يعدّ معجم "الصّحاح" رائد طريقة خاصة في ترتيب المعاجم اللغوية، يمكن أن نسلك في نظامها معاجم أخرى ظهرت فيما بعد، كلسان العرب لابن منظور، ومختار الصحاح لمحمد الرازي، والقاموس المحيط للفيروزابادي، وتاج العروس للزَّبيدي. وقد رتّبت الموادّ في هذه المعاجم جميعاً ترتيباً هجائياً على أواخر الأصول المجرّدة أبواباً وفصولاً.
وصاحب "الصحاح" هو أبو نصر الجوهري، إسماعيل بن حماد، الذي توفي في أواخر القرن الرابع للهجرة، وكان من أئمة اللغة والنحو المشهورين، وأحد أعاجيب الزمان ذكاءً وفطنةً وعلماً. تتلمذ في العراق لأبي علي الفارسي، وأبي سعيد السيرافي، وسافر إلى الحجاز، فطاف بالبادية وشافه الأعراب، ورحل في طلب العلم، ثم استقرّ في نيسابور من بلاد خراسان، وعكف فيها على التدريس والتأليف حتى وفاته. وقد اشتهر بخطة البديع. الذي يذكر عادةً مع خط ابن مقلة، ويضرب به المثل.
وأشهر كتب الجوهري: "الصحاح"(1) واسمه الكامل هو "تاج اللغة وصحاح العربية" وسمّاه كذلك لأنه أودعه ما صحّ عنده من اللغة. وتعني الصحة لديه:التزام الصواب في النقل، وتحرّي الضبط في التدوين.
ولم يكن "الصحاح" أول معجم عرفته العربية؛ بل سبقته عدة معاجم: كالعين للخليل بن أحمد الفراهيدي (175هـ)، وجمهرة اللغة لابن دريد (-321هـ)، والبارع لأبي علي القالي (-356هـ)، وتهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري (-370هـ) ومقاييس اللغة، والمجمل، وكلاهما لابن فارس
(-395هـ). وهذه المعاجم كلها تختلف في طريقة ترتيب الموادّ عن الصحاح، كما تختلف فيما بينها أيضاً. ولسنا هنا بسبيل الحديث عنها. ولكن الذي يهمنا ذكره في هذا المقام أن الصحاح أول معجم يصل إلينا على طريقته التي اختارها الجوهري في بنائها الكامل ومنهجها المتميّز، وقد قال في مقدمة صحاحه: "أودعت هذا الكتاب ما صحّ عندي من هذه اللغة... على ترتيبٍ لم أسبق إليه، وتهذيب لم أُغلب عليه". وتقوم هذه الطريقة على الأسس التالية:
1- رتّبت المواد ترتيباً هجائياً بحسب الحرف الأخير من الأصل المجرد. وعلى هذا نجد "جلس" في باب السين، و "سمع" في باب العين.. ولكن الجوهري جمع بين الواو والياء في باب واحد، فأصبح عدد الأبواب 27 باباً، بدءاً من أول الحروف الهجائية إلى نهايتها.
2- ثم إنه قسم كل باب إلى 28 فصلاً، بعدد حروف الهجاء، مراعياً فيها ترتيب الموادّ بحسب الحرف الأول وما يليه ضمن كل باب، لتسهيل العثور على الكلمة. فـ "جلس" في فصل الجيم من باب السين، و"سمع" في فصل السين من باب العين... ونجد كلاً من "شجر" و "شبر" في (باب الراء- فصل الشين) ولكن "شبر" تذكر قبل "شجر" لتقدّم الباء على الجيم في الترتيب الهجائي. إلا أن الجوهري -في كل باب- يقدم فصل الواو على فصل الهاء.
3- وألحق الجوهري بمعجمه باباً سماه "باب الألف الليّنة" ضمّنه الكلام على الأدوات التي تنتهي بألفٍ غالباً، والتي لا يعرف أصلها، مثل: (إذا، إلاّ، ألا، إلى، أنّى، إيا، ذا، متى، هنا، كذا، كلاّ...) ومثل: (ذو، ذوات، إذْ، إذن، لات...).
وقد صنّف الجوهري صحاحه للأستاذ أبي منصور البِيشكي(2)، وحظي هذا المعجم بثناء العلماء واللغويين، وتفضيلهم إياه على غيره، فقال الثعالبي: "وله كتاب الصحاح في اللغة، وهو أحسن من الجمهرة، وأوقع من تهذيب اللغة، وأقرب متناولاً من مجمل اللغة".
وقال الخطيب التبريزي: "وكتاب الصحاح هذا حسن الترتيب، سهل المطلب لِما يُراد منه، وقد أتى بأشياء حسنة، وتفاسير مشكلات من اللغة.."(3). كما أشاد به ياقوت الحموي قائلاً: "وهذا الكتاب هو الذي بأيدي الناس اليوم، وعليه اعتمادهم. أحسن [الجوهريّ] تصنيفه، وجوّد تأليفه، وقرّب متناوله، وآثر من ترتيبه على من تقدّمه، يدل وضعه على قريحةٍ سالمة، ونفسٍ عالمة..."(4). وأقرّ بشيء من ذلك منافسه الفيروزابادي فقال في مقدمة القاموس المحيط: "رأيت إقبال الناس على صحاح الجوهري، وهو جديرٌ بذلك".
على أن هؤلاء المصنّفين وغيرهم ذكروا أن المحققّين من العلماء تعقّبوا الجوهري وأخذوا عليه تصحيف عدة مواضع في كتابه، غلط فيها وأخطأ المرمى. وعللّوا ذلك بأن الجوهري لما انتهى من تصنيفه سُمع عليه إلى باب الضاد المعجمة، ثم اعترته وسوسة فألقى بنفسه من سطحٍ فمات، وبقي سائر الكتاب مسودةً غير منقّح ولا مبيّض، فبيّضه بعد موته تلميذه أبو إسحق، إبراهيم بن صالح الوراق(5) -من مذكوري الأدباء في نيسابور- فغلط فيه في عدّة مواضع غلطاً فاحشاً(6). وكان الفيروزابادي بعد ذلك أشدّ العلماء تحاملاً على الجوهري وصحاحه.
وهذا لا يضير "الصحاح" كثيراً، وقد اعتذر عنه الخطيب فقال: "ولا تخلو هذه الكتب الكبار من سهوٍ يقع فيها أو غلطٍ.. غير أن القليل من الغلط الذي يقع في الكتب إلى جنب الكثير الذي اجتهدوا فيه، وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه، معفوٌّ عنه"(7). كما أحسن ياقوت في مثل ذلك وهو يقول: "ومن ما ساء قطّ، ومن له الحسنى فقط؟ فإنه -رحمه الله- غلط وأصاب، وأخطأ المرمى وأصاب، كسائر العلماء الذين تقدّموه وتأخّروا عنه فإنّي لا أعلم كتاباً سُلّم إلى مؤلّفه فيه، ولم يتبعه بالتتبع من يليه".
لقد استمد الجوهري مادة كتابه من السماع، والرواية عن العلماء، ومن مشافهة العرب في البوادي، وممّا أُلّف قبله من المعاجم: كالعين، والجمهرة وما إليهما، وأكثر من شواهد القرآن والحديث والشعر، حتى بلغ عدد موادّه -كما قالوا- أربعين ألف مادّة، مرتبةً ترتيباً سهل المأخذ، خالياً من التعقيد والاضطراب، وقد التزم فيه -كما رأينا- طريقة التقفية، لأن الكلمات تتعاقب في كل باب تعاقب القوافي في القصيدة. وهذا كله يشهد للجوهري بالعبقرية الفذّة، إذ كان عمله مزيجاً من الفكر والعقل والقلب، وما زال حتى أقام بناءً كاملاً بل صرحاً ممرّداً ارتضاه الناس من بعده، وتفيّأ اللغويّون ظلاله جيلاً بعد جيل، وإن كان لا يخلو من بعض العثرات والأوهام، لأسبابٍ أشرنا إلى بعضٍ منها، وفي مكنة القارئ تقرّي بعضها الآخر.
وهكذا سارت طريقة الجوهري من بعده، وارتضى اللغويون ترتيب "الصحاح"(8)، فجاء ابن منظور المصري (-711هـ) بعد ثلاثة قرون وألف معجم "لسان العرب" الذي يعدّ من أضخم المعاجم العربية وأغزرها مادة، إذ بلغ عدد موادّه ثمانين ألف مادة، مع شواهد كثيرة، وأخبار، وأشعار، جعلته موسوعة مختلفة الألوان، وحظي على مدى الأيام بتقدير العلماء وثقتهم، وإن كان لا يخلو أيضاً من بعض المآخذ. وقد جمع فيه ابن منظور بين خمسة معاجم صنّفت قبله، وهي: التهذيب للأزهري (-370هـ)، والصحاح للجوهري (-396هـ) والمحكم لابن سيده الأندلسي (-458هـ) وحواشي ابن بري على الصحاح (-576هـ)، والنهاية لابن الأثير (-609هـ). ولم يكن "جمهرة اللغة" لابن دريد من أركان "لسان العرب" خلافاً لما يظنّه بعض الباحثين.
وقد التزم ابن منظور طريقة "الصحاح" ومنهجه التزاماً كاملاً، وصرّح بذلك في المقدمة قائلاً: "ورتّبته ترتيب الصحاح في الأبواب والفصول".
ونتجاوز لسان العرب إلى معجمٍ آخر نخصه بالشقّ الثاني من هذا البحث وهو "القاموس المحيط".وصاحبه هو مجد الدين، محمد بن يعقوب الفيروزابادي (817هـ)(9)، وكان في أول أمره قد شرع في تأليف معجم سماه "اللامع المُعْلَم العجاب، الجامع بين المحكم والعباب"(10)، وقدّر له نحو ستّين جزءاً، ولكنه عدل عنّه بعد ذلك إلى اختصاره في كتابٍ آخر "محذوف الشواهد، مطروح الزوائد، مُعْرباً عن الفُصَح والشوارد" وسماه "القاموس المحيط" لأنه البحر الأعظم. ورتّبه على طريقة الصحاح واللسان، وأوضح ذلك بنفسه قائلاً:
إذا رمت في القاموس كشفاً للفظةٍ ** فآخرها للباب، والبدءُ للفصل
ولا تعتبر في بدئها وأخيرها ** مزيداً؛ ولكنّ اعتبارك للأصل(11)
وقد أدمج الواو والياء أيضاً في بابٍ واحد، كما ألحق به "باب الألف اللينة"، وذكروا أن عدد مواده ستون ألف مادّة.
أما مصادره فلم يصرّح في المقدمة إلا باثنين منها، كان عليهما جلّ اعتماده، وهما "المحكم" لابن سيده، و"العباب" للصغاني، وأنه أضاف إليهما زياداتٍ منّ الله بها عليه عند غوصه عليها من بطون الكتب. ولا نشكّ في أنه رجع إلى التهذيب والصحاح والنهاية والمُغْرب للمطرّزي، وأساس البلاغة للزمخشري، ولسان العرب وغيرها. وقد جاء ذكر بعضها خلال كتابه. بل إنني قابلت بين عددٍ من الموادّ المشتركة بين القاموس المحيط واللسان فوجدت الفيروزابادي يسير على خطا اللسان في سرد كلمات كل مادّة، ويمشي معه، سالكاً طريق الاختصار والإيجاز، وحذف الشواهد والنصوص.
وأبرز ما يمتاز به القاموس المحيط: كثافة مادّته، وإيجاز عبارته التي تصل أحياناً إلى حدّ الغموض أو اللّبس، مع حرصٍ على الشمول والاستيعاب، واعتماد رموز واصطلاحاتٍ خاصة رغبةً في الاختصار، ودفعاً للتكرار. وقد ذكرها في مقدمة كتابه وأشار إلى بعضها أحد الشعراء بقوله:
وما فيه من رمز فخمسة أحرف ** فميمٌ لمعروف، وعَيْنٌ لموضعِ
وجيمٌ لجمعٍ، ثم هاءٌ لقريةٍ، ** وللبلدِ: الدالُ التي أُهملت، فَعِ(12)
ومن خصائص القاموس المحيط أيضاً أنه يضبط الكلمات بألفاظ شائعة معروفة، ولا يكتفي في ذلك بالشكل والحركات، ويعنى بضبط أعلام الأشخاص والأمكنة في نهاية كل مادة غالباً، كما يهتم بإيراد المولّد والأعجمي من الألفاظ وبيان أصله، ويميّز بين واوي اللام ويائيّها في الباب الأخير... مثل: و(غزا)- ي(رمى)- و(محاه)- ي(محاه)...
وهذا الكتاب -على جلالة قدره- لا يخلو من المآخذ أيضاً، من ذلك: اقتصاره على متن اللغة، دون شروح وافية، ولا شواهد كافية، حتى إن عبارته لا تخلو أحياناً من الاضطراب الذي يدعو إلى تقليب وجوه التأمل والنظر فيها قبل الوصول إلى المراد.
هذا إلى اضطراب آخر في ترتيب ألفاظ كل مادةٍ فيما بينها -وهو عيب تشترك فيه كل المعاجم القديمة- لذلك كله كانت القراءة في القاموس المحيط تحتاج إلى المرانة، وإلى مزيدٍ من الأناة والتدبر.
على أن من يقرأ مقدمة "القاموس" فلا بدّ أن يلفت نظره اعتداد الفيروزابادي بنفسه، وإدلاله بسعة إحاطته اللغوية: "إني قد نبغت في هذا الفن قديماً، وصبغتُ به أديماً، ولم أزل في خدمته مستديماً". حتى إنه لم يستطع أن يخفي تحامله على الجوهري، والغمز من قناته، فقال في مقدمة كتابه، مزهواً بتأليفه:
"ولما رأيت إقبال الناس على صحاح الجوهري -وهو جديرٌ بذلك، غير أنه فاته نصف اللغة أو أكثر؛ إما بإهمال المادة، أو بترك المعاني الغريبة النادّة- أردت أن يظهر للناظر باديَ بدءٍ فضلُ كتابي هذا عليه، فكتبت بالحمرة المادة المهملة لديه، وفي سائر التراكيب تتّضح المزيّة بالتوجّه إليه".
وكأنه أحسّ بما يحمله كلامه هذا من سمة الإعجاب بالنفس، فأراد أن يخفّف من غلوائه، وأكمل عبارته بقوله:
"ولم أذكر ذلك إشاعة للمفاخر، بل إذاعةً لقول الشاعر: (كم ترَك الأول للآخر)... ثم إني نبّهت فيه على أشياء ركب فيها الجوهريّ رحمه الله خلاف الصواب، غير طاعنٍ فيه، ولا قاصدٍ بذلك تنديداً له وإزراءً عليه، وغضّاً منه؛ بل استيضاحاً للصواب واسترباحاً للثواب، وتحرّزاً وحذاراً من أن يُنمى إليّ التصحيف، أو يُعزى إليّ الغلط والتحريف".
ثم هو بعد ذلك يعيب معظم الكتب اللغوية قبله بما فيه "من الأوهام الواضحة، والأغلاط الفاضحة" ويصرّح بأنه اختصّ كتاب الجوهري من بينها "لتداوله واشتهاره بخصوصه، واعتماد المدرّسين على نقوله ونصوصه".
ولم يكتف الفيروزابادي بذلك، بل راح -فيما يعرضه من المواد والشروح- يتعقّب الجوهري في كل موضعٍ، ويغتنم كل سانحة، فيغلّطه تارةً؛ ويوهّمه تارة أخرى. وما أكثر ما يقول: "وهم الجوهري" أو "غلط الجوهري".
ومن الطريف أن هذا الأمر انقلب، من بعد، إلى معركة بين اللغويين والمدرّسين من القدامى والمحدثين، في انتصار فريق منهم للصحاح، وآخر للقاموس المحيط، حتى أُلّفت في ذلك كتب كثيرة، وقيلت نتفٌ ومقطوعات أشبه بالنقائض الشعرية، سوى ما ألفه علماء آخرون، ممن لم تأخذهم العصبية لأحد الكتابين على الآخر.
ومن أشهر الكتب في هذا المضمار اثنان: أولهما كتاب "الوشاح وتثقيف الرماح في ردّ توهيم المجد للصحاح"(13) لأبي زيد المغربي العمري، نزيل مكّة. وثانيهما: كتاب "الدر اللقيط في أغلاط القاموس المحيط" لمحمد بن مصطفى، الشهير بداود زاده التركي. وهو يعني بأغلاط القاموس المحيط ما أخذه الفيروزابادي على الجوهري وضمنه كتابه القاموس.
كما أن الزبيدي في كتابه: "تاج العروس" -وهو شرح للقاموس المحيط- ردّ كثيراً من مآخذ المجد على الجوهري، وأثبت صواب ما جاء في الصحاح.
أما الأشعار فقد أثنى على القاموس وانتصر له غير واحدٍ، فمن ذلك ما قاله الأديب نور الدين علي بن محمد العفيف المكي، المعروف بالعُليفي:
مُذْ مدَّ مجدُ الدين في أيامه ** من بعض أبحر علمه "القاموسا"
ذهبت "صحاح" الجوهريّ كأنها ** سحر المدائن حين ألقى موسى(14)
وكتبت أديبة عصرها زينب بنت أحمد الحسنيّة (-1114هـ) إلى السيد موسى بن المتوكل تطلب منه القاموس:
مولاي موسى، بالذي سمك السّما ** وبحقّ مَنْ في اليمّ ألقى موسى
أمنُنْ عليّ بعارةٍ مردودةٍ ** واسمح بفضلك، وابعث القاموسا(15)
وقد ردّ على القول الأول العالم المشهور أديب الشام عبد الغني النابلسي قائلاً:
من قال: قد بطلت صحاح الجوهري ** لما أتى القاموس، فهو المفتري
قلت: اسمه القاموس، وهو البحر، إنْ ** يفخر فمعظم فخره بالجوهرِ(ي)(16)
وهذا الفقيه جمال الدين محمد بن الصباح الصباحي يقول في مدح القاموس المحيط:
من رام في اللغة العلوّ على السُّها ** فعليه منها ما حوى قاموسُها
مُغنٍ عن الكتب النفيسة كلّها ** جمَاع شمل شتيتها ناموسها
فإذا دواوين العلوم تجمّعت ** في محفلٍ للدرس فهو عروسُها
لله مجد الدين، خير مؤلّفٍ ** مَلك الأئمةَ، وافتدتْه نفوسُها
وفي صحاح الجوهري يقول إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري:
هذا كتاب الصحاح سيّد ما ** صنّف قبل الصحاح في الأدب
يشمل أبوابه، ويجمع ما ** فُرّق في غيره من الكتب(17)
وكانت ثمرات ذلك وغيره خيراً للعربية عامةً وللكتابين خاصةً، إذ اهتم بهما اللغويون والمصنفون قديماً وحديثاً، فعرضوا لما فيهما من أوهام، واستدركوا ما فاتهما من نقص، وفضّلوا ما فيهما من إجمال، واستكملوا شواهدهما، وترجموهما إلى لغاتٍ أخرى كالفارسية والتركية، بل إن بعض المصنفين اختصروهما، كما وصل الأمر ببعض المعاصرين إلى تغيير ترتيبهما، وقلب نظامهما، تسهيلاً للدارسين، وتيسيراً على الباحثين، حتى كادت تتلاشى معالم كلٍّ من هذين الكتابين، وأوشك أن يفقد لبوسه الذي ألبسه إياه صاحب الحقّ فيه، ولا ندري: أيرضى الجوهري عما فعله المتأخرون في صحاحه، أم يتقبل الفيروزابادي ما صار إليه أمر قاموسه بقبول حسن؟!
ومهما يكن من أمرٍ فقد أُلّفت كتبٌ في تصحيح ما في الكتابين: الصحاح، والقاموس المحيط أو تكملتهما أو تذييلهما،
أما الصحاح فمن أشهر الكتب المؤلفة حوله في ذلك:
1- التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح(19) لابن بري المصري، المتوفى سنة (582هـ)، ويعرف بين الناس باسم "حواشي ابن بري على الصحاح"، وقد وصل فيه مؤلفه إلى مادة "وقش".
2- التكملة والذيل والصلة: لرضي الدين، الحسن بن محمد الصاغاني (-650هـ) ويقع في ستة مجلدات ضخمة، استدرك فيه على صحاح الجوهري ما فاته من اللغات، واستتم ما أغفله من معاني الكلمات، وتعقب أوهامه وما أخطأ فيه بالتصحيح.
3- نفوذ السهم فيما وقع للجوهري من الوهم: لصلاح الدين الصفدي. وقد أفاد فيه من حواشي ابن بري، وزاد عليه فوائد أدبية واستدراكات حسنة.
وقام بعضهم أيضاً بتهذيب مواد الصحاح واختصاره، ومن هذه المختصرات:
1- تهذيب الصحاح: لمحمود الزنجاني (-565هـ) طبع سنة 1952م في ثلاثة أجزاء، على ترتيب الصحاح نفسه، مختصراً مواده إلى ما يقارب ثلث الأصل.
2- مختار الصحاح: لمحمد بن أبي بكر الرازي (-760هـ). ويبلغ في مادته عُشر ما في الصحاح، ولذا كان مختصراً جداً لا يفي بالغرض. وقد التزم فيه الرازي الترتيب على الباب والفصل أيضاً، وطبع على ذلك عدة مرات. ثم قام منذ أوائل هذا القرن محمود خاطر أحد موظفي مطبعة بولاق في مصر بترتيبه على الحرف الأول على طريقة أساس البلاغة والمغرب والمصباح المنير والمعجمات الحديثة، وحذف منه بعض الألفاظ التي رأى أنها لا تليق في السمع، وظهرت طبعته هذه أول مرة سنة 1907= 1325هـ ثم تعددت طبعاته في بلاد الشام ومصر، بإثبات ما حذف منه تارة، والعودة إلى الحذف تارة أخرى.
3- المختار من صحاح اللغة: تأليف: محمد محيي الدين عبد الحميد، ومحمد عبد اللطيف السبكي، وقد أضافا إلى مختار الصحاح زيادات تعادل نصفه استمدّاها من عدة معاجم وهي: المجمل، والأساس، والنهاية، واللسان، والمصباح المنير والقاموس المحيط، والتاج، ومحيط المحيط، ونسب كل جزء من هذه الزيادات إلى أصله برمز اصطلح عليه المؤلفان، ووضعا هذه الزيادات بين مربعين لتمييزها عن النص الأصلي لمختار الصحاح. وقد تم تأليفه سنة 1353هـ = 1934م وطبع مراراً.
4- إيضاح مختار الصحاح: نشر سنة 1997 إعداد: نديم المرعشلي، وأسامة المرعشلي، وعادل المرعشلي. وهو إحياء لمختار الصحاح على طريقة متكاملة تقوم على إكمال الآيات القرآنية وتخريج الأحاديث النبوية وإتمام الأبيات الشعرية مع شرح ما يعسر فهمه من ذلك كله.
وفي السنوات الأخيرة ظهرت طبعتان حديثتان تنتسبان إلى "الصحاح" وتُعزَيان إليه، وهما:
1- الصحاح في اللغة والعلوم -"تجديد صحاح العلامة الجوهري، والمصطلحات العلمية والفنية للمجامع والجامعات العربية"- إعداد وتصنيف: نديم مرعشلي، وأسامة مرعشلي- دار الحضارة العربية- بيروت 1974 في مجلدين. وهذا الكتاب تهذيب لصحاح الجوهري، وإعادة لترتيبه على أوائل الأصول بدلاً من أواخرها، وحذف لما فيه من القضايا الصرفية والنحوية، وكلمات الموازين لأن الحروف المشكولة تغني عنها، مع اختصار الشواهد الشعرية الموغلة في بداوتها أو المتسمة بالسطحية منها، يضاف إلى ذلك عمل يرتبط بالمعاصر، إذ ضم الكتاب نتاج المصطلحات اللغوية والعلمية مندرجة بحروف أصغر في مواد المعجم نفسها أو مستقلةً بحسب ورودها دخيلةً أو معربة، مع الإشارة إلى مصادرها. وبذلك أصبحت من صلب العمل المعجمي، مع استخدام عدد من الرموز والمصطلحات لا مجال لذكرها هنا. وبذلك كان هذا العمل بعضُه إحياءٌ وبعضه تجديد.
2- "الوسيط في اللغة والعلوم" وهو مختصر للكتاب السابق، وقام بهذا العمل الأديبان: نديم مرعشلي، ونجله: أسامة، ونشر في مجلد واحد سنة 1975م.
أما القاموس المحيط فقد أثار اهتمام الكثيرين من اللغويين في القديم والحديث(20)، فتناولته كتب كثيرة بالشرح والاختصار والزيادة والنقد، ونذكر هنا بعضها:
1- تاج العروس من جواهر القاموس: لمرتضى الزَّبيدي (1205هـ) وهو شرح مطوّل للقاموس المحيط ، مع زيادات واستدراكات كثييرة ختم بها كل مادّة. وهو يقع في عشرة مجلدات في طبعته القديمة الكاملة، ويطبع أخيراً في الكويت، وقد ظهر منه ثلاثون مجلداً منذ سنة 1965 حتى اليوم، ويُنتظر أن تصل طبعة الكويت إلى الأربعين مجلداً.
2- الجاسوس على القاموس: لأحمد فارس الشدياق (-1304هـ = 1887م) وقد تتبع فيه عثرات الفيروزابادي وأوهامه في القاموس المحيط، وكأنه وقف منه موقف الفيروزابادي نفسه من صحاح الجوهري.
3- ترتيب القاموس المحيط: للطاهر أحمد الزاوي الطرابلسي. وقد عمد إلى القاموس المحيط فأعاد ترتيبه على حسب أوائل الكلمات وطبع أول مرة سنة 1959م في أربعة مجلدات، ولكنه حذف من آخره (باب الألف اللينة)!!
4- مختار القاموس: للطاهر أحمد الزاوي الطرابلسي. وقد اختصر فيه القاموس المحيط على طريقة المصباح وتقليداً لمختار الصحاح. وطبع في مجلد واحد سنة 1964م = 1383هـ.
تلك هي قصة المعجمين اللغويين: صحاح الجوهري، وقاموس الفيروزابادي، في كل ما يتصل بهما، قديماً وحديثاً من حيث المضمون والتعليقات والموازنات، وما أثير حولهما من ردود ومناظرات ومناقشات في الشعر والنثر، وقد عاد ذلك، كما قلنا، بالخير والفائدة على اللغة العربية عامةً، وعلى هذين المعجمين خاصةً. ولم ينل غيرُهما من المعاجم ما نالا من عناية اللغويين واهتمامهم ومتابعاتهم، حتى وصل الأمر إلى اختصارهما وتهذيبهما في معجمات أخرى مستحدثة، اختلفت طرائقها ومناهجها في الاختصار والتهذيب قديماً وحديثاً، ولعلنا بذلك كله قد قدمنا للقارئ صورة علمية وطريفة في آنٍ عن جانب غني من جوانب بعض معاجمنا اللغوية، راجين أن نكون قد وفينا هذا الجانب حقه من البحث والتقصي.
الإحالات:
1- الصحاح بكسر الصاد، جمع "صحيح". وبفتحها: مصدر، مثل براء. (المزهر للسيوطي 1/97).
2- هو عبد الرحيم بن محمد البيشكي، بكسر الباء، من أهل الرياسة والجلالة، والعظمة والثروة، في نيسابور. نسبته إلى بيشك قرية في نيسابور. (انظر نزهة الألباء للأنباري ص344).
3- المزهر للسيوطي 1/97- 98.
4- المزهر للسيوطي 1/99.
5- إنباه الرواة للقفطي 1/169.
6- معجم الأدباء لياقوت الحموي 6/156. وعنه (المزهر 1/99).
7- المزهر 1/97- 98.
8- حتى إن المُناوي عمد إلى اختصار أساس البلاغة للزمخشري، وجعل ترتيبه على نظام الصحاح وسمى كتابه هذا "إحكام الأساس".
9- ولد في قرية "كارَزين" قرب شيراز في بلاد فارس، بعد وفاة ابن منظور بثمانية عشر عاماً، وتنقل بين بلاد الشام ومصر وبلاد الروم، ولقي تكريماً وافراً من تيمورلنك، ثم دخل إلى بلاد الهند فأكرمه ملكها أيضاً. وكان لا يسافر إلى وصحبته عدة أحمالٍ من الكتب، ولا ينام حتى يحفظ أكثر من مئتي سطر. وقد ألف ما يزيد على العشرين كتاباً في اللغة والتفسير والحديث والتراجم وغير ذلك.
10- جمع فيه بين كتابي "المحكم" لابن سيده (-458هـ)، و"العباب" للصاغاني (650هـ) وضمّ إليهما زياداتٍ تجمّعت لديه من مصادر مختلفة امتلأ بها الوِطَاب كما قال في مقدمته.
11- فوائد شريفة وقواعد لطيفة: لنصر الدين الهوريني، في مقدمة القاموس المحيط ص8.
12- المصدر نفسه ص8.
13- طبع في بولاق سنة 1281هـ في 134 صفحة، بتصحيح نصر الهوريني، ثم طبع ثانية بهامش "الصحاح" في مصر سنة 1292هـ. (معجم سركيس ص1385)
14- شرح ديباجة القاموس ص16.
15- شرح ديباجة القاموس ص16.
16- شرح ديباجة القاموس ص16.
17- المزهر 1/98، وشرح ديباجة القاموس، للهوريني ص17.
18- من ذلك على سبيل المثال كتاب (بهجة النفوس في المحاكمة بين الصحاح والقاموس) للقرافي المتوفى سنة (1008هـ).
19- ويسمى في بعض المصادر: (التنبيه والإيضاح على ما وقع من الوهم في كتاب الصحاح).
20- انظر: المعجم العربي: للدكتور حسين نصار 2/566.
---------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 77 - السنة 19 - تشرين الأول "اكتوبر" 1999 - جمادى الأخرى - رجب 1420