خلال زيارتي للمكتبة الجامعية المركزية في بلغراد وهي أكبر مكتبة جامعية في صربيا، تأسست عام 1924، زرت قسم الكتب النادرة واطلعت على عدد كبير من المخطوطات العربية الهامة يصل إلى حوالي أربعمئة مخطوط .
ووجدت أن هذه المجموعة مهملة، مما يعطل الاستفادة من هذه الثروة الثقافية العربية الهامة، وتعرفت على مضمون بعض الكتب، ومن أهم المخطوطات التي اطلعت عليها هي :
ـ كشف الظنون تأليف شهاب الدين السهروردي: مخطوطة قديمة تعود إلى سنة 607 هجرية .
ـ عوارف المعارف في التصّوف للشيخ محي الدين بن عربي: مخطوطة قديمة تعود إلى سنة 670 هجرية .
ـ مشكاة الأنوار لابن الملك فرشة زادة: مخطوطة قديمة تعود إلى سنة 1130 هجرية .
ـ شرح أسماء الله الحسنى بالعربية .
ـ نسخة مزينة وقديمة من القرآن الكريم .
ولا أعلم إن كان يوجد ما يماثل هذه المخطوطات الهامة، أو على الأقل صور عنها، أو حتى فهرس لها، لدى الجامعات ومراكز البحث العربية. ويوجد مثل هذه المخطوطات وربما أكثر منها عدداً في عدد كبير من الجامعات والمكتبات ومراكز الدراسات في مختلف أنحاء أوربا وأمريكا .
هذه المخطوطات كنز نادر، علينا أن نصونه ونحافظ عليه، ليس فقط من أجل التباهي بأجدادنا، وهم يستحقون أن نفخر بهم، بل وكذلك من أجل الحفاظ على الثروة الثقافية الإنسانية الشاملة.
إن هذه الأمانة التاريخية التي نحملها ليست مسألة سهلة أو بسيطة بل هي تتعلق بجوهر قضية النهضة العربية، فمكانة اللغة العربية، لها علاقة مباشرة بمكانة العرب ونظرة الآخرين إليهم، ونظرتهم إلى أنفسهم، وكم تأثرت عندما شكا لي أحد الأساتذة في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة بلغراد والذي أنشئ منذ أكثر من سبعين عاماً وهو الأقدم في البلقان، عن الإهمال الذي يلقاه القسم في الدول العربية وعدم تقديم أية مساعدة لهم في الوقت الذي نجد أن أقسام اللغات الأجنبية الأخرى تلقى الدعم والمساندة من البلدان الناطقة بلغتها .
هكذا حال الأقسام والمعاهد التي تدرس فيها اللغة العربية، وهذا ناتج عن مدى الإهمال من قبلنا، وهي من أهم مراكز نشر لغتنا العربية في العالم .
وحتى أن بعضها يلقى المحاربة ومحاولات الإلغاء . ففي حادثة ذات مغزى كبير، تأسست في حي بروكلين بمدينة نيويورك أول مدرسة حكومية أمريكية تدرس فصلاً كاملاً باللغة العربية، وهي "أكاديمية جبران خليل جبران العالمية"، ولكن المشكلة أن المتطرفين الأمريكيين هاجموا هذه الخطوة ونظموا مظاهرة ضد افتتاحها، وشنت الصحف حملة على الأكاديمية، بدعوى أنها ستساعد على نشر الإرهاب، ولما حاولت مديرة الأكاديمية ديبي المنتصري، أن تفند حجج المعترضين، هاجمتها الصحف بأسوأ أسلوب وكان أحد عناوين المقالات التي نشرت في نيويورك بوست: "اخرسي أيتها العربية"، كما كتب دانيال بايبس، وهو أستاذ جامعي يهودي وكاتب معروف، مقالاً في نيويورك صن يقول فيه : «إن تعلم العربية يشجع الميول الإسلامية، وبالتالي يشجع الإرهاب، وسيتسبب بانهيار أمريكا»، كل ذلك أجبر ديبي المنتصري على الاستقالة، على الرغم من أنها تتكلم الإنكليزية بلهجة أمريكية وتعتبر نفسها منفتحة ومتحررة.
ولكي نكون منصفين، لا يقابل الأمريكيون جميعهم مسألة اللغة العربية بهذه الطريقة، فهاهو جون كلاين مدير مدارس نيويورك يعبر عن شعوره بالأسف لوجود من يعارض تعليم العربية، وطمأن كلاين (وهو يهودي) تلاميذ الأكاديمية وذويهم بأن المدرسة ستبقى وتتوسع، وهاهو الأستاذ الجامعي أنتوني ديماغيو يكتب: "مؤسف جداً أن أقلية متطرفة تدير النقاش الأمريكي عن علاقتنا بالإسلام والمسلمين." وانتقد محاولة هذه الأقلية إدانة العرب والمسلمين ومنع تعليم العربية. إن هذه الحادثة تبرهن أن ضيق الأفق موجود بين الأمريكيين أكثر مما هو موجود بين العرب والمسلمين، فالطابع الغالب للعروبة والإسلام هو التسامح الذي بلغ قمته مع كبار العلماء المسلمين كالشيخ الكبير جلال الدين الرومي والشيخ الجليل محي الدين بن عربي الذي ذكرنا مخطوطه في بداية هذا المقال .
والحضارة العربية هي الحضارة المتطورة التي بلغت أعلى قمة لها في بلاد الأندلس، وهذا المفهوم يقر به ولي عهد المملكة المتحدة أمير مقاطعة ويلز، الأمير تشارلز في كلمة له ألقاها في 27 10 1993 ، لدى افتتاحه مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، كونه الرئيس الشرفي، جاء فيها: "نحن انتقصنا من أهمية المجتمع الاسلامي وثقافته في إٍسبانيا لمدة ثمانمائة عام ما بين القرنين الثامن والخامس عشر الميلادي. فالإسلام في إٍسبانيا ساهم مساهمة كبيرة في الحفاظ على الأسس العلمية في عصور الظلام كما ساهم في وضع اللبنة الأولى لبداية عصر النهضة في أوروبا، ولم يكن إسلام إسبانيا مجرد كنز مدفون تم اكتشافه على يد الغرب" . وأضاف ولي العهد:" قرطبة في القرن العاشر كانت أكثر المدن حضارة في القارة الأوروبية، وكثير من عناصر الحضارة التي تفتخر بها أوروبا المعاصرة منبعها الإسلام في إسبانيا، مثل فن الدبلوماسية، والتجارة الحرة، وفتح الحدود، ومناهج البحث العلمي، والأنثروبولوجي، والأزياء، والعلاج بالأعشاب والمستشفيات"
إن الدفاع عن اللغة العربية وانتشارها، والدفاع عن الصورة الحقيقية للغة العربية ومكانتها السامية، التي حققتها من خلال حضارة عريقة تعتمد على العلم والعقل والإيمان والتسامح، إنما هو إحقاق للحقيقة، ودفاع عن الحق.
تستحق منا اللغة العربية جهوداً مضاعفة، فوفقاً لمشروع ذاكرة العالم الذي أطلقته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم(اليونسكو)،علينا أن نحافظ على كل شذرة مهما كانت ضئيلة من التراث العالمي، كي تبقى اللوحة الثقافية الإنسانية متكاملة وشاملة، فأي خرق في هذا المشهد، يسيء لشموليته واكتمال تعبيره عن الإنسانية بكل أبعادها، ولا تستثنى من ذلك الثقافات الضعيفة، أو التي تتجه إلى الانقراض بسبب قلة عدد الأفراد الذين يتحدثون بلغتها، فإذا كانت اللغات والثقافات الضعيفة تحظى باهتمام العالم ومنظماته ومؤسساته، فمن الحري بنا، أن نكون حراساً يقظين لتراث هذه الأمة، وقبل كل شيء للغتها، هذه اللغة التي كانت بحق لغة العلم العالمية، فقد بلغ تطور العلوم عند العرب في القرن التاسع الميلادي، حداً أصبحت معه العربية هي لغة العلم في العالم، وهنا لا بد أن نلاحظ أننا عندما نقول : الحضارة العربية الإسلامية في القرن التاسع الميلادي ، فإننا نقصد إنجازات جميع المبدعين الذين ظهروا في بيئة هذه الحضارة بغض النظر عن أصولهم العرقية أو انتماءاتهم الدينية، فهم وإن كان بعضهم يتحدر من أصول عرقية غير عربية، أويؤمن بديانة غير الإسلام كالمسيحيين أو اليهود أو الصابئة، ونخص بالذكر العرب المسيحيين الذين أدوا على مدى قرون عديدة دور المترجمين والمستشارين والأطباء لدى الخلفاء الأمويين والعباسيين والفاطميين، إلا أن هؤلاء المبدعين جميعاً، أخذوا ثقافتهم ومعارفهم من البيئة الحضارية العربية الإسلامية (بغداد – البصرة – مكة المكرمة – المدينة المنورة - القاهرة – الإسكندرية - دمشق – حلب – القيروان - تونس – مراكش - فاس - الجزائر – قرطبة - غرناطة – طليطلة ... الخ...) ، وهذا أكبر دليل على تسامح الحضارة العربية الإسلامية في مراكزها العريقة،وقد قدم هؤلاء المبدعون جميعاً إضافاتهم العلمية والثقافية باللغة العربية، فكانوا نتاج وبناة حضارتنا الذين نفخر بهم، تماماً كما يتباهى الفرنسيون بمدام كوري على الرغم من أصلها البولوني، وكما يضم الأمريكيون إلى تراثهم أعمال كيسنغر على الرغم من أصله الألماني – اليهودي، وفوكوياما على الرغم من أصله الياباني، وأحمد زويل على الرغم من أصله العربي، ولذلك فعندما ننظر إلى الإسهام العربي فإننا نقصد جميع المبدعين بغض النظر عن أصولهم العرقية أو انتماءاتهم الدينية، فقد أسس الخوارزمي علم الجبر وتبعه خلفاؤه ابن ترك وسند بن علي والصيداني وسنان بن الفتح، وفي مجال الفلك، أدى مرصد بغداد مهمة كبيرة في تطوير هذا العلم في عهد شرف الدولة. وساهم في ذلك القوهي وأبو الوفا البوزجاني، وكان لابن يونس في القاهرة إسهامه في بداية القرن الحادي عشر، كما أسهم في ذلك أيضاً عبد الرحمن الصوفي في أصفهان الذي رصد الكواكب الثابتة.
وفي الطب ألف عبد الرحمن الرازي (الحاوي في علوم الطب)، الذي ترجم إلى اللاتينية في نهاية القرن الثالث عشر، وأعيدت طباعته أكثر من خمس مرات في القرن السادس عشر، ولا بد أن نذكر كتاب ابن سينا (كتاب القانون) الذي استحق عليه لقب جالينوس الإسلام .
أما الكيمياء فهي علم أسسه العرب دون أي اعتماد على ما سبقهم، وأسهم في هذا التأسيس جابر بن حيان وذو النون المصري والرازي وابن سينا، وكان جابر بن حيان خاصة هو صاحب أكبر إسهام في هذا التأسيس وهو إلى جانب علم الكيمياء وضع بداية أسس العلم التجريبي الحديث، حتى أن جوليوس روسكا قال :
«نستطيع القول بأن الكيمياء في الغرب اللاتيني لا تدين بشيء إلى اليونانية، وتدين بكل شيء تقريباً إلى العرب»(1).
لقد كان ذلك العصر عربياً بامتياز إلى حد أن أوربا لم يكن لها ذكر في مجال التقدم الحضاري ، فقد « ذهب قاضي طليطلة : سعد بن أحمد ( ت 1068م) إلى القول : إن أمم الأرض تقسم إلى قسمين : أمم ذات معارف وعلوم ، وأمم جاهلة ، وعلى رأس القسم الأول :العرب ثم اليونان والرومان والهنود .... ومن الأمم الجاهلة، الأمم الأوربية » و«كانت هذه وجهة نظر ابن خرداذبة (ت893م) وابن رسته ( ت 910 م ) والمسعودي ( ت 956م ) » و« ذهب المقدسي إلى أبعد من ذلك عندما أهمل الإشارة إلى أوربا في كتابه القيم "أحسن التقاسيم"، وحجته في ذلك أنه ليس في تلك البلاد ما يستحق التسجيل»(2).
ونحن، وإن كنا نعارض فكرة تقسيم الأمم إلى أمم جاهلة وأخرى متحضرة، ونراها فكرة عنصرية، وهي تستخدم اليوم ضد العرب، فإننا أوردنا هذا المقطع كي نقول إن حال العرب لم يكن أبداً كما وصلت الأحداث إليه بعد القرن الخامس عشر، بل إن حالة العرب كانت معاكسة تماماً، ولا شيء يمنع اليوم من حصول النهضة العربية إذا ما توفرت شروطها، وفي مقدمتها الإرادة والتصميم والتخطيط وحسن الإدارة.
إن المكانة العظيمة للغة العربية، التي شغلتها في الماضي القريب، يحملنا مسؤولية مضاعفة للحفاظ عليها ونشرها، بل هي أمانة في عنق جيلنا تجاه الأجيال القادمة، ويملك العرب حتماً عوامل استنهاض كامنة تؤهلهم لحمل الأمانة، لكنها عوامل تحتاج إلى عمل منظم ودؤوب لتحريكها وتطويرها، وذلك يحتاج إلى تحرّكٍ جادٍّ وإلى عملٍ عربيٍّ مشترك في أوسع نطاق ممكن وعلى المستويات كلّها،الرسمية والشعبية والمدنية، وبما يشمل أيضاً العرب المنتشرين خارج البلاد العربية.
ونعتقد، أن علينا اليوم، أن نبدأ بمشروع كبير يهدف إلى إعداد كشاف ـ فهرس بالعربية والإنكليزية إضافة إلى لغة البلد الذي يستضيف هذه الكتب والوثائق النادرة، وسنعمل في الجمعية العربية للمعرفة بكل قوتنا على إطلاق هذا المشروع بالتعاون بين جميع المؤسسات والجمعيات والمراكز والمكتبات والشخصيات المعنية بهذا الموضوع والراغبة بتقديم عمل تذكره الأجيال القادمة، وعلينا أن نعمل على اشراك العرب جميعاً في مسألة نهوض وانتشار اللغة العربية، وأن تحتضن هذه الحركة الصاعدة الإمكانات العربية الكامنة، في جميع البلدان العربية، وفي بلدان المهجر .
-----------------
هوامش :
1- راجع كلمة د. حازم الببلاوي في افتتاح ندوة : «نحو مشروع للنهضة العربية في القرن الحادي والعشرين»، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، بيروت، 1998 .
2- د. محمود سمرة ، العروبة والإسلام وأوربا ، ندوة النهضة العربية الثانية تحديات وآفاق، مؤسسة عبد الحميد شومان، عمان، الأردن، 2000 .
---------------------
منتديات كنوز ودفائن الوطن :
http://knooz1.a3a3.com/vb/showthread.php?t=19587