنسان أو الانتربولوجيا وعلم اللاهوت والأديان المقارنة وعلم التاريخ الحديث الخ.. المعركة إذن هي معركة الترجمة أولا وأخيرا. إما أن ننجح بها وإما أن نفشل. وبناء على هذا الفشل أو النجاح سوف يحسم مصير العربية.
كل المعرفة الحديثة في كل المجالات والاختصاصات ينبغي أن تنقل إلى اللغة العربية. إنه لعار علينا ألا تكون هناك مراجع عن فلسفة العلوم مثلا أو ما يدعى بالابيستمولوجيا في اللغة العربية. ولا يقولن أحد بأن العربية عاجزة عن استيعاب العلم والفلسفات الحديثة! من يقول ذلك إما أنه جاهل بالحداثة وإما أنه مغرض حاقد على هذه اللغة العظيمة التي عبرت التاريخ على مدار ألفي سنة دون أن تموت مرة واحدة. حتى في عصر الانحطاط لم تمت.
هل نعلم بأن قادة العولمة الحالية في أوروبا وأميركا يدعمون بقوة بعث العبرية وكل التراث اليهودي في الوقت الذي يشجعوننا فيه صراحة أو ضمنا على التخلي عن اللغة العربية؟ هناك حملة لتحطيم المعنويات لم يسبق لها مثيل. العرب مستهدفون، العرب مكروهون. العرب يخيفون ليس بما هم عليه الآن، ولكن بما يمكن أن يصبحوا عليه إذا ما أمسكوا بأول الخيط الذي يقود إلى الخروج من النفق المظلم.
بقيت كلمة أخيرة.. أرجو من المتقعرين لغويا أن يكفوا عن إرهابنا بقواعدهم الضيقة وتعقيداتهم المرهقة وما يصح أن يقال أو لا يقال.. فنحن لا نعيش في عصر الأصمعي. أرجو أن يكفوا عن تجميد اللغة العربية وتحنيطها وربما تكفينها في التابوت. هم أيضا يشكلون خطرا عليها وليس فقط الأعداء الخارجيون. ومن الحب ما خنق! اتركوا العربية تتفتح وتغتني يوميا بالكلمات الجديدة والمصطلحات العديدة والتراكيب اللغوية المرنة. فالخطأ الشائع أفضل بألف مرة من الصحيح الميت. اتركوها تقترب من لغة الحياة اليومية دون أن تنغلق داخل أي لهجة عامية مشرقية كانت أم مغربية. نحن بحاجة إلى لغة وسطى لا عامية ولا فصحى: أقصد ولا فصحى متقعرة. هذه اللغة الجديدة، هذه اللغة الثالثة، هذه اللغة المرنة التي تخلق كل يوم من قبل وسائل الإعلام والفضائيات والمبدعين العرب هي أملنا الوحيد.
-----------
جريدة الشرق الأوسط : الثلاثـاء 07 رمضـان 1431 هـ 17 أغسطس 2010 العدد 11585
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=582827&issueno=11585