تعليم العربية لغير الناطقين بها في المجتمع المعاصر: اتجاهات جديدة، وتطبيقات لازمة - د. رشدي أحمد طعيمة

تعليم العربية لغير الناطقين بها في المجتمع المعاصر: اتجاهات جديدة، وتطبيقات لازمة - د. رشدي أحمد طعيمة

مقدمة :
يمثل تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها أحد الأنساق الفرعية للنسق المجتمعي العام سواء أكان المجتمع العربي أو الإسلامي أو العالمي المعاصر. مما يعني انعكاس ما تشهده هذه المجتمعات من تغيرات، وما يصيبها من تحولات، وما يسودها من اتجاهات على مجال تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.. ذلك أن تعليم هذه اللغة شأن المجالات التعليمية الأخرى لا يحدث في فراغ.. فاللغة والثقافة يسيران يدا بيد.
ولاشك أن التحديد الدقيق للتغيرات التي يشهدها المجتمع بدوائره الثلاث (العربي والإسلامي والعالمي)، وأن الفهم الدقيق للتحولات التي تصيبه الآن، ورصد الاتجاهات التي تسوده سوف يسهم في أمرين أساسيين بخصوص تعليم العربية لغير الناطقين بها؛ هما:
أولا : الوقوف على صورة الواقع الذي يشهده هذا المجال، والتعرف على ما في هذه الصورة من إيجابيات وما يشوبها من سلبيات.. وليس الأمر هنا مجرد رصد لواقع، إنما يتعداه إلى الوقوف على الأسباب الكامنة وراء الصورة التي تشكًًًًًًًل بها هذا الواقع، ولقد يساعدنا ذلك نحن المشتغلين بتعليم العربية لغير الناطقين بها أن نتحرر من جلد الذات ومداومة تأنيب الضمير كلما حدثت مشكلة في هذا المجال فعزوناها لقصور منا .. .
ثانيا : استشراف المستقبل الذي يمكن أن يشهده هذا المجال. وليس من الموضوعية ادعاء المبادرة في ذلك. فمستقبل تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها حددته دراسات أخرى، وسبقتنا فيه جهود وأبحاث. ولكن الملاحظ أن كثيرا مما رسمته هذه الدراسات من رؤى لمستقبل تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها لم تصدقه وقائع الأحداث التالية. ولم يظهر ما فيها من قصور إلا عندما نزلت إلى أرض الواقع ودخلت حيز التنفيذ.
والسبب في ذلك بكل وضوح أنها لم تأخذ التغيرات المجتمعية في حسابها، أو على أقل تقدير لم تعطها ما يتناسب معها من أهمية عند التنبؤ بالمستقبل، أو حصرت نطاق حركتها في الإطار التربوي وكأنه منعزل عن السياق المجتمعي العام، أو عالجته بطريقة جزئية غابت معها أبعاد الصورة الكاملة.
من أجل هذا حرصت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ الإيسيسكوـ وهي تستشرف مستقبل العمل الثقافي في إطار رسمها للاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي، حرصت على تحديد الاتجاهات السائدة أو الغالبة في الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي. تقول الاستراتيجية نحتاج لتحديد الاتجاهات لاستخلاص ما يراه المستقبليون من اتجاهات غالبة يطلقون عليها مصطلح " الاتجاهات الثقيلة " للعشرية المقبلة والتي ليست من نسج الخيال أو الرمي بالتنبؤات، وإنما هي نابعة من تحليل دقيق لمسار الواقع الحالي، ودراسة عميقة ومستفيضة لآثاره وتقلباته من الماضي القريب، وإحاطة واعية بالعوامل الكامنة داخله أو المحيطة به أو المفاعلة معه، والمحددة جميعها لشكل تطوره في المستقبل.
إن الماضي كما نقول بعد من أبعاد الحاضر .. والحاضر بعد من أبعاد المستقبل .. ولا بد من معرفة ماضينا في تعليم اللغة العربية، ورصد حاضرنا حتى نستشرف مستقبلنا ... .
الاتجاهات الجديدة :
يمكن تقسيم الاتجاهات مثار الحديث هنا إلى قسمين، ونقسم كل منهما إلى نوعين :
- من حيث أنواع الاتجاهات.. هناك اتجاهات عامة، ويقصد بها الاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تسود المجتمع العالمي المعاصر. وسوف نعالجها على مستويين : المستوى العالمي ومستوى العالم الإسلامي. وهناك اتجاهات خاصة ويقصد بها الاتجاهات الثقافية والعلمية والتربوية المعاصرة، وهذه بدورها تنقسم إلى نوعين : اتجاهات تغطي المجال التربوي بشكل عام. واتجاهات تتعلق بتعليم اللغات الأجنبية بشكل خاص، وإن لم ينفصل الحديث عنهما في هذه الورقة.
- من حيث مصدر الاتجاهات.. سوف نناقش في هذا المجال اتجاهات ورد الحديث عنها في الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي والتي سبق الحديث عنها. واتجاهات تصدر عن رؤى خاصة لنا في ضوء الواقع الذي نعيشه، والتجارب التي مررنا بها والخبرات التي تراكمت بمرور الزمن .. .

والسؤال الذي نحاول الإجابة عنه هنا هو :
* ما أهم الاتجاهات العالمية السائدة على المستويين العام والتربوي مما له تطبيقات في مجال تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها مع التركيز على أبناء الجاليات العربية والإسلامية في الغرب ؟.

الاتجاهات العامة :
(أ) على المستوى العالمي :

1. انتشار مفاهيم العولمة وأيديولوجيتها Globalism وإجراءات العولمة Globalization مثل اتفاقية الجات والشركات عابرة القارات وشبكات الاتصال العالمية والمؤتمرات الدولية مثل قمة الأرض.. ولقد تعدت العولمة نطاق الاقتصاد إلى السياسة والمجتمع والثقافة.. بل لقد أضحت العولمة الثقافية أخطرها.
2. اشتداد الصراع الثقافي وسيادة الثقافة في كل الميادين لأن التحدي الكبير الذي سيواجه العالم في السنوات القادمة هو تحد ثقافي بالأساس، إن النزعة قوية لدى بعض الثقافات لأن تفرض نفسها على غيرها من الثقافات مهمشة إياها، خاصة ثقافات البلاد النامية.
3. الهجرات الدولية وما تحدثه من بزوغ مجتمعات متعددة الثقافة ومتعددة العرق.
4. تفاقم الأمية حيث سيكون واحد من كل أربعة أفراد في العالم أميا، مع التركيز على تلازم الفقر والأمية
5. أثر التكنولوجيات الحديثة مثل الإعلاميات، والبيوتكنولوجية وصناعة المواد والألياف الجديدة وانعكاس ذلك الأثر على ثقافة المجتمع.
6. ازدياد الوعي بحقوق الإنسان والمطالبة بأن يحصل كل إنسان على ما دعت إليه الشرائع السماوية، وما أقرته المواثيق والبيانات المحلية والعالمية، والدعوة إلى التعامل مع الإنسان كإنسان وليس كأداة أو كشيء مثل غيره من الأشياء.. لقد سادت نظرية نشوء الإنسان فترة طويلة من الزمان، انتهكت فيه حقوقه، وصودرت مستحقاته، وخضع حتى في تلبية حاجاته الأساسية إلى ما يريده غيره وليس إلى ما يريده هو.. الإنسان الآن أصبح غاية.. وارتفعت شعارات حقوق الإنسان على مختلف الأصعدة، وشكلت اللجان والهيئات والجمعيات الحكومية والأهلية التي تدعو إلى تطبيق مواثيق حقوق الإنسان وتراقب تنفيذها. ليس معنى ذلك أن الصورة وردية بكاملها وأن الإنسان في هذا المجتمع سعيد بنفس القدر الذي يسعد فيه أخوه في مجتمع آخر.. ولكن الحديث عن حقوق الإنسان على أية حال صار أكثر من قبل وارتفع صوته عاليا.
7. حدوث طفرة هائلة في مجال الاتصال والإعلام أدت إلى :
أ) تعدد القنوات الفضائية وما يعنيه من تعدد المفاهيم والرؤى الثقافية وحرص كل منها على أن يجذب إليه الجمهور مما خلق بينها صراعا أكثر منه حوارا.
ب) الاختراق الثقافي لمفاهيم وقيم وعادات الثقافات والشعوب. فالعالم لم يصبح " قرية كونية " بل تحول إلى " غرفة كونية " على حد تعبير أحد المفكرين .. بل يؤثر صديقي الدكتور محمود أحمد السيد وزير التربية والتعليم بسوريا أن يسميها " فندقا صغيرا " حيث تنتفي مع عالمنا المعاصر قيم القرية وتقاليدها .
ج) تزايد نزعة المقارنة بين المسويات الحضارية عند أبناء الجيل الحالي، وغلبة روح التقليد للحضارة الغربية بماديتها وقيمها مما شكل خطرا أكيدا على قيم هذا الجيل ومستقبله الثقافي.
د) تمركز وسائل الإعلام في أيدي مجموعة صغيرة من البشر وهي المتحكمة في مضمون ما يبث فيها دون السماح لغيرها بالتسلل لهذه الوسائل ..
هـ) تفشي ظاهرة استخدام الإنترنت والتي تعتبر الوجه الآخر للعولمة والقوة الفاعلة لانتشارها. ولقد بلغ عدد مستخدميها في العالم في منتصف عام 2000 أكثر من 250 مليون فرد ويتزايد هذا العدد أسبوعيا بحوالي نصف مليون مستخدم، ولا يمثل عدد المستخدمين في البلدان النامية إلا نسبة قليلة قد لا تتعدى 10% بما فيهم المستخدمون في الوطن العربي.

(ب) على مستوى العالم الإسلامي :

1. اشتداد الصراع من أجل إحكام الطوق على الفرد المسلم والأمة الإسلامية من طرف مناهضي الإسلام من أعداء العدل والحرية.
2. اشتداد الغزو الإعلامي والفكري واللغوي مع تجنيد النخب المستفيدة منه كي تتبنى أصوله وتدافع عن محتواه وتوسع من دائرة خطابه.
3. عودة الفرد والمجتمع داخل الأمة الإسلامية إلى الأصول والتراث، وبحث كل منها عن تأكيد الذات والفرار من سلطان فقدان الهوية.
4. إلحاح الشعوب الإسلامية على الشورى وتوفير مناخ الحرية وسيادة الشرع والقانون والعدل.
5. اشتداد الدعوة للوحدة الإسلامية وانبثاق مؤسسات لصياغة مشروع إنجازها الفعلي والعملي.

الاتجاهات الثقافية والتربوية :

1. تعدد مصادر المعرفة وازدياد القنوات التي يتواصل الفرد فيها مع مراكز العلم والبحث والتي يقف من خلالها على مستجدات العصر مما يفرض سرعة التحرك لمواكبتها وعدم الاعتماد على المعلم وحده أو حتى المدرسة وحدها في تلقي المعرفة وتحصيل العلم، أصبح التعلم الذاتيSelf-instruction ضرورة وليس ترفا. أصبح مصدرا أساسيا من مصادر الأمن وليس مجرد وسيلة للتعلم . نحن في عصر أصبح العلم فيه مدخلا للتقدم وممهدا لطريق الحرية بكل أشكالها.. العلم الآن هو الحرية التي ننشدها والحلم الذي نتوق له.

وليس أمامنا في هذا المعترك إلا أن نأخذ بأسباب التقدم. ويأتي العلم على رأسها.

وفي الوقت الذي تستحيل فيه على المدرسة تعليم الإنسان كل شيء، وفي الوقت الذي تتسارع فيه المستجدات حتى أصبح المستقبل أمام الإنسان غامضا يصعب التنبؤ به.. وفي الوقت الذي تتراكم فيه المعرفة وتتضاعف.. ليس أمام الإنسان إلا أن يعلم نفسه بنفسه.. وليس له في ذلك خيار.
من هنا صارت برامج التعلم الذاتي في تعليم اللغات الأجنبية مطلبا ملحا لكثير من المراكز والمؤسسات.
2. تتبوأ اقتصاديات المعرفة مكانة هامة وأساسية بين غيرها من أشكال الاقتصاد، لقد اشتد الطلب خاصة في العقد الأخير على التعامل مع البرامجsoft-wares والآلات الأجهزة ard-wares التجارة الإلكترونية ومختلف الإمكانات التي تنتج المعرفة أو تيسر تبادلها. ولقد نتج عن هذا :
أ) ربط المعرفة بنتائجها، وما يسفر عن تطبيقها من منتجات.
ب) سرعة التطبيق لما تتفتق عنه أذهان المبدعين في هذا المجال. فلم تعد هناك مسافة بين الفكر والعمل، بين النظرية والتطبيق، بين الأيدلوجي والتكنولوجي.
ج) سن القوانين واللوائح التي تحرم أشكال الاعتداء على حقوق الآخرين في ذلك ( الملكية الفكرية وبراءات الاختراع ..).
د) التزايد المضطرد في إنتاج البرامج الكمبيوترية وغيرها من منتجات المعرفة المحضة، فضلا عن التفنن في توظيفها في عمليات التعلم والتعليم ..
هـ) ظهور ما يسمى بعلم العلم أو ما وراء العلم كما يطلق البعض، وتعميق النظرة إلى الأسس والمنهجيات وليس فقط العائد والمنتجات.
و) اتساع الهوة بين من يملك المعرفة ومن لا يملكها. وما كان لهذا كله أن يمر دون أن تنعكس آثاره على تعلم اللغات الأجنبية وتعليمها.
ز) التكامل بين المعرفة الأكاديمية المتخصصة والمهارات الوظيفية المرتبطة بها مثل التحليل والتركيب والنقد وحل المشكلات والكفاءة التكنولوجية ..
3. زيادة الاهتمام بالبعد الثقافي في تعليم اللغات الأجنبية. العلاقة بين اللغة والثقافة لم تعد محل جدل أو محور نقاش. إنهما كالعملة الواحدة ذات الوجهين. ولقد دفعت وثاقة العلاقة بينهما أن اعتبرت الثقافة مهارة خامسة تصاحب زميلاتها من المهارات اللغوية الأربع؛ الاستماع والكلام والقراءة والكتابة. ومع وضوح ذلك إلا أن بعض برامج تعليم اللغات الأجنبية وكتبها لم تعد تعطي هذا البعد اهتمامه الذي يستحقه؛ حتى دخلنا في عصر العولمة الذي شهد جهودا مكثفة من الدول المتقدمة، وأمريكا على وجه الخصوص، لتهميش الثقافات المحلية والتقليل من شأن الدول النامية والقوميات لحساب قومية عالمية في عالم القطب الواحد ..
والملاحظ أنه على نقيض ما تتمنى الثقافة الأجنبية العالمية الواحدة (الأمريكية) فإن الثقافات المحلية بدأت يشتد عودها وبدأ الإحساس بالذاتية الثقافية يتعاظم لدى الشعوب، واستجمع كل منها ما لديه من قوى لصد التيار القادم. فظهرت الدعوات إلى العودة للذات والترحم على الماضي والتمسك بالتقاليد التي بدأت تتحلل أمام التقاليد الوافدة .. وهذا كله فرض على برامج اللغات الأجنبية أن تعيد نظرتها للثقافة مفهوما وتعليما.
4. ارتفاع مستوى المهارات العقلية والأدائية التي صارت تلزم الإنسان المعاصر ليعيش في المجتمع المعاصر ويتواكب مع اتجاهات التطوير فيه. أصبح على الإنسان كي يضمن له موقعا في المجتمع، ناهيك أن يكون موقعا جيدا، أن يمتلك من مهارات التفكير والبحث والتحليل والنقد ما يؤهله لتحقيق آماله. وليس هذا في نطاق ملكات الإنسان فقط بل تعداه إلى مختلف أشكال الأداء : فلم يعد مجرد إنجاز العمل مطلبا أو غاية، بل أصبحت إجادته والوصول به إلى أقصى ما يستطيع الإنسان من إتقان هو المطلب والغاية. نحن الآن في عصر التميز.. عصر الجودة الشاملة وليس عصر " ليس في الإمكان أبدع مما كان " ولهذا بالطبع انعكاساته على تعليم اللغات الأجنبية .. أصبحت مهارات التفكير الناقد والإبداعي والتأملي والعلمي والتحليلي وحل المشكلات والاستقصاء.. أصبحت هذه كلها موطن الاهتمام في برامج تعليم اللغات الأجنبية ولم يعد الأمر مقتصرا فيها على تعلم نطق كلمات أو تركيب جمل..
5. النظرة التكاملية في تعليم المهارات الإنسانية في مختلف المجالات. لقد سادت حتى وقت قريب نظرية التحليل الدقيق للمهارات والتجزئة لما يقدم فيها من برامج التدريب ومناهج التعليم، وذلك منذ قدم سمبسون وزملاؤه تصورهم للمجال النفسي حركيpsychomotor domain واختلف الموقف الآن. وأصبحت النظرية التكاملية integrative والتحليل الكليmacro في مقابل النظرية التجزيئية والتحليل التفصيليicroـanalysis صار من مكونات عملية تعلم اللغات ما يسمى بتحليل الخطاب discourse-analysis تحليـل الأعراف والـتقاليد الـثـقـافـية والاجتماعية socio-cultural وغيرها من أشكال التحليل الكلي للظواهر. وكان لا بد أن ينعكس هذا على تعليم اللغات الأجنبية بشكل عام وتعليمها لأغراض خاصة بشكل خاص!.
6. تحول الاهتمام من التعليم إلى التعلم. لم يعد محور الاهتمام الآن جهد المعلم في الفصل قدر ما أصبح ما يسفر عنه هذا الجهد عند المتعلم نفسه.. صار المتعلم وما يتوفر لديه من معلومات وقيم واتجاهات ومهارات هو معيار العملية التعليمية الأساسي .. ولقد كثرت البرامج التي تركز على الدور الإيجابي للمتعلم بعد أن كان سلبيا فيما مضى، وفي مجال تعليم اللغات الأجنبية تتعدد برامج تدريس الأقران peer teaching والتدريس التشاركي participatory وغير ذلك من برامج تؤكد على المتعلمين أفرادا وجماعات. لقد حلت النظرية البنائية Constructive في التعلم والتي تؤكد على دور المتعلم وإيجابيته وقدرته على أن يتعلم بنفسه، وعلى قيمة صناعة المعنى meaning making.. حلت هذه النظرية محل النظرية السلوكيةbehavioristic التي كانت تؤكد على نمطية السلوك ووحدة الاتجاه تقريبا (مثيرـ استجابة) وعلى التكرار أساسا في تعلم اللغة ..
7. التقدم الهائـل في أبحاث علم النفـس التربوي خاصة فـي مجال معالجة المعلومات information processing وأنماط التعلم learning styles. لقد جدت في هذه الساحة نظريات كثيرة وظهرت تجارب غيَرت كثيرا مما ألفه الباحثون حول التعليم وآلياته، وما يدور في عقل الإنسان عند تلقي المعلومات وآليات اكتساب اللغة الأجنبية وغير ذلك من أفكار ونظريات تزخر بها الكتب الحديثة في علم اللغة النفسي. وكان لابد أن ينعكس هذا على طريقة تدريس اللغة داخل الفصل.
8. التقدم الهائل أيضا في دراسات الشخصية والتجارب التي عالجت القضايا المختلفة الخاصة بالنمو الإنساني والتي أجمع الكثير منها على أن البعد وجدانيaffective domain من أكثر الأبعاد أهمية في تعلم الإنسان. ليس فقط في تلقي المعرفة وإنما في إنتاجها. الإنسان تحكمه عواطف وميول واتجاهات وقيم. ولقد كان من المتوقع أن تتزامن مع هذه النظريات نظريات أخرى في تعليم اللغات الأجنبية تركز على البعد الوجداني في تعلمها وتعليمها. فصرنا نسمع عن التدريس الوجداني affective teaching للغات الأجنبية والتدريس التأمليreflective والتدريس التفاعلي interactive والمدخل الإنساني humanistic approach والمدخل الكلي holistic والتدريس الإرشاديcounselling وصار الاهتمام بالمتعلم كإنسان.
9. تنوع أساليب التقويم، فلم تعد المدارس والمعاهد والجامعات أسيرة للاختبارات التحصيلية أو الأشكال التقليدية التي يقاس بها مدى تقدم الطالب. صار هناك اهتمام بالتقويم الذاتي Self-assessment ، وتقدير الحاجات needs-assessment والسجل التقويمي portfolio، فضلا عن شمول التقويم وتغطية مختلف جوانب التقدم عند الفرد بما في ذلك قراءاته الخارجية، وميوله واهتماماته المتجددة، وثقافته العامة وغيرها.
ولهذا بالطبع مردوده في برامج تعليم اللغات الأجنبية، ووجد طريقه سهلا. فتعددت الكتابات حول التقويم الذاتي والسجل التقويمي في هذا المجال.

التطبيقات اللازمة :
مقدمة :
الاتجاهات الجديدة السابقة سواء ما كان منها عاما يتعلق بالأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، أو ما كان منها خاصا يتعلق بالتربية والثقافة تفرض نفسها على برامج تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.. وما كان يمكن أن تظل هذه البرامج تدور في فلك التدريب الآلي على مهارات اللغة والصياغة التقليدية لهذه المهارات.
إن سببا من الأسباب الرئيسية للعزوف عن هذه البرامج هو ثباتها على الحال الذي بدأت به منذ ما يزيد على ربع قرن من الزمان عندما بدأت المعاهد تتسابق على تعليم العربية لغير الناطقين بها في البلاد العربية.. .
وإن سببا آخر من هذه الأسباب يكمن في إحساس بعض الدارسين أن العربية وتعلمها أصعب بكثير من تعلم غيرها.. وفي الحقيقة فإن الصعوبة لا تكمن في اللغة ذاتها قدر ما تكمن في الأساليب التي تدرس بها.
آن لنا إذن أن نعيد النظر في كل ما نقوم به ونحن نعد برامج تعليم العربية أو نؤلف كتبها.

والسؤال الآن هو : ما الذي تفرضه الاتجاهات الجديدة السابقة من تطبيقات في مجال تعليم العربية لغير الناطقين بها، خاصة لأبناء الجاليات العربية الإسلامية في الغرب ؟.
التطبيقات إذن فيما يتبقى من هذه الورقة تطبيقات عامة، إلا أن الاهتمام الأكبر سوف يكون لأبنائنا العرب والمسلمين في المجتمعات الغربية.

(أ) العولمة الثقافية :
ليست العولمة مجرد نظام اقتصادي، بل هي أيضا نظام فكري يمتد ليشمل مختلف قطاعات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية وإن لم تكن أيدلوجيا واضحة المعالم مكتملة القسمات، ولئن كانت ثقافيا تستهدف تهميش ثقافات الشعوب وسيادة ثقافة عالمية واحدة، وهي الأمريكية بالطبع، فهي في الوقت ذاته فرصة لأن تظهر الشعوب تميزاتها الثقافية، وأن تبرز خصوصياتها الحضارية وإبداعاتها حتى لا يتحقق للعولمة بمفهومها السلبي ما تنشده من هيمنة ثقافية واختراق للثقافات الأخرى، وإفقار لها.

ولعل من المفيد هنا أن نذكر المادة الأولى التي جاءت في إعلان المبادئ سنة 1966 المنبثق من المشروع الذي احتضنته اليونسكو " الفهم المتبادل للقيم الحضارية للشرق والغرب " والذي استمر خلال عـقد مــن الزمــان (1957، 1966). يقول الإعلان في مادته الأولى :
أ) كل حضارة لها اعتبارها وقيمها التي يجب المحافظة عليها واحترامها.
ب) كل شعب له الحق وعليه واجب تنمية حضارته.
ج) كل الحضارات بكل ما فيها من تنوع واختلافات عميقة وتأثير متبادل على بعضها البعض جزء من الإرث العام للبشرية.
وإذا كان هذا ما أقرته اليونسكو عام 1957، أي منذ ما يدنو من نصف قرن من الزمان، فأحرى بنا أن نؤكد عليه الآن وأن نسأل أنفسنا، ماذا يمكن لبرامج تعليم العربية لغير الناطقين بها أن تقدم في هذا الإطار؟ وكيف لها أن تعرِِِف الآخرين بثقافتنا؟ وكيف تساعد المسلمين منا (من غير الناطقين بالعربية) على المحافظة على تراثنا وتحصين هويتنا وغرس الثقة بإمكانياتنا في سياق الحضارة العالمية المعاصرة؟.
ماذا يعني ذلك ونحن نخطط لبرامج تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ؟ يعني كلا من :
أ‌) التوسع في نشر اللغة العربية، ودعم كافة الجهود التي تبذل في ذلك سواء على مستوى العالم العربي أو الدول الإسلامية أو الجاليات العربية والإسلامية في الغرب ..
ب‌) تعزيز الثقة باللغة العربية والاعتزاز بها، خاصة في برامج تعليم العربية لأبناء الجاليات العربية والإسلامية في الغرب. ذلك أن اهتزاز الشخصية لغويا هو اهتزاز لوجودها برمته.
ج) الدراسة العلمية لاهتمامات الأجانب نحو الثقافة العربية الإسلامية ومراجعة المحتوى الثقافي الذي تقدمه برامج تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وكذلك ما تشتمل عليه الكتب والمواد التعليمية في هذا المجال. ولنأخذ في الاعتبار أن اهتمامات الأجانب بثقافتنا وحاجتهم إلى تلقيها ونظرتهم إليها قد تختلف، وهي بالفعل تختلف، عن اهتماماتنا وحاجاتنا ونظرتنا بصفتنا أصحاب هذه الثقافة. إن الأجنبي يهتم بثقافتنا انطلاقا من حاجاته الثقافية لا من حاجاتنا نحن.
د‌) مراجعة المفاهيم الثقافية والأنماط الحضارية التي تشتمل عليها كتب اللغة العربية خاصة ما يقدم منها لأبنائنا في المجتمعات الأجنبية. إن ثمة قيما جديدة تفرض نفسها ونحن نعلم أبناء الجاليات العربية الإسلامية وهي قيم ينبغي أن تأخذ مكانها ونحن نختار المحتوى الثقافي في كتب تعليم اللغة العربية لهم .
هـ) إن مما ينبغي أن تحرص عليه كتب اللغة العربية لأبناء الجاليات العربية والإسلامية في الغرب ما يلي:
1. تنمية اعتزاز الدارسين بالانتماء للثقافة العربية الإسلامية وتمكينهم من التصدي لمحاولات تهميش هذه الثقافة.
2. تقدير التراث العربي الإسلامي ودور الحضارة الإسلامية في بناء الحضارة الإنسانية على مدى التاريخ.
3. تحقيق التواصل بين الشعوب الإسلامية، وتأكيد قيمة الحوار مع الآخر والانفتاح على الشعوب الأخرى والتعايش بينها.
4. تنمية اتجاهات الطالب نحو احترام ثقافات الآخرين وإن لم يقبلها.
5. تنمية الاعتزاز بالثقافات المحلية للشعوب الإسلامية بما لا يتعارض مع قيم الإسلام ومبادئه.
6. الإيمان بمنطق الاختلاف بين الثقافات وتنوعها " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " .
7. تأكيد القيم الإنسانية العامة التي تدور حول الفرد كإنسان، واحترام حقوق الإنسان بمختلف أشكالها.
8. احترام إرادة الشعوب في تقرير مصيرها.
9. رفض أشكال الاستلاب الثقافي، والانبهار بالثقافات الأجنبية التي تتنافى مع قيم الإسلام وثقافته
10. تأكيد قيم التسامح في الإسلام وتدعيم الإحساس عند الطالب بنبذ الإرهاب ورفض كل أشكال التطرف.
11. تنمية اتجاهات الطالب نحو التذرع بالمعرفة دائما والسعي الجاد نحو الحصول عليها وتلمسها في مظانها الأصلية.
12. تأكيد قيمة المنهج العلمي في معالجة القضايا وأشكال التفكير والتدرب على النظرة الموضوعية التي يتخفف الإنسان فيها من أهوائه ونزعاته الذاتية.
13. تقدير كل أشكال التقدم التكنولوجي والاستعداد للأخذ بأسباب الحضارة المعاصرة بما لا يتعارض مع ثقافتنا العربية الإسلامية.
14. تأكيد قيمة التقوى كأساس للتفاضل بين الناس، والبعد عن كل أشكال التعصب للجنسيات والمذاهب، والتريث في إصدار الأحكام وإطلاق التعميمات في وصف سلوكيات الآخرين من ثقافات مختلفة.
15. تدعيم ثقافة الشورى وتأكيد الديمقراطية كقيمة، ودعم ممارستها كأسلوب حياة وليست فقط كنظام سياسي أو قانوني.
16. تأكيد دور مؤسسات تنمية القيم في حياة المسلم المعاصر، وعلى رأسها المسجد والأسرة والمدرسة.

(ب) حقوق الإنسان :

من الموضوعات التي تزخر بها أجهزة الإعلام وتدور حولها المؤتمرات وتعقد الندوات حقوق الإنسان. ولئن اختلفت الدوافع الكامنة وراء الحديث عنها سواء من يحرص عليها بحق، أو من يستعملها سلاحا، فهي واقع يفرض نفسه، ويفرض بالتالي على برامج العربية لغير الناطقين بها أن تستجيب له.
ولعلنا بداية نقف عند العلاقة بين حقوق الإنسان وتعليم اللغة بشكل عام . ويحضرنا في هذا السياق ما ورد في مشروع إطار العمل المتكامل بشأن التربية من أجل السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية والذي أقرته الدورة الرابعة والأربعون للمؤتمر الدولي للتربية في جنيف (3/8 أكتوبر 1994) ورد فيه تحت المادة 19 ما نصه :
إن برامج القراءة والتعبير الشفهي والتحريري تلعب دورا أساسيا في تطوير التربية من أجل السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية، وينبغي تعزيزها إلى حد كبير. ذلك أن إتقان القراءة والكتابة والكلام يؤهل المواطن للانتفاع بالمعلومات والفهم الواضح للظروف به والتعبير عن احتياجاته، والمشاركة في أنشطة البيئة الاجتماعية، كما أن تعلم اللغات الأجنبية يتيح فرصة التعمق في فهم ثقافات أخرى، ومن إرساء تفاهم أفضل فيما بين المجتمعات وفيما بين الشعوب. ويمكن أن يكون برنامج اليونسكو بشأن " تعليم اللغات من أجل السلام (Linguapax) مثالا يحتذى في هذا الصدد.
ولقد سبق للمؤتمر الدولي المعني بالتربية من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية والذي انعقد في مونتريال بكندا في مارس سنة 1993، أن وضع خطة بعنوان " خطة العمل العالمية للتربية من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية وورد في رقم 6 تحت أهم طرق العمل ما نصه"، المراجعة المنظمة للكتب المدرسية بهدف تخليصها من القوالب الجاهزة stereyotypes ذات العلاقة بعداء الأجانب والعنصرية والحيف الجنسي وما إليها ". وبالطبع يشمل هذا كتب تعليم اللغات الأجنبية. وفي مجال تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها يلزمنا :
1. مراجعة كتب تعليم اللغة العربية خاصة في المستويين المتوسط والمتقدم حيث يرتفع مستوى موضوعات القراءة ويشغل تعليم الثقافة العربية حيزا كبيرا. ونستهدف من هذه المراجعة التأكد من موضوعية الصورة التي تقدمها هذه الكتب عن الآخر، والتحرر من الصور النمطية التي تتكون مسبقا عن ثقافات الشعوب الأخرى .. ولئن كانت الموضوعية تمثل التوجه العام في هذه الكتب إلا أن الحاجة لمثل هذه الدراسة مازالت قائمة وتشتد إليها الحاجة خاصة في هذه المرحلة.
2. إجراء دراسة حول كيفية معالجة كتب اللغة العربية لحقوق الإنسان، باستخدام أسلوب تحليل المحتوى.
3. الانطلاق من التحديد الدقيق لحاجات الدارسين في تعلم اللغة العربية وتصميم البرامج المناسبة لإشباع هذه الحاجات وعدم التعامل معهم كما لو كانوا جمهوراً واحداً ذا خصائص مشتركة. وفي هذا كما نعلم تطبيق عملي لمبدأ مراعاة الفروق الفردية الضرورية بين الدارسين، فما يصلح لهؤلاء قد لا يصلح لأولئك.
4. الالتفات إلى الفئات ذات الحاجات الخاصة. إن المتفحص لخصائص الجمهور في بعض برامج تعليم العربية لغير الناطقين بها لا يعدم أن يجد من هؤلاء الجمهور دارسين يندرجون تحت مسمى ذوي الحاجات الخاصة. فمنهم من هو أمي في لغته الأولى فلا يعرف القراءة والكتابة، واضطرته ظروف العمل في الدول العربية أن يتعلم اللغة العربية .

ومنهم من توفر له تعليم رسمي محدود في بلده ولم يكمل دراسته ثم هاجر إلى إحدى دول الخليج وانخرط في برنامج لتعليم اللغة العربية. ولا شك أن إجادة تعليم اللغة الثانية تعتمد إلى حد كبير على مدى إجادة الفرد لغته الأولى. ومنهم من تكمن وراءه خلفية ثقافية تختلف جذريا عن ثقافة اللغة العربية كأن يكون وثنيا من إحدى قبائل الهند أو الصين أو غيرها. ومنهم من تحيط به ظروف عمل صعبة أو يعاني من بعض أشكال الاضطهاد السياسي أو الوظيفي. وأخيرا منهم من لديه شكل من أشكال العجز يضمه إلى طائفة المعوقين.. وكل هذا الصنف من جمهور الدارسين في برامج تعليم اللغة العربية يفرض عليها الالتفات إليه. وإعداد ما يلزم كل صنف من هذا الجمهور ما يساعده على تخطي مشكلته.. إن الفئات ذات الحاجات الخاصة أفراد في مجتمع. وعلى المجتمع ألا يحرمهم حق التعليم أيا كانت طبيعته. ولا ينبغي أن يضيع حق الفرد أمام تيار الجماعة.
5. توزيع مراكز تعليم العربية لغير الناطقين بها جغرافيا حتى تغطي مناطق واسعة تسمح لأكبر قطاع من الدارسين للالتحاق بها . فضلا عن الاعتدال في طلب رسوم الالتحاق بهذه المراكز حتى يسمح لمختلف شرائح المجتمع من الالتحاق بهذه المراكز.

إن من بين أولياء أمور أبناء الجاليات العربية والإسلامية في الغرب من يعمل في مستويات متدنية من السلم الوظيفي ويكادون يحصلون منها على حاجاتهم الأساسية، فكيف تلبي حاجات تعلم العربية بين أولادهم .؟ وأنى لهم أن يأتوا برسوم المدارس العربية هناك؟.
6. الاهتمام بطرائق التدريس التي تركز على المتعلم وتراعي الفروق الفردية بين المتعلمين مثل أساليب التعليم الإفرادي Individualized instruction والتعلم الذاتي وغيرها.
7. يرتبط بما سبق ضرورة أن تتوفر عند معلم العربية لغير الناطقين بها مجموعة من الاتجاهات الإيجابية نحو التعلم بشكل عام ونحو طرائق التدريس السابقة بشكل خاص. وأن يحترم الدارس كإنسان له حق التعلم، وعلى المعلم واجب تعليمه. إن على المعلم كي ينجح في أداء دوره في مثل هذه الطرائق أن :
أ) يتقبل تكليف الدارس بمسؤوليات اتخاذ القرار.
ب) يعبر عن التزامه بتحقيق الأهداف.
ج) يساعد الدارس على التخلص من الشعور بالنقص أو عدم القدرة على التعلم.
د‌) يرفع من مستوى دافعية الدارس للتعلم.
هـ) يشجع الدارس على أن يكون عند حسن ظنه فيتحمل أمامه المسؤولية ويتحرك بإيجابيه.. .
و‌) يحرص على إظهار إنتاجية واضحة.
8. الاهتمام ببرامج تعليم العربية لأغراض خاصةArabic for Special Purposes تلك التي تصمم لكل جمهور على حدة في ضوء حاجاته. وهي بالطبع تختلف عن برامج تعليم العربية للحياة.

(ج) التقدم التكنولوجي :
لم يشهد التاريخ مرحلة تتضاءل فيها المسافة بين العلم والتكنولوجيا مثلما شهد في هذه المرحلة. فما أن تنتهي التجربة في مختبرات العلماء حتى تجد سبيلها للتنفيذ، خاصة في مجال الاتصال. وتتعدد أساليب الاتصال وتقنياته سواء في مجال الإعلام أو مجال التعليم أو في مجال الاتصال الشخصي. فهناك القنوات الفضائية وهناك شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) وهناك شبكات المعلومات الداخلية Intranet وغيرها كثير.

وهناك التقنيات التعليمية الحديثة.. كل هذا يفرض نفسه على برامج تعليم العربية لغير الناطقين بها. من ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1. ضرورة تحديث أساليب تعليم اللغة العربية وتوظيف التقنيات الحديثة في ذلك. فتتطور الوسائل السمعية والبصرية ويصبح لها موقع في برامجنا، وتعد برامج لتعليم العربية عبر القنوات الفضائية.
2. التفكير في إنشاء قناة فضائية لنشر اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية، وتتحمل تكاليفها المنظمات العربية والإسلامية.
3. تصميم برامج تعليم العربية عن بعد distance learning ورصد الإمكانات المادية اللازمة لعدد من هذه البرامج الموزعة على عدد من المناطق في ضوء الدراسة العلمية لتجمعات المهتمين بتعليم العربية.
4. رصد أشكال الهجوم التي تتعرض لها اللغة العربية والثقافة العربية والإسلامية عبر القنوات الفضائية المعادية ووضع البرامج التي تتصدى لها.
5. مراقبة الأداء الإعلامي للمذيعين العرب من حيث سلامة اللغة التي ينطقونها ودعوة أجهزة الإعلام في الدول العربية المختلفة لأن تدقق في اختيار المذيعين من حيث كفاياتهم اللغوية وتنظيم دورات لغوية مستمرة لهم. إن خطورة الأداء اللغوي الخاطئ لا تقتصر على المشاهد العربي وحده بل تتعداه إلى غيره ممن يتعلم العربية كلغة أجنبية.
6. التوسع في استخدام أجهزة الإعلام الحديثة والتقنيات المتطورة لإعادة موقع اللغة العربية في الدول التي بدأت تنحسر فيها. ففي دراسة جيدة حول الجامعة الأفريقية كشركة متعددة الجنسيات يقول علي المزروعي "مع أن اللغة العربية أكثر اللغات انتشارا في القارة الأفريقية إلا أن هذه اللغة لم تحظ باهتمام يذكر في المناهج التعليمية الأفريقية جنوب الصحراء، بل إنها لم تجد اعترافا حتى من الأقطار المحاذية للمناطق المتحدثة بالعربية أومن الأعداد الكبيرة من المسلمين القاطنين في تلك الأقطار، ويبلغ عدد الجالية الإسلامية في نيجيريا ملايين إضافة إلى ملايين أخرى تسكن الأقطار المحاذية لها، ومع ذلك فقد فضلت الجامعات النيجيرية الدراسات اللاتينية والإغريقية على الدراسات العربية". وليس الأمر مقتصرا على ذلك بل إن هناك جهودا تبذل الآن وبضراوة شديدة لإقصاء المسلمين في أفريقيا عن تعلم اللغة العربية وتشجيع تعلم اللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية ويلقى هذا دعما حتى من بعض الحكومات.

ولقد بلغت الحرب ذروتها عندما بدأت بعض اللغات الأفريقية تتحول عن الحرف العربي الذي كانت تكتب به إلى الحرف اللاتيني كالسواحيلية مثلا.. .
7. ولقد آن للمسئولين عن نشر العربية وثقافتها أن يبذلوا مزيداً من الجهد، ويرصدوا مزيداً من الإمكانات ويواكبوا التقدم التكنولوجي في مواجهة هذه الحملات.

(د) علم النفس الحديث :
ينبغي مواكبة أشكال التقدم المتسارع في مجال علم النفس. ومما يمكن لبرامج تعليم العربية لغير الناطقين بها القيام به ما يلي :
1. متابعة المستجدات في مجال علم النفس المعرفي والتفكير في التطبيقات المناسبة لنتائج البحث العلمي في هذا المجال والعمل على مواكبة أساليب تعليم اللغة العربية للاتجاهات الجديدة في علم النفس بشكل عام وفى الدراسات المعرفية وأنماط التعلم بشكل خاص.
2. لم يعد مقبولا الآن ونحن نعالج قضايا تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها أن نقتصر على ما يسفر عنه البحث العلمي في مجال المناهج وطرق التدريس أو حتى في مجال الدراسات اللغوية متجاهلين مجال الدراسات النفسية. ولئن كنا قديما نستضيء بأبحاث علم النفس اللغوي أو علم اللغة النفسي على ما بينهما من فروق دقيقة، فإننا اليوم أحوج إلى متابعة حركة البحث العلمي في هذا المجال. ومنذ أكثر من ربع قرن من الزمان ألفـت الخبيرة العالمية في تعليم اللغات الأجنبية ولجا ريـفرزWilga Rivers, The Psychologist and Foreign Languege Teaching علم النفس وتعليم اللغة الأجنبية.

ولفتت الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بالدراسات النفسية وتطبيق نتائجها في مجال تعليم اللغات الأجنبية. ولقد أثار هذا الكتاب ما أثار وتوالت بعده دراسات في علم النفس اللغوي وتطبيقاته في تعليم اللغات الأجنبية مما يعد مؤشرا لاتجاهات حديثة في تعليم هذه اللغات، وما زال ميدان تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها بمنأى عن هذا كله إلى حد كبير!.
3. ضرورة تدريب العاملين بمراكز تعليم اللغة العربية على استخدام الأدوات والاختبارات والمقاييس التي تساعد على التحديد الدقيق للحاجات اللغوية عند الدارسين وأنماط التعلم السائدة بينهم، واستعداداتهم لتعلم اللغات الأجنبية وتوقعاتهم منها. وغير ذلك من جوانب تعد مؤشرات لازمة تصمم في ضوئها برامج تعليم اللغة بمختلف عناصرها أهدافا ومحتوى وطرق تدريس وتقويم. وهذا لا يتحقق بالطبع إلا إذا توفرت هذه الأدوات والاختبارات والمقاييس. وهذا أيضا يستلزم من مراكز ومعاهد تعليم اللغة العربية أو كليات إعداد معلميها وخبرائها ما يلي :
أ) الحصول على نسخ من هذه الأدوات الأجنبية المقننة وتوفيرها في مراكز تعليم اللغة العربية. فقد يكون من بين الدارسين في المستوى المبتدئ خاصة من يصلح معه هذه الأدوات.
ب) مراجعة المحتوى الثقافي لهذه الأدوات الأجنبية قبل تبنيها خاصة في البلاد العربية والإسلامية وإجراء التعديلات اللازمة لها مما يجعلها مناسبة لثقافتنا العربية الإسلامية أو على الأقل لا تعارض معها.
ج) البدء في إعداد مجموعة متنوعة من هذه الأدوات والاختبارات المقاييس خاصة لبرامج تعليم العربية لغير الناطقين بها وتشجيع مراكز البحث العلمي على تقنينها حتى تساعد على تطوير الأداء في هذه البرامج. ذلك أن الاقتصار على هذه المقاييس والاختبارات يمثل أحد الأسباب الرئيسة المعوقة للتطوير المستمر.
4. توجيه مزيد من الاهتمام للجانب الوجداني في تعليم اللغة العربية. وعدم الاقتصار على الجانب المعرفي Cognitive والمهاري Psychomotor وترجمة هذا الاهتمام في مختلف جوانب العملية التعليمية سواء من حيث الأهداف أو المحتوى أو طريقة التدريس أو التقويم.
5. إجراء مزيد من الدراسات حول البعد الوجداني في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في محاولة لصياغات إجرائية للأهداف الوجدانية لتعليم العربية، وكذلك أساليب تحقيقها وطرق قياسها. إن الجانب الوجداني ظل ومازال إلى حد كبير، مفتقرا إلى المعالجة في برامج تعليم العربية لغير الناطقين بها. ولعل من أسباب ذلك صعوبة التحديد الإجرائي لمفاهيمه قياسا لما يحظى به الجانبان الآخران: المعرفي والمهاري .
6. بذل مزيد من الاهتمام للاتجاهات والقيم والميول والدوافع وسمات الشخصية وغيرها من جوانب وجدانية تعد مقوما أساسيا من مقومات نجاح أي برنامج لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.
7. الاهتمام بتحديد أساليب التعلم بين الدارسين وطرق معالجة المعلومات عندهم وتصميم البرامج التي تراعى هذه الأساليب والطرق حتى نضمن تعلما أسرع وأكفأ للغة العربية.
8. الوقوف على المستجدات في مجال تدريس اللغات الأجنبية من حيث استراتيجيات التدريس ومداخله مما يعتمد أساسا على الجوانب الوجدانية في تعليم هذه اللغات مثل الطريقة الإيحائية Suggestopaedia والمدخل الإنساني Humanistic applroach وطريقة الاستجابة الحركـيـة الـكـلية Total Physical والـمدخـل التفاعلي approach Interactive وغيرها من استراتيجيات ومداخل والعمل على ترجمتها في برامج تعليم العربية لغير الناطقين بها.

(هـ) التكامل والإبداع :
من أهم ما يشيع في ميدان التربية المعاصرة مما يختص بتعليم المهارات اتجاهان:
1. الدعوة إلى ارتفاع مستوى المهارات العقلية والأدائية التي يجب تعليمها للدارسين على مختلف المستويات سواء في تعليم اللغة أو غيرها وسواء في تعليمها للناطقين بها أو لغير الناطقين بها. ذلك أن التقدم التكنولوجي المعاصر لم يعد يناسبه متعلم اقتصر تعليمه وتدريبه على المستويات الأدنى من المجال المعرفي مثلا.
2. النظرة التكاملية بين المهارات والشمولية في تناولها. ولقد تعرضت الأهداف الإجرائية السلوكية لتيار شديد من النقد مصدره اتهام هذه الأهداف بالنظرة التجزيئية للسلوك الإنساني.

ولهذا ترجمته في برامج تعليم العربية لغير الناطقين بها كالتالي:
1. ينبغي مراجعة تعليم العربية وكتبها سواء أكانت كتبا دراسية مقررة أم كتبا للقراءة الموسعة، والتأكد من أن التدريبات بها لا تقف عند حد المستويات الأدنى من الجانب المعرفي وإنما تتعداه إلى المستويات العليا (تطبيق/ تحليل/ نقد / تقويم).
2. النظرة إلى تعليم العربية لغير الناطقين بها على أنه عملية إبداعية وليست آلية ميكانيكية بحتة، تعتمد على النظرية السلوكية القديمة (مثيرـ استجابة).. إن اللغة إبداع وينبغي أن يستهدف تعليمها إنتاج مبدعين يتفننون في استخدامها ويجيدون التعامل معها ومراعاة القيم الجمالية في الأداء اللغوي وليس مجرد توصيل الرسالة.. ولعل هذا يأخذ موقعه في المستويين المتوسط والمتقدم أكثر من المستوى المبتدئ.
3. التفكير في تطبيق معايير الجودة الشاملة Total Qualit Assurance في مراكز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. إن للإيزوISO معايير كثيرة في المجال التربوي ينبغي الالتفات إليها وتطبيقها في معاهد ومراكز تعليم اللغة العربية حتى نرتفع بمستوى مؤسسات تعليم هذه اللغة.
4. التفكير في إنشاء رابطة دولية لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها يكون من مهـامها الاعــتـراف بمـراكـزها ومنحها الاعتماد المطلوبAccreditation حتى لا يتسلل إلى هذه المهنة كل من لا مهنة له!
5. الـبـدء في إعـــداد بـرامـــج مـتـنـوعـة لـتـعـلـيـــم اللـغـــة الـعـربـيـــة لأغـــراض أكـاديـمـيـــة Arabic for Academic Purposes تصلح للدارسين في الكليات والمعاهد والجامعات التي تتطلب إجادة العربية كمتطلب سابق للدراسة الأكاديمية المتخصصة.
6. اعتبار مهارات الدراسة جزءا لا يتجزأ من مهارات الاتصال اللغوي التي يجرى تعليمها للدارسين. إن من الملاحظ أن عددا من الطلاب الآسيويين والأفارقة الذين يدرسون في معهد البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف يفتقرون إلى هذه المهارات بشكل ملحوظ.

ولقد يتصور البعض أن تنمية هذه المهارات مهمة مناهج التعليم العام في بلادهم قبل ابتعاثهم إلى دولة عربية. وهذا إلى حد كبير صحيح. إلا أن الواقع غير ذلك. ولاشك أن القصور عند الدارسين في مهارات الدراسة ينعكس بدوره على تعلمهم العربية. إذ تستلزم أنشطتها وتدريباتها توفر هذه المهارات حتى نضمن لها النجاح.
7. التأكيد على تعليم اللغة وفق المدخل التكاملي approach Integrative وتوظيف أساليب المدخل متعدد الأبعاد في تعليم اللغةMultidi mensional إن اللغة كل متكامل ولا يجرى تقسيمها إلى فنون أربعة (استماع، كلام، قراءة، كتابة) إلا لأغراض تعليمية بحتة. ولا ينبغي الانسياق وراء دعوات التجزئة في تعليم مهارات اللغة العربية، ولقد صادف الكاتب في أثناء جولاته بالولايات المتحدة الأمريكية جمهورا من المسلمين غير الناطقين بالعربية الذين يعارضون تعلم مختلف المهارات اللغوية قاصرين جهدهم على تعلم القراءة لمدارسة القرآن الكريم فقط ! هم، كما يقول بعضهم ليسوا في حاجة لتعلم الاستماع أو الكلام أو الكتابة إلا بما يخدم قراءة القرآن الكريم وحسب.. ومع جلال الهدف وعظمة الغاية وهى الاتصال بكتاب الله العزيز إلا أن هذه الرؤية قاصرة. فإجادة الاستماع والنطق والكلام مطلب أساسي وسابق لإجادة القراءة. إن صحة القراءة تعتمد على صحة الاستماع. ومن ثم فإن تجويد القرآن الكريم يستلزم تعلمه على يد شيخ يدرب الدارسين عليه ويقدم لهم النموذج الذي يحتذى، والأداء الجيد الذي تلزمه تلاوة هذا الكتاب الكريم. هي إذن عملية تكاملية لا يمكن فصل مهارة منها عن الأخرى.

(و) تعليم العربية للجاليات :
إن المشكلة تكمن في صعوبة التنبؤ بمستقبل أبناء الجاليات العربية والإسلامية في الغرب حيث يتضاءل بمرور الوقت وزن الثقافة العربية الإسلامية المحيطة بهم وينكمش بفضل متغيرات كثيرة يصعب التحكم فيها.. في الوقت الذي يشتد فيه عنف المناخ الثقافي المقابل وطغيانه في حياتهم.. فالمحيط الذي هم فيه لا يستخدم إلا لغة البلد الذي يعيشون فيه ـ ويستلزم ذلك منا :
1. الالتفات للنابهين من أبناء هذين الجيلين ورعاية المتفوقين منهم والمتميزين ثقافة ولغة (العربية والأجنبية) وسلوكا، ووضع خطة لرعايتهم رعاية خاصة لتكوين نخبة جديدة في دول المهجر تجيد التواصل مع أبناء هذه الدول، وتوظف خبراتها اللغوية والثقافية في نشر الإسلام واللغة العربية بلغة أبناء هذه الدول وبمنطقهم. وبذلك نضمن سلامة المفاهيم الثقافية وصحة الأداء اللغوي وإخلاص الجهد وأخيرا توطين الدعوة.
2. التفكير في مختلف الأساليب التي تستثير دافعية أبناء هذين الجيلين لتعلم العربية.

إن الآباء في هذه البلاد يشكون مر الشكوى من قلة دافعية بعض أبنائهم لتعلم العربية حيث لا يجد مبررا لذلك. والاتصال يجرى معهم باللغة الأجنبية وحاجاتهم تقضى بدون الحاجة للعربية أو غيرها ! بل إن بعض الآباء يشكون من مهاجمة أبنائهم للغة العربية ووصفها بأردأ الصفات مقارنة باللغة التي يستخدمونها في بلاد المهجر وليس هذا مقام التفصيل في ذلك. إلا أن الذي يمكن القطع به هو أن مسؤولية الوصول إلى ذلك المستوى لا تقع على الأبناء وحدهم قدر ما تقع على الآباء وعلينا نحن المشتغلين بتعليم العربية.
3. إشاعة المناخ اللغوي الصحيح الذي ينمي عند التلاميذ مهارات اللغة العربية. ولعل أفضل البرامج في هذا الشأن برامج الاندماج اللغوي Immersion language programs والتي فيها يحاط التلميذ من كل جانب باللغة العربية منذ أن تطأ قدمه المدرسة العربية أو المركز الإسلامي. إن مما يبعث على الدهشة أن تدخل مدرسة عربية في أمريكا أو انجلترا فتجد جميع اللافتات بالإنجليزية، وتلقى جميع التعليمات للتلاميذ سواء في طابور الصباح أو عند التجمعات بالإنجليزية، وتشرح الصور والملصقات بالفصول بالإنجليزية،وتعطى الشهادات بالإنجليزية. بل وتعَلم اللغة العربية بالإنجليزية! فأنى للتلاميذ أن يألفوا العربية أو يقبلوا عليها ؟.
4. الاهتمام بالنشاط اللاصفّي في المدارس العربية فهو فرصة لجمع شتات هؤلاء التلاميذ والتأليف بينهم على اختلاف ثقافاتهم الوطنية وإشاعة جو من الإخاء الإسلامي بينهم وتوفير فرص استخدام اللغة العربية بينهم.
5. قبول مبادرات هؤلاء التلاميذ ما دامت صحيحة ولو خالفت ما توقعه المعلم فلقد يكون أحد التلاميذ ذا والدين عربيين يتوليان تعليمه العربية في البيت. ولقد يكون مستوى هذا التلميذ في العربية أجود من معلمه. ومن ثم يبتغى التريث في الاستماع للتلاميذ وعدم التسرع في تخطئتهم إلا بعد التأكد من صحة ما يراه المعلم.
6. توثيق العلاقة بين الآباء والمعلمين وتكوين المجالس التي تجمع بينهم، والحرص على إطلاع الآباء على مستويات تحصيل أبنائهم في المواد الدراسية ومنها اللغة العربية (تستخدم إحدى المدارس العربية في بوسطن الانترنت لرصد درجات التلاميذ في الامتحانات وتوصيل رسائل لأولياء الأمور).

(ز) الأصول الثقافية :
الأخذ في الاعتبار ما بين الجاليات العربية والإسلامية في المجتمعات العربية من تفاوت في الأصول الثقافية. إن من الخطأ اعتبار هذه الجاليات جميعها موحدة الثقافة استنادا إلى وحدة العقيدة. ومع ذلك فإن الثقافة العربية الإسلامية هي المظلة التي يتآزر تحتها أبناء الجاليات العربية الإسلامية تحميهم من هجير الثقافات الأجنبية. ولعل تعدد الثقافات المحلية لهذه الجاليات يفرض على معلم اللغة العربية في بلاد المهجر ما يلي :
1. التعبير عن الاحترام والتقدير لكل ثقافة على حدة والحرص على عدم عقد مقارنات بينها، والبعد عن الأوصاف المعيارية التي تفضل في بعض الثقافات صفات وفي ثقافات أخرى صفات أخرى. حتى لا تثار شحناء بين التلاميذ في المدرسة الواحدة.
2. تأكيد عناصر الالتقاء بين أبناء الجاليات من ثقافات مختلفة والحرص على الاستشهاد بمواقف إسلامية يشترك في تقديرها جميع التلاميذ.
3. التأكيد على أن اللغة العربية يمكن أن تؤدي دورا في توحيد كلمة المسلمين في بلاد المهجر على اختلاف ثقافاتهم كما حدث في الماضي، حيث كانت العربية لسان المفكرين والعلماء والفقهاء والفلاسفة المسلمين من أي جنس كانوا أو لأي قومية انتسبوا .
4. التفكير في تأليف كتب لتعليم اللغة العربية لأبناء الجاليات في كل بلد من بلاد المهجر على حدة. فيكون هناك كتاب لأبناء الجاليات في انجلترا وآخر لأبناء الجاليات في أمريكا وثالث لهم في فرنسا ورابع في روسيا.. وهكذا .. ولعل هذا يُضيّق شقة الخلاف بين أبناء الجاليات.
والمتأمل للدوائر الثقافية التي يتحرك أبناء الجاليات فيها في بلاد المهجر يجدها أربع دوائر وليسـت دائـرة واحـدة :
- فهناك الثقافة المحلية التي جاؤوا بها (عربي/ باكستاني / صومالي ...).
- وهناك الثقافة الإسلامية التي تجمعهم.
- وهناك الثقافة القومية لبلد المهجر (إنجليزية / فرنسية / ألمانية ..).
ـ وهناك الثقافة العالمية التي تمثل القاسم المشترك بين الناس على اختلاف ثقافاتهم المحلية.
والمتأمل في هذه الدوائر الأربع يجدها تفرض نفسها عند تأليف كتاب لتعليم العربية لأبناء الجاليات.. ولقد يكون الوضع الأمثل تأليف كتاب لأبناء كل جالية على حدة إلا أن هذا أمر يصعب على المؤلفين الآن،إن لم يكن مستحيلا. فضلا عن عدم إمكانية تنفيذه في حد ذاته. لذا يصدق هنا المثل القائل " ما لا يدرك كله لا يترك جله ". فتأليف كتاب لأبناء الجاليات في كل بلد على حدة سوف يضمن تلبية حاجات الدارسين في الدوائر الثلاث التالية لما بعد الأولى.
5. ضرورة فهم المعلم للخلفيات الثقافية للتلاميذ في الفصل الواحد، حتى يفسر في ضوء هذه الخلفية أشكال السلوك التي تبدر من بعضهم مما يعد مخالفا للسلوك العام في الفصل. ولعل هذا أيسر الأمور خطورة. ولكن أشدها خطورة يكمن في الصراع الذي قد يشهده التلميذ بين ما يفرض عليه ممارسته في الفصل وبين ما تعود عليه ممارسته في البيت. أو مع أقرانه من ذوي ثقافته. وليحرص المعلم على ألا يعرض التلميذ لمثل هذا الصراع، وذلك بأن يترك مساحة للحركة يسمح للتلميذ فيها أن يخالف الأعراف العامة في الفصل مع تهيئة باقي زملائه لتقبل ذلك ما دام الأمر بعيدا عن إلحاق الأذى بأحدهم. ولعل منطلق تسامح التلاميذ مع زميلهم هو تعرضهم للموقف نفسه في وقت ما.
والمهم في ذلك كله أن يحرص المعلم على إشعار التلاميذ أنه في تعامله مع ثقافاتهم المحلية ينطلق من تقدير لها، وأن يستأصل من أذهانهم ما قد يتبادر لديهم عن المعلم وكيف أنه يسعى للتنميط الثقافي.

(ح) معلم العربية للأجانب :
ينبغي الدراسة المتعمقة لواقع معلم اللغة العربية لدى الجاليات العربية والإسلامية فى الغرب. إن مشكلة المعلم في هذه البلاد مشكلة خطيرة ومتعددة الأبعاد. وبالتأمل فى حالات معلمي اللغة العربية نستطيع تصنيفهم إلى فئات من أهمها:
أ) من حيث الجنسية: هناك معلم ناطق بالعربية وآخر أجنبي. ولكل منهما مزاياه وسلبياته. فالشائع بين المعلمين الناطقين بالعربية أنهم يستخدمون عاميات بلادهم في تدريس اللغة العربية بكثرة فتنتقل إلى التلاميذ بشكل طبيعي العادات اللغوية السائدة في بلد هذا المعلم وتتعدد في المدرسة مستويات العربية مابين فصل وآخر بتعدد المعلمين العرب، وأما المعلم غير الناطق بالعربية فقد تكون له إيجابيات فقد يكون متخصصا في العربية وآدابها. وقد يكون على حظ من علوم التربية، وقد يكون ذا ثقافة عربية إسلامية واسعة.. كل هذا قد يشفع له في قيامه بتدريس اللغة العربية لأبناء الجاليات. إلا أنه بكل تأكيد يفتقر، أو قد يفتقر، إلى الحس العربي الذي يمكنه من معرفة دقائق الأمور في اللغة العربية، ويلمس الإنسان منه ذلك إما في طريقة نطقه الأصوات العربية التي يستحيل عليه أن ينطقها كأهلها (إن لم يكن من ثنائي اللغات وتعلموا العربية في الصغر) وإما في شرح دلالات بعض الألفاظ التي تتكون معانيها من سياق لآخر. وإما في إدراك البعد الثقافي لبعض العبارات والأمثال العربية وغيرها، فضلا عما يحدث في أدائه اللغوي، عن غير إرادة منه، من تداخل لغوي بين العربية ولغته الأم، ولا يبتغي في غمرة هذا النقد أن ننسى أن لهذا المعلم غير العربي ميزة قد يتفوق بها على زميله العربي ألا وهي معرفته بمواطن الصعوبة في تعلم اللغة حسب ما مرَّ به من تجارب، مما يمكنه من التنبؤ بمثل هذه الصعوبات قبل أن تقع، أو يواجهها عندما تقع، فيساعد التلاميذ بذلك على اجتياز عقبات التعلم مستفيدين بخبرة جاهزة.
ب) من حيث التخصص: هناك معلم متخصص في اللغة العربية وآدابها (وهو قليل) ومعلم غير متخصص (وهو الغالب) والملاحظ أن معظم المعلمين الذين يقومون بتدريس اللغة العربية في الغرب هم من غير المتخصصين في اللغة العربية، ويمارسون العمل باجتهادات شخصية تصيب مرة وتخطئ مرات. إن التنوع في مؤهلات هؤلاء المعلمين ظاهرة خطيرة. بل إن منهم من لا يحمل مؤهلا جامعيا .. ويستند غير المتخصصين في اللغة العربية في تدريسهم لها على مقولة سائدة وخاطئة أشد الخطأ في الوقت نفسه، وهى أن كل ناطق باللغة قادر على تدريسها.. حسْب المعلم أن يكون من بلد عربي حتى ’يعلم لغته.. !! وهذا كما قلنا منطلق خاطئ ومسلَمة لا تقف على قدمين !
ج) من حيث الإعداد التربوي : هناك معلم حصل على مؤهل تربوي عام (وهو قليل) ومعلم حصل على مؤهل تربوي في تخصص تعليم اللغة العربية (وهو نادر) ومعلم بلا إعداد تربوي (وهو الغالب) وهذه بالطبع مشكلة غير بسيطة أيضا. إن تعليم اللغات ليس مجرد اجتهادات يصلح معها منطق المحاولة والخطأ .. وليس التعليم كما قيل في المثل القديم مهنة من لا مهنة له! إنه علم وفن. ويتضح منطق العلم فيه من الأخذ بالنظريات والتجارب والدراسات التي أجريت وتجرى دوما حول التعليم والتعلم. كما يتضح منطق الفن فيه من النظر إلى الطابع الشخصي الذي يتركه كل معلم في أدائه، والبصمة (إن جاز هذا التعبير) التي يخلفها في الدرس الذي يلقيه. ومع هذا فإننا ندرك أبعاد مشكلة معلم اللغة العربية المؤهل تربويا في الغرب وندرك أن العجز في توفيره أمر لا يد لأحد منا فيه.. إلا أن هذا لا يسوغ لنا الركون إلى الواقع والتسليم به. ولكن يمكن تحسين الوضع في ضوء مقترحات كثيرة منها :
1. عقد حلقات نقاشية (سمنارات) شهرية أو نصف شهرية بين معلمي اللغة العربية في الولاية في إحدى عطلات نهاية الأسبوع يتبادلون فيها الخبرات ويتدارسون سبل حل المشكلات.. ونرى أن في هذا إثراء للرصيد المعرفي عند جميع المعلمين فكل منهم يتعلم من الآخر.
2. عمل دورات تدريبية فصلية لمعلمي اللغة العربية (خاصة غير المؤهلين تربويا) يشترك في التدريس فيها المؤهلون تربويا من بين هؤلاء المعلمين ومن لديه خبرة عريقة في ذلك (ولو دعي من ولاية أخرى).
3. الاستعانة بأساتذة اللغة العربية بأقسام الدراسات الشرقية، ودراسات الشرق الأوسط بالجامعات والكليات المتوفرة في الولاية، وذلك في التدريس في هذه الدورات وتقديم المشورة المتواصلة للمدارس العربية.
4. إشراك أساتذة المناهج وطرق تدريس اللغات الثانية والأجنبية في الجامعات والكليات المتوفرة في الولاية وذلك بإلقاء المحاضرات وتنظيم الورش التدريبية لمعلمي اللغة العربية في الولاية. ولاشك أن إشراك هؤلاء المتخصصين في تعليم اللغات الأجنبية وثقافاتها سوف يساعد معلمي اللغة العربية على الوقوف على الاتجاهات الحديثة في تعليم هذه اللغات وتطبيقها في تعليم اللغة العربية.
5. إصدار نشرة تربوية يتبادل المعلمون على صفحاتها خبراتهم ويتواصلون من خلالها ويقف كل منهم على شؤون الآخر فتنشأ بينهم علاقات يشعرون من خلالها برابطة تجمعهم
6. تكليف المعلمين بدراسة مقررات في أقسام اللغات الأجنبية بالجامعات المتوفرة بالولاية، يقفون من خلالها على الاتجاهات الحديثة في هذا المجال ثم يقومون بتوظيف ما تعلموه في مجال تعليم العربية. وليس لمعترض على هذا الاقتراح حجة، بدعوى أن طرق تعليم اللغات الأجنبية تختلف عن طرق تعليمها للعربية لغير الناطقين بها. فالثابت أن المنهجيات في أسسها العامة واحدة. وأن تطبيقات طرق تعليم اللغات الأجنبية تتفق في مبادئها وإن اختلفت في محتوى ما يقدم للطالب.
7. دعم معاهد إعداد معلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها مثل معهد الخرطوم الدولي للغات ومعهد اللغة العربية بجامعة الملك سعود وبجامعة الإمام محمد بن سعود وجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية وغيرها وكذلك برامج الدراسات العليا بالجامعات العربية والأجنبية التي تساعد على تخريج متخصصين في هذا المجال.
8. ضرورة أن يدرك معلم اللغة العربية لأبناء الجاليات الإسلامية أنه ليس مجرد معلم للغة ينتهي دوره عندما يؤدى تلاميذه ما يتوقع منهم أداؤه نطقا وكلاما واستماعا وقراءة وكتابة.. إنه في مثل هذه المجتمعات مرب بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. إنه ناقل ثقافة عظيمة وحامل تاريخ عريق. ومن ثم فهو مطالب أن يساعد تلاميذه في بلاد المهجر على أن يحافظوا على جوهر هذه الثقافة، وعلى أن يدركوا عظمة هذا التاريخ.

إنه مطالب بتطوير شخصية الناشئة المسلمة (عربية وغير عربية) وتنمية إنسانيتها في إطار من الثقافة العربية الإسلامية .. وليثق هذا المعلم أنه قد يكون المظهر الوحيد الذي يجسد هذه الثقافة أمام بعض التلاميذ.. ويستلزم هذا من معلم اللغة العربية في بلاد المهجر أن ينظر إلى دوره على أنه داعية وليس معلما فقط. ومن ثم يجب أن يكون قدوة في سلوكه حيث يجسد مفاهيم ثقافية يعز على أبناء الجاليات أن يروها في غيره أحيانا. كما ينبغي أن يكون واسع الثقافة مخلصا لدينه، مفكرا حكيما مدركا لموقع اللغة العربية في هذه البلاد ومؤمنا بدورها في لم شتات الجالية العربية والإسلامية وفاهما لجميع الأبعاد الثقافية الخاصة بالبلد الذي يعلم اللغة فيه.
وبالله التوفيق.
----------------

موقع الإيسيسكو :
http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Langue_arabe/p18.htm

Nike

التصنيف الفرعي: 
شارك: