إذا كانت الترجمة أداة معرفية هامة للوعي بالآخر والتعرف على فكره وثقافته وإمكاناته, فإنها بالنسبة لنا كعرب تكاد تكون بوصلة ومؤشرا لحركة ازدهار الأمة أو انكسارها. ومن نافلة القول أن الانفتاح على الآخر والترجمة عنه شهدا نهضة غير مسبوقة إبان صعود الحضارة العربية وازدهارها, ووصل الأمر في عهد الدولة العباسية إلى مكافأة المترجمين العرب بمثقال من الذهب الخالص يساوي مثقال كل كتاب يترجمونه من الثقافات الأخرى, هذا ما كان يحدث قديما في عصور التأخر والانحطاط ومع ذلك شهدت الترجمة ازدهارا جديدا مع بزوغ فجر التنوير العربي عندما قاد حركتها الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي في دولة محمد علي في مصر.
إلا أن نسبة الكتب المترجمة في العالم العربي الآن ضئيلة للغاية إذا ما قورنت بأوروبا أو اليابان رغم تأسيس مشروعات جادة منذ سنوات مثل المشروع القومي للترجمة الذي يشرف عليه المجلس الأعلى للثقافة والذي احتفل مؤخرا بصدور الكتاب رقم 250 في سلسلة ترجماته .
والترجمة حقل معرفي له مشكلاته الخاصة, ليس فقط المشكلات الفنية المرتبطة بعملية الترجمة ذاتها ولكن يضاف إليها أنه حقل مثقل بندرة المترجمين الأكفاء ومثقل بمجمعات تضع الثقافة بشكل عام في آخر سلم أولوياتها فما بالك بالترجمة ومعوقاتها مع عدد من الخبراء والعلماء العرب والأجانب المعنيين بهذا الحقل المعرفي الهام وذلك من خلال حلقتهم البحثية التي استمرت ثلاثة أيام في المجلس الأعلى للثقافة تحت عنوان (قضايا الترجمة وإشكاليتها)
إهانة النص
والسؤال الأول الذي يتعين طرحه : هل الترجمة هي مجرد نقل لنصوص الآخرين. وهل هي مطابقة بين النص المترجم والنص المترجم عنه؟ أم أنها إعادة للتعبير عن المعنى بصياغة ورؤية أخرى؟ وفي هذا السياق متى يتعرض النص متأرجحا بين الوفاء للنص وخيانته؟ سوف نبحث لأسئلتنا عن إجابات متوسلين ببحوث هذه الكوكبة من المفكرين والعلماء.
وفي البداية يعود بنا الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة المعروف إلى عهودنا الأولى في الترجمة فالترجمة تأليف غير مباشر وإعادة صياغة وربما نقل للفكر من حضارة إلى حضارة ومن بؤرة إلى بؤرة ومن ولاء إلى ولاء وقد كان ذلك نموذج النقل اليوناني القديم الذي قامت به مدرسة الحكمة برئاسة اسحق بن حنين.
ويضيف صالح علماني متوخيا طبيعة الترجمة كما ينبغي أن تكون الترجمة هي شكل جديد لمضمون العمل الأصلي إنها شكل العمل في لغته الجديدة ولابد لهذا الشكل الجديد أن يحافظ على المضمون ويتطابق مع الأصل, ومثلما يسعى المؤلف الأصلي حين يريد إيصال فكره وشعوره إلى البحث عن الشكل المناسب للتعبير عن تلك الفكرة أو الشعور بأكبر قدر من الصفاء والدقة والشفافية بحيث يتمكن القارئ من التقاطها مثلما تصورها المؤلف.
يتوجب على المترجم كذلك أن يبحث في لغته عن طريقة للتعبير عن المضامين الانفعالية والفنية للأصل بأقصى ما يمكن من الوضوح والدقة والشفافية. وكلما اقتربت الترجمة من هذا الهدف كانت أقرب إلى الكمال, لكن بلوغ الهدف في معظم الأحيان يبدو ضربا من المستحيل, بل أنه مستحيل على المؤلف الأصلي نفسه وهو يتوجه إلى قرائه في لغته نفسها. تبدو الفكرة الأخيرة عند صالح علماني وكأنها تقترب من محنة الترجمة والمقصود بهذه المحنة عند رجاء بن سلامة وهي أن الوفاء للنص الأصلي أمر ممتنع, إلا إذا واجهنا محنة امتناعه وتعرضنا إليها وحاولنا إعادة كتابته في اللغة الثانية في لعبة تقوم على الوفاء والخيانة في الوقت نفسه.
أسباب الخيانة وإذا كانت عبارة (الخيانة) سوف تتكرر كثيرا في أقوال المشاركين في هذه الحلقة البحثية فإن معناها يتأرجح ما بين مجافاة مضمون النص المترجم وبين مجافاة شكله الخارجي في العبارات والمفردات والسياقات. ولكن ما هي أسباب خيانة النصوص؟ السبب الأول كما تقول المترجمة د. آمال فريد هو جهل المترجم بالسياق الثقافي للنص الذي يترجمه, وتستدل على ذلك بالترجمة الفرنسية لرواية (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ والذي قام بترجمتها أستاذ فرنسي بجامعة السوربون. ونظرا لأنه يجهل كل شيء عن السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي للرواية فقد جاءت ترجمته مكتظة بالأخطاء على المستوى الحضاري وحتى على المستوى اللغوي.
أما المستعرب رحمي آر فإنه يرى أسبابا أخرى للخيانة منها الوضع الأخلاقي والعقائدي للمجتمع الذي توجه الترجمة إليه فقد يحذف المترجم عبارات أو كلمات لأسباب دينية وأخلاقية من النص الأصلي ويقول رحمي هناك صعوبة في الترجمة ناجمة عن عدم تمتع المترجم بحرية المؤلف في اختيار الألفاظ والأسلوب وصياغة الأفكار فإن المترجم مطالب بالتقيد والالتزام بالنص الأصلي أمامه في نقل المعنى بطريقة فضلها المؤلف أو اختارها لعمله الأدبي.
وفي حالة ابتعاد المترجم عن أسلوب المؤلف في بعض المواقف لسبب عدم كفاءة اللغة الناقلة أو معناه ورسالته, ولكن المترجم إذا اتجه إلى إخفاء بعض ما ورد في النص الأصلي من عبارات أو ألفاظ أو جمل أو فقرات. أو تبديلها بما ليس له وجود في النص الأصلي فهذا الأمر بطبيعة الحال مرفوض إطلاقا ولا يقبله أي قارئ وعمل الترجمة في حد ذاته لا يعطي المترجم هذا النوع من حق التصرف على الإطلاق مهما كان السبب, ومثل هذا الموقف لابد من اعتباره الخيانة الكبرى للعمل الأدبي ولمؤلفه إضافة إلى أنه يؤدي بالقراء إلى فقدان ثقتهم بالمترجمين والانصراف والابتعاد عن الأعمال المترجمة.
ترجمة الشعر
وإذا كانت الخيانة مسألة واردة بالنسبة للترجمة عموما فما هو الموقف بالنسبة للشعر الذي يعتبر أعقد أشكال الكتابة الفنية لما يتضمنه من صور وأخيلة ومجازات ورموز , هل تكفي إجادة لغتين لكي يكون المترجم مؤهلا لترجمة الشعر ؟ في البداية تقول المترجمة د. ثريا إقبال ترجمة الشعر شأنها شأن كتابته, مؤسسة على لحظة أولى سابقة هي لحظة الإحساس بالنص الأصلي, وكذلك الإعجاب بالثقافة المغايرة واللغة المنقول عنها.
وبالتالي تصبح عملية الترجمة لهذا الشعور عبر نص مترجم. إنها ترجمة إحساس مضاعف ظاهرة الانجذاب باللغة والثقافة الأخرى وباطنه الانشداد إلى النص الأصلي ولا يمكن لهذه الترجمة الشاعرة إلا أن يكون مشعوراً بها, وحتى لو نعتت بالخيانة, فهي خيانة مرغوب فيها ولا تخلو من عذوبة وسحر وتأثير, بهذا المعنى تكون ترجمة الشعر وقفا على لحظة الكتابة الهاربة المنفلتة المصطفاة من لحظات أخرى أي وقفا على سر الكتابة ومتعة البوح عبر ممارسة طقوس ذاتية لحظة إعادة إنتاج النص الأول داخل سياق تداولي آخر.
وتضيف ثريا إقبال لهذا فإن معرفة لغتين لا تكفي لترجمة الشعر, فشخصية المترجم وثقافته وقدرته على الإحاطة بتاريخ وحاضر وثقافة كل من اللغتين ضرورية لمعرفة خبايا النص وفهم سياقها لذلك ينبغي أن يتشبع المترجم بمفاهيم الثقافات التي ينقل عنها وينقل إليها . فالبيئة الجغرافية والمناخ لهما تأثير واضح على اللغة مثلا : لغة الشمال لها علاقة بالبرد بينما اللغة العربية نشأت في بيئة حارة, فالفرنسيون يقولون اسخن صدري بينما يقول العرب أثلج صدري وعندما يغيب البعد البيئي والتاريخ في فهم النص المترجم على مستوى الكلمة والعبارة تغيب الدلالة. ترجمة القرآن
إذا كان هذا هو الموقف بالنسبة لترجمة الشعر فما هو الموقف بالنسبة لترجمة القرآن الكريم تقول الدكتورة ليلى عبد الرزاق عثمان : لابد من التسليم بأن القرآن الكريم يمكن أن تترجم جميع معانيه لأية لغة . ولا يمكن أن تكون الترجمة قرآنا باللغة الأجنبية لأن القرآن معجز بلفظه ومعناه ولكن إذا كانت الترجمة وسيلة من وسائل نقل بعض المعاني وتيسيرا لفهم القرآن لمن لا يعرف اللغة العربية وجب القيام بها .
وهناك أكثر من 20 ترجمة كاملة لمعاني القرآن. وهناك اختلافات كبيرة بينها فما هي المشاكل والصعوبات التي تواجه المترجم عند ترجمة القرآن ؟ أول هذه الصعوبات ـ تجيب د. ليلى ـ صعوبة نقل الخصائص البلاغية للقرآن وهي: علم المعاني ويشمل: الإطناب والتقديم والتأخير والحذف والاستفهام.
ـ علم البيان أي التشبيه والاستعارة والكناية . ـ علم البديع وهو الطباق والمبالغة والنظم والفواصل والتكرار. المصطلح الإسرائيلي
ننتقل إلى محطة أخرى مع الدكتور محمد محمود أبو غدير أستاذ الأدب العبري, فهو ينبه إلى تدارك خطر المصطلح السياسي الإسرائيلي الذي بدأ يتدفق على العالم العربي مع قوة اندفاع العولمة بينما نحن متقاعسون عن وضع قائمة متفق عليها من المصطلحات وتعميقها على الجامعات وأجهزة الإعلام التي بدأت تروج مؤخرا للعديد من المصطلحات الصهيونية بدون قصد حيث نجحت إسرائيل في تسريبها عبر شبكات الاتصال الحديثة والانترنت بالإضافة إلى مطبوعاتها التي توزعها في كل مكان.
ويقول أبو غدير ( وليس سرا أن إسرائيل استطاعت إيجاد مجالات للتعاون المتبادل بينها وبين العولمة الغربية مستغلة في ذلك قوة اندفاع عجلة العولمة الأمريكية ذاتها من أجل خدمة المصالح الإسرائيلية في العالم وفي المنطقة وبدأت مؤخرا تتدفق على العالم العربي مجموعات من الكتب والمنشورات الإسرائيلية المترجمة إلى اللغة العربية وجرى اختيارها لخدمة المصالح الإسرائيلية والمتمثلة في خلخلة الرفض العربي للتطبيع مع إسرائيل وغسل عقول المثقفين والدارسين العرب.
وفي المقابل نجد أن حركة الترجمة العبرية العلنية والأكاديمية فى مصر تتم بمجهود فردي حيث يتوقف النجاح أو الفشل فيها على عدم توفيق المترجم في اختيار الموضوع الذي ترجمه وعلى خبراته العملية في هذا المجال. ويواجه المترجم العربي مشكلة تتمثل في عدم وجود اتفاق غربي عام سواء داخل مصر أو خارجها على ترجمة المصطلحات الأجنبية للمصطلح العبري الصهيوني لغزو العقل العربي ودفعه إلى استخدام مصطلحات صهيونية لعدم توفر البديل العربي لها. لهذا يقترح الدكتور أبو غدير على المجلس الأعلى للثقافة ضرورة تشكيل لجنة للمصطلح في جميع اللغات وبخاصة في اللغة العبرية تضم ذوي الخبرات في الترجمة لوضع قائمة متفق عليها للمصطلحات مع تعميقها.
مشروع ثقافي
وبعد هذه المحطات نتوقف عند رؤية المفكر الفلسطيني الدكتور فيصل دراج للترجمة حيث يراها عنصرا من عناصر عديدة مكتملة وإذا افتقدت هذا الترابط فقدت هدفها. يقول دراج: الترجمة تعتبر عن منظور وغايات من يقوم بها. فقد أعطى عصر التنوير العربي للترجمة أهمية خاصة بدءا من الطهطاوي وفرح انطون مرورا بطه حسين وغيره وصولا إلى إلياس مرقص.
وكان هؤلاء يتعاملون مع الترجمة كعنصر في مشروع متعدد العناصر غايته الارتقاء الاجتماعي والتحرر من القديم الميت كما لو كان الواقع المعيش هو الذي يقترح الكتب ويترجمها محولا الأعمال المترجمة إلي جزء من مشروع الثقافة الوطنية.
والترجمة لا تكتسب دلالتها متعددة المناحي إلا حين تكون مشروعا يفتش عن أسئلة طرحها عليه المجتمع الذي يعيش فيه وفي هذه العلاقة لا تكون الترجمة ثقافة وافدة بل علاقة حميمة ومتميزة في الثقافة الوطنية.
وأخيرا نختتم جولتنا مع الكاتب لمعي المطيعي الذي يحدثنا عن إهدار المجتمع العربي لحقوق المترجمين متخذا من مصر نموذجا على هذا الإهدار يقول المطيعي ( في مصر ظلت حقوق المترجمين مقصورة على ما جاء بخصوص الترجمة وحقوق المترجمين في قانون حماية حق المؤلف رقم 354 لسنة 1954 والتعديلات التي أدخلت عليه بالقانون رقم 38 لسنة 1992 وهي تختص بحقوق المؤلف الأجنبي الذي تترجم أعماله في مصر.
وفي عام 1991 أعدت لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة مشروع قرار جمهوري برفع مكافأة ترجمة الكلمة الواحدة من اللغات الأجنبية إلى اللغات العربية بـ ( 60 مليما) بدلا من ( 3 مليمات) كما في القرار الجمهوري رقم 97 لسنة 1958 وبدلا من (6 مليمات) كما في القرار الجمهوري رقم 91 لسنة 1978 ورجع مشروع القرار حسبما عرفنا وقدم وزير الثقافة المشروع الجديد ومذكرته التفسيرية إلى مجلس الوزراء لإرساله إلى مجلس الشعب لإقراره وإصداره وللأسف لم يصدر حتى الآن.
--------------
عن صحيفة البيان الإماراتية بتاريخ 26 نوفمبر 2000
http://groups.yahoo.com/group/Thearabicdictionary/message/240