مقدمة
عندما جاء الإسلام أعلن منذ البداية عالَميَّتَه، وأنه لا يفرق بين الناس بسبب الجنس أو اللغة أو اللون أو الوطن، وأعلن الرسول الكريم أنه (لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى). ووجد الإسلام أن من بين العرب من يتكلَّم لساناً غير العربيَّة، فكان هنالك من يتكلم اللسان العبرانيَّ، وكانت أطراف الجزيرة العربية تتكلم لغاتٍ خلاف العربية. فكان اللسان الحبشيّ سائداً في اليمن، وكانت في اليمن، العربية الجنوبية، التي قال عنها عمرو بن العلاء البصري : "…ولا عربيتهم عربيتنا"([1]) وهي من اللغات الساميّة ذات العلاقة العرقيّة مع العربية. وكان اللسان الفارسيّ في الحيرة، والروميّ والآراميّ أو السريانيّ والعبريّ والنبطيّ في شمال الجزيرة العربية.
ثم زحف الإسلام إلى أنحاء المعمورة يحمل معه لغة الوحي ـ العربية ـ فتغلّبت العربية على اللغات التي أحاطت بها كما حدث في مصر والشام واليمن والعراق وشمال إفريقيا وشمال السودان. وصمدت اللغات التي لم تحط بها العربية، بل تحدّث أحفاد العرب الفاتحين اللسان الأعجميّ بعد أن كان أجدادهم يتحدّثون العربية في كثيرٍ من البلاد الإفريقيّة كما نجد في تشاد والسودان (منطقة دُنْقلا وشرق السودان).
وعلى الرغم من تعريب المنطقة التي تُسمّى اليوم "الوطن العربي" فإن هناك جزراً لغوية احتفظت بلغاتها التي كانت تتكلمها قبل الإسلام منها اللغة النوبية في جنوب مصر وشمال السودان وأواسطه، واللغة الأثورية وهي من بقايا الآشورية (في العراق)، واللغة الكردية في العراق، والأرمنية في الشام، والبربرية في شمال أفريقيا.
أما في خارج الوطن العربي فإنّ عدد اللغات التي يتحدثها المسلمون غير معروف إلا أننا أحصينا عدد اللغات التي كتبت بالحرف العربي طوال العصور الإسلامية حتى الآن فوجدناها تناهز المائة([2]). أما لغات المسلمين غير المكتوبة فإن عددها غير معلوم لدينا في الوقت الحاضر.
ومعلومٌ أن التعليم في العالم الإسلامي كله حتى بداية القرن العشرين كان هو التعليم الإسلامي الأصلي الذي يبدأ بتعليم القراءة والكتابة بالحروف العربية، ثم ينتقل الطفل بعد حذق كتابة الحروف العربية إلى كتابة القرآن وقراءته بدءاً بسورة الفاتحة ثم صغار السور إلى آخر القرآن. وبعد القرآن يبدأ في تعلُّم العربية بادئاً بالنحو فالصرف…الخ. وفي ذات الوقت يتعلّم الطفل كتابة لغته بالحرف العربي، ويتَّخذ المعلِّم من لغة التلاميذ وسيلةً لترجمة ما يقرر عليهم من علوم عربية أو شرعية.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين بدأت تظهر في العالم الإسلامي معاهد التعليم العربي- الإسلامي التي تتخذ من العربية وسيلةً لتعليم العلوم المختلفة بتدرج يبدأ باللغة المحلية ويتطور حتى تكون اللغة العربية هي لغة التعليم. وهنا واجهت معاهد التعليم العربي-الإسلامي مشكلة مناهج تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. وهي مناهج تختلف عن مناهج تعليم العربية لأبناء العرب، ويفترض أن تصمم على غرار مناهج تعليم اللغات الأجنبية من حيث الأسس النفسية واللغوية والتربوية. إلا أن ذلك لم يتح لعدم وجود الخبراء والمؤسسات المتخصصة إلى أن أَنشَأََت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الكسو) معهداً لهذا الغرض عام 1974م هو معهد الخرطوم الدولي للغة العربية، كما أنشأت جامعة الملك سعود معهداً لذات الغرض عام 1975م. ولأن معهد الخرطوم يخرِّج خبراء في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها يبدأ تأهيلهم بدرجة الماجستير في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، فقد خرَّج هذا المعهد منذ إنشائه حتى الآن نحو 1000 متخصص في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، هم الآن الذين يُغذُّون الكثير من المعاهد التي تعلم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ويقومون مع آخرين بعبء تأليف الكتب المعاصرة التي أنتجتها معاهد المملكة العربية السعودية. كما أن هنالك جهود مماثلة في بلاد أخرى في الوطن العربي.
وما تزال معاهد التعليم العربي- الإسلامي في أفريقيا وآسيا في أمَسِّ الحاجة إلى منهج لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. وقد شرعت منظمة الإيسيسكو في تصميم منهج لتعليم اللغة العربية لمرحلة الأساس في دول الساحل والصحراء التسع. كما شرعت جامعة أفريقيا العالمية تستثمرهذا العمل في تأليف سلسلة العربية لأبناء أفريقيا ـ العمل الذي قد يستغرق عاماً وبعض العام إن شاء الله ليُقَدَّم للطباعة. وسوف يستفيد من هذا العمل المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية في أفريقيا عموماً إن شاء الله.
ونوصي أن تقوم الإيسيسكو بعمل مماثل لمدارس المسلمين في جنوب غرب آسيا وآسيا الوسطى. تبقى مشكلة تعليم اللغة العربية في مؤسسات التعليم العام في الوطن العربي بالنسبة للمجموعات التي تتحدث لغاتٍ أُم بخلاف العربية، وهو ما نعالجه في الفقرات التالية.
الثنائية اللغوية في الوطن العربي
تعريف: نعني بالوطن العربي البلاد التي تسود فيها اللغة العربية كلغةٍ رسمية للدولة ولغة للتعليم ولغة للتواصل اليومي بين المجتمعات، وبهذا التحديد تخرج البلاد التي انضمت سياسياً إلى جامعة الدول العربية مثل الصومال وجزر القمر.
ونعني بالثنائية اللغوية في الوطن العربي أن يتكلم الناس في البلد لغتين الأولى العربية التي تستخدم في المجالات الرسمية كالحياة والتعليم والإعلام والبرلمان وكتابة القوانين. والثانية لغة محلية (غيرعربية) تستخدمها مجموعة من المواطنين للتواصل فيما بينها، بينما تستخدم اللغة السائدة للتواصل مع الآخرين ([3]).
وتخرج باللغة (المحلية) اللغات الوافدة مثل اللغة السواحيلية في عمان والأوردو في الإمارات العربية المتحدة إلى غير ذلك من اللغات غير الأصلية Indigenous في الوطن العربي. ونستثني من ذلك المجموعات التي تتحدث لغات عريقة مستخدمة في كل مجالات الحياة في دول مجاورة غير عربية إلا أنها لغة مجموعة معتبرة في البلد العربي مثل الفارسية في البحرين والكويت، والتركية في شمال سوريا، والسواحيلية في عمان، إذ إن هذه اللغات لا تحتاج إلى تطوير. وتخرج بطبيعة هذا التعبير (المحلية) البلدان العربية الآحادية اللغة مثل المملكة العربية السعودية والأردن والإمارات والكويت. ويدخل في ذلك المناطق الثنائية اللغة في حدود البلد العربي المجاور لبلد يتكلم لغة أو لغات غير عربية مثل جنوب ليبيا وجنوب موريتانيا. وقد يكون في البلد الواحد مجموعات تتحدث عدداً من اللغات.
وعليه نستطيع أن نقسم بلدان الوطن العربي إلى ثلاث مجموعات
1. آحادية اللغة كالمملكة العربية السعودية (اللغة العربية وحدها).
2. ثنائية اللغة كالعراق (العربية + الكردية).
3. متعددة اللغة كالسودان و موريتانيا (العربية + لغات وطنية متعددة).
المجموعة الأولى لا تدخل في بحثنا هذا، ولكن المجوعات الثانية والثالثة هما موضوع بحثنا.
السياسة اللغوية أو التخطيط اللغوي
البلدان ثنائية اللغة ومتعددة اللغات تحتاج إلى رسم سياسية لغوية حكيمة تضمن وحدة الشعب من ناحية، وإشباع تطلعات المجموعات الثنائية اللغة.
والسياسة اللغوية أو التخطيط اللغوي في مفهومه الواسع يعني رسم سياسة لغوية نابعة من السلطة السياسية لتحديد الأمورالتالية:
1. تحديد اللغة الرسمية للدولة التي تستخدم في الإدارة والإعلام.
2. تحديد لغة التعليم في مراحل التعليم المختلفة (العام والعالي).
3. تحديد اللغات العالمية التي تدرس في المؤسسات التعليمية.
4. تحديد موقف الدولة من اللغة أو اللغات الوطنية الأخرى من حيث مجالات استخدامها ودراستها (دراسة لغوية) وكتابتها، وبأيّ حرف تكتب.
بالنسبة للغة واللغات الوطنية يجب أولاً معرفة دورها في حياة المجموعة التي تتحدثها، ومدى معرفتها والكفاية اللغوية لدى المتحدثين بها، وعدد المتحدثين بها . ذلك لأن هنالك لغات تتحدثها مجموعة صغيرة (بضعة آلاف)، وقد تكون في طريقها إلى الفناء، ومع ذلك تعتبر هذه اللغة (الآيلة للانقراض) جزءاً من تراث البلد ينبغي تدوينه وتسجيل الآداب التي كتبت (أو حكيت) به وفي السودان عدد من هذه اللغات التي انقرضت خلال القرن العشرين ومنها لغة قلي gule ولغة حرازه، ولغة بِرْقِدْ Birgid. وهنالك لغات في طريقها إلى الفناء إذ لم يعد يتحدثها سوى بضعة آلاف مثل لغة نجلقلقلي Nygelgulgule في منطقة التونج في جنوب السودان التي كان يتحدثها في الستينات من القرن العشرين أقل من سبعة آلاف نسمة، ولغة يولو التي كان يتحدثها في السبعينات من القرن العشرين أقل من 15 ألف نسمة. وهذا إحصاء قديم ولا ندري الآن موقفها بعد نزوح أعداد من أهلها صغاراً وكباراً من موطنهم في جنوب السودان إلى مدن شمال السودان قبل أكثر من عشرين سنة واختلاطهم هم وأطفالهم بالمتحدثين بالعربية.
يجدر أن نشير إلى أن هنالك مجموعات ثنائية اللغة لا ترغب في تطوير لغاتها، ولا تحتاج لأن تكون هذه اللغة وسيلة التعليم لأبنائها لأنها جعلت مثلها الأعلى الانصهار في ثقافة المجتمع الكبير(الثقافة العربية الإسلامية) ومثالهم المجموعة التي تتحدث اللغة الدنقلاوية في شمال السودان (وهي لهجة من لهجات اللغة النوبية)([4]).
رأيت من هذه الأمثلة أن أوضِّح أهمية معرفة اتجاهات المجموعات اللغوية التي تتحدث لغات وطنية (غير العربية) قبل افتراض أن رغبتهم هي تطوير لغتهم وتعليم أبنائهم بها.
ثم إن المجموعات الثنائية اللغة تختلف في مدى رغبتها في تطوير لغاتها من بلد إلى آخر. فالنوبيون في جنوب مصر قد لا يرغبون في تطوير لغتهم لتكون لغة تعليم وآداب...الخ. وقد يكون الأمر كذلك بالنسبة للمجموعة الثنائية اللغة في واحة سيوه في غرب مصر. بينما نجد بعض المثقفين النوبيين في شمال السودان الذين يتكلمون لهجة فديتجا يسعون سعيا حثيثا إلى تطوير لغتهم بل إلى كتابتها بحروف قديمة (بخلاف الحروف الرومانية والعربية).
والأمر في رأيي يتصل باتجاهات المجموعة اللغوية من حيث الهوية والانتماء. صحيح أن اللغة تعتبر من أهم مقومات الهوية إلا أن المجموعة الثنائية اللغة قد تغلِّب الانتماء للمجتمع الأكبر، وربط هويتها بهويته ثقافياً، أكثر من ارتباطها العرقي أو اللغوي. علماً بأن مكونات الهوية لا تنحصر في اللغة وحدها، إذ هنالك مقومات أخرى كالثقافة والدين والأرض والدولة، وهذه تعزز الرغبة في الانصهار والتمازج بدلاً من العزلة والانكفاء. ومهما كان القرار السياسي بالنسبة لاستخدام اللغات الوطنية (غير العربية) فإنّ من المسلم به ضرورة تدوين هذه اللغات بوصفها تراثاً وطنياً. وتدوينها يعنى دراسة نظامها الصوتي والصرفي والنحوي، وعمل معجم لمفرداتها، وكتابتها بدقة بحروف عربية صوتية([5]). ثم كتابة التراث الأدبي لهذه اللغات وما حملته من فن القول قصصاً وشعراً وحكماً وأمثالاً…وبطبيعة الحال لا بد من معرفة الأسرة اللغوية التي انحدرت منها، وعلاقتها أو قرابتها العرقية من اللغات الأخرى في المنطقة، وإذا أمكن معرفة الأطوار التي مرت بها في شبابها وفتوتها باحتمال أن هذه اللغة كانت ذات سيادة ونفوذ في منطقة واسعة في الماضي، وقد نجد آثارها في اللغات الأخرى المجاورة لها، أو التي احتكت بها.
الظروف التي تحيط باستخدام اللغات المحلية في التعليم في البلاد العربية ذات الأوضاع اللغوية الخاصة تختلف من بلد إلى آخر. ولذلك فإن المعلومات والمقترحات التي نقدمها في هذا الجزء من الورقة قصد بها مناقشة الموضوع من جوانبه المختلفة بغرض استجلاء المشكلات التي تكتنفه لعل نتائج المناقشة تعين صانعي القرار لاتخاذ القرار السياسي والتربوي المناسب لمعالجته، علماً بأن الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية وعلاقة المجموعة أو المجموعات التي تتكلم هذه اللغات مع المجموعة التي تتكلم العربية لغة أم-هذه الظروف والعلاقات تختلف من بلد إلى آخر، كما أن القرار الخاص باختيار لغة التعليم يعتبر من مسائل التخطيط التربوي الذي تختص به السلطة المركزية في البلد، مثله مثل الشؤون الاقتصادية والعلاقات الخارجية الخ … .
والبلاد الثنائية اللغة التي تستخدم اللغة العربية لغة للتعليم يواجه التربويون فيها عدة مشكلات منها: التداخل اللغوي بين العربية ولغة التلاميذ الأم، وضعف استيعاب التلاميذ للمواد. فينشأ عن ذلك التأخر الدراسي لدى هؤلاء التلاميذ، بالمقارنة إلى زملائهم الناطقين بالعربية لغة أم، خاصة عندما تكون الامتحانات العامة موحدة في كل مناطق البلد، واحتمال تفوّق التلاميذ الناطقين بالعربية وحصولهم على نسبة أكبر من مقاعد المراحل الأعلى في التعليم، الأمر الذي قد يؤدّي إلى صراع اجتماعي أو سياسي بين المجموعات اللغوية. ومن الموضوعات التي تستحق الدراسة العلمية الصراع النفسي لدى التلميذ الذي يتكلم لغة غير عربية عندما يبدأ تعليمه بالعربية خاصة إذا كان جديد عهدٍ بالعربية، والتنازع بين الولاء للغة الأم ولغة التعليم، والغربة التي يعيشها التلميذ عندما يواجه العربية لأول مرة في المدرسة. قد يخف هذا الصراع إذا كان مجتمع التلميذ مسلماً، ولكنه يكون معقداً إذا كان التلميذ غير مسلم (وثنياً أو مسيحياً)، وكان المقرر الدراسي موحداً لجميع أبناء الوطن، لا يعطي اعتباراً للمعالجة الفنية لتعليم اللغة العربية للذين لا يتكلمونها لغة أم.
والذي يزور المدارس في المناطق الثنائية اللغة التي تتخذ العربية لغة تعليم يجد أن المعلمين في الصفوف الأولى مضطرون لأن يستخدموا لغة التلاميذ في معظم الأحوال لشرح المواد الدراسية، بل يستخدمونها في دروس اللغة العربية. حتى في الصفوف المتقدمة عندما تحدد قطعة المطالعة بعض المفردات التي تحتاج إلى شرح، نجد أن معظم المفردات في القطعة غريبة أو جديدة على هؤلاء التلاميذ الذين يتكلمون لغة أو لغات غير العربية.
من هنا يلزم التربويين في البلاد العربية الثنائية اللغة أو الثلاثية اللغة أن يعالجوا منهج اللغة العربية في المناطق التي لا تتحدث العربية معالجة فنية تمتد إلى تدريب المعلم، وكتاب التلميذ على ضوء نتائج الدراسات التقابلية التي ينبغي أن تتم بين العربية ولغات التلاميذ. كما يراعى ذلك في تصميم الاختبارات.
وتكون المشكلة أكثر تعقيداً إذا تعددت اللغات المحلية - كما هو الحال في السودان- إذ اختارت الإدارة البريطانية ست لغات لتكون وسيلة التعليم في الصف الأول والثاني الابتدائي، في جنوب السودان، لكي تصبح وسيلة التعليم اللغة الإنجليزية ابتداء من الصف الثالث. وبما أن عدد لغات الجنوب يناهز الخمسين فالذي حدث هو أن أطفال القبائل خارج هذه اللغات الست يضطرون لتعلّم إحدى هذه اللغات (كلغة أجنبية) لكي يتعلموا بها لمدة عامين وفي نفس الوقت يتعلمون لغة أخرى أجنبية (الإنجليزية) ليتعلموا بها فيما بعد، فيتعلم الطفل لغتين أجنبيتين في وقت واحد. وعندما تحولت لغة التعليم إلى العربية فضلت المجموعات القبلية أن يكون التعليم باللغة العربية منذ البداية بدلاً من بدء التعليم بلغة لا يستمر التعليم بها.
ومن الجدير بالذكر أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) أصدرت في عام 1951م قراراً([6]) تدعو فيه الأمم لتعليم الأطفال بلغاتهم الأم في المراحل الأولى للتعليم، ووجهت هذا القرار للبلاد التي يتحدث أهلها لغات متعددة. غير أن هذا القرار قد وجد معارضة كبيرة، ولا يزال الجدل فيه يدور حول جدوى تعليم الطفل بلغته الأم التي لا يواصل تعليمه بها في المراحل الأعلى. وأصبح للمعارضين والمؤيدين حججهم التي نوردها فيما يلي:
حجج المؤيدين لاستخدام اللغات المحلية في التعليم
1. يستند هؤلاء أولاً على وثيقة منظمة اليونسكو لعام 1951 التي ترى "أن الطفل يستطيع أن يعبر ويفهم بلغته الأم بطريقة أفضل. هذا من الناحية النفسية. ومن الناحية الاجتماعية فإن الطفل يحقق ذاته وسط أعضاء مجتمعه الذي ينتمي إليه. ومن الناحية التربوية يتعلم الطفل أسرع إذا كان التعليم بلغته، بالمقارنة إلى التعليم بلغة أجنبية".
2. كثير من البحوث التي أجريت أوضحت أن التلميذ الثنائي اللغة يتمتع بميزة عن التلميذ الآحادي اللغة إذا درس بلغته الأم وعرف نظامها الصوتي والصرفي والنحوي.
3. أن اللغات لا تتطور إلى أحسن ذاتياً، وإنما يتم تطويرها باستخدامها في مجالات الحياة المختلفة، ومنها التعليم حيث تكون قادرة على تلبية حاجات المجتمع العلمية والفكرية والثقافية والتقنية.
4. يرفض المؤيدون حجة المعارضين التي تقول إن التعليم باللغة القومية هو الوسيلة الوحيدة لوحدة الأمة، لأن التفاهم المتبادل بين المجموعات هو الذي يساعد على وحدة الأمة.
5. الامتحانات بلغة أجنبية يجعل التفوق قاصراً على الناطقين بلغة التعليم.
حجج المعارضين لاستخدام اللغات المحلية في التعليم:
1. استخدام عدد من اللغات المحلية في التعليم يثير النعرات العرقية ويفتت وحدة الأمة.
2. استخدام اللغات المحلية في التعليم سيكون على حساب اللغة القومية (لغة التعليم) التي هي لغة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية ……. الخ.
3. الفائدة التي نجنيها من التعليم باللغات المحلية لا يعدو أن يكون من التكتيك لإرضاء الأقليات ذات الثقافات المتعددة.
4. اللغات المحلية قد لا ترقى لأن تكون لغة تعليم حتى على المستوى الابتدائي، بَلْهَ التعليم في المستويات الأعلى.
5. زيادة لغات التعليم تعني زيادة تكلفة التعليم بترجمة وطباعة مناهج وكتب بلغات متعددة. وقد تكون اللغات في البلد كثيرة (كالسودان: أكثرمن 100 لغة!) فيكون من المتعذر- إن لم يكن من المستحيل ـ التعليم بمائة لغة.
6. الامتحانات بلغات متعددة لا تضمن العدالة في التقويم عند التنافس.
7. وحدة البلد تحتاج إلى أن تسوده لغة واحدة.
ومازالت منظمة اليونسكو تعقد المؤتمرات العالمية والإقليمية التي تدعو فيها إلى استخدام اللغات المحلية في مجالات الحياة المختلفة وخاصةً التعليم بها في المراحل الأولى. كما أن الهيئات التبشيرية العالمية قد استفادت من هذا القرار وأنفقت المليارات من الدولارات لدراسة اللغات المحلية في العالم وكتابتها من أجل ترجمة الأناجيل بها واستخدامها في المراحل الأولى للتعليم وعلى رأس هذه الهيئات معهد اللغات الصيفي Summer Institute of Linguistics (SIL) التابع لجمعية الإنجيل العالمية الأمريكيةInternational Bible Society of America.
وفي عام 1974م دخل معهد اللغات الصيفي (المذكور أعلاه) إلى جنوب السودان ووسّع رقعة اللغات الجنوبية التي استخدمت لغة للتعليم حتى وصلت إلى ما يقرب من عشرين لغة. ومن ناحية أخرى تسببت الضغوط السياسية على الحكومة المركزية في الخرطوم في تحويل الاتجاه العام للتخطيط والسياسة اللغوية نحو إتاحة فرصة للغات المحلية في السودان ليكون لها دور أوسع في مجالات الحياة([7]) بما في ذلك استعمالها وسيلةً للتعليم في الصف الأول والثاني في مرحلة الأساس خاصةً في جنوب السودان، مع إدخال اللغة العربية في هذه الفترة كمادة لتصبح وسيلة للتعليم ابتداءً من الصف الثالث الابتدائي. وهذا في الأرياف حيث تسيطر اللغات المحلية قبل استخدام العربية، أما في المدن (في جنوب السودان) حيث تسود اللغة العربية كلغة اتصال فقد أصبح من الميسور أن يبدأ الأطفال تعليمهم باللغة العربية رأساً دون الحاجة إلى استخدام اللغات المحلية. وما يزال الجدل قائماً في السودان حول تعليم الأطفال في بداية مرحلة الأساس بلغاتهم المحلية ريثما يؤهلهم مستواهم في اللغة العربية لمواصلة تعليمهم بها في هذه المرحلة. هذا الجدل مستمر في السودان على مستوى التربويين من ناحية وعلى مستوى السياسيين الذين يشكل المثقفون الجنوبيون فيهم عنصر الضغط والمعارضة لسيطرة اللغة العربية والتعليم بها. وهذا هو النمط السائد في إفريقيا وآسيا في البلاد التي تتكلم أقلياتها لغات محلية وهو أن يبدأ التعليم في الصف الأول والثاني باللغة المحلية وفي ذات الوقت يدرس التلاميذ اللغة الرسمية السائدة لتكون لغة التعليم ابتداء من الصف الثالث الابتدائي. والنمط الآخر هو أن يبدأ الأطفال تعليمهم باللغة الرسمية بدءاً من الصف الأول دون اعتبار للغات المحلية التي يتكلمها الأطفال.
مشكلات التعليم باللغة العربية في مناطق التداخل اللغوي
سواء بدأ التعليم باللغة العربية أو باللغة المحلية فإن التلاميذ في مناطق التداخل اللغوي يواجهون في تعلم اللغة العربية عدداً من المشكلات التي تحتم على التربويين معالجتها على مستوى المنهج والمقررات وتدريب المعلم والامتحانات، وعلى مستوى البحث العلمي. وإذا كان التلاميذ يجلسون إلى الامتحان الموحد مع زملائهم الذين يتحدثون العربية لغة أولى (لغة أم) فإن مراعاة هذه المشكلات يصبح من الأولويات التربوية القصوى. هذه المشكلات تتمثل في الآتي:
أولاً: دلت بعض الدراسات التي أجريت([8]) على أن التلميذ الثنائي اللغة يواجه مشكلات عديدة في نموه اللغوي (بالمقارنة إلى الأحادي اللغة) وأن مفرداته أقل عدداً من زميله الأحادي اللغة، وأن الثنائي اللغة عليه أن يحفظ كلمتين لكل معنى، واحدة في لغته الأم والثانية في اللغة الأخرى (التي يتعلم بها أو يدرسها).
ثانياً: الطالب الذي يتعلم بلغته لا يحمل همَّ إخراج الأصوات اللغوية لأنه ينطقها بالسليقة (بطريقة آلية) بخلاف الذي يتعلم بلغة غير لغته فإنه يحمل همَّ نطق الأصوات التي لا توجد في لغته حتى ينطقها بطريقة صحيحة وقبل ذلك فإنه يتعرض للسخرية (غير المعلنة) من زملائه وأساتذته والسامعين حيث ينظر إليه نظرة دونية.
ثالثاً: فيما يتعلق بمهارة الكتابة فإن أخطاءه الإملائية والنحوية تحسب عليه، وهو يعاني من اختيار التراكيب التي يعبر بها عن المعاني ولذلك فإنه يحتاج إلى وقتٍ أطول بالمقارنة مع زميله من أهل اللغة الذي يؤدي ذلك بطريقة لا شعورية وبدون عناء وكل ذلك يقلل فرص الاستيعاب ويؤثر على نتائج الامتحانات.
رابعاً: الطالب الذي يتعلم بغير لغته الأم يتحاشى كثيراً استخدام التعابير والتراكيب التي لا يوجد في لغته ما يشابهها وهي -أي هذه التراكيب والتعابير- تكون آلية عند صاحب اللغة، والأجنبي عن اللغة يتفادى استخدامها حتى لو كانت من المخزون اللغوي عنده لأن المفردات والتراكيب قد تكون مخزونة إلا أن إنتاجها حديثاً أو كتابةً يحتاج إلى تفكير ومعاناة. وقد تكون التراكيب المعطلة التي يتحاشاها التلميذ الثنائي اللغة أبلغ في التعبير عن الموقف من تلك التي يؤلفها تأليفاً.
خامساً: معاناة التلميذ الثنائي اللغة في تعلُّم اللغة العربية قد تغرس فيه اتجاهاً نفسياً سلبياً نحو هذه اللغة، لذلك فإن من الضروري على التربويين والمعلِّمين التدرج والتبسط وتكثيف التدريب حتى يحس بالنجاح في السيطرة على الظواهر اللغوية.
سادساً: من الخطأ توحيد مقرر اللغة العربية لكي يدرس للتلاميذ الذين يتكلمون العربية لغة أم والذين يتكلمون لغاتٍ أم أخرى.
سابعاً: مناهج تعليم اللغة العربية (كمادة) في المناطق الثنائية اللغة (كما هو الحال في السودان) هي ذات المناهج التي أعدت للمناطق التي يتحدث أهلها اللغة العربية - لغة أم- ولعل هذا هو الشأن في مناطق مماثلة أخرى من الوطن العربي. النقد الذي وجه لهذه المناهج هو أنها صممت أساساً لتلاميذ يتحدثون العربية (العامية) التي تتفق مع الفصحى في الكثير من الظواهر اللغوية. وكثير من هذه الظواهر لا يتفق مع نظام اللغة الأم للتلميذ الذي يتحدث لغة أخرى. مثال ذلك أداة التعريف "ال" وهي ليست مشكلة بالنسبة للتلميذ العربي لكنها عقبة كؤود بالنسبة للناطقين بلغات أخرى. كذلك ظاهرة التذكير والتأنيث، وصيغ جمع التكسير والضمائر، والتصريف…الخ. عولجت هذه الظواهر في المقررات من جانب حاجة المتحدث باللغة العربية (العامية) وهي تحتاج إلى معالجة خاصة من وجهة نظر اللغة الأم للتلميذ الثنائي اللغة.
التوصيات
أوردنا هذه الأمثلة من المشكلات لنصل إلى التوصيات التالية:
أولاً: دراسة التراث اللغوي الخاص باللغات غير العربية في الوطن العربي، وكتابته، والاستفادة من روائعه الفنية لإثراء الفكر والثقافة العربية وكذلك للاستفادة من هذه المادة لإثراء كتب تعليم اللغة العربية.
ثانياً: تخصيص إدارة تربوية لإعداد مناهج ومقررات اللغة العربية، والإشراف على الامتحانات في مناطق التداخل اللغوي، وتدريب المعلمين، والبحث التربوي في هذا المجال ويشمل ذلك الدراسة التقابلية بين اللغة العربية واللغات الأخرى المعنية في مجال الأصوات والمفردات والتراكيب والثقافة، والاستفادة من ذلك في تطوير مناهج اللغة العربية في هذه المناطق.
ثالثاً: تكوين مجلس للتخطيط اللغوي يختص بتقديم النصح لصانعي القرار للنظر في مشكلات تعليم اللغة العربية ونشرها والتعليم باللغة العربية واللغات الأخرى، محلية كانت أو عالمية.
والله ولي التوفيق.
_____________________
د. يوسف الخليفة أبوبكر ( معهد اللغة العربية ـ جامعة أفريقيا العالمية ).
([1]) المزهر في علوم اللغة، السيوطي، ج 1، ص 134، العبارة التي أوردها كالآ تي (ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولاعربيتهم عربيتنا، فكيف بها على عهد عاد وثمود).
([2]) انظر يوسف الخليفة أبوبكر " دور الحرف العربي في اللغات خارج أفريقيا " بحث قدم في ندوة كتابة اللغات الأفريقية بالحرف العربي التي عقدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بمعهد الخرطوم الدولي للغة العربية في 29-31 ديسمبر 2001.
([3]) انظر محمد علي الخولي "الحياة مع لغتين"، ط 1، جامعة الملك سعود، الرياض، 1988، ص17-18 (قدم المؤلف عدة تعريفات لمصطلح "الثنائية اللغوية").
([4]) كاتب هذه الورقة ترجع أصوله إلى قبيلة "البديرية" العربية التي سكنت في منطقة دُنْقلا بشمال السودان وصار لسانها اللغة الدنقلاوية لغة أولى، وأصبحوا يتكلمون اللغة العربية لغة ثانية بالتعليم.
([5]) هنالك محاولات لإيجاد رموز صوتية عربية لكتابة لغات الشعوب الإسلامية. الأولى : أعدها كاتب هذه الورقة وقدمها في الملتقى العربي الأفريقي حول العلاقات بين اللغات الأفريقية واللغة العربية الذي عقدته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في داكار 9-12 أبريل 1984 تحت عنوان (بعض المقترحات لأبجدية صوتية عربية لكتابة اللغات غير العربية). الثانية: هي الرموز التي أعدتها اللجنة الفنية لكتابة اللغات الأفريقية وتبنتها منظمة الإيسيسكو.
([6])انظر UNESCO Intergovernmental Conference on Language policies in Africa (working documents), Harare, 17-21 March 1997, p. 8.
([7]) انظر توصيات مؤتمر الحوار الوطني التي أجازها مجلس الوزراء السوداني عام 1990، التوصية رقم 27 تحت عنوان (التعبير عن التنوع الثقافي)، وفيها تقترح التوصية (اعتبار الحكمة في أن يبدأ الأطفال تعليمهم بلغاتهم الأم دون الاعتذار بضعف قدرة هذه اللغات، أو المجموعات التي تتحدثها، وأن تعبر مناهج التعليم عن التنوع الثقافي لهذه المجموعات الإثنية).
([8]) انظر الخولي (مرجع سابق)، ص 214-217.
---------------
من موقع الإيسيسكو :
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langue_arabe/p20.htm