المركز الجامعي / الطارف - الجزائر
ملخص:
ابن خلدون واحد من المفكرين المسلمين الذين ساهموا في توجيه منهج التفكير العلمي في مجالات عديدة ، آثرنا في هذا المقال أن نبين كيفية محاولة ابن خلدون إصلاح التعليم مستفيداً ،أولاً من تجربته في ميدان التعليم الذي مارسه بتونس وبالقاهرة بعد رحيله إلى مصر ، وثانياً من رحلاته التي اطلع من خلالها على طرق التعليم في مختلف الأمصار التي وصلها من المغرب إلى المشرق وحتى إلى بلاد الأندلس
لذلك فقد تناولنا في هذا المقال العناصر التالية:
- حقيقة التعليم عند ابن خلدون.
- أنواع العلوم عند ابن خلدون.
- تعليم اللغة العربية عند ابن خلدون.
- اختلاف الأمصار في تعليم القرآن.
- منهج ابن خلدون في إصلاح التعليم.
Résumé:
Cet article parle d'Ibn Khaldoune, L'homme de science musulman, qui a structuré la méthodologie de la réflexion dans beaucoup de domaines scientifiques, qui peuvent aider l'humanité a mieux vivre.
Le domaine que l'humanité a tellement essayé de renouveler, est l'enseignement. ce dernier a pris une part dans (la mouquadima) de Ibn Khaldoune, qui a essayé de réparer les méthodes de l'enseignement dans les pays qu'il a visité.
Ibn Khaldoune a bénéficié de l'expérience qu'il a acquis quand il a enseigné en Tunisie, et en Egypte .C'est pourquoi; cette étude va traiter les points suivants:
1- La définition de l'enseignement chez Ibn Khaldoune.
2- Les types des sciences que l'homme doit étudier.
3- La didactique de la langue arabe.
4- Les méthodes de l'enseignement du coran dans les pays musulman.
5- Les méthodes d'enseignement que propose Ibn Kahldoune.
التمهيد:
لم يخل التراث العربي الإسلامي من الاهتمام المتواصل بالعملية التعليمية وإصلاحها في القديم والحديث، وقد برز عدد من الأعلام على غرار الغزالي وابن سينا وابن خلدون ، هذا الأخير الذي عُدَّ من أبرز علماء العرب الذين زودوا الفكر التعليمي بمقدمات منهجية تساعد كل راغب في تقويم التعليم على إرساء الفكر التداولي فيه لتحقيق الأهداف الإستراتيجية للمجتمع الذي ينتمي إليه.
وإن لم يكن ابن خلدون أول من بعث علم التربية والتعليم فهو واحد ممن ساهموا وسعوا للارتقاء به إلى أسمى المنازل، لذا سنحاول الربط بين ما دعا إليه في زمانه وبين ما تدعو إليه نظريات التعليم حديثا.أما هدفنا فهو تنبيه من غفل عن خصوصيتنا كعرب مسلمين، وخصوصية لغتنا، وتكالب وراء النظريات الغربية على اختلافها ليطبقها على لغتنا زعما منه الرقي بها إلى مصاف العلوم التجريبية الموضوعية.
إن إصلاح التعليم وتطويره ضرورة تدعو إليها الحتميات على اختلافها انطلاقا من منطق تطورها المستمر، وحاجات الإنسان إلى التأقلم مع كل جديد ، إذ كلما تفوق الإنسان على جانب من حتميات الحياة دفعته هذه الأخيرة إلى جولة جديدة من هذا الصراع الأزلي بين الإنسان والمجهول ، الشيء الذي دعا ويدعو دوما إلى العمل على تطوير التعليم حتى يضمن للبشر الاستعداد لكل مشكلة طارئة في حياته لأن الطاقة الذهنية التي يتميز بها الإنسان بكل ما فيها من ابتكار، وقدرة على التجديد، واتساع مهام تفوق مجرد حفظ المعلومات،و المعارف لتشارك في التأقلم مع كل طارئ.
إن الاتكال كليا على الخبرات الأجنبية في التعليم دون إخضاعه لخصائصنا، وواقعنا بأصوله وقيمه يؤدي إلى فساد التعليم، وإن كان التعليم في أساسه صناعة بشرية، يستفيد من خبرات الحضارات المتعاقبة لتحسين إنتاجنا الوطني القومي، وليس لغرسها لكي تنتج صناعة جديدة في بيئة غير مواتية[1].
و إذا كان التعلم عند بعضهم نشاطا يقوم به المتعلم ليحصل على استجابات وسلوكات، ويكوّن مواقف يستطيع بواسطتها أن يجابه كل ما قد يعترضه من مشاكل الحياة[2]، فهو عند ماكونيل (Mc.conel) التغير المطرد الذي يرتبط من ناحية بالمواقف المتغيرة التي يوجد فيها الفرد، ويرتبط من ناحية أخرى بمحاولات الفرد المستمرة والاستجابة لها بنجاح، وهو عند مون (Mun)عبارة عن عملية تعديل في السلوك أو الخبرة، وعند وودورث (Woodoorth) نشاط من قبل الفرد يؤثر في نشاطه المقبل، وهو عند أحمد زكي صالح تغيير في الأداء يحدث تحت تأثير الممارسة[3].
إن المتأمل في هذه التعريفات يدرك أن الإنسان قد يتعلم لوحده دون الحاجة إلى معلم وطريقة تعليمية ،ووسائل، وغيرها من مستلزمات العملية التعليمية، لأنه خلق مهيئا عضويا، ونفسيا[4] للتفاعل مع محيطه الطبيعي ،و الاجتماعي ليكتسب المهارات، والخبرات الجديدة ، والمغيرة لسلوكه بكيفية متحولة ودائمة ليتفاعل إيجابيا. الأمر الذي يجعله قابلا لتغيير علاقاته مع وسطه وتطويرها،و تحسينها باستمرار، بناء على توفره تلك الخبرات والمهارات المكتسبة من إبانة وفهم وإدراك لحقيقة هذا الكون[5].
ووعيا من الإنسان بضرورة التعلم يستحدث لنفسه صناعة التعليم التي ظل يحاول تطويرها،و تقنينها سعيا منه لتحقيق أحسن السبل وأقصرها لنقل المعرفة ، حتى يضمن التأقلم مع مستجدات الحياة الطارئة باستمرار بالسرعة اللازمة. وابن خلدون واحد من أولئك الذين سجلوا لنا حقبة من التاريخ تشهد على نوعية التعليم وطرقه في زمانه وفي بيئات مختلفة ، يبدوا فيها التفكير العربي الإسلامي سباقا إلى بعض المفاهيم والاصطلاحات التي يزعم المهتمون بالتعليمية في عصرنا إبداعها بما نظّروا له في هذا الميدان .
1- حقيقة التعليم عند ابن خلدون:
ميز الله الإنسان عن سائر المخلوقات واختصه بالعقل الذي جعله دائم التفكير، يقول: " واختلاج الفكر أسرع من لمح البصر"[6]. وعنه تنشأ العلوم والصنائع ، وهذه الأخيرة أوجدها الإنسان لخدمته، وهو بين تداول، يأخذه المتأخر عن المتقدم ويمهد المتقدم للمتأخر، وجلها لغايات هي أسباب قيام تلك العلوم ،" فالعلم والتعليم طبيعي في البشر"[7].
يتفنن الناس منذ زمن بعيد في إبداع طرق للتعليم هدفهم منها تسهيل تحصيل العلوم على المتعلمين، فكان لكل منهجه: " ويدل أيضا على أن تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه"[8]، هذه الأخيرة التي طبعتها الذاتية التي أبعدتها عن العلمية.
إن ما يسم النظرة الخلدونية إلى التعليم هو نظرة المجرب الذي امتهن التعليم في حلقات الدروس والكتاتيب والمدارس، وانتقل إلى القاهرة عام 784هـ بعدما زاول التعليم بتونس التي صادف فيها متاعب كثيرة، وبقي في القاهرة يمارس التعليم حتى وافته المنيّة سنة 808هـ[9].
2- أنواع العلوم عند ابن خلدون:
قسمها ابن خلدون إلى علوم آلة، وعلوم مقصودة لذاتها، ومن هذه الأخيرة الشرعيات من التفسير والحديث، والفقه ، وعلم الكلام، والطبيعيات والإلهيات من الفلسفة[10]، أما علوم الآلة فهي التي تتخذ وسيلة لتحصيل ما سبق من العلوم،كالعربية والحساب وغيرهما[11] .
يرى ابن خلدون أن علوم الآلة التي من بينها العربية لا يجب أن تدرس لذاتها كما تدعو له اللسانيات حديثا ، ويرى في ذلك مضيعة للوقت وتخريفا لا طائل منه يقول :" وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالها، فلا ينبغي أن ينظر فيهما إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط، ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل، لأن ذلك يخرج بها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير، فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا"[12]، وذلك ما نراه اليوم في هذه العلوم التي بليت بها اللغة، والنظريات التي جعلت المشتغل بالعربية يغوص في ميتافيزيقيا الفلسفة حتى يجف طبعه، وتفسد ملكة اللغة عنده، فيبتعد عن الإبداع، ويعسر عنده إفهام الناس لتشعب مادة تعليمه، وكثرة مصطلحاتها، واختلاف المؤلفين فيها ، وهو ما شتت الأذهان عنها لأمور يعرفها الأساتذة والطلبة ، فيكون الانشغال بها :" عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها، مع أن شأنها أهمّ، والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة ، فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يغني"[13] .
و قد وقع المتأخرون في صناعة النحو والمنطق وأصول الفقه في مثل ذلك حينما وسعوا دائرة الكلام فيها، نقلا واستدلالا، وأكثروا من التفريعات والمسائل فصارت من المقاصد التي لا حاجة بها في العلوم المقصودة ، فصارت من اللغو المضر بالمتعلمين يقول: "و يمثل أيضا علم العربية من كتاب سيبويه،وجميع ما كُتِبَ عليه وطرق البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين من بعدهم، وطرق المتقدمين والمتأخرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك، وكيف يطال به لمتعلم ، وينقضي عمره دونه، ولا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر؟"[14] ويزيد في موضع آخر من المقدمة :" لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها، فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد؟"[15] والمطلوب في تعليم العلوم الآلية ما يفيد المتعلم منها ، ويمكنه من غيرها ومن أراد التوغل بعد تحصيل المقصود بها، ويرى أنه قادرا على الكفاية في الاشتغال بها فليرق ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا[16] .
3- تعليم اللغة عند ابن خلدون:
أـ تعريف اللغة عنده:
يقول ابن خلدون:" اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده ، وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام ، فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم"[17] ،و اللسان عند سوسير: " مخزن يودع عن طريق ممارسة الكلام في الأشخاص الذين ينتمون إلى الجماعة نفسها ونظام نحوي يوجد بالقوة في كل دماغ"[18]، وفي موضع آخر من المقدمة يقول :" اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان، للعبارة عن المعاني وجودتها ومقصورها بحسب تمام الملكة أو انفصالها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإما هو بالنظر إلى التراكيب"[19] ، ويضيف إلى هذا بتوضيح معناها بالمقارنة يقول :" فلغة أهل قريش مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب، وكذا أهل الأندلس معهما، وكل منهما متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عمّا في نفسه، وهذا معنى اللسان واللغة"[20] ، ويبدو أنه يميز بين اللسان واللغة فيعني باللغة اللهجات المتفرعة عن اللغة الأم ، وباللسان اللغة التي تميز الأمم عن بعضهم.
ب- أهمية اللغة في تحصيل العلوم:
يقول ابن خلدون:" ...و صارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباط والاستخراج والتنظير والقياس، واحتاجت إلى علوم أخرى هي وسائل لها: من معرفة قوانين العربية، وقوانين ذلك الاستنباط والقياس"[21] ، ويزيد في موضع آخر :" واللغات: إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة في المناظرة والتعليم، وممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكتها بطول المران على ذلك"[22] كما يضيف إلى ذلك في قوله:" وقد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسان، وكذا الخط صناعة ملكتها في اليد، فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصرا في اللغة العربية، كما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى ، وإذا كان مقصرا في اللغة العربية ودلالاتها اللفظية والخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها[23].
4- اختلاف الأمصار في تعليم القرآن:
إن اللافت للانتباه أن أهداف التربية العامة لا تزال تسير في مذاهب مختلفة ، فبينما يحصرها بعضهم في مجرد التحصيل الذهني، يراها آخر في ضرورة التركيز على الارتباط بين فاعلية التربية والنجاح الوظيفي، في حين يرى فريق ثالث أنها ينبغي أن تنصرف إلى تطوير استقلال الشخصية والدقة في العمل والتكيف مع متطلبات التفكير التكنولوجي والبرغماتية النفعية[24].
أدت الرحلة التي عاشها ابن خلدون بين بلاد المغرب،و المشرق،و الأندلس، ومخالطة للعلماء،والأدباء في مختلف الفنون،والعلوم إلى سعة اطلاعه على أحوال التعليم في هذه البلدان المختلفة، كما أسهم احتكاكه مع علمائها على اختلافهم إلى معرفة الكثير عن مناهج التعليم ، وأساليبه؛الشيء الذي تؤكده مقارناته بين طرق التعليم،ومذاهبه بين مختلف الأمصار الإسلامية[25].
أشار ابن خلدون إلى أن أوّل ما يبدأ به في تعليم الولدان القرآن، وسببه أن تعليم الصغر أشد رسوخا وأصل لما بعده، ولما كان القرآن من أصول اللغة العربية، صار الاهتمام به أولى ، يقول ابن خلدون:" اعلم: أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين... وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبغي عليه ما يحصل بعده من الملكات، وسبب ذلك أن تعليم الصِّغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه"[26] .
وقد أشار إلى اختلاف المسلمين في طرق تعليمهم للقرآن للولدان يقول:" ...و اختلفت طرقهم في تعليم القرآن باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات "[27] ،و قدمها كالتالي:
أ- أهل المغرب:
اقتصروا على تعليم القرآن فقط، مع بعض الإشارات إلى الرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه، فلا يقدمون للمتعلمين شيئا عن الحديث، أو الفقه ولا الشعر ولا حتى بعض نماذج من كلام العرب، حتى يتم تعلم القرآن ويتقنه، يقول:" وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب ... فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم"[28].
ب-أهل الأندلس:
جعلوا القرآن أصلا في التعليم، ولم يقتصروا عليه فقط كالمغاربة، بل أضافوا في تعليمهم للولدان رواية الشعر والترسّل، وتعلمهم قوانين العربية ونحو يد الخط والكتاب[29] ويبقون على ذلك إلى أن يشب الأولاد وقد تمكنوا بعض الشيء في العربية والشعر، وتعلقوا بأذيال العلم على الجملة[30] ، ولكنه يشير في مكان آخر من مقدمته إلى فساد منهجهم في التعليم يقول:" فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة "[31] لأن القرآن لا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي، ومن وقف عنده كان حظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام مما يعني أن تعلم العربية بقيمة تعلم القرآن فلا خيار للمتعلمين للقرآن دونها.
و يشير إلى أن أهل إفريقية كانوا أحق من أهل المغرب في ذلك ، بما اهتموا به من محاذاة المثل بالمثل على الرغم من قصور ملكتهم عن البلاغة.[32]
كما لم تفته لإشارة إلى استفادة أهل الأندلس بالتفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر، والترسل ومدارسة العربية من أوّل العمر، تمكنهم من اللسان العربي، كما قصّروا في سائر العلوم ويرجعه ابن خلدون إلى ابتعادهم عن مدارسة القرآن "[33].
ج-أهل إفريقية:
يمزجون في تعليمهم القرآن بالحديث في الغالب، والاطلاع على قوانين العلوم المختلفة وتلقين بعض مسائلها، ولكن عنايتهم بالقرآن وباختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه[34] ومن مقتضيات عنايتهم تعلم الخط ، وهم في ذلك قد اقتربوا من طريقة أهل الأندلس، يقول: " لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس، واستقروا بتونس، وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك"[35].
د- أهل المشرق:
كانوا يخلطون في التعليم بين القرآن وغيره من العلوم إلا الخط، فقد خصوه بقوانين ومعلمين يتفردون له، كما يعلمون سائر الصنائع يقول:" وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة، ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما تسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه، ويبتغيه من أهل صنعته"[36].
يبدو مما رواه عن القاضي أبو بكر بن العربي في وجه التعليم ، حين قدم العربية والشعر على سائر العلوم على مذهب أهل الأندلس، لكونه ديوان العرب ، ودعوته إلى تعلم الحساب بعدهما ويحذق فيهما، ليتمكن المتعلم من الانتقال إلى درس القرآن يقول" فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة"[37] ، كما ينهى على أن يخلط في التعليم علمان ما لم يكن المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم والنشاط ، وقد أعجب ابن خلدون بمنهجه يقول:" وهو لعمري مذهب حسن"[38]. ويزيد في موضع آخر :" وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه، ويكلفونه وعي ذلك وتحصيله، فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها"[39]. ويضيف في موضع آخر:" إنما يحصل في أزمان وأجيال، إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة، لاسيما في الأمور الصناعية فلا بد له إذن من زمان"[40].
إضافة لما وجدناه في مقدمته عن طرق تعليم القرآن في مختلف البقاع الإسلامية شدنا إلى مقدمته تلك النصائح والإرشادات التي يقدمها للمعلمين لأجل إفادة من بعده من تجاربه التي جمعها من مختلف البلدان التي زارها.
5- منهج ابن خلدون في التعليم :
يعني المنهج حديثا مجموع الخبرات المتنوعة التي تقدمها المؤسسة التعليمية إلى الطلبة داخلها وخارجها لتحقيق النمو الشامل المتكامل في بناء الفرد وفق أهداف تربوية محددة وخطة علمية مرسومة جسميا، وعقليا ونفسيا واجتماعيا ودينيا[41]، وكان يقتصر عند التقليديين على المعرفة ، وقد رميت هذه الأخيرة بالجمود والبعد عن النشاطات التي تقام خارج قاعات التدريس كما لا تعير المتعلم أهمية تجعله شريكا في العملية التعليمية، بل تنظر إليه كالوعاء الذي يجب ملؤه بالمعلومات فحسب[42]. وقد قدم ابن خلدون منهجا تعليما، جمعناه من مختلف المسائل التي عرض لها في مقدمته وكان أهمها التالي:
أ-التدرج في التعليم:
انتبهت نظريات التعلم الحديثة إلى هذه الحقيقة العلمية فعدت المدخل الهرمي الذي وصفه روبيرت جانييه من أبرز وأهم مداخل تنظيم المحتوى حيث يتم تنظيم محتوى المقرر على شكل هرمي تدريجي يبدأ بالمستوى الأبسط إلى الأكثر تركيبا وتعقيدا[43]. والتدرج في تعليم اللغة أمر طبيعي يتماشى مع طبيعة الاكتساب اللغوي نفسه، لذلك لزم أخذ هذا العامل بعين الاعتبار مع مراعاة السهولة، والانتقال من العام إلى الخاص وتواتر المفردات[44].
و قد أشار ابن خلدون إلى ذلك يقول :" اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا، وقليلا قليلا،يلقى عليه أولا المسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال"[45] ، تكون تمهيدا لما سيأتي بعدها من عمق في تلقي العلوم : " ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال،... إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته، ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا متعلقا إلا وضحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استوفى على ملكته"[46] .هذا وجه التعليم المفيد، وينصح بوجوب البدء من العموميات وصولا إلى الجزئيات، يقول:" فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا"[47] .
ب-مراعاة السن وعامل الاستعداد:
يقول مارك ريشل:" تستلزم اللغة الإنسانية أعضاء طرفية ملائمة وجهازا عصبيا ملائما،إن الأساس الذي يجيز اكتساب اللغة لا يعمل منذ الولادة، كما أنه لا يبقى على الدرجة نفسها طوال حياة الفرد"[48] ، وقد لخص كل من جيزل وإلك (Gesell and Ilg) مجالات النضج في أحد عشر مجالا ملائما للانجاز المدرسي في الصف الأول الابتدائي كالتالي:
- أن يكون البصر طبيعيا.
- أن يكون السع طبيعيا.
- أن يكون المستوى العقلي العام(العمر العقلي) بين ست سنوات وست سنوات ونصف.
- أن يمتلك اتساقا حركيا، خصوصا السيطرة على حركة اليدين،كما هو الحال في الرسم.
- شخصية ناضجة تقريبا، يتحمل متطلبات الانتظام في الصف.
- استخدام واستيعاب طبيعي للغة.
- أن يكون لفظه واضحا.
- أن يكون نموه ضمن حدود المعدل في جوانب مختلفة من السلوك.
- له رغبة وقابلية لمتابعة قصة ذات طول معتدل.
- له سيطرة على انتباهه وتوجيهه نحو المثير الرئيسي في الموقف.
- له القدرة على التوافق مع متطلبات الصف الروتينية.[49]
كما يرتكز اكتساب اللغة على عاملين أولهما تكامل أعضاء النطق والسمع مع الجهاز العصبي، وثانيهما المحيط الاجتماعي الذي يحفز على استعمال اللغة بما يوفره من التبادل العاطفي البرغماتي للطفل المتكلم[50].
تسعى المؤسسات التعليمية في الوقت الراهن إلى إعداد الفرد عقليا بتنمية قدراته على التفكير العلمي الذي يؤهله إلى مواجهة المشكلات ، وإيجاد العلاقات بين مختلف الظواهر واستخلاص القوانين التي تحكمها، وتنمية العقل أصبحت من أبرز وسائل التنمية البشرية، والمؤسسات التعليمية في الغرب قد تقدت كثيرا في هذا الميدان، وحققت نتائج هائلة في توظيف القدرات العقلية للمتعلمين تماشيا مع سرعة الثورة العلمية، والتطور المعلوماتي ،والمعرفي الكبير،الشيء الذي ألزم الدارسين ضرورة تبني مبادئ جديدة، أهمها مبدأ التعلم الذاتي والتعلم المستمر، وتنمية قدرة المتعلم على الربط بين ما يتعلمه في المدرسة وواقعه خارجها[51].
وقد انتبه ابن خلدون إلى أهمية النمو العقل في تسهيل عملية التعلم عن الفرد لذا عده أحد عوامل التعلم التي لا استغناء عنها في تأهيل المتعلم لعملية التعلم ،كالنمو الجسدي والنفسي يقول:" ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه"[52]، ويزيد في موضع آخر:" وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه تتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه وإنما ذلك من سوء التعليم"[53].
ج- الاكتفاء بتعليم علم واحد في كل مرة:
يقول ابن خلدون: " ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته... ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره"[54] ، فتكون العلوم خادمة لبعضها البعض، ودرجا يرتقي بها المتعلم من علم إلى علم، فتكون كالملزمة لبعضها البعض كالقرآن الملزم لتعلم العربية .يقول:" لأن المتعلم إذا حصَّل ملكة ما في علم من العلوم استعدّ بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق ، حتى يستولي على غايات العلم"[55]. وكل خلط يؤدي إلى العجز عن الفهم، والتعب، والفتور واليئس عن التحصيل، وهجر العلم والتعليم[56] . يقول:" ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلّم علمان معا ، فإنه حينئذ قلّ أن يظفر بواحد منهما، لما فيه تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهّم الآخر، فيستغلقان معا، ويستصعبان ، ويعود منهما بالخيبة"[57].
د- عدم التطويل على المتعلم في الفن الواحد:
و عيب هذا المنهج تقطيع المجالس وتفريق ما بينها، الشيء الذي يغلب النسيان، وانقطاع مسائل الفن عن بعضها فيصعب معه التحصيل، يقول:" وإذا كانت أوائل العلم ، وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا، وأحكم ارتباطا، وأقرب صنعة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه"[58].
هـ- اللين مع المتعلمين:
يقول:" أن إرهاف الحدِّ في التعليم مضر بالمتعلم، سيّما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة"[59] ويراه ابن خلدون عائقا لما ستؤول إليه شخصية المتعلم:"و من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيّق عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك"[60]. ومن عومل بتلك المعاملة من المتعلمين :" فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن، وهي الحميّة والمدافعة عن نفسه أو منزله، وصار عيالا على غيره في ذلك ، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل، والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها،و مدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين"[61] ، ويضرب لنا مثلا عن الأمم التي عوملت بتلك القسوة زرعت هذه الأخيرة في قلوبها فانعكست عليها فصارت طباعا عرفوا بها يقول : "... وانظروا في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء، حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج، ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد ، وسببه ما قلناه"[62] .
وقد زودتنا السنة المحمدية بما كان يعلم به الرسول –صلى الله عليه وسلم- الناس في زمانه، ومما أثر عليه ذكره الإمام الغزالي –رحمة الله عليه- عن كيفية معاملة الرسول –صلى الله عليه وسلم- لعائشة في تعليمه لها يقول:" وفي إيهامه – صلى الله عليه وسلم – وعدم مصارحته ومواجهته لعائشة بالزجر ، إشعار بأن من دقائق صناعة التعليم أن يزجُرَ المعلم المتعلم عن سوء الأخلاق، باللطف والتعريض ما أمكن ، من غير تصريح ، وبطريق الرحمة من غير توبيخ ، فأن التصريح يهتك بحجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيِّج الحرص على الإصرار"[63].
لذا يطلب من المعلم أن يتفاعل بشكل إيجابي وإنساني مع تلاميذه ، لذا لا تقتصر وظيفة المعلم على نقل المعارف بل تمتد إلى الطريقة الخلاقة التي يحصل فيها النقل ، وإلى العلاقات الشخصية التي ترتكز على الاحترام المتبادل . يقول فراس إبراهيم:" إن هذه العلاقة بين المعلم والتلميذ لا تعني الاسترخاء، بل تعني أن يحفظ المعلم حدودا معينة بينه وبين تلاميذه لكي يحافظ على دوره كقائد ومنظم، دون أن يتيح للتلاميذ أشكالا من الحرية تؤدي إلى الإهمال والفوضى، بل إلى الانضباط بل الضبط"[64].
وبذلك ينصح ابن خلدون يقول :" فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب"[65] ومن أحسن ما أورد ابن خلدون عن أمثلة حسن التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده حين بعث إلى خلف الأحمر في تأديب ولده محمد الأمين فقال له:" يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصيّر يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة،... وامنعه من الضحك إلا في أوقاته... ولا تمرّن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه، فنميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدّة والغلظة "[66].
و- كثرة التمارين:
يعد التمرين اللغوي في عملية تعليم اللغات مقوما بيداغوجيا هاما ... لهذا اهتم الباحثون في الميدان اللساني والتربوي بالتمرين اللغوي وبضرورة ترقيته، وتحديد أهدافه التعليمية، والبيداغوجية، وضبط إجراءاته المختلفة لتذليل الصعوبات التي تعترض المتعلم، وتفادي الخطأ اللغوي الذي يشكل عائقا أمام تطور العملية التحصيلية في مجال تعليم اللغات"[67]. فمما ينصح به ابن خلدون في تعليم اللغات خاصة:" الدؤوب على التعليم والمران على اللغة، وممارسة الخط يقضيان بصاحبهما إلى تمكن الملكة "[68] .
إن ما نخلص إليه مما سبق أن ابن خلدون دليل آخر على ما يزخر به تراثنا العربي من التوجيهات اللسانية ،و الديداكتيكية التي يطالعنا العلم الحديث بزخم المصطلحات التي وإن لم ترهقنا كثرتها، يدفعنا اختلافها وتنوعها وتعقيدها إلى النفور والابتعاد عنها.
ز- المحاورة والمناظرة في المسائل العلمية:
اللغة وسيلة تواصل ، خصّ بها الله الإنسان عن غيره من مخلوقاته، وسبيل تعلمها الوحيد هو استعمالها ، ولما كان الإنسان اجتماعي بطبعة لزم عليه أن لا يستعمل اللغة إلا في وسط المجتمع الذي يعيش فيه ويتكلم تلك اللغة، وقد تفطن المهتمون بالتربية حديثا بأن خير وسيلة لفتك لسان المتعلم ، وتعويده على الكلام باللغة هو المحاورة، ويبدو أن ابن خلدون قد سبقهم في ذلك بقرون عديدة لما أشار في مقدمته إلى ضرورة المحاورة لتدريب اللسان على اللغة.
يقول ابن خلدون:" ... فعسر عليهم حصول الملكة الحذق في العلوم وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو يقرّب ويحصّل مرامها، فتجد طالب العلم منهم ، بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية ، سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون ، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرّف في العلم والتعليم"[69].
ح- الانتقال من المحسوس إلى المجرد:
إن إشراك الحواس في عملية التعليم أمر لازم ، يساعد المتعلم على إدراك المواضيع التي يهدف تعليمها له بصورة أكثر وضوحا لأن ما يقع تحت حواسه يكون أكثر قابلية للإدراك فيسهل تعلمه ومعرفته،لأن أول اتصال يقوم به الطفل مع العالم الخارجي هو اتصال مادي وسائله الحواس الخمسة. لذا فلا غرابة في أن يدعو ابن خلدون إلى الاهتمام بهذا الجانب من الاتصال الذي يمكن المتعلم من مواضيع تعلمه لذا يقول: " والأحوال المحسوسة ، نقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل، لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة، والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرر، مرة بعد أخرى، حتى ترسخ صورته ، وعلى نسبة الأصل تكون الملكة، ونقل المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم ، فالملكة الحاصلة عنه أكمل وأرسخ من الملكة الحاصلة على الخبر"[70].
ط- جودة التعليم بجودة المعلم:
إن أستاذ اللغة لا يكون في غنى عن الحصيلة المعرفية للنظرية اللسانية المعاصرة، واكتسابه لهذه المعرفة ستسمح له بوضع تصور شامل لبنية النظام اللغوي الذي هو بصدد تعليمه، وستفيده على إدراك حقيقة الظاهرة اللغوية إدراكا عميقا، فيؤثر هذا كله في منهجية تعليم اللغة، وفق الأرضية النظرية التي يوفرها تطور البحث اللساني الذي بإمكانه أن يقدم التفسير العلمي الكافي لكل المظاهر التي لها علاقة بتعليم اللغة وتعلمها"[71].
و في هذا الشأن يقول ابن خلدون:" وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته"[72]. ويرى أحد الدارسين أن " التعليم ليس مهنة من لا مهنة له ، ولكنه مهنة تتطلب نوعا مميزا من القوى البشرية، حيث تكون في المعلم من الصفات والخصائص والمهارات ما يجعله مدركا لدوره ، محبا لعمله، سببا في تحقيق أهداف المدرسة ، ضمن الأهداف التربوية العامة، والمعلم رائد بمادته، قدوة بسلوكه ، داعية بإرشاده، مصلح بأفكاره، الكل ينظر إليه ويحتج به" [73]. وليست المكانة التي يحوزها المعلم في المجتمعات المختلفة بسبب ما يقدمه ذلك المعلم من معلومات لأبنائها، وإنما لما تحمله تلك المجتمعات من مسؤوليات للمعلم، تدل عليها كتب الاختصاص التي زاد فيها البحث حول المعلم المختص المتميّز الذي يمزج بين الكفايات المختلفة؛ المعرفية والبيداغوجية والنفسية والجسمانية والأناقة ، وقد تفرض عليه بعض المجتمعات كفاءات خاصة كالسياسية والعرقية والإيديولوجية ، فلم يعد التعليم مهنة من لا مهنة له، وإنما صار أرقى المهن وأعقدها[74].
كما يرتبط أسلوب التدريس بصورة أساسية بالصفات والخصائص والسمات الشخصية للمعلم، أي لا وجود لقواعد محددة لأساليب التدريس ينبغي على المعلم إتباعها أثناء قيامه بعملية التدريس ، لذا تظل طبيعة أسلوب التدريس مرهونة بالمعلم والفرد وبشخصيته وذاتيته وبالتعبيرات اللغوية، والحركات الجسمية، وتعبيرات الوجه، والانفعالات ونغمة الصوت، ومخارج الحروف ، والإشارات والإيماءات، والتعبير عن القيم وغيرها"[75].
ي- تقديم البسيط على المركب والمعقد:
إن طبيعة التطور تقتضي التدرج، وقد يكون من المحسوس إلى المجرد ، ومن العام إلى الخاص ، كما قد يكون من البسط إلى المعقد وفي هذا يقول ابن خلدون:" ثم إن الصنائع منها البسيط ومنها المركب، والبسيط هو الذي يختص بالضروريات، والمركب الذي للكماليات، والمتقدم منها في التعليم هو البسيط لبساطته أولا، ولأنه مختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي على نقله، فيكون سابقا في التعليم ويكون تعليمه لذلك ناقصا، ولا يزال الفكر يخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئا فشيئا على التدريج حتى تكمل"[76].
نحصد في نهاية هذا الموضوع مجموعة من النتائج نوردها كالتالي:
1- التعليم نشاط تسعى كل الأمم إلى تحسينه وإصلاحه كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
2- التراث العربي الإسلامي زاخر بمناهج التفكير اللساني الديداكتيكي وابن خلدون خير مثال على ذلك.
3- خصوصية العربية ، تدعو إلى إتباع مناهج أصيلة ، تكون اللغة فيها مخدومة لتصير بعد ذلك خادمة.
4- الجانب النفسي في التعليم ليس بدعا للعلماء ، فقد أشار ابن خلدون إلى المرونة في التعامل مع المتعلم ، ولا تكون المرونة إلا بالحرص على الجانب النفسي للمتعلم.
5- دراسة اللغة لذاتها ولحد ذاتها ضرب من الغي، يدخل الدارس في أمور فلسفية لا طائل منها، ويزيد في الهوة بينها وبين متعلميها. [77]
6- لم يعد التعليم مهنة من لا مهنة له، لذا كان ولا يزال المعلم يطالب بالأكثر فالأكثر ، وكلما تقدم الإنسانة ،و تطور التفكير احتاج المعلم إلى المزيد من التحسين والإصلاح.
7- المتعلم في حاجة لكل الناس لكي ينجح في حياته التعليمية، فلا يجب أن يهدم المجتمع ما يسعى المعلم إل بنائه.
8- ابن خلدون عالم اجتماع ، عرف مواطن فساد المجتمعات ومواطن صلاحها ، فكان التعليم أهمها لذا خصه بقسم كبير من مقدمته لتعظم الفائدة به.
[1] - حامد عمار، شيخ التربويين العرب في لقاء هموم التعليم في الوطن ، مجلة المعرفة، عدد 41، بتاريخ شعبان 1419هـ 1998م ص7.
[2] - محمد مصطفى زيدان، نظريات التعلم وتطبيقاتها التربوية ، الديوان الوطني للمطبوعات الجامعية، الجزائر،1983م، ط1 ، ص21.
[3] - نفسه، ص 25 و26.
[4] - كمال بكداش، علم النفس ومسائل اللغة، ص12.
[5] - أحمد حساني، دراسات في اللسانيات التطبيقية: حقل تعليمية اللغات، الديوان الوطني للمطبوعات الجامعية، الجزائر ص45.
[6] - ابن خلدون( عبد الرحمن) ، المقدمة ،دار الفكر، بيروت، 1424هـ/ 2004م، ط1، ص 450.
[7] - مص، نفسه، ص 451.
[8] - مص، نفسه ص 451.
[9] - محمد بن تاويت الطنجي، عبد الرحمن ابن خلدون، التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1951م، ص4.
[10] - المقدمة ص 609.
[11] - مص، نفسه ص 609.
[12] - مص،نفسه، ص 609.،
[13] - مص، نفسه، ص 609.
[14] - مص،نفسه، ص 610.
[15] - مص، نفسه ، ص 610.
[16] - مص، نفسه ، ص 610.
[17] - مص، نفسه، ص 621.
[18] - مارك ريشل ، اكتساب اللغة، ترجمة: كمال بكداش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت لبنا، 1404هـ - 1984م ، ط1،ص 14.
[19] - المقدمة، ص 630.
[20] - مص، نفسه، ص 635.
[21] - مص، نفسه، ص 616.
[22] - مص، نفسه، ص 618.
[23] - مص، نفسه، ص 618.
[24] - رقية طه جابر العلواني، منهج ابن خلدون في إصلاح العملية التعليمية، بحث قدم في ندوة ابن خلدون ، كلية الآداب جامعة البحرية، ص9.
[25] - المقدمة ، ص 610. إلى 611.
[26] - مص، نفسه ، ص 610.
[27] - مص، نفسه ، ص 610.
[28] - مص، نفسه ، ص 610.
[29] - مص، نفسه، ص 610.
[30] - مص، نفسه، ص 611.
[31] - مص، نفسه، ص 611.
[32] - مص، نفسه، ص 611.
[33] - مص، نفسه ، ص 612.
[34] - مص، نفسه ، ص 611.
[35] - مص، نفسه ، ص 611.
[36] - مص، نفسه ، ص 611.
[37] - مص، نفسه، ص612.
[38] - مص، نفسه ، ص 612.
[39] - مص، نفسه ، ص 606.
[40] - مص، نفسه ،مطبعة صيدا، ص 371.
[41]- فتحي يونس وآخرون،المناهج،الأسس،المكونات التنظيمات،التطوير.دارالفكر،الأردن،2004م، ص17.
[42]- سرحان الدمرداش،ومنير كامل:المناهج دار الهدى للطباعة، مصر،ط2،1969م، من ص4 إلى ص 8.
[43] - المناهج، الأسس، المكونات، التنظيمات، التطوير، ص 103 و104.
[44] -عبد الرحمن الحاج صالح ، أثر اللسانيات في النهوض بمستوى مدرسي اللغة العربية، مجلة اللسانيات، العدد الرابع، جامعة الجزائر ، 1973م، ص 145.
[45] - المقدمة، ص 605.
[46] - مص، نفسه، ص 606.
[47] - مص، نفسه، ص 606.
[48] - اكتساب اللغة، ص 53.
[49] - حسين نوري الياسري، صعوبات التعلم الخاصة،الدار العربية للعلوم ، بيروت لبنان،1426هـ- 2006م، ص 74.
[50] - أحمد خولة، الأرطفونيا، علم اضطراب اللغة والكلام والصوت، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع ، الجزائر، 2007م، ص 21.
[51] - المناهج ، الأسس ، المكونات ، التنظيمات ، التطوير ، ص 103 و104.
[52] - المقدمة، ص 605.
[53] - مص، نفسه، ص 606.
[54] - مص، نفسه، ص 606.
[55] - مص، نفسه، ص 606.
[56] - مص، نفسه، ص 606.
[57] - مص، نفسه، ص 607.
[58] - مص، نفسه ، ص 606-607.
[59] - مص ،نفسه، ص 613.
[60] - مص، نفسه، ص 613.
[61] - مص ، نفسه، ص 613.
[62] - مص، نفسه، ص 613.
[63] - المناوي، فيض القدير ، ج2، ص 573.
[64] - فراس إبراهيم، طرق التدريس ووسائله وتقنياته، ص 195.
[65] - المقدمة، ص 613.
[66] - مص، نفسه، ص 614.
[67] -دراسات في اللسانيات التطبيقية، ص 147.
[68] - المقدمة، ص 620.
[69] - المقدمة، تحقيق:درويش الجو يدي، المكتبة العصرية، صيدا لبنان، 1420هـ ،2000م،ط2،ص401.
[70] - مص ، نفسه، طبعة صيدا، ص 371.
[71] - دراسات في اللسانيات التطبيقية، ص 142.
[72] - المقدمة، طبعة صيدا، ص 371.
[73] - محمد عثمان، أساليب التقويم التربوي، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمان الأردن، 2005م، ص90.
[74] - ينظر: سعيد أبو حلتم، مهارات السمع والتخاطب والنطق المبكرة، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمان ، الأردن 2005م. وفراس إبراهيم ، طرق التدريس ووسائله وتقنياته، دار أسامة للتوزيع والنشر والتوزيع 2005م، ومحمد عثمان ، أساليب التقويم التربوي ، و( بربارا ما تيرو) و ( أنا موانجي) و(ورث شليتي) ، ترجمة : حسين عبد اللطيف بعارة، وماجد محمد الخطابية، دار الشروق للنشر والتوزيع ، عمان الأردن، 2002م
[75] - فراس إبراهيم، طرق التدريس ووسائله وتقنياته، ص7.
[76] - المقدمة، طبعة صيدا ص 371.