المقدمة:
الحمد لله الذي شرفني بدراسة لغة القرآن ووفقني وهداني إلى بعض أسرارها. والصلاة والسلام على سيد الأنام محمد ، القائل ، (أعوذ بالله من علم لا ينفع). اللهم انا نسألك علما نافعاً ويقينا صادقا ، ونعوذ بك من أن نتشاغل بعلم لا ينفع ، أو علم لا يرضيك. وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً وبعدُ..
فان نظام اللغة العربية يشمل أنظمة مرتبطة بعضها ببعض كلها مكونات للمعنى، أهمها النظام الصوتي وقوانينه. ثم النظام الصرفي الذي يبنى على جذور، واشتقاقات مطرّدة قد تصل الى أكثر من مئتي اشتقاق أوتصريف محفوظ للجذر الواحد تتسع بالزوائد والحذف والإعلال والإبدال وتعاور الحركات وقوانين جمع التكسير والنسب والتصغير والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث على وفق نظام مرن مفتوح يستوعب كل معنى جديد لمواكبة التطور ويسعف المبدعين والمعربين وغيرهم([1]) في التعبير عن مقاصدهم العلمية والابداعية.
والنظام الصرفي " يتكون من نظام من المعاني التي تعبّر عنها المباني لأنّ هذه المباني تتحقق بدورها بواسطة العلاقات فمن المعاني والمباني تتكون اللغة ، ومن العلاقات يتكون الكلام..."([2]).
ونحن معنيون بالنظام النحوي – في هذا البحث - وهو نظام تركيب المفردات للتعبير عن الدلالة. وسنرى أن النظام نفسه جزء من الدلالة.
النظام النحوي:
يعتمد النظام النحوي على أنظمة اللغة الأخرى ولاسيما النظام الصرفي. كلها تتعاضد لخدمة الدلالة والبيان كالنظام الإعرابي ونظام الربط وغيرها.
يسمح النظام النحوي بالتوسع من خلال المشابهة وحمل الكلام بعضه على بعض ويتصف بالمرونة والتداخل كنظام الـ Windows في الحاسوب المتماسك بكثرة نوافذه التي يؤدي بعضها الى بعض والدخول إليه من أي نافذة وليس على شكل سلسلة مستقلة الحلقات، وإنما منتشر متداخل الفروع متماسك كأبواب النحو التي تقوم على المشابهة والمرونة ، لذلك نجد في كتب النحو كثرة الإحالات في هوامشها على الأبواب والمسائل والفروع وخير شاهد على ذلك كتاب (النحو الوافي) لعباس حسن الذي جاءت هوامشه وإحالاته أكثر من المتن.
وللأستاذ عباس المناصرة محاولة تكشف هذا النظام جلياً في كتابه (أطلس النحو العربي)([3]) ، فقد عرض النحو على شكل شجرة لها فروع تمثل أبواب النحو الرئيسة تتفرع منها فروع متصلة بعضها ببعض ، عرضها على شكل مشجرات تمثل مسائل النحو ومكوناته ، وان كانت محاولته معيارية تعليمية لانه أراد ان ينظم أجزاء النحو المتناثرة ويربطها بنظامها الشامل للتلاميذ بدلاً من تناولها مشتتة في سنوات الدراسة. لكنها محاولة تدل على الترابط والتماسك بين أبواب النحو وفروعه ومسائله على وفق نظام رصين مطرد ، كثير المداخل.
وكذلك محاولة العقيد الركن انطوان الدحداح في (معجم قواعد اللغة العربية في جداول ولوحات) وهو أوسع تناولاً وأكثر تفصيلاً وتطبيقاً وأشمل موضوعات وغيرها من الكتب النحوية التعليمية التي تكشف عن النظام النحوي المترابط الذي يقوم على التعاضد والمداخل والترابط وان لم تكن تقصد إليه قصداً بقدر هدفها التعليمي.
وهذا النظام كان سبباً لما امتازت به كتب النحو الأولى من التداخل والتكرار والاضطراب المنهجي أحيانا مثل كتاب سيبويه. والكتب التي لها صلة بأنظمة اللغة العربية (كدلائل الإعجاز) للإمام عبد القاهر و (الخصائص) لابن جني، والمغني لابن هشام ، والأشباه والنظائر للسيوطي وغيرها.
وصف النظام النحوي:
النظام النحوي يؤسس على مواقع محددة تسمى معانٍ نحوية أو وظائف اصطلح عليها النحاة بمصطلحات محددة كالإسناد والفاعلية والمفعولية والوصفية والتبعية وغيرها على وفق ترتيب يتصف بالمرونة يسمح بتغيرات داخل نظامه مشابهة له. وتعضده أنظمة أخرى كنظام الإعراب والربط والنظام الصرفي ونظام الإضافة والتعلق وغيرها.
نظام مبني على أصول محدودة ثم يتوسع فيها باتجاهات عديدة بحسب المعنى المراد وان كان دقيقاً او ملمحاً او لغزاً او إبداعيا او بلاغياً بتوسع هذه الأصول الى ما يشبهها وهذا الشبه قد يكون واضحاً جلياً كقواعد النحو ونظام الإعراب وقد يكون خفياً كالعدول في ضوء النظام نفسه.
فالأصل يركب من معنيين نحويين ورابط وتفصيل يزيد المعنى وضوحاً وبياناً كالتمييز والحال والنعت والتوابع الأخرى ثم يتوسع بإحلال معانٍ مختلفة بالموقعين النحويين او الوظيفتين او المعنيين، وكذلك الرابط يتوسع فيه بإحلال روابط مختلفة كالأداة والضمير والحرف وحركات الإعراب التي تعضد النظام ، وكذلك الأمر للتفصيل ، وكل معنى نحوي او موقع تحل محله وظائف نحوية مختلفة كالفعل والاسم المبتدأ وما يشبهها من الأفعال الناقصة والأخرى المشبهة بالفعل في المعنى النحوي الأول. وتحل محل المعنى النحوي الثاني او الموقع معانٍ نحوية او وظائف متعددة كالمفعولية والخبرية وغيرهما ، وتحل معانٍ نحوية مختلفة في (التفصيل) كالتبعية. ومهما يتوسع النظام فيقوم على مشابهة الأصل حتى الأساليب التي يختلف نظامها كالاستفهام والشرط والاستثناء والنداء وغيرها.
والنظام الصرفي يعتمد على النظامين الصوتي والدلالي والنظام النحوي يعتمد على الأنظمة الصوتي والصرفي والدلالي والنظام الاسلوبي يعتمد على أنظمة اللغة جميعها.
مخطط النظام اللغوي يمثل تلازمه وارتباطه وتداخله بعضه ببعض ليؤدي المعنى المتحرك بحسب تطور المجتمع والثقافات وغيرها. قال تعالى : ) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ( (سورة يّـس:40) ، أي في نظامه وليس الحركة خارج الفلك دائماً وإنما يسبح ضمن نظامه وفلكه والله اعلم.
إن البشرية تغيرت على وفق أحداث كبرى تبعتها تغيرات في التفكير والمعتقدات والعلوم واللغات وطرائق العيش والعادات وغيرها فالعلم اختلف مثلاً بعد الحروب العالمية وبعد الحرب الباردة وبعد الانفجار المعرفي وعصر الصناعة والكهرباء وأخرها شبكة الاتصال الالكترونية العالمية- (الانترنت). لكن نظام العربية المفتوح استوعب كل هذه التغيرات وتحرك معها المعنى مع بقاء النص ثابتاً. وقد خضعت اللغات المختلفة للتطور والتغيير إلاّ النصّ القرآني كما نزل يحوي المتغيرات بسبب نظامه اللغوي المعجز.
ونظام الإعراب يعضد هذه المعاني فيمنح لكل معنى حركة إعرابية الرفع للإسناد والفاعلية والفعل المعرب. والنصب للمفعولية وان أحدثتها عوامل ظاهرة او مقدرة فحملاً على الأصل ، والجر للإضافة والجزم خاص بالأفعال ولكلٍ دلالته.
هذا أصل الإعراب وينوب عنه علامات فرعية في معناه نفسه، كالإعراب بالحروف والإعراب المقدر والمحلي الذي لا يظهر لدواعٍ صوتية ، كالثقل والتعذر واشتغال المحل ، فيحمل على الأصل في ضوء صفة الاطراد والانعكاس لنظام العربية.
أما البناء فغالباً يحدث لأسباب تخص اللفظة ولاسيما الحروف والأسماء المحمولة عليها، تلزم حركة بناء واحدة لكنها تقع في مواقع الإعراب المختلفة ، ويقدر عليها النظام الإعرابي نفسه، هذا للبناء اللازم.
أما البناء العارض كالمنادى العلم واسم لا النافية للجنس ومركب الأعداد فانها محمولة على معانٍ نحوية اخرى تشبهها. فحمل بعضها على بعض، والمشابهة بينها جوهر النظام اللغوي للعربية.
إن النظام الإعرابي أوضح أنظمة العربية لذلك أولاه النحويون جلّ عنايتهم. وان سعة النحو العربي لا يتضح بهذه العجالة وسيزداد الأمر وضوحاً فيما يأتي ان شاء الله.
النظام النحوي في التفكير النحوي لدى النحاة المتقدمين:
أدرك علماء النحو القدامى نظام العربية الذي يختلف عن المنطق العقلي الذي خلط بينهما النحاة المتأخرون ، وكان منهج الخليل بن احمد رحمه الله تعالى (175هـ) النحوي في معالجة التقاطع الحاصل بين النصّ القرآني والمعايير النحوية، يقوم على لحظ هذا النظام الذي يقوم على مشابهة الكلام العربي بعضه ببعض، وتعلق بعضه برقاب بعض.
قال تلميذه سيبويه: "ومن كلامهم ان يشبهوا الشيء بالشيء وان لم يكن مثله في جميع الأشياء"([4]). وكان الخليل – رحمه الله تعالى - يفسر العدول عن القياس النحوي المنطقي الذي يبدو في النصّ القرآني في ضوء نظام العربية ، وكان فهمه للقياس النحوي على هذا الفهم لذلك قالوا عنه انه صححّ القياس بعد أن جرّده ابن أبي اسحق وغيره، أي جعله منطقياً عقلياً وليس لغوياً في ضوء الواقع الاستعمالي للغة.
فمن أقيسته بناء المنادى على الضم على بناء (قبلُ) و (بعدُ) على الضم في حالة إفرادهما وعدم تنوينهما ونصبه على حالة نصبهما([5]) ، وجزم (إنْ) الفعل على جزم جواب الأمر([6]). وهكذا كما سيمر بنا.
وكتاب سيبويه مليء بمعالجة العدول عن القياس العقلي المنطقي المجرّد نقلاً عن شيخه الخليل، كان سيبويه يسأله عنه كثيرا، فيفسره في ضوء نظام العربية رابطاً إياه بالمعنى. ذلك أن هذا النظام من خلال اتساعه يستوعب المعاني المختلفة ولاسيما الدقيقة منها التي اختصّ بها كتاب الله تعالى. وهي ملامح أسلوبية تنطلق من حقيقة العربية ونظامها ويعد ذلك أهم تفسير للعدول اسلوبياً.
قال سيبويه: (هذا باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل اذا كان جواباً لأمر او نهي او استفهام او تمنٍ او عرضٍ) نحو ( أتني أتِكَ ، لا تفعلْ يكنْ خيراً لك ، ألا تأتني أحدِثْك ، أين تكن أزرْكَ ، ألا ماءَ أشرْبهُ ، ليته عندنا يُحدِّثْنا ، ألا تنزل تُصِبْ خيراً ).
قال الخليل: "كلها فيها معنى (إنْ) فلذلك انجزم الجواب." ومما ورد منه في القرآن:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( (سورة الصف:11) فلما انقضت الآية قال: (يغفر لكم)..." ([7]) .
إن للدلالة نظاماً مبنياً على أصول وفروع تناوله البلاغيون في علم البيان: فهي أما خبر أو إنشاء ، أي طلب ثم تتفرع على المعاني المختلفة: استفهام وأمر ونداء وغيرها ثم تتركب مع غيرها من المعاني وتتداخل. ونظام العربية خير من يعبر عنها لأنه يتوسع بحسب تركيب المعاني وتشعبها فيعبر عن الشرط مثلاً بالأداة (إنْ) ثم تحمل عليها أدوات وأساليب أخرى للتعبير عن معاني إضافية فضلاً عن معنى (الشرط). كاجتماع الأمر والشرط في الجملة الأولى والنهي والشرط في الثانية والعرض والشرط في الثالثة والاستفهام والشرط في الرابعة وهكذا.
قال ابن جني: " من عادة العرب أنّهم يؤثرون التجانس والتشابه فلذلك حملوا الفرع على الأصل وردّه إليه ، فمن ذلك حمل النصب على الجر في التثنية والجمع الذي على حدّه ألا ترى أنهم لما أعربوا بالحروف في التثنية والجمع الذي على حدّه ، فأعطوا الرفع في التثنية الألف والرفع في الجمع الواو ، والجر فيهما الياء ، وبقي النصب..."([8]) ، فحملوه على الجر.
ومن ذلك حمل النصب على الجر في جمع المؤنث السالم نحو: (رأيت الهنداتِ) ، مع قدرتهم على فتح التاء " فدلّ دخولهم تحت هذا ، مع ان الحال لا تضطر إليه على إيثارهم واستحبابهم حمل الفرع على الأصل([9]).
قال ابن السراج: "وكثيراً ما يعملون الشيء عمل الشيء اذا أشبهه في اللفظ وان لم يكن مثله"([10]).
ومنه توكيد الفعل المضارع بعد (لا) النافية حملاً على لفظ (لا) الناهية([11]). قال تعالى: ) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( (سورة الأنفال:25)، ويعملون الشيء عمل الآخر للشبه المعنوي كأعمال (ما) عمل (ليس) لاشتراكهما في النفي ، وحمل (أنْ) الناصبة على (ما) المصدرية في الإهمال ، و لأنهما تكونان مع الفعل بعدهما بمنزلة المصدر ، كما ان (ما) تكون مع الفعل بعدها بمنزلة المصدر. وحمل (إنَّ) وأخواتها على (الفعل) في العمل ، لشبههما في اللفظ والمعنى والبناء على الفتح واقتضاءهما الاسم([12]).
وغير ذلك الكثير مما ذكرته كتب النحو ولاسيما المتأخرة منها وكتب أصول النحو. مما أخذه النحاة المعاصرون عليهم ولاسيما أصحاب التيسير النحوي وعدّوه جدلاً ومنطقاً ينبغي رفعه من النحو ، لكنه هو الذي ينبغي دراسة العربية في ضوئه لأنه يكشف لنا عن نظامها الدقيق ويفسّر لنا ظواهر لغوية كثيرة اختلف فيها النحاة كما في باب (الحمل على المعنى).
يمكننا تلخيص أرضية التفكير النحوي عند النحاة بأنهم قاسوا المنصوبات على المفعول به ، والمرفوعات على الفاعل ، والضمير في البناء على الحروف لشبهه في قلة الحروف. والتوابع على المجاورة لما قبلها بسبب ، والأسماء العاملة على الأفعال والممنوع من الصرف على الأفعال([13]).
هذا الذي ينبغي الالتفات إليه في الدرس النحوي العربي ذلك انه مرتبط بحقيقة اللغة العربية ونظامها الذي يرجع الى أصول ثم تتوسع في داخله ، وهو مطّردٌ في النصّ القرآني.
وليس العربية مبنية على المشابهة الشكلية إنما على نظام دقيق بعضه واضح جلي وكثير منه خفي لا يستنبطه إلا العلماء كونه أسرار العربية ، وبعضه يبدو لنا عدولاً عن القياس النحوي وانحرافاً إلا انه يقع في داخل النظام اللغوي للعربية نفسه ولكنه يحتاج الى تدبر وقد ورد في النص القرآني الكثير منه للتعبير عن معاني دقيقة لا تؤدى بالكلام المباشر.
ولابد له من داعٍ يدعو إليه وهو التوسع في اللغة وفي المعنى بحيث تتسع العربية لتؤدي أي معنى كالمعاني المطلقة الإلهية. ويضيق فيعبر به العامة وبين ذلك درجات تلبي حاجة المبدع للتعبير عن تجربته النفسية بالمعاني المباشرة والمعاني الثانية وظلال المعاني من خلال استعمال فني إبداعي داخل النظام نفسه الذي هو مبني على المشابهة في كل مستوياته الصوتية والصرفية والنحوية والاسلوبية. فالمستوى النحوي مثل:
المحمول عليه |
المحمول |
السبب |
الحكم |
اسم الفاعل |
الفعل المضارع |
الشبه اللفظي من حيث عدد الحروف والإعراب والإسناد |
الرفع |
الحرف |
الضمير |
قلة الحروف |
البناء |
ما النافية |
ليس |
النفي |
البناء |
الفعل الماضي |
إنّ المشبّه بالفعل |
الشبه اللفظي واقتضاء الاسم |
البناء |
الفاعل |
النائب عن الفاعل |
الإسناد |
الرفع |
وقد ذكر النحاة ضروباً من القياس من هذا النوع يمكننا تتبعها في النحو كله. . وليس غرضنا الاستقصاء بل الاستدلال فان ما يدل على التشابه في النحو ومسائله واقيسته في اقوال النحاة وخلافاتهم كثيرة كقول الكوفيين " ينتصب المستثنى لانه مشبه بالمفعول " 0 وقولهم بالتقريب وهو ان يعمل اسم الاشارة عمل كان وغير ذلك كثير ([14]) .
النظام النحوي في التفكير النحوي لدى المتأخرين:
ان مناهج المتأخرين والمعاصرين نأت في دراسة العربية عن هذا النظام.
أما المتأخرون فقد أسرفوا فيه لأدنى مشابهة ، وفلسفوه وتناولوه تناولاً عقلياً لا فنياً اسلوبياً ، ومزجوا بينه وبين المنطق الأرسطي فانحرفوا عمّا كان الأوائل عليه، وغالوا فيه وصار جزءاً من علم الجدل الذي اختلفوا فيه اختلافاً كبيراً وتناولوه في جدلهم وعللهم تناولاً منطقياً فانحرفوا عن حقيقته التي تكشف لنا عن أساليب العربية الفنية الدقيقة الجميلة.
فكانت العلل لديهم: علة شبه وعلة طرد ، واختلفوا في حجية التعليل ، وذكروا قوادح للعلة كثيرة أي أموراً تبطلها نحو: النقض وتخلف العكس ، وعدم التأثير ، والقول بالموجب وفساد الاعتبار ، وفساد الوضع وهلم جرّا مما لا جدوى فيه ([15]).
لقد تناولوا النظام اللغوي الجميل تناولاً عقلياً منطقياً افقدوه روحه وحقيقته ، على شكل أركان: مقيس ومقيس عليه او أصل وفرع وعله جامعة سبب المشابهة والحكم الذي هو وجه الشبه وفرّعوا الأخيرين فروعاً كثيرة ، واشترطوا للمقيس عليه والمقيس شروطاً عقلية متأثرين بذلك بالمنطق الأرسطي.
وبعضهم كان تناوله أما جزئياً ، أو مشتتاً هنا وهناك ، او مختلطاً مع المنطق الأرسطي أو دراسته دراسة غير مباشرة على وفق مناهج وأسس لا تبنى على النظام العام كما في كتب الإعجاز وأساليب القرآن. وفي كتب أصول النحو كتجريد القياس.
فمن تناولهم الجزئي المشتت لنظام العربية في باب الحمل على المعنى وفروعه الكثيرة ، أما في النحو فتناولوه من خلال ظاهرة النيابة النحوية والتناوب والتضمين وغير ذلك. وظاهرة النيابة النحوية باب واسع يشمل ظواهر لغوية كثيرة بمستويات مختلفة فضلاً عن تداخلها مع الظواهر الأخرى من غير حدود فاصلة واضحة فهي مشتتة في أبواب المجاز والاتساع والحمل على المعنى.
وقد توسع الدكتور هادي نهر بهذه الظاهرة لتشمل كل مستويات اللغة وظواهرها وجعلها بديلاً من نظام العربية الذي نعنى به. قال: "نحن نألف هذه الظاهرة شاخصة في المستويات اللغوية كافة صرفاً ونحواً ودلالةً ، فهي في الدرس الصرفي تستأثر بنصيب كبير في أبنية المصادر وأنواع المشتقات وجموع التكسير وموضوعات النسب والتصغير والتثنية والجمع وغير ذلك"([16]).
وقال في الدرس النحوي قلما نجد باباً من أبوب النحو يخلو من ذكر النيابة او ما اختلط بها وتداخل منها مصطلحات متعددة أمثال: العوض ، التعويض ، والبدل ، الساد مسدّه والقائم مقامه ، والاستغناء والتعاقب والإبدال والحمل والتأويل والإيجاز والاختصار والحذف والاتساع والتجوز والمجاز وغيرها ثم تناول أبواب النحو والصرف في ضوء النيابة متوسعاً بها كنيابة الحروف عن الأفعال والأسماء نحو: يا عبد الله ، تنوب عن ادعوا أو أنادي لدى النحاة و(إلاّ) تنوب عن الفعل (أستثني) و (الواو) عن (أعطف) وليت عن (أتمنى) و(هل) عن (استفهم) و (ما) عن (انفي) وغير ذلك. ونيابة الحروف عن الأسماء كنيابة (عن) عن جانب و(على) عن فوق و (إلا) عن (غير). وفي باب المرفوعات ، كنيابة المبتدأ عن الفعل ونيابة المصدر عن الذات الواقع خبراً او نيابة الحال عن الخبر ، ونائب الفاعل ، والنيابة في الموصولات الاسمية ، وفي باب المصدر وهو باب واسع وفروع كثيرة والنيابة في باب المفعول فيه والمضاف إليه عن المضاف ونيابة الجمل ، والنيابة في الأفعال ، كالاسم عن الفعل و اسم الفعل عن الفعل وغير ذلك متوسعاً بذلك ومعتمداً على تأويلات النحاة وتقديراتهم وفلسفتهم وشواهدهم المؤولة كنيابة (الحمد لله) عن (احمد الله) ، وهو موضوع نحوي وليس اسلوبياً كما في تناوب حروف الجر بعضها عن بعض الذي ردّها متابعاً للبصريين ، والقول بتضمين الفعل معنى فعل آخر كما سيمر بنا([17]).
التناول المنطقي للنظام النحوي:
أمَّا خلطه بالمنطق وأصول الفقه فنحو مباحثهم في أصول النحو كالجواز والتقدير وتجريد القياس واستصحاب الحال ، ونظرية العامل ، وركزوا على النظام الإعرابي خاصة لكونه أظهرها وهو جزء من النظام العام للعربية تابع له يعضده وقولهم بالإعراب المحلي والمقدّر ، إذ قالوا بسريان النظام الإعرابي وأثر العوامل وان لم تظهر الحركة الإعرابية فيقدروها.
وتقدير العوامل ، ونيابة بعضها عن بعض كنيابة (لو) عن الفعل و (يا) عن (أدعو) في النداء ، ونيابة الجملة الفعلية عن الخبر وغيرها مما هو كثير ومقيس ومما يعدّ بعضه عدولاً عن أقيستهم النحوية وغيره([18]).
وقد ذكر ابو البركات في ما نقله من أصول الفقه الى أصول النحو: (استصحاب الحال) فقد جمع أقوال النحاة مما يتصل بهذا النظام مختلطاً بالمنطق نحو قولهم: الأصل في الأسماء ان لا تعمل واصل العمل للأفعال ، والأصل في الجزاء ان يكون بالحرف ، والأصل في الأسماء التنكير والجمع فرع على الواحد، والأصل في الأسماء الصرف ، والأصل في الأفعال البناء ، والأصل في البناء ان يكون على السكون ، وأصل كان الناقصة التمام ، والأصل في الفعل الدلالة على الحدث والزمان([19]).
وغير ذلك مما جمعه من كتب المتقدمين([20]) ويدل على النظام والتشابه الاسلوبي في العربية إلا انه ورد مختلطاً بالمنطق وعلم الجدل.
ومنه قولهم الحمل على الضد والنقيض وحمل الأصل على الفرع ، أي حملاً معكوساً وقد يدل على مرونة نظام العربية وكثرة مداخله وان كان معكوساً ، ومن الأصول النحوية التي ذكروها: "الحمل على ماله نظير أولى من الحمل على ما ليس له نظير". و (الحمل على أحسن القبيحين) و (الحمل على الأكثر أولى من الحمل على الأقل). و (الحمل على الظاهر) و (الحمل على أحسن الوجوه)... وغير ذلك([21]).
وتناولوه بمناهج مختلفة وأسامي مغايره نحو: (خلع الأدلة) ويريدون به تجريدها من المعاني المعروفة لها وإرادة معان أخر لها كخلع أدلة تعريف (أل) في نداء لفظ الجلالة([22]). ونحو باب (السلب) أي سلب معنى الفعل وسلب معاني أسماء الاستفهام والشرط في (كم ومن وأي وغيرها)([23]).
و(تقارض اللفظين)([24]) كإعطاء (غير) حكم (إلا) في الاستثناء بها ، وإعطاء (إلا) حكم غير في الوصف بها. وإعطاء (إذا) حكم (متى) في الجزم بها وإهمال (متى) حملاً على (إذا) ، وإعطاء (ما) النافية حكم (ليس) في الاعمال ، واعطاء (ليس) حكم (ما) في الاهمال عند انتقاض النفي بـ (إلاّ) كقولهم: (ليس الطيب إلا المسك) وإعطاء الفاعل إعراب المفعول وعكسه كقولهم (خرق الثوبُ المسمارَ) ، ومنها تناوب حروف الجر وهو باب واسع سنفرد له مبحثاً ان شاء الله.
ومنه ما يدخل في الخلافات النحوية بين المذهبين البصري والكوفي نحو (الحمل على أحسن القبيحين) ، قال ابن جني: "وذلك أنَّ تَحضُرَك الحال الى ضرورتين لابدّ من ارتكاب أحداهما ، فينبغي حينئذٍ ان تحمل على أقربهما واقلهما فحشاً نحو (هذا قائماً رجل) و(فيها قائماً رجلٌ) فإما ترفع (قائماً) فيتقدم الصفة على الموصوف ، وهذا غير جائز ، واما ان تنصبه على الحال من النكرة وهذا قبيح لكنه جائز،فعملنا على أحسن القبيحين"([25]).وهو رأي سيبويه خلافاً للكوفيين([26]).
ومنه (حمل الأصول على الفروع) كاستواء النصب والجر في المظهر نحو: (رأيت الزيدين ومررت بالزيدين). ومنه حذف حرف العلة في الجزم وهي أصول حملاً على حذف الحركات وهي زوائد نحو (لم يخشَ) و (لم يذهبْ) ، وحمل الجر على النصب في الممنوع من الصرف إذ الأصل أن يُجر الممنوع من الصرف لكن الجر حمل على النصب فنصب في حالة الجر([27]). ومنه ما سمّوه (بالاستغناء) كاستغناؤهم عن تثنية (سواء) بتثنية (سيّ) فقالوا: (سيان) ولم يقولوا (سواءان) ([28]).
وغير ذلك مما شوّه نظام العربية وانحرف به الى درس جافٍ يفقد جمال العربية وحيويتها ويفقد أسرارها وإعجازها.
وكان ابن جني مسؤولاً عن هذا المنهج في تناول نظام العربية تناولاً عقلياً منطقياً افقدها جمالها وأسرارها الاسلوبية. ولاسيما في كتابه (الخصائص). وخلط بين لغة القرآن التي استعملت هذا النظام استعمالاً دقيقاً وبين القراءات القرآنية واللهجات ولاسيما الشواذ منها والضرورات الشعرية ، وعدّها كلها مستوى لغوياً واحداً. ومن جاء بعده بنى على دراساته العقلية فكثرت التعليلات والتأويلات المنطقية وابتعدوا كثيراً عن نظام اللغة العربية ، إذ كان يستشهد كثيراً للنّص القرآني بالضرورات واللهجات والانحرافات اللغوية([29]).
التناول الجزئي :
أما التناول الجزئي فيمثله اهتمامهم بالنظام الإعرابي وتغليبه على أنظمة العربية الأخرى كالنظام اللغوي والبلاغي ، ولاسيما لدى المتأخرين من النحاة كابن هشام والسيوطي وغيرهما.
ومنهم من اهتم بما سمّوه بـ (الكليات في النحو) وهو مصطلح اقرب الى المنطق اللغوي لا الواقع الاستعمالي ، نحو قولهم: كل فاعل مرفوع ، وكل مفعول منصوب وكل مضاف مجرور (لفظاً او تقديراً) وهكذا ، وان كانت طريقة ميسرة في التعليم في إعطاء قواعد كلية شاملة مطّردة، وتدل على الاستقصاء والشمول والإحصاء والتتبع الدقيق ثم الاستنباط ، لكنها لا تطرد مع نظام العربية دائماً ولا تستمر. وقد ذكر الكفوي مئات القواعد الكلية ولاسيما في آخر كتابه (الكليات في النحو)([30]) ، وكان الاخفش الأوسط سعيد ابن مسعدة استعملها في بحوثه القرآنية فتوصل الى قواعد كلية عرف بها نحو كل شيء في القرآن قوله (حقاً) انما هو (أحق ذلك حقاً). وكل ما كان بدلاً من اللفظ بالفعل فهو نصب بذلك الفعل ، وكل شيء بعد القول فهو حكاية ، وكل شيء في القرآن (أو) فللتخيير إلا قوله تعالى: (أن يُقَّتلوا او يصَّلبوا)([31]) ، وغير ذلك.
ومن التناول الجزئي لهذا النظام ما تناوله علماء الإعجاز القرآني الذين تناولوا النظم القرآني وأساليبه كالخطابي والباقلاتي والقاضي عبد الجبار لإثبات وجه الإعجاز بنظمه والذي استوت لدى عبد القاهر الجرجاني نظرية مشهورة مازالت ، تكشف عن جوانب هذا النظام وليست كله ولاسيما إنهم انطلقوا من البحث في وجه إعجاز القرآن من ردّ المطاعن التي كانت توجه لاسلوب القرآن ولغته ولم تكن غايتهم دراسة هذا النظام اللغوي وربطه بالنظام القرآني وقد ولد منها علم المعاني الذي يفترض خروقات النظام المنطقي العقلي وليس النظام للواقع ألاستعمالي كالتقديم والتأخير والتنكير والتعريف والذكر والحذف وغيرها من المباحث التي عدّوها أساس علم المعاني والحق ان النظام البياني او البلاغي للغة العربية هو نفسه النظام النحوي إلا انه يوّلد تراكيب جديدة وأساليب في ضوء النظام نفسه كما سنرى.
وهذا التناول الجزئي أيضا تناولته كتب نحوية ولغوية وصرفية مختلفة نحو الجمهرة لابن دريد و ما تناوله من اشتقاق أسماء القبائل وردها الى أصولها أي النظام اللغوي([32]). وتأثر ابن فارس به في معجمه (مقاييس اللغة) الذي أرجع المواد اللغوية الى معنى مشترك ، قال "إنّ للغة العرب قياساً وان العرب تشقّ يعض كلامها من بعض"([33]). وقال في مقدمة معجمه المذكور: "إن للغة العرب مقاييس صحيحة وأصولا تتفرع منها فروع ، وقد ألف الناس في جوامع اللغة ما ألفوا ولم يُعربوا في شيء عن ذلك عن مقاييس من تلك المقاييس ولا اصل من الأصول ، والذي أومأنا إليه باب من العلم جليل ، وله خطر عظيم ، وقد صدّرنا كل فصل بأصله الذي يتفرع منه مسائله حتى تكون الجملة الموجزة شاملة للتفصيل ، ويكون المجيب عمّا يَسأل عنه مجيباً عن الباب المبسوط بأوجز لفظ وأقربه"([34]).
النظام النحوي فيى التفكير النحوي لدى المعاصرين:
وان كان ما ذكرناه لدى النحاة من تناول جزئي للنظام وخلطه بالمنطق ، يعدّ دلائل واضحة على النظام الذي اختصت به العربية ، إلا ان المعاصرين قد أهملوا هذا النظام عن قصدٍ وغير قصد لأسباب مختلفة ، منهم لاعتماده وبنائه على المتأخرين من غير تحقيق وتدبر وملاحظة دقيقة ومعالجة جذرية لدراساتهم والتحقق منها ، وكان المتأخرون بنوا دراساتهم على مناهج الدرس النحوي والدراسة الشكلية للنص القرآني في دراسات القرن الرابع الهجري ولاسيما كتب ابن جني التي خلطت بين نظام العربية والعلوم العقلية وأصول الفقه.
ومنهم من تأثر بالمناهج الغربية ودراساتهم اللغوية التي استنبطوها من واقع لغوي وأنظمة لغوية تختلف اختلافاً كبيراً عن نظام اللغة العربية الذي نزل به القرآن الكريم ، وان التقت في الأطر العامة كون العربية لغة إنسانية وقد أثرت وتأثرت باللغات الأخرى في تاريخها الطويل.
فقد أخذ جلّ المعاصرين مآخذ كثيرة على الموروث النحوي ولاسيما على أقوالهم التي تتصل بنظام العربية كقياس العلة واستصحاب الحال ونظرية العامل والتعليل النحوي ([35]) .
وبعضهم دعا الى إهمالها لأنها سببٌ في تعسير النحو والخروج به عن جادته العلمية الرصينة لكنهم لم يقدّموا بديلاً نحوياً يبنى على نظام العربية مرتبطاً بالنظام القرآني حتى اولئك الذين دعوا الى (النحو القرآني) ([36]) .
لذلك ارتفعت اليوم اصواتٌ ما كان لها ان ترتفع لولا الانحرافات القديمة والمعاصرة في الدراسات النحوية وعدم بناء نحو جديد يقوم على هذا النظام فدعوا الى هدم النحو واستباحوا حرمة سيبويه وشيوخه الذين حاولوا بناء النحو على وفق نظام العربية([37]).
. وأهم دارس معاصر عني بأصول النحو ونظامه، وحاول تقديم البديل منها الدكتور تمام حسان، قال: "النحو يتخذ لمعانيه مباني من الصرف لذا لم يفصلوا بينهما في كتب النحو([38]). وقال: "ان النحو لا يستعمل من المباني المعبرة عن معانيه إلا ما يقدمه له الصرف من مباني التقسيم وتحتها الصيغ ، ومن مباني التصريف وتحتها اللواصق ومن مباني القرائن وتحتها العلامات الإعرابية ، والرتبة وزوائد العلاقة كالهمزة والتضعيف للتعدية وكأدوات العلاقات وكالتضام وأدوات الربط وهلم جرّا مما يعبر عن معاني نحوية صرف"([39]).
ويرى أن النظام النحوي للغة العربية ينبني على الأسس الآتية:
1- طائفة من المعاني النحوية العامة التي يسمونها معاني الجمل أو الأساليب.
2- طائفة من المعاني النحوية الخاصة او معاني الأبواب المفردة كالفاعلية والمفعولية.
3- مجموعة من العلاقات تربط بين المعاني الخاصة حتى تكون صالحة عند تركيبها لبيان المراد منها كعلاقة الإسناد والتخصص والنسبة والتبعية وكل فرع وهي قرائن معنوية على معاني الأبواب الخاصة كالفاعلية والمفعولية.
4- ما يقدمه علماء الصوتيات والصرف لعلم النحو من قرائن صوتية وصرفية كالحركات والحروف ومباني التقسيم ومباني التصريف ومباني القرائن اللفظية.
5- القيم الخلافية او المقابلات بين أفراد كل عنصر مما سبق وبين بقية أفراده.
يرى الدكتور تمام حسان اللغة نظاماً ، ولكل نظام ثوابته ومتغيراته ، فالثوابت أطر دائمة لا غنى للنظام عنها ، ولا يقوم بدونها. والمتغيرات لا تتصف بالدوام ، وإنما تخضع لظروف تدعو الى تحولها في حدود اطر الثوابت وبشروطها الأولى كالإستراتيجية (الثوابت) والثانية كالتكتيك بحسب المتغيرات. وثوابت النحو العربي ثلاثة هي: أمن اللبس في المعنى وطلب الخفة في المبنى، والاطرّاد أي نظام العربية يُبنى على المعنى والمبنى والاطراد([40]).
الدكتور تمام حسان من ابرز المعاصرين الذين حاولوا الكشف عن أنظمة اللغة العربية وربطها بالمعنى ، إلا انه تناولها في ضوء المنهج الوصفي الحديث الغربي الدخيل على لغة القرآن وخصوصيتها فضلاً عن اعتماده على المتأخرين من النحاة كأبي البركات الأنباري في كتابه(الإنصاف في مسائل الخلاف). ولاسيما في كتابه (اللغة العربية مبناها ومعناها) الذي عدّه أجرأ محاولة شاملة لإعادة ترتيب الفكر اللغوي تجري بعد سيبويه وعبد القاهر([41]) خلص الى تقسيم جديد للكلم العربية يقوم على فروق في المعنى والمبنى وتعدد المعنى الوظيفي لحروف المعاني والأدوات والضمائر تكشف عن الطابع المرن بل الاقتصادي لنظام اللغة الذي يصل بالقليل من العناصر اللفظية الى ما لا حصر له من المعاني بوساطة نقل العناصر من أحد أقسام الكلام الى آخر ، كنقل (ما ومن وأي) من الموصولية الى الشرطية وحاول في كتبه الأخرى تفسير العدول على فكرة الأصل الذي قال بها النحاة والبلاغيون وحلّ نظام القرائن المعنوية محل العمل النحوي كقرينة الإعراب والتضام والرتبة النحوية وغيرها([42])، ونتيجة للنقد الموجه إليه انبرى في كتابه: (الخلاصة النحوية) ليقدم محاولة تطبيقية لنظريته بعد وقت طويل ، أعاد فيها ترتيب أبواب النحو والصرف بحسب منهجه ونظريته يبدو للقارئ للوهلة الأولى انه تقسيم ملفق بين أنظمة اللغة المختلفة: الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية فضلاً عما سمّاه المكملات والظواهر الأعرابية التي تناول فيها العدد والممنوع من الصرف والحكاية وإعراب المقصور والممدود مستخدماً الجداول والخطاطات كعادته. تناول ذلك كله باقتضاب من غير تفصيل فقد يختزل عدة أبواب في باب واحد موجز بأقل من صفحة. فضلاً عما أهمله من أبواباً وذكر أبوابا دعا أكثر أصحاب التيسير النحوي المعاصر الى تركها او دمجها في أبواب أخرى([43]).
الخاتمة:
يبني نظام اللغة العربية على (المشابهة) في مستوياتها المختلفة: الصرفية والنحوية والبلاغية والدلالية وغيرها، كلها تنساق في ضوء نظام واحد هو تعلق الأصوات والحروف والألفاظ والتراكيب والدلالات بعضها برقاب بعض وحمل بعضها على بعض ، في المستوى اللغوي الواحد من العربية ، وفي المستويات بعضها على بعض. وينساق النحو العربي في ضوء ذلك النظام المعجز المحكم نفسه، وهذا سبب الترابط والتماسك والجمال والعذوبة والموسيقى الرائعة التي تحدّث عنها علماء إعجاز القرآن القدامى والمعاصرين ، ولكنهم لم يتناولوا النظام اللغوي تناولاً شاملا، بل كان تناولهم اياه تناولاً جزئياً مشتتا في علوم وأبواب متناثرة. وإنّ ما يبدو عدولا عن المعايير النحوية –في الأعم الغالب- هو خروج عن أقيسة النحاة (العقلية، المنطقية) ، وليس خروجاً عن نظام العربية المتماسك فهو من العربية في مستوياتها الإبداعية العالية وواقعها الاستعمالي ولاسيما في النصّ القرآني.
وقد فصّلت القول بالنظام اللغوي في اطروحة الدكتوراه الثانية: (العدول عن النظام التركيبي في أسلوب القرآن الكريم – دراسة نحوية أسلوبية([44]) وذكرت شواهد لغوية كثيرة عليه.
(1) بلغت بعض كتب تعليم اللغة العربي لغير الناطقين بها إلى أكثر من مئتي تصريف للجذر الواحد. ينظر:
An Introduction to Modern Arabic, by Farahat J. Ziadeh and R. Bayiy winder, 1957, London: Oxford University Press.
وينظر: أطلس النحو العربي ، عباس المناصرة ، 8 وقاموس تصريف الأفعال والأسماء ، د. أميل بديع يعقوب.
(2) اللغة العربية معناها ومبناها 164.
(3) تنظر الصفحة 12 .
(4) الكتاب1/ 96 وينظر1/122، 182، 3/278،320. والاصول1/93والخصائص1/110.
(5) كتاب سيبويه 2/199.
(6) نفسه 3/62 وينظر 3/374 .
(7) الكتاب 3/98.
(8) الخصائص 1/111 ، 306.
(9) المصدر نفسه.
(10) الاصول 1/93.
(11) ينظر: الخصائص 1/11 ومغني اللهيب 2/476.
(12) ينظر: الإنصاف م77 ص2/ 563، و484، 627، والحمل على المعنى في العربية 7.
(13) ينظر: أطلس النحو العربي، عباس المناصرة 32.
([14]) ينظر : مجالس ثعلب 1/43 الإنصاف ، مسألة 23 ص1/185.
([15]) ينظر: لمع الأدلة 58-63 والأغراب في جدل الإعراب 60 والاقتراح 15 ، والقياس في النحو ، الزبيدي 32.
(16) النيابة النحوية في القرآن الكريم وأنماطها ودلالاتها 15-19.
(17) النيابة النحوية 74 . وينظر: إعراب القرآن، الدرويش 3/ 316.
(18) ينظر: النيابة النحوية ، د. هادي نهر 9.
(19) ينظر: الإنصاف ، المسائل 5 ، 11 ، 18 ، 22 ، 91 ، 106 ، 116 ، ص1/ 46 ، 78، 162 ، 165 ، 167 ، 2/644 ، 735 ، 807 ، 826 ، وغيرها . وارتقاء السيادة في علم أصول النحو 57.
(20) كتاب سيبويه 1/142 ، 42/276 ، المقتضب 1/142 ، الأصول لابن السراج 1/50 ، 123.
(21) ينظر: الخصائص 259 ، 440 ، 466 ، 3/77 . والأشباه والنظائر 1/ 138 ، 179 ، 198 ، 202 ، 311 ، 321. والحمل على المعنى في العربية 7. والحمل على النقيض في الاستعمال العربي 337.
(22) الخصائص 1/ 181 والأشباه والنظائر 1/202.
(23) الخصائص 3 /77.
([24]) مغني اللبيب 2/517-521.
(25) الخصائص 1/ 212، والأشباه والنظائر 1/38.
([26]) الكتاب 1/278، ومجالس ثعلب 1/43 .
(27) الخصائص 1/ 310 ، 306.
(28) الأشباه والنظائر 1/310 ، 306.
(29) ذكرنا تفصيلات عن ذلك في بحثنا (المخطوط): (الطعن الخفي لدى ابن جني).
(30) ينظر: الكليات 203.
(31) ينظر: منهج الاخفش الاوسط ، الورد 334-364 ، وتاريخ النحو العربي بين المشرق والمغرب 142.
(32) ينظر: الجمهرة 23.
(33) مقاييس اللغة 1/ 39.
(34) مقاييس اللغة 1/1.
([35]) ينظر: الخلاف النحوي في ضوء محاولات التيسير : 93 وما بعدها .
([36]) المصدر نفسه : 69 .
(37) نحو كتاب (جناية سيبويه) وكتاب نظرية (النحو العربي) د. كمال شاهين وغيرهما.
(38) نفسه 178.
(39) اللغة العربية مبناها ومعناها 178، 164.
(40) الخلاصة 15.
(41) الخلاصة 6.
(42) نفسه 34- 35 ، 43.
(43) الخلاصة النحوية 7-8.
[44] جامعة بغداد ، كلية التربية للبنات 2008.
--------------------------
أ.د. حسن منديل حسن العكيلي - كلية التربية للبنات- جامعة بغداد