أولاً: آراء العلماء في المعجم العربي
يشمتل النظام اللغوي بشكل عام على نظام صوتي ونظام صرفي ونحوي (قواعدي).
وتوجد المستويات المتدرجة للبنية اللغوية في علاقة تأثير متبادل فيما بينها، ويحتل مستوى البنية الصوتية فيها مرتبة المستوى الأساسي والموَّجه بالنسبة إلى بقية المستويات، ولدى البحث في النظام الصوتي للعربية يظهر أن أصوات المد هي إشباع للحركات، وأن الحركات ليس لها وجود منفصل عن الأصوات الصامتة التي تلفظ قبلها وتتصل بها(1).
وقد انعكست هذه الخصائص المميزة للنظام الصوتي العربي بوضوح على المبدأ الذي يقوم عليه المعجم العربي، وتجلى ذلك في الرجوع إلى الأصل الثلاثي (أو الرباعي) المجرد من حروف الزيادة والمؤلف من أصوات صامتة فقط تشكل المادة الأصلية للكلمة ومشتقاتها.
1- هل المعجم العربي مجرد قائمة من الكلمات؟
يقوم المعجم في اللغات الأوربية على تصنيف المفردات بحسب تسلسلها الأبجدي، لذا يعتبر قائمة من الكلمات التي لا تنتظم في نظام واحد.
أما المعجم العربي فلا يقوم على تصنيف المفردات بحسب تسلسلها الأبجدي، وإنما يقوم على مبدأ آخر هو تصنيف الألفاظ العربية بحسب موادها وأصولها. ويحدد الاشتقاق الصغير (أو العام) أصل الكلمة أو مادتها الأصلية. فهل يعتبر المعجم العربي قائمة من الكلمات- الأصول التي لا تنتظم في نظام واحد؟ يرى الدكتور تمام حسان أن "اللغة العربية مكونة من ثلاثة أنظمة- نظام صوتي وصرفي ونحوي- وقائمة من الكلمات التي لا تنتظم في جهاز واحد"(2).
يرتبط كل أصل ثلاثي في اللغة العربية بمعنى عام واحد على الأقل وضع له. ويتحقق هذا المعنى في كل كلمة توجد فيها الأصوات الصامتة الثلاثة مرتبة حسب ترتيبها في الأصل الذي أخذت منه.
ويحدد الاشتقاق الصغير أصل الكلمة. والاشتقاق الصغير هو أن يكون بين اللفظين تناسب في الحروف (الأصوات الصامتة) وترتيبها. ويتم بحثه في علم الصرف. وبحث علماء العربية في نوع آخر من الاشتقاق سموه الاشتقاق الكبير. وهو أن يكون بين اللفظين تناسب في الحروف (الأصوات الصامتة) والمعنى دون الترتيب، كما في (جذب) و (جبذ). وقد بحث ابن جني في التقليبات الستة للكلمة الواحدة وأشار إلى أنه يجمع بينها معنى مشترك. كما بحث علماء العربية نوعاً آخر من الاشتقاق سموه الاشتقاق الأكبر. وهو حين يكون بين اللفظين تناسب في المخرج- نحو (نهق) و (نعق)- فمعنى هذين اللفظين متقارب وكل منهما يدل على صوت منكر، ولا اختلاف بينهما إلا بالحرف الثاني، وهو حلقي في كليهما.
وهكذا نرى أن المعجم العربي لا يتألف من مجرد قائمة من المفردات- الأصول، بل يؤلف كل أصل منها أسرة (أو عنقوداً) من الكلمات التي تشتق منه. وتشتمل كل كلمة في العنقود على الأصوات الصامتة نفسها مرتبة حسب ترتيبها في الأصل.
فالمعجم العربي -والحال كذلك- نظام مؤلف من مجموعة أنظمة، لأن كل أصل فيه يؤلف بدوره نظاماً كاملاً، ولا يظهر نظام المعجم العربي فقط لدى طرح سؤال حول وجود علاقة مناسبة طبيعية بين مجموعة الأصوات الصامتة التي تتألف منها الكلمات في العنقود الواحد وبين معانيها، بل يظهر أيضاً لدى طرح سؤال أوسع حول وجود علاقة مناسبة طبيعية حين عدم التقيد بترتيب الأصوات الصامتة التي تتألف منها الكلمات في أكثر من عنقود، أو حين يتم التقيد بترتيب تلك الأصوات الصامتة بنوعها العام فقط.
2- نظرية الأصل الثنائي:
كتب الأستاذ زكي الأرسوزي: "كنت أتساءل هل الأمة محصلة للظروف التاريخية؟ أم هي عبقرية تبتدع مظاهرها ومؤسساتها كاللغة والفنون والعرف والأخلاق... الخ وتوجهها في الوجهة التي ترفع بأبنائها نحو غاية مثلى؟ وبينما كانت متحيراً في أمري متردداً بين دراسات الفن والتشريع، علّي أجد فيها قبساً يخرجني من الحيرة، إذا بصدفة سعيدة تدلني على مكمن السر: اللغة. وأما الفرصة السعيدة فهي أنني عندما كنت أتصفح القاموس رأيت الصلة بين الأفعال المتسلسلة ذات طبيعة مزدوجة: صوت وخيال مرئي، وعندما رأيت الأفعال تنتهي بصوت طبيعي كصوت خرير الماء مثلاً، وبخيال مرئي هو الماء في مجراه، هو السبب في حدوث الصوت، أدركت السر في نشأة اللغة ودهشت لمّا بدا لي شمول المبدأ الكلمات العربية جميعها"(3).
وكتب الأستاذ محمد المبارك حول النظرية الثنائية أنه يوجد كثير من الألفاظ التي تشترك في حرفين دون الثالث وفي معنى عام يجمعها وينظم مفرداتها. وبذا يتم اكتشاف صلة جديدة بين المجموعات الثلاثية التي تشترك في حرفين من أصولها وفي فكرة كلية تجمعها، وتتكون بذلك مجموعات ثنائية كبيرة. ولتعليل هذه الصلة نجد أنفسنا أمام عدد من الاحتمالات:
أ- يمكن القول إن الأصل في اللغة هو المجموعات الثلاثية. فالمادة الأصلية في الكلمات العربية تتألف من حروف ثلاثة، ولكن قد يعتري أحد هذه الحروف تبدل صوتي بتوالي الأزمان أو باختلاف القبائل والبيئات، ولذلك تتكون هذه المجموعات الثنائية ويكون هذا الاشتراك بين المجموعات الثلاثية في حرفين دون ثالث. ولكن هذا القول لا يمكن تعميمه.
ب- ويرى عدد من الفقهاء قديماً وحديثاً أن الألفاظ العربية ترجع في منشئها التاريخي القديم إلى أصول ثنائية زيدت حرفاً ثالثاً في مراحل تطورها التاريخي. وقد جاء هذا الحرف الثالث منوعاً للمعنى العام الذي تدل عليه الأصول الثنائية. وأكثر الذين يقولون بالأصل الثنائي للألفاظ العربية يقولون كذلك أن هذه الأصول الثنائية نشأت عن حكاية الأصوات الطبيعية المقارنة للفعل أو الحدث الذي تدل عليه تلك الأصوات. ويتفرع عن هذا الرأي القول بتقارب معاني الألفاظ لتقارب أصواتها. وقد عقد ابن جني في (الخصائص) فصلاً خاصاً عنوانه (باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني) وفصلاً آخر عنوانه (باب في تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني).
ويتابع الأستاذ المبارك: وإذا صح أن الأصل من الحروف الثلاثة حرفان والثالث منوع للمعنى العام ومخصص له، فأين يقع الحرفان من الثلاثة؟ وأين يقع الحرف المضاف؟ إن أكثر الأمثلة التي أوردها الباحثون تدل على أن الحرف المضاف هو الأخير. ولكنهم كذلك أوردوا أمثلة يقع فيها الحرف الثالث في وسط الكلمة الثلاثية أو في أولها.
ويعلق الأستاذ المبارك على هذا الموضوع بإعلان موافقته على رأي الأستاذ العلايلي الذي يتلخص في استقرار العربية على الأساس الثلاثي واعتباره الأصل الثنائي مرحلة تاريخية لم يعد البحث فيها مجدياً إلا ضمن هذا الاعتبار التاريخي(4).
ويؤيد الأمير مصطفى الشهابي النظرية الثنائية فيقول: "والمرجح أن العربية الأولى تكونت مثل غيرها من اللغات، من أصول قليلة ثنائية البناء- أي مركبة من حرفين- تحاكي الأصوات التي ينطق بها الإنسان البدائي على مقتضى غريزته. ثم تعددت الكلم بإضافة حرف أو أكثر إلى الأصل الثنائي.."( 5).
أورد الأمير مصطفى الشهابي المثالين التاليين على اشتقاق الألفاظ من أصول ثنائية:
أ- لفظ (صِلْ) أحادي الهجاء- أي المقطع- مؤلف من حرفين متحرك فساكن. وهو صوت مادة يابسة إذا تحركت. فالعرب شددت اللام، أي اشتقت من اللفظ الثنائي فعلاً ثلاثياً يدل على هذا الصوت وهو الفعل (صَلَّ) ثم زادت صاداً ثانية ولاما ثانية أي كررت الثنائية (صل) فصار لها فعل رباعي هو الفعل (صَلْصَل).
ب- لفظ (قَطْ) ثنائي يحاكي صوت المقطع، أي أنه إبانة بعض أجزاء الجسم عن بعض. فقد شددوا الطاء فكان لهم الفعل الثلاثي (قطّ). أبدلوا من الطاء الثانية عيناً فصار الفعل (قطع) ولاما فصار (قطل) وفاء فصارت (قطف)... الخ. وكلها تأتي بمعنى فصل بعض أجزاء الجسم عن بعض، مع بعض تفاوت قليل في المعاني(6).
وعن (منشأ اللسان العربي) كتب الأستاذ زكي الأرسوزي أن اللسان العربي اشتقاقي البنيان، ترجع كل كلماته إلى صور صوتية- مرئية، مقتبسة مباشرة عن الطبيعة:
أ- عن الطبيعة الخارجية تقليداً للأصوات الحاصلة فيها، مثال ذلك (ترَّ)، (فقَّ)، (خرَّ)، (خشَّ)، (زمَّ).
ب- أو عن الطبيعة الإنسانية بياناً لمشاعرها، مثال ذلك: (أنَّ)، (أهَّ)(7).
وهكذا يتبين أن الثنائية المؤلفة من مقطع صوتي واحد (صِلْ، خَرْ) لا توجد إلا في الطبيعة نفسها. وحين يحاكي الإنسان هذه الأصوات الطبيعية ليشير بذلك إلى الفعل (صَلَّ، خرّ) ينطق كل كلمة في مقطعين صوتيين (صَلْ+لَ، خَرْ+رَ). فالإنسان ينطق أولاً المقطع الصوتي الذي يقتبسه من الطبيعة، وينطق بعده مباشرة مقطعاً صوتياً جديداً يبتدعه بلفظ صوت صامت من نوع الصامت الذي توقف عليه في المقطع الأول، لكنه يختلف عنه من حيث كون الثاني متحركاً.
وإذا نطق الإنسان أولاً المقطع الصوتي الذي اقتبسه من الطبيعة ونطق بعده مباشرة الصوتين الصامتين نفسيهما مع تحريك الثاني منهما (خَرْ+خَ+رَ)، يكون بذلك قد أضاف إلى الأصل الطبيعي (المؤلف من مقطع واحد) مقطعين صوتيين آخرين.
وميز الدكتور صبحي الصالح، حين تطرق إلى الثنائية وعلاقتها بالمناسبة الطبيعية، بين الثنائية التاريخية والثنائية المعجمية، وأشار إلى أن الثنائية قد اتخذت في أذهان القائلين بها صوراً مختلفة وأشكالاً متنوعة: فكانت الثنائية التاريخية ذات المقطع الواحد، والثنائية المعجمية التي ضعّف حرفها الثاني فأصبحت ثلاثية بوساطة الشدة. والثنائية المعجمية التي كرر مقطعها بكلا حرفيه فأصبحت رباعية بطريقة المضاعفة والتكرار(8).
وهكذا نرى أن أول سؤال يطرحه المعجم العربي يدور حول وجود علاقة مناسبة طبيعية بين الصوت والمدلول نتيجة لمحاكاة أصوات الحيوان والطبيعة. ويعني ذلك أن دراسة المبدأ الذي يقوم عليه المعجم العربي تحيل إلى البحث في الطور الأول من نشأة الكلام الإنساني ويفضي هذا الأمر إلى طرح سؤال ثان حول أسبقية الفعل العربي (أي الصيغة الشخصية المصرفة للفعل) على المصدر.
3- المصدر أسبق أم الفعل؟
إن المبدأ الذي يقوم عليه المعجم العربي هو الرجوع إلى الأصل الثلاثي (أو الرباعي) المجرد من حروف الزيادة. ويتطابق هذا الأصل مع صيغة الفعل الماضي للشخص الثالث المفرد المذكر.
ولدى البحث في المعجم العربي، نجد أن علماء العربية مختلفون حول موضوع التقدم بين المصدر والفعل. فيرى علماء البصرة أن المصدر يتقدم ويجعلونه أصلاً في الاشتقاق، في حين يرى علماء الكوفة أن الفعل يتقدم ويجعلونه أصلاً في الاشتقاق.
يقضي المنهج التاريخي العلمي الذي نتمسك به باعتبار اللغة ظاهرة اجتماعية ترتبط بالتفكير منذ بداية نشأتها، ولم تنشأ اللغة مكتملة دفعة واحدة، كما لم يكتمل التفكير دفعة واحدة، وتم اكتماله بالانتقال من المشخص المحسوس إلى المجرد العام. لذا فإن اللغة قد نشأ أصلها وتشكل منه بالتدرج نظام لغوي مكتمل، على نحو مواز لنشأة التفكير الإنساني وتشكّل نظامه واكتماله. وعليه فإن الصيغة الشخصية المصرفة للفعل في الإخبار (التي تفيد الإسناد والزمن) أكثر تشخيصاً من صيغة المصدر (التي لا تفيد الإسناد والزمن، بل تفيد معنى الحدث مجرداً عن فاعله وزمانه). ومن ثَم فإن الصيغة الشخصية المصرفة للفعل في الزمن الماضي أسبق في الظهور من المصدر.
ويسعى من يقولون بتقدم المصدر على الفعل إلى عدم الإقرار بأن نظام المعجم العربي يبنى على أساس الانطلاق من الفعل. فيقولون إن نظام المعجم العربي يقوم على الرجوع إلى المادة الأصلية أو الحروف الثلاثة الأصلية. ويزعمون أن تلك المادة الأصلية ليست صيغة الفعل الماضي نفسها للشخص الثالث المفرد المذكر، وإنما هي مادة مجردة يتم الحصول عليها بالاستنباط الصرفي الذي يحدده الاشتقاق الصغير، وأن الأصل في الاشتقاق هو المصدر.
كتب الأستاذ زكي الأرسوزي مايلي: "إن الصوت يستدعي إليه الانتباه ويبعث في الوجدان معنى معاً. فإذا كان الذهن العربي قد صنع أول ما صنع الأفعال بالشدة أو بالتكرار (نحو خرّ الماء خريراً، أو خرخر) ثم اشتق الأسماء والمصادر من الأفعال، فإن هذا لا يعني أن الفعل يتقدم على الحدس المعبر عنه بالمصدر إلا من حيث الظهور. أما من حيث الحقيقة فإن الحدس يتقدم على الفعل، لأن الفعل ذاته ليس غير الحدس وقد انتشر في الزمان عندما تبناه الوجدان. ووجهة النظر هذه تحل المشكلة التي دار حولها الخلاف في القرون الوسطى، مشكلة التقدم بين المصدر والفعل(9).
إننا نوافق على النتيجة التي توصل إليها الأستاذ الأرسوزي التي تقول إن الفعل يتقدم على المصدر من حيث الظهور. هذا وكتب الدكتور ربحي كمال عن مميزات اللغات السامية مايلي: "إن لمعظم الكلمات في هذه اللغات مظهراً فعلياً، حتى في الأسماء الجامدة والألفاظ الأعجمية المعرّبة. ويرى بعض علماء اللغة العربية أن المصدر الأسمى هو الأصل الذي تشتق منه أصول الكلمات و الصيغ، بيد أن هذا رأي خاطئ لأنه يجعل أصل الاشتقاق مخالفاً لما هو مألوف في سائر اللغات السامية. وقد يكون أولئك العلماء متأثرين بالفرس الذين بحثوا في اللغة العربية بعقليتهم الآرية، والمصدر الاسمي هو أصل الاشتقاق عند الآريين"(10).
إننا نؤيد ما ذكره الدكتور ربحي كمال من أن الفعل هو أصل الاشتقاق في العربية وليس المصدر.
ويؤكد ذلك أن المعجم العربي لا يقوم على الرجوع إلى المصدر، بل يقوم على الرجوع إلى الأصل المجرد من حروف الزيادة. ولو كان الأصل في الاشتقاق هو المصدر، لأوجب ذلك أن يبنى المعجم العربي على أساس الانطلاق من المصدر. ولكننا لا نؤيد اتهامه علماء العربية- الذين قرروا أن المصدر هو الأصل- بأنهم قد تأثروا بالفرس في ذلك، ونرى أن السبب الذي حملهم على هذا الاعتقاد يعود إلى أن دراستهم للموضوع لم تكن تاريخية (تطورية) ولا بد لتحديد أسبقية المصدر أو الفعل من القيام بدراسة تاريخية (تطورية) للغة في ارتباطها بالتفكير ووظيفة الإبلاغ.
ثانياً: نظام المعجم العربي يشير إلى أصالة اللسان العربي وبدائية نشأته.
حين نصف لساناً ما بالأصالة نقصد أنه يتوافر فيه عنصران هما: الإيغال في القدم من ناحية، والاستمرار في الحياة من ناحية أخرى.
وعليه فإن بنية اللسان الأصيل بهذا المعنى يجب أن تتمتع بجملة خصائص من حيث المفردات والأصوات والصرف والنحو تشير إلى إيغاله في القدم. وأول قرينة على إيغال لسان ما في القدم هي وجود شبه بين ألفاظه وأصوات الحيوان والطبيعة، لأن هذا الشبه يدل على محاكاة الإنسان القديم لأصوات الحيوان والطبيعة. ويؤكد من ثَم بدائية نشأة ذلك اللسان.
إن الخاصة المميزة للبنية الصوتية العربية (التي تتجلى في المبدأ التالي: لا وجود بشكل منفصل للصوت الصائت- القصير أو غير القصير أي الحركات والمدات- عن صوت صامت يلفظ قبله ويتصل به) تعكس طور محاكاة الإنسان القديم لأصوات الحيوان والطبيعة(11)، وتؤكد من ثم بدائية نشأة اللسان العربي.
انعكست الخاصة المميزة للبنية الصوتية للعربية في طريقة تحديد أصل الكلمات في العربية.
وظهر ذلك في تمتع البنيية الصوتية لمعجم مفردات العربية بخاصة مميزة تجلت في أن أصل المفردات في المعجم العربي يتحدد على أساس الأصوات الصوامت التي يشتمل عليها فقط(12). وبذا يطرح المعجم العربي سؤالاً حول وجود علاقة مناسبة طبيعية بين الصوت والمدلول نتيجة لمحاكاة أصوات الحيوان والطبيعة.
ونستنتج من ذلك كله أن اللسان العربي لسان أصيل بدائي النشأة.
1- لماذا يتحدد أصل المفردات في المعجم العربي على أساس الأصوات الصامتة التي يشتمل عليها فقط؟
كتب الأستاذ زكي الأرسوزي:
"وأما اللغة العربية فهي ذات طابع بدائي ترجع كلماتها جميعاً إلى أصوات الطبيعة... وفضلاً عن أن اللسان العربي بدائي النشأة، فإن كلمات هذا اللسان يبدأ تكوينها عفوياً من انبثاق المعنى دون طائلة العقل. هذه الحقيقة تدل عليها أمور مختلفة، منها أن أصوات الهيجان الطبيعية التي كانت مصدر اشتقاق لمعظم كلماتنا تشير إلى العلاقة بين اللغة الطبيعية واللغة المصطلح عليها كرموز عند الجماعة، ونحن نستخلص من ذلك أن معاني الكلمات العربية تمثل تجربة الحياة تمثيلاً مستقلاً عن اجتهاد المجتهدين. فما للذهن إلا أن يستحضرها حتى ينبعث من النفس المعنى الذي أنشأها"(13).
وعن خصائص اللغة العربية كتب الأستاذ زكي الأرسوزي: "إنه لمن الثابت بحكم التاريخ أن اللغات الإفرنسية والإيطالية والإسبانية قد حصلت من تحول اللغة اللاتينية، وكان ذلك بتأثير عوامل سياسية اجتماعية، وإنه لمن الثابت بحكم التاريخ أيضاً أن اللغة الإفرنسية هي لهجة منطقة باريس، المنطقة التي طبعت مقاطعات فرنسا الأخرى بطابعها السياسي والثقافي فجعلت لهجاتها تتراجع أمامها فتندثر.
وإنه على هذه الدراسة قد قام الزعم بأن العلاقة بين اللسان العربي واللغات السامية الأخرى علاقة أخوة ترجع بأصولها إلى اللغة الأم التي هي لغة سامية بائدة، وإن ثمة لهجات عربية تقلصت أمام طغيان لهجة قريش، لهجة الديانة والسياسة.
إن الكلمات العربية ذات أصول في الطبيعة، وإن مبدأ الصحة فيها قد تعين من قبل الفطرة لا من قبل العرف والعادة. ثمة خطأ شائع بين اللغويين وهو أن العلاقة بين المعنى واللفظة في اللسان العربي على مثال العلاقة بينهما في اللغات الحديثة- علاقة اصطلاحية. بمعنى أن اللفظة تشير إلى معناها إشارة فقط بيد أن اللسان العربي ذو بنيان عضوي تنم فيه الكلمة عن المعنى وتوحي به إيحاء حتى إن اتجاه المعنى هو الاتجاه المتغلب على اللفظة مما يجعل صاحبه أكثر استعداداً من غيره لفهم الأخلاق والديانة. إنما هو منظومة صوتية تعبر عن وجهة الأمة التي أنشأته ودلت عليه(14).
أوجد الأستاذ عبد الحق فاضل في كتابه "مغامرات لغوية (ملكة اللغات)"(15) فرعاً جديداً في علم اللسان سماه (الترسيس) ويميز الأستاذ فاضل دراسة أصول الكلمات أو التأثيل Etymology عن الترسيس. فالترسيس هو إعادة اللفظة إلى جدتها الأولى في صورتها التي نطق بها الإنسان الأول (البدائي) تقليداً لأحد الأصوات المسموعة مثل محاكاة أصوات الطبيعة أو الحيوانات، مع تعقب المراحل التطورية التي قطعتها تلك اللفظة حتى وصلت إلى الصورة التي نعرفها في إحدى اللغات أما التأثيل (أي دراسة أصول الكلمات) فهو رد الكلمة إلى أمها المباشرة أو جدتها المباشرة أو القريبة.
وكان الأستاذ فاضل قد ذكر أمثلة عن الترسيس في مقالته بعنوان: "آثار حيوانية في اللغة العربية"(16).
يرى الأستاذ فاضل "أن اللغة العربية مازالت تحتفظ بالألفاظ البدائية -الرسية- الأولى إلى جانب الألفاظ الراقية الحضارية المتفرعة منها. فهي لذلك تمكننا من إقامة علم (نشأة اللغة) على أركان وطيدة بالطريقة الترسيسية. وهي وحدها تمدنا بمادة (علم الترسيس) بينما جميع بناتها الساميات والحاميات والآريات وغيرها من لغات بني آدم لا تكفي إلا للتأثيل(17)
كما يرى الأستاذ فاضل أنه "لما كان الترسيس هو الأساس الذي سيقوم عليه علم (نشأة اللغة) وما يتصل به من علوم اللغة، وبما أن الترسيس سيهدم كذلك بعض النظريات اللغوية السائدة ويجلو بعض الغوامض ويملأ بعض الثغرات في (فقه اللغة) البشري. فإن اللغة العربية وتطوراتها وتفرعاتها وهجراتها ستكون الأساس المكين لعلم (فقه اللغة) العالمي العام الذي سيعاد النظر فيه بجملته ومختلف فروعه ويعاد تخطيطه وتشييد صرحه على تصميم جديد من قوانين اللغة العربية وإيحاءاتها. وسيتضح كم سيرتقي (علم اللغة) ويصحح الكثير من أخطائه ويقضي على الكثير من تلكئه هنا وتردده هناك.
وبأي سرعة، حالما يأخذون بسلوك الطريق الاستقرائي العلمي الصحيح في دراسته ابتداء من اللغة العربية" (18).
وكتب الأستاذ عبد الحق فاضل مقالة بعنوان: "حول (المغامرات اللغوية)"(19) جاء فيها "المعروف أن اللغات البدائية هي التي يقرب الشبه بين ألفاظها والأصوات الطبيعية التي نشأت منها.
أما اللغات الراقية فقد ذهبت أصواتها وبقيت الكلمات الحضارية الراقية التي تولدت منها، لا سيما أن الأمم المتحضرة قد تنقلت منذ أقدم العصور من مكان إلى مكان واختلطت لغاتها بغيرها. ولكن العربية وحدها تقدم لنا أرقى الكلمات الحضارية والثقافية مع الحلقات المتسلسلة التي تقودنا إلى البدايات الأولى. وسبب ذلك هو الظروف الفريدة التي تلابس الجزيرة العربية، فقد بقي وسطها الرملي المجدب محافظاً على حياة البداوة والبدائية على حين راحت أطرافها المتحضرة تصنع من تلك الخامة اللغوية مفردات حضارية باذخة، وإذ بهذه العربية تغدو لغة الراعي والفيلسوف في وقت واحد".
وأشار الأستاذ فاضل في تلك المقالة إلى أن العلماء قرروا أن اللغة البشرية تكونت من أصول خمسة بوجه العموم نجدها كلها صريحة واضحة في العربية، على حين أن أية لغة حية أخرى لا توجد فيها إلا بعض هذه الأصول إن وجدت. والواقع أنهم إنما توصلوا إلى هذه الأصول الخمسة من استقراء عدد غير قليل من اللغات البدائية التي لا تزال تحتفظ بجذورها الصوتية لعدم ارتقائها وابتعادها عن صورة ولادتها. وهذه الأصول الخمسة هي:
1- محاكاة أصوات الطبيعة: وكمثل نذكر صوت الماء (شلشل) ومنه ترشرش الماء، ثم رش ورشاش، ثم رذ ورذاذ، ثم ذر وذرى ومذراة وذرة...
2- تقليد أصوات الحيوانات: ونذكر من الأسماء التي سميت بأصواتها: البلبل واللقلق والجدجد والصرصر.
3- تقليد الأصوات المصطنعة: أي الأصوات التي يحدثها الإنسان في بعض أعماله، مثل صوت القطع (قط)و (وصج) و (طق).
4- تقليد الإنسان لنفسه: في الأصوات الطبيعية التي تصدر عنه تلقائياً في مختلف حالاته، مثل (قهقه) و (قاء) و (أنّ) و (عطس).
5- تقليد أصوات الطفل: (لغ لغ) و (بابا) و (تاتا) و (دادا). إننا نرى أن الأستاذ عبد الحق فاضل بنى نظريته القائلة بأن اللغة العربية (ملكة اللغات) بعد دراسة صوتية مقارنة للفظ كلمات مفردة في عديد من اللغات بالطريقة الترسيسية. وقد سمى كتابه (مغامرات لغوية) لأن النظرية التي يقترحها تحتاج من أجل تدعيمها إلى الكشف عن حقائق في اللغة العربية نفسها تؤكد أنها اللغة الإنسانية الأولى، وتبين نشأتها ومراحل اكتمال نظامها اللغوي.
2- العلاقة بين الأصل في المعجم والأصل في الاشتقاق في العربية.
قرر علماء العربية أن المبدأ الذي يقوم عليه نظام المعجم العربي هو الأصل المجرد من حروف الزيادة. ويتحدد وفق قواعد الاشتقاق الصغير (في علم الصرف) كيف يتم الحصول على الأصل المجرد من حروف الزيادة. فهل يعني ذلك أنهم قرروا أن الأصل في المعجم هو الأصل في الاشتقاق؟
من أجل الحصول على الأصل المجرد من حروف الزيادة، توجب قواعد الاشتقاق الصغير -بالنسبة إلى الأصل غير السالم- رد الحرف المعل أو المبدل فيه إلى أصله وفك الإدغام فيه (قال قَوَل، مدّ مدَد). فهل يعني ذلك أن الصيغ - الأصول غير السالمة- هي صيغ لغوية حقيقية، في حين أنها تعتبر بعد رد حروف العلة إلى أصلها وفك الإدغام صيغاً مثالية مفترضة (غير حقيقية) وغير مرتبطة بوظيفة الاتصال؟
قد يتوهم بعض الباحثين أن صيغ الأصول غير السالمة (التي ردت حروف العلة فيها إلى أصلها وفك ادغامها) كانت في وقت مضى صيغاً لغوية حقيقية ثم انصرف عنها فيما بعد. أفرد ابن جني فصلاً في "الخصائص" للإجابة عن هذا السؤال بعنوان: (باب في مراتب الأشياء وتنزيلها تقديراً وحكماً لا زماناً ووقتاً)(20). قال فيه: "هذا الموضع كثير الإبهام لأكثر من يسمعه، لاحقيقة تحته.وذلك قولنا: الأصل في قام قوَم، وفي باع بيَع، وفي طال طوُل، وفي خاف ونام وهاب، خوِف ونوِم وهيِب، وفي شدّ شدد... فهذا يوهم أن هذه الألفاظ وما كان نحوها - مما يُدّعى أن له أصلاً يخالف ظاهر لفظه- قد كان مرة يقال. حتى إنهم كانوا يقولون في موضع قام زيد: قوَم زيد، وكذلك نوِم جعفر، وطوُل محمد، وشدد أخوك يده، واستعدد الأمير لعدوّه، وليس الأمر كذلك بل ضده.
وذلك أنه لم يكن قط مع اللفظ به إلا على ما تراه وتسمعه.
وإنما معنى قولنا: إنه كان أصله كذا: أنه لو جاء مجيء الصحيح ولم يُعلَل لوجب أن يكون مجيئه على ما ذكرنا. فأما أن يكون استعمل وقتاً من الزمان كذلك، ثم انصرف عنه فيما بعد إلى هذا اللفظ فخطأ لا يعتقده أحد من أهل النظر...".
لقد رفض ابن جني رفضاً قاطعاً القول بأن صيغ الأصول عير السالمة (التي ردت حروف العلة فيها إلى أصلها وفك إدغامها) كانت في وقت ما صيغاً لغوية حقيقية.
يوجد اتجاهان في تحديد العلاقة بين الأصل في المعجم العربي والأصل في الاشتقاق في العربية:
الأول: اتجاه علماء البصرة: يقوم بتمايز الأصل في المعجم عن أصل الاشتقاق في العربية فبالنسبة إلى أصل المعجم العربي، يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الأصل في المعجم مادة مجردة (الحروف الثلاثية الأصلية) يتم الحصول عليها بالاستنباط الصرفي وليس الأصل صيغة لغوية حقيقية. وبالنسبة إلى أصل الاشتقاق في العربية يرون أن أصل الاشتقاق هو المصدر وهو الصيغة اللغوية الأولى التي يتولد منها النظام اللغوي.
الثاني: اتجاه علماء الكوفة والمستشرقين وعلماء الساميات: يقول بعدم تمايز الأصل في المعجم عن أصل الاشتقاق في العربية. فبالنسبة إلى أصل المعجم العربي، يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الأصل صيغة لغوية حقيقية هي صيغة الفعل الماضي المجردة المسندة للشخص الثالث المفرد المذكر. وبالنسبة إلى أصل الاشتقاق في العربية، يرون أنه الأصل المعجمي نفسه.
وكنا نتبنى الاتجاه الثاني.
وبنتيجة التعمق في دراسة المادة اللغوية للعربية باستخدام المنهج التاريخي العلمي، تأكد لنا تمايز الأصل في المعجم العربي عن أصل الاشتقاق في العربية. وقررنا رأياً خاصاً بنا بشأن العلاقة بين الأصل في المعجم وأصل الاشتقاق اللغوي، هو التالي: الأصل في المعجم اللغوي الإنساني رصيد للأصوات اللغوية التي تتألف منها مفردات اللغة من ناحية أولى، وللمدلولات التي ترتبط بها من ناحية ثانية. والأصل في الاشتقاق في النظام اللغوي الإنساني هو الصيغة اللغوية الإنسانية الأولى التي ولد تطورها النظام اللغوي الإنساني في جميع مستوياته.
لذا نقرر أن الأصل في المعجم العربي (ك. ت. ب.) رصيد للأصوات اللغوية التي تتألف منها المفردات العربية من ناحية وللمدلولات التي ترتبط بها من ناحية ثانية. ويعني هذا أن الأصل في المعجم العربي ليس صيغة الفعل الماضي للشخص الثالث المفرد المذكر/ كتب (هو)/. ويظهر ذلك أن علماء البصرة أصابوا حين قرروا أن الأصل ليس صيغة الفعل الماضي للشخص الثالث المفرد المذكر نفسها. ولكن علماء البصرة لم يصيبوا حين قرروا أن الأصل مادة أصلية ويقصدون بذلك الحروف المجردة أي صيغة افتراضية (مجردة) لأن الأصل الأول في المعجم اللغوي الإنساني صيغة صوتية (مادية) ترتبط بالنشأة الصوتية للغة الإنسانية بنتيجة محاكاة أصوات الحيوان وظواهر الطبيعة.
3- تحليل الأصل الثلاثي صوتياً وكيف كان ينطق؟
إذا حللنا الفعلين (شحج) و (نزب) من الناحية الصوتية، نجد أن كلاً منهما يتكون من ثلاثة مقاطع صوتية (شَ+حَ+جَ) (نَ+زَ+بَ)، أي أنها لا يمكن أن تكون محاكاة لأصوات الحيوان، لأن الحيوان لا يستطيع نطق أصوات متميزة بعضها عن بعض في مقاطع صوتية منفصلة، بل ينطق أصواتاً مبهمة في وحدة مندمجة.
وما دام الأمر كذلك، فما هو السبب في أن نظام المعجم العربي قد بني انطلاقاً من الأصل ثلاثي الأصوات الصامتة (المتطابق مع صيغة الفعل الماضي للشخص الثالث المفرد المذكر)؟ ولماذا يعتبر ذلك الأصل خوارزماً رياضياً لاشتقاق كلمات وصيغ جديدة منه؟ ولماذا حافظ هذا الأصل الثلاثي على لحمته دون تغيير على مر القرون؟ لا شك أن هناك سراً يرتبط بطبيعة الأصل العربي ثلاثي الأصوات الصامتة! فما هو ذلك السر؟! وكيف نكشفه؟.
من الرجوع إلى الدراسات الصوتية في علم اللغة العربية وعلم اللغة العام وعلم اللغة المقارن، تبين لنا ما يلي:
1- كشف الأكاديمي فارتوناتوف، في دراسة صوتية مقارنة للغات الهندية الأوربية القديمة، أن اللغة الهندية الأوربية - الأصل كانت تشتمل على الصوت (a) القصير جداً والذي يتميز عن الصوت (a) القصير بأنه لا يشكل مقطعاً صوتياً(21).
2- توجد نظرية في علم اللغة العام (قال بها ف. ليمان) تفترض بأن اللغة الهندية الأوربية الأصل كانت تشتمل فقط على صوت صائت واحد غير محدد (أي لا يشكل مقطعاً صوتياً وتنحصر وظيفته في تسهيل نطق الكلمات المؤلفة من أصوات صامتة).
وترى تلك النظرية أن الأصوات الصامتة كانت كثيرة ومن بينها عدة أصوات حلقية(22).
3- يذكرنا ذلك بما نقله سيبويه على لسان الخليل حين قال: "وزعم الخليل أن الفتحة والكسرة والضمة زوائد، وهن يلحقن الحرف ليوصل إلى التكلم به"(23).
4- وذكر ابن جني في (الخصائص) ما يلي: "حدثني أبو علي رحمه الله قال: دخلت هيتا وأنا أريد الانحدار منها إلى بغداد. فسمعت أهلها ينطقون بفتحة غريبة لم أسمعها قبل فعجبت منها. وأقمنا هناك أياماً إلى أن صلح الطريق للسير فإذا أنني قد تكلمت مع القوم بها. وأظنه قال لي: إنني لما بعدت عنهم أنسيتها"(24).
5- وأشار ابن جني إلى الزمزمة في اللغة العجمية: "... قال وإنما خفي حال هذا في اللغة العجمية لما فيها من الزمزمة، يريد أنها لما كثر ذلك فيها ضعفت حركاتها وخفيت"(25).
6- هذا وقد ذكر علماء العربية غمغمة قضاعة فقالوا: "وكانت قضاعة إذا تكلموا غمغموا، فلا تكاد تظهر حروفهم" ويعرفون الغمغمة بأنها الكلام الذي لا يبين.
من كل ذلك نستنتج أن الأصل في المعجم. المؤلف من ثلاثة أصوات صامتة (شحج، نزب) كان الإنسان البدائي القديم يلفظه في مقطع صوتي واحد لأنه يحاكي فيه أصوات الحيوان، فلا تتميز فيه أصوات منفصلة بعضها عن بعض في مقاطع مستقلة، بل تتصل بكل صوت صامت فيه فتحة خفيفة لتمكّن فقط من النطق به.
ويدعم ما ذهبنا إليه إشارة علماء العربية الأوائل إلى أن الفتحة أخف الحركات الثلاث. كما أن الرجوع إلى أوزان الفعل الثلاثي يرجح الاستنتاج الذي وصلنا إليه. فللفعل الثلاثي ستة أوزان هي:
1- باب (نَصَرَ- ينصُر) فتح ضم
2- باب (ضَرَبَ- يضرِب) فتح كسر
3- باب (فَتَحَ- يفتَح) فتحتان
4- باب (فَرِحَ- يفرَح) كسر فتح
5- باب (كَرُمَ- يكرُم)ضم ضم
6- باب (حَسِبَ- يحسِب).كسرتان
ويتدرج هذا الترتيب للأوزان حسب كثرة الأفعال في كل باب. فأكثر الأبواب أفعالاً باب نصر، فضرب، ففتح، ففرح، فكرم. وأقلها باب حسب. يبلغ مجموع حركات الأصوات الصامتة في أوزان الفعل الثلاثي(18) حركة -منها (15) حركة فتح، وحركتا كسر، وحركة ضم واحدة. وإذا أخذنا بالاعتبار أن الكسرة والضمة لا تظهران إلا في أبواب (فرح، كرم، حسب)- التي تتميز بقلة أفعالها من ناحية، وبأن غالبية الأفعال التي تدخل فيها ذات معنى عام ومجرد من ناحية أخرى- يتأكد لنا أن الفتحة هي أولى الحركات ظهوراً في النظام الصوتي للعربية. لذا اقترحت اعتبار حركة الفتحة أصلاً بالنسبة للحرف العربي الذي يشير إلى صوت صامت ولا حاجة بالتالي لتثبيتها في الكتابة.
وطالبت بإلزام شكل جميع الحروف الصامتة الساكنة أو المتحركة بغير الفتحة في جميع الكلمات. ودعوت إلى اعتماد هذه الطريقة في تعليم التلاميذ مبادئ الكتابة والقراءة العربية وفي صفوف محو الأمية للكبار(26).
إن النتيجة العلمية التي توصلنا إليها والتي تقول: إن الأصل في المعجم المؤلف من ثلاثة أصوات صامتة (شحج، نزب) كان يلفظ في مقطع صوتي واحد، تشير إلى أن هذا الأصل كان يلفظ كذلك لأنه كان يحاكي أصوات الحيوان في النطق الحيواني.
وبما أن نظام المعجم العربي يقوم بشكل أساسي على الرجوع إلى الأصل ثلاثي الأصوات الصامتة، فمن الطبيعي أن يبرز السؤال التالي: هل ظهرت جميع الأصول الثلاثية في المعجم العربي نتيجة لمحاكاة الإنسان أصوات الحيوان؟
ويرتبط بهذا السؤال سؤالان آخران: الأول- أين تقع في نظام المعجم العربي الأصول التي ظهرت نتيجة لمحاكاة لإنسان أصوات ظواهر الطبيعة؟.
والثاني: أين تقع في نظام المعجم العربي الأصول التي ظهرت نتيجة انعدام المحاكاة وإقامة علاقة اصطلاحية بين الصوت والمدلول؟
ثالثاً: رأينا في الأصل في المعجم العربي.
1- رأينا في نشأة اللغات الإنسانية (27).
يستند رأينا في نشأة اللغات الإنسانية إلى المبادئ التالية:
1) القانون الأساسي في جميع اللغات الإنسانية هو مبدأ تقطيع السلسلة الصوتية إلى مقاطع صوتية متميزة يتألف منها الكلام الإنساني.
2) لم تخضع نشأة اللغة الإنسانية لقوانين المنطق، بل كانت خاضعة لقانون صوتي يرتبط بقدرة الإنسان على التقطيع الصوتي وتطور تلك القدرة.
3) تلازم النطق والتفكير ووظيفة الإبلاغ منذ بداية نشأة اللغة الإنسانية.
وانطلاقاً من هذا التلازم، نربط نشأة اللغة الإنسانية بنشأة الإنسان نفسه. وتجلى التلازم من خلال علاقتين مترابطتين بعضهما مع بعض:
أ- علاقة النطق بالتفكير التي تتمثل في تلازم المبنى (اللفظ) و (المعنى) الذي يحمله.
ب- علاقة التفكير بوظيفة الإبلاغ التي تتمثل في تلازم (المعنى) و (وظيفة الإبلاغ).
4) المنهج الوصفي الوظيفي قادر على وصف البنية اللغوية وبيان وظيفتها الإبلاغية اعتباراً من اكتمال النظام اللغوي (الصوتي والصرفي والنحوي) الذي يرتبط بالتفكير المجرد وعمل قوانين المنطق. أما تفسير أسباب تمتع لغة ما بخصائص بنوية، فلا يصلح له المنهج الوصفي الوظيفي لأن الأمر يتعلق بمرحلة ما قبل اكتمال التفكير المجرد (المنطقي) وهي في الوقت نفسه مرحلة ما قبل اكتمال النظام اللغوي بمستوياته المتدرجة.
والمنهج التاريخي العلمي هو المنهج الذي يبين كيف اكتمل النظام اللغوي بربطه بتطور قدرات الإنسان على التقطيع الصوتي وقدرته على الانتقال من التفكير المشخص إلى التفكير المجرد.
5) يجب تمييز الأصل في المعجم اللغوي الإنساني عن أصل الاشتقاق في النظام اللغوي.
(أي القواعدي: الصرفي والنحوي) الإنساني. ويستتبع ذلك ضرورة فصل دراستهما بعضهما عن بعض. ونرى أن الأصل في المعجم رصيد للأصوات اللغوية التي تتألف منها مفردات اللغة من ناحية، وللمدلولات التي ترتبط بها من ناحية أخرى.
وأصل الاشتقاق في النظام اللغوي (القواعدي) هو الصيغة اللغوية الإنسانية الأولى التي ولد تطورها النظام اللغوي الإنساني في جميع مستوياته.
6) في الصيغة اللغوية الإنسانية الأولى التي استخدمت في بداية التخاطب الإنساني اللساني كانت تتوافر بالضرورة الشروط الأربعة التالية:
أ- أن تكون لفظة مؤلفة من مقطعين صوتيين متميزين بعضهما عن بعض، لأن النطق الإنساني تميز عن النطق الحيواني بتقطيع السلسلة الصوتية إلى مقاطع متميزة.
ب- أن تكون كلمة تفيد جملة ضمن سياق استخدامها.
جـ- أن تعبر عن بداية التفكير القائم على إدراك مشخص.
د- أن تؤدي أول وظيفة إبلاغية للغة الإنسانية، وهي برأينا وظيفة الطلب (الأمر) إذ إن الطلب يعبر عن الرغبة في التعاون المشترك بين الناس.
ولا تتحقق هذه الشروط جيمعاً إلا في الصيغة العامة للطلب (الأمر) للمواجه (الشخص الثاني). لذا نقرر أن الصيغة اللغوية الإنسانية الأولى كانت الصيغة العامة للطلب (الأمر) للشخص الثاني.
7) كان إدراك العلاقة الذهنية بين الصوت وما يشير إليه البداية الأولى من تكوّن التفكير الإنساني، ويعني ذلك بالضرورة أن الكلام الإنساني قد مرّ في نشأته بطور أولي كان أصل المعجم اللغوي فيه عبارة عن محاكاة لأصوات الحيوان وظواهر الطبيعة، لأن تلك المحاكاة كانت بمثابة قرينة ساعدت الإنسان القديم في الإدراك الذهني للعلاقة بين الصوت والمدلول الذي يشير إليه.
وعقبه طور ثان انعدمت فيه محاكاة أصوات الحيوان وظواهر الطبيعة، وظهر فيه أصل جديد للمعجم اللغوي كانت العلاقة فيه بين الصوت والمدلول اعتباطية تقوم على التواضع الإنساني.
2- نظرتنا الصوتية الجديدة في دراسة الأصل في المعجم العربي.
لدى دراستنا الأصل في المعجم العربي قدمنا نظرة صوتية جديدة في دراسته. وتقوم نظرتنا الصوتية إلى المعجم العربي على القانون التالي: الأصل الحقيقي في المعجم العربي (الذي هو رصيد للأصوات اللغوية التي تتألف منها المفردات من ناحية، وللمدلولات التي ترتبط بها من ناحية أخرى) هو ذلك الرصيد الذي يشتمل على الحد الأدنى من الصوامت المشتركة بين جميع الكلمات التي تدخل في العنقود الاشتقاقي الواحد وبالترتيب نفسه.
تُميز قواعد الصرف العربي في الأصل المعجمي الثلاثي بين السالم وغير السالم. ولا تميز في الأصل المعجمي الرباعي بين السالم وغير السالم. ونرى أن السبب في ذلك يعود إلى أن الأصل الثلاثي السالم المجرد يرجع إلى الأصل المعجمي الأول (التاريخي الحيواني) لنشأة اللغة العربية (شحج، نزب) الذي لم يكن صيغة لغوية أولى أصلاً في الاشتقاق في النظام القواعدي للعربية. لذا فإن المبدأ الأول الذي قام عليه المعجم العربي هو الأصل الثلاثي السالم المجرد من حروف الزيادة. أما الأصل الرباعي المجرد من حروف الزيادة، فيرجع إلى الأصل المعجمي الثاني (التاريخي الطبيعي- الحيواني) لنشأة العربية (خرخر، زق زق) الذي لم يكن صيغة لغوية أولى أصلاً في الاشتقاق في النظام القواعدي للعربية. وتم لذلك اعتماد الأصل الرباعي- من دون تمييز فيه بين سالم وغير سالم- مبدأ ثانياً، بعد الثلاثي السالم، في نظام المعجم العربي.
لقد ظهر الأصل المعجمي الثلاثي السالم المجرد والأصل المعجمي الرباعي المجرد في الطور الأول من نشأة اللغة العربية (طور محاكاة أصوات الحيوان وظواهر الطبيعة). ويتطابق الأصل المعجمي الأول الثلاثي السالم- من حيث عدد الحروف الصامتة- مع صيغة الفعل الماضي الثلاثي السالم المجرد المسند إلى الشخص الثالث المفرد المذكر. أما الأصل المعجمي الثاني الرباعي، فيتطابق من حيث عدد الحروف الصامتة مع صيغة الفعل الماضي الرباعي المجرد المسند إلى الشخص الثالث المفرد المذكر، سواء اشتملت تلك الصيغة على حروف العلة أو الهمزة أو لم تشتمل عليها. ويعني ذلك أن الأصل في المعجم العربي في طور المحاكاة كان يتطابق من حيث عدد الصوامت مع صيغة الماضي المجرد المسند إلى الشخص الثالث المفرد المذكر.
لقد كشفت نظرتنا الصوتية الجديدة إلى المعجم العربي وجود أصول حقيقية أخرى- غير الثلاثي السالم والرباعي- في المعجم العربي أحادية الصوامت وثنائية الصوامت غير المضعفة وثنائية الصوامت المضعفة. وترجع هذه الأصول الأخرى برأينا إلى الأصل المعجمي الثالث (التواضعي) لنشأة العربية الذي ظهر في الطور الثاني (طور التواضع) والذي كان صيغة لغوية أولى أصلاً في الاشتقاق في النظام القواعدي للعربية (صيغة الأمر العامة للشخص الثاني). وهذه الأصول المعجمية الحقيقية الجديدة هي:
أ- الثنائي المضعف، ونجده مجرداً في صيغة الأمر من الصحيح- المضاعف (مُدّ).
ب- الثنائي غير المضعف، ونجده مجرداً في صيغة الأمر من المعتل الناقص (رْمِ)، وصيغة الأمر من المعتل اللفيف المقرون (طْوِ)، وصيغة الأمر من المعتل الأجوف (قُمْ)، وصيغة الأمر من الصحيح، مهموز الأول (خُذْ)، وصيغة الأمر من المعتل المثال (عِدْ).
جـ- الأحادي، ونجده مجرداً في صيغة الأمر من المعتل اللفيف المفروق (قِ).
ومن أجل اتساق نظام المعجم العربي، كان يتوجب إدخال هذه الأصول المعجمية الحقيقية الجديدة (التي ظهرت في الطور الثاني من نشأة العربية- طور التواضع، والتي ينظر إليها في قواعد الصرف العربي على أنها ثلاثية غير سالمة) وفق المبدأ نفسه وهو (المطابقة من حيث عدد الصوامت مع صيغة الفعل الماضي المجرد المسند إلى الشخص الثالث المفرد المذكر) وحين تكون صيغة الفعل الماضي منها لا تشتمل على ثلاثة صوامت، تجرى عليها بعض التعديلات المقررة وفق قواعد الصرف العربي لتتحول إلى أصل مفترض (غير حقيقي) في المعجم العربي يتألف من ثلاثة صوامت.
وهكذا يظهر أن القواعد الصرفية الخاصة بالفعل الثلاثي غير السالم تشير إلى البعد الزمني (التاريخي) في نظام المعجم العربي، حين ننظر إليها من خلال قانون نظرتنا الصوتية الجديدة إلى المعجم العربي.
لقد كشفت نظرتنا الصوتية إلى المعجم العربي أن المادة اللغوية للعربية، المتوافرة إلى يومنا الراهن والتي حفظها لنا نظام المعجم العربي، تقدم شواهد تاريخية علمية تشير إلى أن نظام المعجم العربي يعكس جميع المراحل التي مرت بها نشأة الإنسان واللغة الإنسانية، ويثبت ذلك بشكل قاطع أن اللغة العربية أصل قائم بذاته.
الهوامش
1- للتوسع في الموضوع، ارجع إلى كتابنا "النظرية اللغوية العربية الحديثة"- منشورات اتحاد الكتاب العرب- 1996.
2- د. تمام حسان "اللغة العربية- معناها ومبناها" -الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2/ 1979، ص40.
3- زكي الأرسوزي "المؤلفات الكاملة" -المجلد الأول- مطابع الإدارة السياسية للجيش- دمشق 1972، ص 54-55
4- محمد المبارك "فقه اللغة وخصائص العربية"- دار الفكر- بيروت، ط6، ص 87-101
5- مصطفى الشهابي "المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث" مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق - ط2/ 1965، ص11
6- "المصطلحات العلمية" ص11
7- زكي الأرسوزي "المؤلفات الكاملة" المجلد الأول، ص 71
8- د. صبحي الصالح "دراسات في فقه اللغة" -دار العلم للملايين- بيروت، ط7، ص141-154
9- زكي الأرسوزي "المؤلفات الكاملة"، المجلد الأول، ص 261
10- د. ربحي كمال "دروس اللغة العبرية"، ط5/ 1971-1972، مديرية الكتب في جامعة دمشق
11و12- للتوسع في الموضوع، ارجع إلى كتابنا "النظرية اللغوية العربية الحديثة".
13- زكي الأرسوزي "المؤلفات الكاملة"، المجلد الأول، ص 341-344
14-زكي الأرسوزي "المؤلفات الكاملة"،المجلد الأول، ص 258-259
15- عبد الحق فاضل "مغامرات لغوية- ملكة اللغات" ، دار العلم للملايين -بيروت.
16- عبد الحق فاضل "آثار حيوانية في اللغة العربية"، مجلة (المعرفة) بدمشق- تشرين الأول 1962
17- "مغامرات لغوية"، ص 366
18- "مغامرات لغوية"، ص 242
19- عبد الحق فاضل "حول المغامرات اللغوية" مجلة (اللسان العربي) بالرباط، عدد يناير 1972
20- الخصائص لابن جني - حققه محمد علي النجار- دار الهدى- بيروت، جـ1 256-257
21- فارتوناتوف "الأعمال المختارة (بالروسية) -دار النشر أو تشييد غيز - موسكو 1956
22- "اللغات السامية" - القسم الثاني/ الجزء الأول (بالروسية)، مقالة غازوف- غيز بيرغ "الجذر السامي ونظرية الصائت الوحيد"- دار النشر نا أوكايو سكو 1965
23- "كتاب سيبويه"، جـ 2، آخر (باب حروف البدل من غير أن تدغم حرفاً في حروف وترفع لسانك من موضع واحد).
24- "الخصائص"، جـ1/ 92
25- "الخصائص"، جـ 1/ 91
26- للتوسع في الموضوع، ارجع إلى مقالتي وعنوانها "ازداوجية اللغة العربية وكيفية الخروج منها"، في مجلة (المعرفة بدمشق- العدد المزدوج222و 223- آب وأيلول 1980
27- ارجع إلى تفصيل ذلك في كتابنا "النظرية اللغوية العربية الحديثة"
---------------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 77 - السنة 19 - تشرين الأول "اكتوبر" 1999 - جمادى الأخرى - رجب 1420