هذه ملاحظات خطرت في نفسي بعد قراءة بحث الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد خواطر وملاحظات عن العرب البائدة(1)، وسمحتُ لنفسي باتخاذ عنوان قريب؛ لأنّ في ما يلي من السطور ما أظنه امتدادًا وبناء على ما وصل إليه الباحث من أفكار، أعانتني في تفسير بعض النصوص التي وقعت عليها عن العرب البائدة، وإضاءة جوانبها.
تستوقف الباحثَ في الشعر الجاهلي الروايات التي توردها المصادر وفيها أخبار عن أشعار قيلت تنسب إلى الأقوام البائدة، وبعضها مرفوع إلى الأنبياء حتى آدم باللغة العربية التي عرفنا الشعر الجاهلي بها، وهذه الأشعار بطبيعة الحال ينقض العقل صحتَها ولا يقبلها، وقد فنّدها رواةُ الشعر العربي والمهتمون به من القدماء قبلنا.
إلاّ أنّ طائفة من الشعر تنسب إلى بعض العرب البائدة ممن أخبر الله عنهم في كتابه أنهم ظَلَموا فأهلكهم، وصاروا عبرة للناظرين. لكن الآيات القرآنية نفسها تخبر بأنّ أولئك القوم الظالمين لم تنقطع صلتهم بعرب الجاهلية قبل الإسلام؛ بل إنّ العرب في الجاهلية عرفوا أولئك القوم وخالطوهم بل وسكنوا في ديارهم ومنازلهم أحيانًا.
ولذلك يمكن أن نفهم علاقة العرب في الجاهلية ببعض الأقوام البائدة في ضوء أنّ الله أخبرنا أنه أنجى أنبياءه والمؤمنين من العذاب، فالعرب في الجاهلية قد اختلطوا ببقايا الأقوام البائدة، وهم الناجون من العذاب. وهذا الاتصال بين عرب الجاهلية والبقية الباقية من العرب البائدة قد يكون سببًا فيما نجد من أشعار منسوبة للأقوام السابقين، وقد يساعدنا هذا الرأي في فهم تلك الأشعار في سياقها والاطمئنان إلى صحة الشعر الجاهلي.
فمن هم العرب البائدة؟ وما علاقتهم بعرب الجاهلية بالشعر المروي عنهم؟
يتفق الدارسون من قدماء ومحدثين على أنّ العرب تنقسم إلى: عرب بائدة وعرب باقية، \"فأمّا الفرقة البائدة فكانت أممًا ضخمة كعادٍ وثمودَ وطَسْمٍ وجَديسٍ والعماليق وَجُرْهُمٍ، أبادهم الزمانُ وأفناهم الدهر بعد أن سلف لهم في الأرض مُلْكٌ جليل وخبر مشهور، ولا يُنكِر لهم أحدٌ من أهل العلم بالقرون الماضية والأجيال الخالية\"(2).
وهكذا فالعرب البائدة كان لهم مُلكٌ قائم ولا يُنكَر أنه كانت لهم حضارة وإرث تاريخي، قد عمَروا الأرضَ حينًا من الزمان، وهذا من المتفق عليه، إذ يعيه أهل العلم بأحوال تلك الأمم الماضية، ومن النص نفهم أنه وُجد الناس –في عصر صاعد الأندلسي وهو من أهل القرن الخامس الهجري وفي العصور التي قبله بالضرورة لأنها أقرب زمنيًّا- وُجِد أناس يختصون بمعرفة أخبار الأمم الماضية وأحوالها، وهذا مما يُتَّفَق عليه أيضًا، لكن عدمَ المعرفة الدقيقة وعدم الوقت على جميع أخبار تلك الأقوام الغابرة –بالدقة العلمية المطلوبة- راجع إلى تباعد الزمن وانقراضهم من مدة.
فالعرب في الجاهلية كانوا أصحاب علم، وإن كان ذلك العلم هو العلم باللغة واللسان، فهو الذي به تفاخر العرب، وهم \"أهل علم الأخبار ومعدن معرفة السير والأعصار... ليس يوصَل إلى خير من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب ومنهم؛ ذلك أنّ من سكن بمكة من العماليق وجُرْهم وآل السَّمَيْدَع ابن هونا وخُزاعة أحاطوا بعلم العرب العاربة والفراعين العاتية وأخبار أهل البلاد... وعنهم صدر أكثر ما رواه عُبَيد بن شَرْيةَ الجُرْهُمي ومحمد بن السائب الكلبي والهيثم بن عَدِي\"(3).
وهذا يعني أنّ العرب كانوا على معرفة بالأقوام البائدة، ويعرفون من أخبارهم شيئًا جيّدًا وصل إلى الرواة أمثال هؤلاء، ولا نستطيع أن نقول إنّ ما عرفوه من أخبار تلك الأمم كان قليلاً، ولا أن نجزم أنه كان كثيرًا، لكنه كان كافيًا لأن تؤلِّف فيه الكتب. فقد وفد عبيد بن شرية الجرهمي النسابة (ت67هـ) على معاوية بن أبي سفيان \"فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة وأمر افتراق الناس في البلاد، وكان استحضره من صنعاء اليمن فأجابه إلى ما أمر... وله كتاب الملوك وأخبار الماضين\"(4).
\"ولوهب بن منبه، صاحب الأخبار والقصص، المتوفى سنة (ت110هـ) كتاب في الملوك المتوجين من حمير وأخبارهم وأشعارهم وقصصهم؛ قال ابن خَلِّكان إنه شاهده بنفسه، وإنه في مجلد واحد، وهو من الكتب المفيدة\"(5). وكتاب ابن منبه هو كتاب \"التيجان في ملوك حمير\"، وفي قسم منه أخبار عبيد بن شرية في أخبار اليمن.
وفي أخبار ابن هشام محمد الكلبي (ت206هـ)، وهو عالم بالنسب وأخبار العرب، أنه له كتب في أخبار الأوائل منها: كتاب \"ملوك اليمن من التبابعة\"، وكتاب \"طَسْمِ وجَديس\" وكتاب \"عاد الأولى والآخرة\"، وكتاب \"أمثال حِمْيَر وغيرها\"(6).
وفي اسم كتابه \"كتاب عاد الأولى والآخرة\" ما يجعلنا نرجح أنّ العرب كانت تميّز بين عادٍ أولى انقرضت، وبين أخرى من بقيتها الباقية ، وبناء على الفكرة التي ذكرها الدكتور الأسد في بحثه من أنّ الله قد أهلك من أولئك الأقوام الذين ظلموا، وأنه أنجى أنبياءه والمؤمنين، وأنّ بقية هذه الأقوام البائدة من المؤمنين قد انساحوا في القبائل الأخرى، فإنّ الجاحظ يذكر في \"البيان والتبيين\" بيتين لأبي الطمّحان القَيني في ذكر لقمان، ويعلّق بعدهما تعليقًا مهمًّا، والبيتان هما:
إنّ الزمان ولا تفنى عجائبُه
أمستْ بنو القَين أفراقًا موزَّعةً
فيه تَقَطَّعُ أُلاَّفٌ وأَقرانُ
كأنهم من بقايا الحيِّ لقمانُ
وقد ذكرت العربُ هذه الأممَ البائدةَ والقرون السالفة، ولبعضهم بقايا قليلة وهم أشلاء في العرب متفرقون مغمورون مثل جُرْهُم وجاسم ووبار وعملاق وأميم وطَسْم وجَديس ولقمان
فهذا نص صريح للجاحظ بأنّ من العرب البائدة من نجا ولهم بقية، لكنهم لم يعد لهم الغلبة والمنعة كالسابق فأصبحوا مغمورين وتفرّقوا في القبائل الكبرى حتى ذابوا فيها فلم يعد لهم شأن يذكر، وهو يشير إلى أنّ العرب كانوا على عهد قريب من أولئك الأقوام الذين حلّ عليهم العذاب فبادوا.
وفي نص أكثر صراحة بأنّ الأقوام السابقة لم ينقطع نسلها تمامًا -ما قاله ابن الكلبي ففي نسب ثقيف: \"...ويقال إنّ ثقيفًا كان عبدًا لأبي رغال، وكان أصله من قوم نَجَوْا من ثمودَ فانتمى، بعد ذلك إلى قيس... وأنّ الحجّاج قال في خطبة خطبها في الكوفة: بلغني أنكم تقولون إنّ ثقيفًا من بقية ثمود! ويلكم، وهل نجا من ثمودَ إلا خيارهم ومن آمن بصالح فبقي معه\"(8).
وهذا صريح في أنّ العرب كانوا يعلمون تمام العلم أنّ ثمودًا نجا منها بعض أهلها ولم يذهبوا جميعًا، وأنّ من نجا من أولئك كانوا قلّة، ثم انتموا إلى قبائل أكبر كما يقتضي التطور الاجتماعي للجماعات البشرية.
* * *
وفي نص آخر لا يقل صراحة بأنّ العرب البائدة بقيتْ منهم قلة قليلة، وهم من أنجاهم الله، لكنهم ذابوا في القبائل الأخرى، ونُسِيت نسبتُهم الأولى، يقول المسعودي: \"...وانقرضت العرب العاربة من عاد وثمود وعُبَيد وطَسْم وجَديس والعماليق ووبار وجُرْهم، ولم يبق مِن العرب إلاّ مَن كان من عدنان وقحطان، ودخل مَن بقي ممن ذكرنا من العرب البائدة في عدد قحطان وعدنان فانمحت أنسابهم وزالت آثارهم\"(9). وروي عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه سئل عن جُرْهم: هل بقي منهم أحد؟ قال: ما أدري، غير أنه لم يبق من ثمود إلاّ ثقيف في قيس عيلان، وبنو لجا في طيئ، والطُّفاوة في بني أعصُر\"(10).
وفي السؤال وحده عن أحوال الأمم البائدة ما يدل على أنّ العرب قد فكّروا في أمر تلك الأقوام، وأنهم لم يُبادوا كلهم وإنما بقي منهم من بقي، فذاب ودخل في القبائل الكبرى، غير ما أقرّه الحسن بأنّ لثمود بقية ذابت في قبيلة أخرى.
ومما ورد في المصادر ويدل على أنّ العرب كانوا على معرفة بالأقوام السابقة ما قاله الهمداني في \"صفة جزيرة العرب\" بأنّ \"القرية الخضراء خضراء حِجْر التي التقطها عبيد بن ثعلبة بن الدُّول ولم يشرك فيها أحدًا، وهي حصون طَسْم وجَديس، وفيها آثارهم وحصونهم وبُتُلهم الواحد بَتيل، وهو هنٌّ مربع مثل الصومعة، مستطيل في السماء من طين، وكانت جديس تسكن الخِضرِمة، وطسم تسكن الخضراء\"(11).
وأنّ هناك حصنًا يقال له مُرْغِم، أي يرغم العدوّ بامتناعه دونه، وهو لبني أبي سَمُرَة والقصر العادي بالأثْل من عهد طسم وجَديس، وصفته أنّ بانيه بنى حصنًا من طين ثلاثين ذراعًا دكَّهُ، ثم بنى عليه الحصن وحوله منازل الحاشية، وساكنه اليوم بنو أبي شمسة(12). وهذا يعني أنّ العرب في الجاهلية قد عاينوا آثار من سبقوهم من الأقوام البائدة وشاهدوها بأعينهم ووصفوها كما في النص، بل وسكنوا ديارهم التي خلّفوها وراءهم، وهذا مما يرجّح أنّ أهل الجاهلية كانوا قريبي عهد بزمان تلك الأقوام ومكانها وآثارها.
* * *
وفي نص آخر عن العرب المتعربة (المستعربة) أنهم \"بنو قحطان بن عابر الذين نطقوا بلسان العرب العاربة وسكنوا ديارهم\" والعرب العاربة هم البائدة من \"عاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وجرهم ووبار\"(13).
إذن فقد عرف العرب في الجاهلية لسان تلك العرب العاربة وديارَهم، بل سكنوا فيها أيضًا،
كما تدل بعض الأخبار على أنّ العرب عرفوا تلك الأقوام عن قرب، واختلطوا بهم وشاهدوهم، ففي مادة (أجأ) -وهو أحد جبلَيْ طيِّئ- في قصة عمرو بن طيِّئ الذي وجد بلادًا واسعة كثيرة المياه والشجر. فرجع إلى أبيه وأخبره بها، فلمّا سار إليها نزل الجبلَيْن\" ورأى فيها شيخًا عظيمًا جسيمًا، مديدَ القامة، على خَلْق العاديين ومعه امرأة على خلْقه يقال لها سلمى\"(14). وفي خلال الحديث عن هذا الجبل يذكر ياقوت: \"... بينما طيئ ذات يوم جالس مع ولديه إذ أقبل رجل من بقايا جَديس ممتد القامة عاري الجبلَّة، كاد يسدّ الأفق طولاً ويفرعهم باعًا\"(15).
فهذان نصان صريحان على أنّ العرب في الجاهلية قد شاهدوا واتصلوا بالقوم الذين بادوا من بقايا عاد وجديس وغيرها؛ فهم يعرفون أوصافهم وسماتهم ويستطيعون تمييزهم بين الناس.
وكذلك في وضوح الحجة على ما سبق النص التالي للمسعودي، الذي يبين أنّ العرب عرفوا الأقوام البائدة وميّزوا صفاتهم؛ إذ يقول في سياق ذكره لأخبار ثمود: \"...وبيوتها إلى وقتنا هذا أبنية منحوتة في الجبال، ورسومهم باقية وآثارهم بادية، وذلك في طريق الحاجّ لمن ورد من الشام بالقرب من وادي القرى، وبيوتهم منحوتة في الصخر بأبواب صغار، ومساكنهم على قَدْر مساكن أهل عصرنا؛ وهذا يدل على أن أجسامهم على قدر أجسامنا، دون ما يخبر به القُصّاص من بُعد أجسامهم. وليس هؤلاء كعاد؛ إذ كانت آثارهم ومواضع مساكنهم وبنيانهم بأرض الشِّحْر تدل على بُعد أجسامهم\"(16).
فأيّ كلام أوضح من هذا الذي يفصِّل في أوصاف تلك الأقوام من العرب البائدة بما يدل على معرفة العرب لهم وتمييزهم إياهم، وأي وعي كان عليه صاحبه وهو يفصِّل ويشرح الفروق بين الأقوام البائدة نفسها من جهة، وبينها وبين أهل زمانه من جهة أخرى. ويوضح سوء الخلط الذي نشأ عند الناس بسبب ما قد يصيب مثل تلك الروايات في سابق الأزمان من مبالغة أو زيادة؛ إمعانًا في التشويق وزيادة في الرهبة التي تضفيها المبالغة على أخبار القدماء.
وفي قصة أخرى أنّ \"عبد الله بن جدعان كان في ابتداء أمره صعلوكًا... فتوصل إلى جبل فوجد فيه شقًّا فدخل فيه... ثم وجد داخله بيتًا فيه جثث طوال بالية... فإذا هم رجال من جُرْهم...\"(17).
* * *
ومما يتصل بمعرفة عرب الجاهلية بالأقوام البائدة الأخبار الكثيرة التي ترويها المصادر عن العثور على آثار وحفائر وألواح من بقايا تلك الأمم. ولو قُدِّر لعرب ذلك الزمان أن يعرفوا علم الآثار وأهميته السياحية مصدرًا للدخل القومي وللتأريخ والأنثربولوجيا لكانوا حفظوا تلك الآثار التي عثروا عليها بكل وسيلة! إذ إنّ في المصادر أخبارًا وقصصًا كثيرة عن العثور على حفائر وبقايا آثار ثمينة من الذهب والأحجار الكريمة والألواح التي عليها نقوش وكتابات. وقد تكون المبالغة قد لحقت بعض تلك الأخبار أو اختلط بعضها الآخر بالأسطورة؛ وهذا ليس مستبعدًا؛ لتقادم العهد وعدم تقدير أهمية تلك الآثار في التاريخ للماضين. وربما ضاعت تلك الآثار؛ لما فيها من كنوز الذهب والأحجار الكريمة التي قد تغري بالسرقة والاستيلاء عليها دون النظر في قيمتها التاريخية والأثرية.
ففي كتب البلدان والمسالك وغيرها أخبار عديدة قصّها بعضُ المغامرين ممن وجدوا آثارًا لأقوام مضت وبادت. ومن اللافت في تلك الروايات أنّ الألواح التي وُجِدتْ مع تلك الآثار وكان عليها نقوش كتابية كانت تجد من يفهمها ويستطيع قراءتها، وفي هذا ما يزيد الترجيح بأنّ العرب كانوا قريبي عهد بتلك الحضارات التي بادت، وأنّ من العرب أو من تلك الأقوام بقية تفهم ما كانت عليه تلك الحضارات من اللغة والمعتقد وغيرها من العناصر الحضارية. وفي النصوص دلائل صريحة على معرفة العرب بلغات تلك الأمم، وأنهم ترجموا تلك النقوش وفسّروها، ما يجعل الأشعارَ التي نُسبتْ إلى العرب البائدة تُفهَم بوضوح واطمئنان في سياق ترجمة النقوش والألواح الأثرية التي عُثر عليها، وأنها ليست مروية بنصها عن أولئك القوم؛ وقد كان بعض الشعر الذي يردُ في النصوص يحتوي ألفاظًا وتراكيب من لغات قديمة، فيضطر الرواة إلى تفسيرها وتوضيحها باللغة العربية التي يفهمها أهل الجاهلية، والتي لا نزال نفهمها، وهذا يرجِّح أنّ بعض أولئك الرواة كانوا على معرفة بتلك اللغات، وكانوا قادرين على ترجمتها وتفسيرها لأهل زمانهم.
كما أنّ بعض النصوص والروايات في المصادر تدل على أنّ القوم يميزون تلك النقوش من مجرد رؤيتها، فيصفونها بأنها مكتوبة بخط كذا، وإن لم يقدروا على قراءتها حال العثور عليها.
وكثير من الأخبار عن آثار القدماء التي عُثِر عليها كانت من اليمن؛ وفي كتاب \"الإكليل\" مثلاً للهمداني، أخبار كثيرة قرأها في مسند، أي قرأها بخط المسند على الحجارة المتبقية من قصور حمير القديمة ومنازلهم التي كانوا فيها. ويبدو من تلك الأخبار أنّ الآثار ذات النقوش الكتابية كان يمكن قراءتها، وهي متيسّرة ومنتشرة بين أيدي الناس على الحجارة أو على المباني؛ لقرب عهدهم بتلك الحضارة التي كانت قد قامت هناك في الزمن الماضي\"(18).
وفي خبر عن رجل من أهل حضرموت وقع على حفيرة شداد بن عاد (أي قبره) في جبل من جبال حضرموت مطلّ على البحر، يذكر ياقوت في \"معجمه\" قصة المغامرة التي قام بها هذا الرجل، وساقَتْه إلى مغارة من مغارات حضرموت أفضتْ به إلى أزَج (نوع من البنيان يُبنى طولاً) وجد فيه سريرًا \"وإذا على رأس السرير لوح من ذهب فيه كتاب بالمسند -وهو كتاب عاد كانت تكتبه في زمانها- محفور ذلك الكتاب في اللوح حفرًا فقلعناه [ويذكر كيف أنه احتفظ بذلك اللوح عنده] قال: ومكث ذلك اللوح عندي حولاً وأنا لا أجد من يقرؤه، حتى أتانا رجل حِمْيَرِيّ من أهل صنعاء كان يحسن قراءة تلك الكتاب، فأخرجتُ إليه اللوح فقرأه فإذا فيه مكتوب هذه الأبيات:
اعتبِـرْ بي أيهـا المغـ
أنـا شـدادُ بن عـاد ـرورُ بالعمر المديدِ
صاحبُ الحصن العتيدِ...\"
إلى آخر الأبيات(19).
ونفهم من النص أعلاه أنّ الذي وجد اللوح لم يكن يعرف قراءة تلك اللغة، إلا أنه ميّزها بأنها كُتِبَتْ بالمسند \"وهي كتابة حمير على خلاف أشكال ألف باء تاء\"(20)؛ وكان لحمير كتابة تسمى بالمسند، وحروفها منفصلة غير متصلة\"(21). ولو لم يكن من المألوف لديهم أن يوجد أناس يفهمون لغة الأقوام السابقة ويقرؤونها لما بقي ذلك المغامر يبحث عمن يقرؤها له، ولما احتفظ باللوح مدة على أمل أن يجد ذلك القارئ، حتى عثر أخيرًا على من يقرأ ما فيها ويترجمه إلى لغة مفهومة منظومة، وهي ليست بشعر تلك التي سمّاها ابن سلام في طبقاته \"كلام مؤلَّف معقود بقوافٍ\"(22).
وليس ذلك الشعر المذكور في الرواية كلام أولئك القوم بنصه وليس من لغتهم، بل هو ما فسّره المفسر وترجمه ليفهمه الناس، فالتبس الأمر على من جاء من بعد، وظن أنّ ذلك الشعر إنما قيل بتلك الصورة المكتملة من قديم الزمان، مع وضوح الدلالة في العبارة التي انتقاها ابن سلام بأنّ ذلك ليس بشعر بل هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ.
وكانوا يترجمون ما يجدونه في الآثار في مناطق أخرى غير اليمن، ففي الأخبار عن مدينة الإسكندرية أنّ \"الإسكندر المقدوني لما استقام ملكه في بلاده سار يختار أرضًا صحيحة الهواء والتربة والماء، فانتهى إلى موضع الإسكندرية، فأصاب في موضعها آثار بنيان وعمدًا كثيرة من الرخام، في وسطها عمود عظيم مكتوب عليه بالقلم المسند وهو القلم الأول من ملوك حمير وملوك عاد: \"أنا شداد بن عاد، شددت بساعدي البلاد، وقطعت عظيم العماد، من الجبال والأطواد، وأنا بنيت إرم ذات العماد...\"(23). وقد ذهب قوم إلى أنّ \"الإسكندرية هي إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد\"(24).
* * *
ويذكر ياقوت روايات أخرى فيها نصوص عمن بنى تلك المدينة ومنها حديث عن عمودين \"كان مكتوبًا عليهما بالحميرية: أنا شداد بن عاد الذي نصب العماد وجنّد الأجناد\"(25)، وفي بقية كلامه ذكرٌ لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما دفع ياقوتًا للتشكيك في الرواية.
ولكن مع هذا فإنّ ما نفهمه نم تلك الرواية أنّ ما كان مكتوبًا بالمسند والحميرية يُترجم إلى اللغة العربية التي يفهمها عرب الجاهلية، وهم قريبو عهد من الأمم السابقة، ويغلب على تلك الترجمات أن تكون نظمًا (مؤلفًا معقودًا بقوافٍ).
ومما يدل على أنّ العرب في الجاهلية كانوا يفهمون ما يعثرون عليه من نصوص ويترجمونها -الأخبار التي تتحدث عن عثورهم على آثار القدماء التي فيها نقوش وكتابة، يذكر الأصفهاني أنه حدّثه \"أبو الحسين أحمد بن محمد بن زيد الوراق قال: أخبرني عمي قال سافرت في طلب العلم والحديث... وقال: ووُجِد على جبل بنواحي ديار ثمود كتابة منقورة في الصخرة تفسيرها: يا ابن آدم ما أظلمك لنفسك ألا ترى إلى آثار الأولين فتعتبر... وتحته كلام مكتوب بخط عربي: بلى كذا ينبغي\"(26).
أي أنّ مَن وجد النقش في الصخرة ميّز أنها من لغة غير لغته، ولكنه مع ذلك يفهمها ويفسِّرها. ومن كتب التعليق بالعربية فهم العبارة بلغتها ثم كتب الجواب تحتها بلغته العربية، ومن النص نفهم أنّ ديار ثمود (وهي من العرب البائدة) كانت معروفة لهم، وذلك يعود بنا لتأييد ما سبق من أنّ العرب كانوا قريبي عهد بالأقوام التي بادت، وعرفوا أخبارهم وديارهم وعاينوها.
* * *
وتوجد أخبار أخرى عن آثار القدماء التي عُثر عليها مصادفة في الغالب \"ففي الرس بناحية صِهْد من أرض اليمن ذكر الهمداني حنظلة بن صفوان وقال: وُجد في قبره لوح مكتوب فيه: أنا حنظلة بن صفوان، أنا رسول الله بعثني إلى حمير وهمدان والعريب من اليمن فكذبوني وقتلوني\"(27).
وأنه في زمن أبي بكر الصدّيق عُثر بعد سيل في اليمن على باب مغلق \"...ثم فُتح فإذا برجل على سرير عليه سبعون حُلّة منسوجة من الذهب وفي يده اليمنى لوح مكتوب فيه\" بيتان من الشعر(28).
فهذا يوضح أنّ ما يُنقل من كلام كان في تلك النقوش التي وُجِدت في آثار القدماء إنما هي ترجمات وتفسير لما كُتب، وليست من لغة أولئك الأقوام في شيء، وأنّ العرب الذين كانوا يعثرون على تلك الآثار كانوا قادرين على ترجمتها ونقلها إلى لغتهم، وأنهم كانوا يعرفون لغات تلك البلاد، فيترجمون ما يجدون إلى اللغة التي عرفها عرب الجاهلية ووصلت آثارهم إلينا بها.
وفي حكاية أخرى أُخبِر بها \"رجل من أهل صنعاء: أنهم حفروا حفيرًا في زمن مروان فوقفوا على أزَج فيه باب، فإذا هم برجل سرير كأعظم ما يكون من الرجال... وعند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه: أنا عَلَس ذو جَدَن القَيْل، لخليلي مني النيل ولعدوّي مني الويل... وهذا سيفي ذو الكف عندي [ويقول الأصفهاني بعده] ووجدت هذا الخبر عند ابن الكلبي في بعض الكتب... فوجدت فيه فإذا طول السيف اثنا عشر شبرًا، وعليه مكتوب تحت شاربه بالمسند: باست يد امرئ كنت في يده فلم ينتصر\"(29).
وذكر عن قوم من اليمن أنهم قالوا: \"أقبل سيل فخرق موضعًا باليمن فأبدى عن أزَج فدُخِل، فإذا سريرٌ عليه رجل، عليه جِبابُ وشْيٍ مُذهبة، وبين يديه مِحْجَن من ذهب، في رأسه ياقوتة حمراء وإذا لوح فيه مكتوب: \"باسمك اللهم إله حمير أنا حسان بن عمرو القيل إذ لا قيل إلا الله، متُّ أزمان هِيد وما هيد؟ هلك فيها اثنا عشر ألف قَيْل كنتُ آخرهم.. قال أبو بكر: هِيد طاعون كان قديمًا(30). وفي رواية أخرى لهذه القصة مع بعض اختلاف في ترجمة المكتوب \"...وإلى جنبه سيف مكتوب فيه بالحميرية: أنا قبار بي يدرك الثار\"(31).
وقد يكون العدد (اثنا عشر ألفًا) من باب المبالغة في فتك الطاعون، ولكن في النص إشارة إلى أنهم كانوا يفهمون تلك الكتابة القديمة أو الحميرية كما في الرواية الثانية.
ومن تلك الأخبار والقصص التي تحدِّث عن اكتشاف بعض آثار القدماء -وغالبيتها لقبور أناس يبدو أنهم كانوا من علية القوم؛ لأنّ جثثهم محفوظة، ولأنها ترافقهم الأحجار الكريمة والمعادن الثمينة- من تلك القصص يمكن أن نعرف عن معتقدات أولئك الأقوام الماضية في الموت والحياة بعده، أو عن معتقداتهم وإنجازاتهم في الدنيا كما سجلت النقوش. مع أنّ في بعض الحكايات شيئًا من المبالغة في مقادير المعادن النفيسة والأحجار الكريمة من باب تجميل القصة في أذهان السامعين وزيادة إثارتهم وتشويقهم، وهذا كثير في أخبار الماضين في أثناء نقل القصص بين الناس.
* * *
وفي أخبار أخرى دلالات صريحة على معرفة العرب بلغة الأقوام السابقة وقدرتهم على تفسيرها وترجمتها إلى وقت قريب، ففي الخبر عن أهل العلم أنّ حمير وقبائل اليمن كرهت المسير مع حسان بن تبان من اليمن ليطأ أرض العرب والعجم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم، وفيها أنّ أخاه عَمْرًا قتله وقتل رعين الحميري لأنه خالفه في الرأي ورجع مع القوم إلى ديارهم، وكان فيما كان أنه كتب له رقعة فيها شعر:
ميتكمْ خيرُنا وحيُّكمُ ربٌّ علينا وكلكمُ أربابي
قال ابن إسحق: وقوله لباب لباب: لا بأس لا بأس، بلغة حمير. قال ابن هشام ويروى لِباب لِباب\"(32).
مما سبق نعرف أنّ العرب في الجاهلية وفي الإسلام كانوا على معرفة بلغة حمير، ويستطيعون تفسير مفرداتها وترجمة لغتها إلى اللغة العربية التي كانوا عليها، ولا نزال نفهمها إلى يومنا هذا.
وهكذا نخلص من الصفحات السابقة إلى أنّ العرب قد عرفوا الأقوام السابقة ممن اصطُلح على تسميتهم العرب البائدة، وكان لهم بعض اتصال بهم؛ إذ عرفوهم وعاينوا ديارَهم وسكنوها، وأنّ أولئك الأقوام لم يذهبوا جميعًا، بل بقي منهم قلة قليلة دخلت في القبائل الأخرى وذابت فيها ونُسِيَتْ نسبتُها.
هذا إلى جانب أنّ العرب قد عرفوا لسان تلك الأقوام، وظل منهم أناس يعرفون تلك اللغات، وكانوا قادرين على ترجمة كلام القدماء مما عُثر عليه في النقوش والألواح المختلفة التي وُجدت في آثارهم، ويبدو أنّ تلك الترجمات المنظومة أحيانًا كثيرة كانت من تأليف المترجمين وليست من لغة الأقوام السابقة بنصها، بما يفسر لنا الشعر المروي عن أولئك الذي نجده باللغة العربية المكتملة فنيًّا التي نعرفها. ومن هذا الاتصال كان للعرب فيما بعد تلك الكتب والروايات التي تحدّثت عن تواريخ الأمم السابقة، وحفظت لنا أخبارها فيما ألّفه أبناء العرب الباقية في القرون التالية عنها.
===============
الهوامش:
* عمّان، الأردن.
(1) د. ناصر الدين الأسد: خواطر وملاحظات عن العرب البائدة وشعرها، مجلة \"العرب\" عدد خاص بمناسبة بلوغها السنة الأربعين، ج9و10، السنة 41، الربيعان 1427هـ نيسان وأيار 2006م.
(2) صاعد الأندلسي: طبقات الأمم، ص111.
(3) المصدر نفسه، ص118.
(4) ابن النديم: الفهرست، ص118.
(5) الكتاني: التراتيب الإدارية 2: 262 نسخة إلكترونية.
(6) ابن النديم: الفهرست، ص125.
(7) الجاحظ: البيان والتبيين، 1: 105.
(8) الأصفهاني: الأغاني، 4: 463.
(9) المسعودي: مروج الذهب، 2: 51.
(10) الأصفهاني: الأغاني، 4: 463.
(11) الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص254.
(12) المصدر نفسه، ص273.
(13) ابن النديم: الفهرست، ص14.
(14) ياقوت: معجم البلدان، مادة أجأ.
(15) المصدر نفسه، المادة نفسها.
(16) المسعودي: مروج الذهب، 2: 42، والشِّحْر: ساحل اليمن.
(17) الأبشيهي: المستطرف، ص347.
(18) الهمداني: الإكليل، صفحات متفرقة.
(19) ياقوت: معجم البلدان، مادة إرم، وفيها أنها مكتوبة على لوح عند رأس رجل عظيم ممدد على سرير من ذهب. والقصة عند النويري: نهاية الأرب، 6: 62-64.
(20) ابن النديم: الفهرست، ص15، وقد رأى ابن النديم في خزانة المأمون مثالاً على القلم الحميري ذاك.
(21) ابن خلكان: وفيات الأعيان، 3: 344، ترجمة ابن البواب الكاتب أبوالحسن علي بن هلال.
(22) ابن سلام: طبقات فحول الشعراء، المقدمة.
(23) النويري: نهاية الأرب، في فتوح مصر وما والاها في \"فن التاريخ\".
(24) ياقوت: معجم البلدان، مادة الإسكندرية.
(25) المصدر نفسه، المادة نفسها.
(26) الأصفهاني: أدب الغرباء، ص78.
(27) الحميري: الروض المعطار، مادة الرس.
(28) الأبشيهي: المستطرف، ص121.
(29) الأصفهاني: الأغاني، 4: 406، والقَيْل واحد الأقيال وهو الملك من ملوك حمير يتقبَّل من قبله من ملوكهم يشبههم.
(30) ابن دريد: الاشتقاق، ص524.
(31) اليغموري: نور القبس، ص238.
(32) ابن هشام: السيرة النبوية، 1: 29، لاه أي لله، حذف حرف الجر.
---------------------------
مصادر البحث:
1- الأبشيهي: شهاب الدين بن محمد (ت852هـ): المستطرف في كل فن مستظرف، حققه عبد الله أنيس الطباع، دار القلم، بيروت، 1981م.
2- الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين (ت356هـ): أدب الغرباء، ط1، نشره د. صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1972م.
3- الأصفهاني، أبو الفرج، الأغاني، ط1، إعداد مكتب التحقيق، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1994م.
4- الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر (ت255هـ): البيان والتبيين، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.
5- الحِمْيَري: محمد بن عبد المنعم (ت900هـ)، الروض المعطار في خبر الأقطار، ط2، تح. إحسان عباس، مكتبة لبنان، بيروت، 1984م.
6- ابن خلكان: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد (ت681هـ): وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: تح. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1970م.
7- ابن دريد: أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي (ت321هـ): الاشتقاق، ط2، تح. عبد السلام هارون، مكتبة المثنى، بغداد، 1979م.
8- ابن سلام الجمحي: محمد بن سلام (ت231هـ): طبقات فحول الشعراء، قرأه وشرحه محمد محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، دون تاريخ.
9- صاعد الأندلسي: أبو القاسم صاعد بن أحمد التغلبي: طبقات الأمم، ط1، تح. حياة بوعلوان، دار الطليعة، بيروت، 1985م.
10- الكتاني: عبد الحي الكتاني الإدريسي: نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية، دار الكتاب العربي، بيروت، دون تاريخ (نسخة إلكترونية).
11- المسعودي: أبو الحسن علي بن الحسين (346هـ): مروج الذهب ومعادن الجوهر، ط5، تح. محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، 1973م.
12- ابن النديم: محمد بن إسحاق النديم (ت380هـ): الفهرست، ط2، اعتنى بها الشيخ إبراهيم رمضان، دار المعرفة، بيروت، 1997م.
13- النويري: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب (ت733هـ): نهاية الأرب في فنون الأدب، ط1، تح. مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م.
14- ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام الحميري (ت213هـ): السيرة النبوية، حققها مصطفى السقا وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت، دون تاريخ.
15- الهمداني، أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب (ت334هـ): الإكليل، حققه محمد بن علي الأكوع، صنعاء، 1966م.
16- الهمداني: صفة جزيرة العرب، تح. محمد بن علي الأكوع، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1989م.
17- وهب بن منبه: كتاب التيجان في ملوك حمير، ط1، تحقيق ونشر مركز الدراسات والأبحاث اليمنية، صنعاء، 1347هـ.
18- ياقوت الحموي: شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله (ت626هـ): معجم البلدان، دار صادر، بيروت، دون تاريخ.
---------------
مصدر البحث : ملتقى بني الحارث :