البحرين المذكورة في كتب التراث

نسمع أحيانًا من كبار السن مقولات مثل: "المدينة الفلانية أصبحت كبيرة" وهم بذلك يعنون أن المنطقة المأهولة بالسكان اتسعت؛ واتساعها هذا يعني أخذ جزء من المناطق القريبة منها، التي ربما كانت تحمل أسماءً أخرى، ولقوة هذه المدينة وامتداد سلطانها إلى الأماكن المجاورة قد تتحول تلك الأماكن إلى أحياء بداخلها، فتتغير أسماؤها بما يتناسب مع لغة / دين / سياسة هؤلاء السكان الذين زحفوا إليها.

أما في حالة اشتراك الموضعين (المتسع والمتقلص) في اللغة والدين والسياسة، قد لايكون هناك تأثير على اسم الموضع القديم، فاتساع مدينة الرياض لايصاحبه في الغالب تغيير لأسماء المواضع التي تدخل فيها، ولعل الدرعية أقرب مثال على ذلك، فما زالت تحتفظ باسمها رغم أن الرياض قد التهمتها بكاملها!

وعودًا على العنوان، نلاحظ في كتب التراث والتاريخ ورود اسم "البحرين" كموضع يوجد في شرق الجزيرة العربية، وقد يغلب على الظن أن المقصود به "دولة البحرين" بحدودها المعروفة الآن، وربما يتعجب البعض من ذكر البحرين في كتب التراث دون التطرّق إلى ركوب البحر! فالمعروف أنها جزيرة تحيطها المياه من جميع الجهات، وليس ثمة جسر يربطها بشبه الجزيرة العربية آنذاك.

وممن تحدثوا عن البحرين في تراثنا: الصولي (ت 335هـ)، فقد جاء في كتابه (أدب الكاتب): "وكان سبب تدوين الدواوين، أن أبا بكر رحمه الله، لما تولى الأمر جاءه مال من البحرين، بعد أن وعد كل من له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة به، فأعطى جابر بن عبد الله عدة كانت له. وجاء مال البحرين فقسمه، فأخذ الرجل عشرة دراهم والمرأة كذلك والعبد كذلك. جاء في العام الثاني أكثر من ذلك، فأصابهم عشرون درهماً لكل واحد منهم...".

وابن الجوزي (ت597هـ) في كتابه (الأذكياء) يقول: "حدثنا زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه استعمل المغيرة بن شعبة على البحرين فكرهوه وأبغضوه قال فعزل عنهم ...".

كانت الملاحظة الأولى على الروايات كما أشرتُ أعلاه: عدم ذكر ركوب البحر.

والثانية: أن يوضع عامل من الخليفة عليها، ومن المعلوم أن العمال إنما يوضعون في الحاضرة بين أعيان البلد وخاصتهم، ويكون لهم نفوذ على الأطراف، وهذا لاينطبق على موقع البحرين الحالي، فمساحتها أصغر من أن يتم إفراد عاملٍ لها، ولو قيل إن عاملها كان له نفوذ على ساحل شبه الجزير العربية، لقلنا أن هذا مخالف للعقل، فكيف يصل العامة إذًا للخليفة؟ هل سيركبون البحر لكل صغيرة وكبيرة؟

والثالثة: في رواية الصولي وماقاله من مجيء المال من البحرين، وإذا علمنا بأن المصدر الرئيس لخزانة الوالي هو: الخراج والجزية، سنعرف حينها أن هذه الأرض كانت شاسعة بما يكفي لوجود أراضٍ تؤتي هذا الخراج الذي يفيض عن حاجة البلد فيرسل الفائض منه إلى مقر الخلافة.

ولعلنا نجد الإجابة عند الرحالة الجغرافي العظيم ياقوت الحموي (ت 626هـ) في كتابه الشهير "معجم البلدان"، فيقول تحت اسم "البحرين": "... روى ابن عباس: البحرين من أعمال العراق وحَدُّه من عُمان ناحية جرفار واليمامة على جبالها وربما ضُمَّت اليمامة إلى المدينة وربما أُفْرِدَتْ، هذا كان في أيام بني أمية، فلما وَلِيَ بنو العباس صيروا عمان والبحرين واليمامة عملا واحدا، قاله ابن الفقيه، وقال أبو عبيدة: بين البحرين واليمامة مسيرة عشرة أيام وبين هجر مدينة البحرين والبصرة مسيرة خمسة عشر يوما على الإبل وبينهما وبين عُمان مسيرة شهر. قال: والبحرين هي: الخط والقطيف والآرة وهجر وبينونة والزارة وجواثا والسابور ودارين والغابة قال وقصبة هجر الصفا والمشقر..." ثم بدأ في الحديث عن اشتقاق الاسم بكلام يطول ذكره، وربما وجدنا في كلام ابن عباس مايؤكد ماقلنا آنفا من أن تغيَّر أحد العوامل الثلاثة (اللغة / الدين / السياسية) له أثر في تغير أسماء المواضع، فالبحرين كانت بين مد وجزر عندما تغير عامل السياسة فيها(الانتقال من الأموية للعباسية)، فتوسُّعُها يعني أن اسمها أصبح يطلق على مواضع لم تكن تسمى بها، وتقلصها يعني وجود مواضع لم تعد بحرينًا، وبالتأكيد تم تسميها بأسماء أخرى!

الحديث يطول عن موضع البحرين بالتحديد، وقد أفرد لها ياقوت الحموي أربع صفحات في كتابه معجم البلدان - الذي اقتبست منه الفقرة السابقة - وبناءً على وصفه تكون حدود البحرين القديمة كما في الخريطة التالية:

alt

(من خرائط ويكيبيديا – إقليم البحرين)

أما تقلص الموضع الذي كان يطلق عليه البحرين إلى أن انحصر في دولة البحرين الحالية (جزيرة أوال سابقًا) فبالتأكيد لم يكن سببه تغير الدين ولا اللغة فهي ثابتة إلى يومنا هذا، وكان المتغير الوحيد هو النفوذ السياسي، فقد دخلت المنطقة تحت حكم العديد من الجهات خلال الفترة الماضية، ولعل الداعم الأهم لتذبذب المسمّى أن البحرين كانت تطلق على إقليم، كما نقول الآن الحجاز، فليس هناك موضع معيَّن اسمه الحجاز وإنما اصطلح الأولون على تسمية المنطقة الغربية بالحجاز دون تعيين حدود لهذا الغرب، ولو رجعنا إلى أقوال السابقين في الحجار لرأينا فيها خلاف فيما يدخل تحت هذا الاسم من المواضع وما لايدخل فيه، وكذلك إقليم البحرين!

FOOTWEAR

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: