مقدمة:
فارس بن يوسف الشدياق أديب، شاعر، لغوي، لبناني الأصل، ماروني المذهب. عشق اللغة العربية فحفظ كثيراً من ألفاظها ومعانيها، واطلع على ما في القرآن الكريم من حكم وعظات، فحفظ كثيراً من آياته. أطلق على نفسه اسم أحمد فارس الشدياق، ثم اختصره فقال (الفارياق). وهذا اللقب مشتق من لفظتين (فار) وهي المقطع الأول من اسمه فارس، و(ياق) وهي المقطع الأخير من اسم أسرته أي الشدياق.
لقد جاء في معجم (القاموس المحيط للفيروزأبادي)، عند الكلام على كلمة (شدق): الشيدق أو الشيداق هو الصقر أو الشاهين، وربما لهذا السبب أطلق الأديب والمؤرخ اللبناني (مارون عبود)، على كتاب ألفه عن النهضة الأدبية في لبنان، ورجلها الأول أحمد فارس الشدياق، اسم (صقر لبنان).
ونظراً لأهمية وطرافة قصة حياة هذا الأديب الكاثوليكي الماروني الذي اعتنق البروتستانتية ثم تحول إلى الإسلام، والذي جاب أقطار الشرق والغرب، ووصف عاداتها وتقاليدها وسكانها، ولغاتهم المختلفة، وألف فيها كتباً ومقالات ملأت الصحف والمجلات، ونظراً لمرور مئتي عام على ولادته فقد وجدت من المستحسن إحياء ذكره بهذه المقالة.
السيرة الذاتية لأسرة الشدياق:
كان يوسف شدياق، والد فارس، يعمل جابياً عند الدولة في لبنان. وكان وجيهاً وأديباً، محباً للمطالعة، باقتناء الكتب المخطوطة والمطبوعة ونسخها. وكانت زوجته من آل سعد، وهي أسرة عريقة، ذات نفوذ ومكانة في لبنان. وخلفا خمسة أولاد ذكور، أكبرهم طنّوس، ويليه منصور، ثم أسعد ثم غالب، وآخرهم فارس.
كان لبنان في ذلك الحين تحت حكم الأمراء الشهابيين. وكان حكماً إقطاعياً شديد الوطأة على الرعية، وخاصة في عهد الأمير يوسف، ومن بعده ابن أخيه الأمير بشير الكبير.
لقد سعى هؤلاء الحكام، لبسط نفوذهم وسيطرتهم، إلى التفريق بين الطوائف التي يتألف منها الشعب اللبناني. وكان يوسف شدياق من المعارضين لحكم الشهابيين. فانحاز لحزب سياسي معارض يضم بعض شيوخ الدروز، والساعين لخلع الأمير الحاكم. ولما أخفقوا في سعيهم والكشف عن أمرهم اضطروا للفرار إلى دمشق، بمن فيهم يوسف شدياق وأسرته. وفي سنة 1820م توفي يوسف في دمشق ودفن فيها. فانفطر قلب زوجته حزناً عليه، نظراً لما كان بينهما من ألفة ومودة. ولما عادت الأسرة إلى منزلها في لبنان وجدته منهوباً.
كان طنوس (1791-1861)، وهو الابن الأكبر لهذه الأسرة، يتقن اللغتين السريانية والعربية –كما كان مطلعاً على تاريخ العرب وآدابهم بصورة عامة. فعمل على نسخ بعض المخطوطات في التاريخ والطب وعلم الفلك، مستفيداً من الكتب المحفوظة في مكتبة والده. وله من المصنفات كتاب عنوانه (أخبار الأعيان في جبل لبنان).
احتلّ طنوس بعد وفاة والده مكانة مرموقة عند الأمراء الشهابيين، فتولّى عدة وظائف مهمة، منها منصب "القضاء على نصارى لبنان".
أما الأخ الثاني لفارس شدياق، وهو منصور (1795-1841م) فقد تعلم في مدرسة عين ورقة في جبل لبنان، وأتقن الخطّين السرياني والعربي، ونسخ كثيراً من الكتب، كوالده وإخوته. وعمل في خدمة الأمراء الشهابيين.
والأخ الثالث وهو أسعد (1798-1830) درس على أخيه طنوس آداب اللغتين السريانية والعربية، وانتسب لمدرسة عين ورقة وعمره أربع عشرة سنة. ونظراً لتفوقه وذكائه واجتهاده فقد عهد إليه تدريس الرهبان السريانية واللاهوت في دير القديس أنطونيوس في مدينة بعبدا. كما قام بتدريس اللغتين السريانية والعربية لبعض أفراد الإرساليات الأميركية، التي جاءت إلى لبنان بقصد التبشير بالمذهب البروتستنتي، وكان منهم جوناس كينغ Jonas King ومن بعده إسحاق بيرد الذي اعتنق أسعد على يده البروتستنتية.
ولما اتصل هذا الخبر بالبطرك الماروني (يوسف حبيش)، كبر عليه الأمر، فاستدعى أسعد ووبخه بشدة، وأنذره بالحرمان والعقاب إن لم يعد لمذهبه. فلما أصرّ أسعد على اعتناق المذهب الجديد أمر البطرك بسجنه بدار الوزيرية بقنوبين.
بقي أسعد مسجوناً مدة ست سنوات، لاقى خلالها ضروب الذلّ والهوان والمرض. وتوفي أخيراً عن عمر لم يتجاوز اثنين وثلاثين عاماً. وكان لهذا العقاب أشد الأثر في نفوس أفراد عائلة الشدياق، نظراً لما كان يتمتع به أسعد من شباب وجمال، وعلم وحياء، ونزاهة وكرم أخلاق.
أما الأخ الرابع وهو غالب فقد رحل إلى مصر 1847م، حيث عين كاتباً في الديوان العالي للحسابات، وحصل على مكانة ممتازة في ظل حكم محمد علي باشا. لكنه لم يلبث طويلاً في مصر، فقد عاد إلى لبنان 1834م، حيث عينه الأمير بشير الشهابي كاتباً في ديوانه.
السيرة الذاتية لأحمد فارس الشدياق:
اختلف المؤرخون في تعيين سنة ولادته ومكانها، فبعضهم يقول إنه ولد في عشقوت سنة 1805م، وبعضهم يقول 1801م، ولكن يمكننا أن نقرّ، اعتماداً على ما جاء في كتاب الدكتور عماد الصلح، أنه ولد 1802م في حارة الحدث بالقرب من بيروت.
لقد ذكر فارس شدياق في بعض مؤلفاته، وخاصة في كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق" نبذاً على حياته الخاصة، وهمومه ومسرّاته، حيث تكلم فيها بأسلوبه الفذّ، الذي يجمع فيه بين الجد والهزل، على دراسته ومستوى كفاءة من أخذ عنهم العلم، فقال: إن والديه لم يكن في طاقتهما إرساله إلى الكوفة أو البصرة ليتعلم اللغة العربية، وإنما جعلاه عند معلم في كتّاب القرية التي سكنوا فيها. وكان معلمه، مثل سائر معلمي الصبيان في بلدهِ، لم يطالع في حياته سوى كتاب الزبور، المترجم من السريانية إلى العربية. وكان الطلاب لا يفهمون منه شيئاً لفساد ترجمته، وركاكة عبارته. كما كان المعلمون أنفسهم لا يعرفون اللغة العربية الفصحى، ولا الخط والحساب، ولا التاريخ والجغرافية.
أقام فارس شدياق عند معلمه في الكتاب حتى ختم الزبور، وبعد ذلك أوجس منه المعلم أ ن يربكه بأسئلته المحرجة فتصعب عليه الإجابة عنها، وينفضح جهله بها، فأشار على والده أن يخرجه من الكتّاب ويشغله بنسخ الكتب في المنزل. فلبث على هذه الحالة مدة طويلة. واستفاد خلالها بتجويد الخط، وبحفظ كثير من الألفاظ والمصطلحات العربية الفصيحة وفهم معانيها.
ولما شاعت شهرة فارس بحسن الخط وجودة النسخ استدعاه الأمير حيدر أحمد شهاب، صاحب كتاب "الغُرَر الحسان في أخبار أهل الزمان" لينسخ له ما كان يجمعه من مخطوطات ووثائق لكتابة هذا المؤلف. لكن الأمير كان بخيلاً يقتر عليه في المال، وهذا ما اضطر فارساً لتركه.
لقد أثّر نسخ الكتب إلى جانب الفقر على صحة فارس شدياق فأصبح كما قال عن نفسه: غائر العينين ناتئ الخدّين. –كما وجد أن النسخ مهنة لا تسد رمقاً، وأيقن أن الرزق الذي يأتي من شقّ القلم لا يكون إلا ضيّقاً... لذلك اتفق مع صديق له على استدانة مبلغ من المال لشراء أنواع من البضاعة، والعمل على ترويجها في بعض القرى المجاورة. فاكتريا حماراً هزيلاً لحمل البضاعة، وقاما بعدة جولات لبيعها. وبعد مجادلات مع الشارين طويلة، ومحاولات ومصاولات وبيلة، اقتنع الفارياق وشريكه بالإياب، فرجعا بثمن البضاعة وسلما الحمار لصاحبه.
لقد قرّ رأيهما بعد ذلك على استئجار خان يقع على طريق عام في لبنان. واستبضعا ما يلزم لهما من مختلف المواد والأدوات، فلم تمض عليهما غير مدة قصيرة حتى انتشر صيتهما وكثرت زبائنهما وزادت وأرباحهما. وصار الخان ملتقى أهل الفضل والبراعة، وأصحاب القصص البديعة والأصوات الشجية. وكان الشدياق وزميله يقومان بمهمة الحكم عندما تثور المناظرة والجدل بين الزبائن وتعلو أصواتهم. وهذا ما أثار غضب الجوار من السكان، وبخاصة النساء اللاتي أصبحن يشكون هجر أزواجهن لانصرافهم إلى السهر في خان الشدياق وزميله.
وفي أحد الأيام جرى بين فارس شدياق وجدّه مناقشات ونزاع بسبب رداءة العمل الذي يقوم به فارس وزميله. فاضطر فارس عقب ذلك لترك الخان والعودة إلى البيت. وبعد أيام جاء أخوه أسعد إلى حارة الحدث ليمارس التعليم فيها. فجاءه أميران من تلك القرية ليدرسا عليه النحو، فانضم فارس إليهما، وبهذه الصورة تحسنت معرفته للغة العربية على يد أخيه.
اعتناق فارس شدياق للمذهب البروتستانتي:
كنا تكلمنا على أسعد شدياق، وما جرى له مع البطرك الماروني يوسف حبيش. وقد كتب قصته المأسوية وتوسع فيها المؤرخ بطرس البستاني، ونشرها في كتاب عنوانه "قصة أسعد شدياق" وطبعت لأول مرة 1860م.
وتبدأ هذه القصة عندما ذهب أسعد إلى دير القمر لتعليم مبشر أميركي اسم جوناس كينغ Jonas King اللغة العربية. لقد تمتنت العلاقة بين المعلم وتلميذه، وبعد مدة سافر المستر كينغ إلى بلده في إجازة، بعد أن وجه رسالة قبل سفره إلى معارفه وأصدقائه من اللبنانيين، يدعوهم فيها إلى اعتناق المذهب الجديد أي البروتستانتية.
وبعد أن درس أسعد تلك الدعوة ومحصها اقتنع بها، وصار يلازم المبشر الأميركي إسحاق بيرد Ishac Beard. فغضبت والدة أسعد وإخوته غضباً شديداً، كما غضب عليه البطرك، ومنعه من مخالطة المبشرين وهدده بالعقاب.
لقد أعطى أسعد لأخيه فارس مجموعة من المطبوعات الدينية البروتستانتية ليقرأها. فراقت في عينيه وتفكيره، وأخذ يقنع والدته وأخوته بترك أخيه وشأنه.
وفي أحد الأيام دخل على فارس أخوه منصور، فرآه يقرأ في تلك المطبوعات، فاستل سيفاً وأخذ يضرب أخاه بقفا السيف. ثم تبعه أخوه غالب، وصار يضرب فارساً بعصاه، ويأمره بترك الهرطقة والعودة للصلاة في الكنيسة.
كان أسعد شدياق في ذلك الوقت سجيناً في دير قنوبين، فكتب رسالة إلى المبشر إسحاق بيرد، وأرسلها إليه بواسطة أخيه فارس، وكانت الرسالة مؤرخة في 4/4/1826م، وقال له فيها: "إذا أمكنك أن تجد مركباً متوجهاً إلى مالطة، في برهة أربعة أو خمسة أيام، فأخبرني، وإلا فصلّي لأجل أخيك".
ويقول فارس شدياق إنه لما اشتد الخصام بينه وبين والدته وإخوته بسبب ميله للمذهب الجديد، ذهب إلى المبشر إسحاق بيرد في بيروت، وذكر له ما حدث بينه وبينهم، فنصحه بالصبر والأناة، ومما قال له "إن المبشر كحامل خرج يضع فيه سلعه. ثم يغادر وطنه إلى البلدان القاصية لترويجها، ولا يزال ذلك دأبه حتى يقضي نحبه".
لقد أعجب فارس بكلام المبشر وقال له: "إني مشايعك وحامل الخرج معك" وصار يطلق على المبشرين اسم الخرجيين. أما أسعد فقد ساءت صحته كثيراً في السجن، من جراء الإهانة والتعذيب، وظهرت عليه إمارات الجنون، ويقول الأستاذ عماد الصلح: "لم يُعلم بالضبط متى مات أسعد، ولكن إذا ذكرنا أن المعلم بطرس البستاني قال: "إن البطرك حبيش سجنه في أوائل 1826، وإن فارس شدياق ذكر في كتابه الساق على الساق أن أخاه سجن ست سنوات، قلنا إن حياته لم تتجاوز 1832 إلا قليلاً، أما البطرك حبيش فيقول إنه مات قبل هذا التاريخ بسنتين.
سفر فارس شدياق إلى مصر، ومنها إلى مالطة:
لما وجد المبشر إسحاق بيرد أن من المتعذر عليه إنقاذ أسعد شدياق من سجنه، وترحيله بالتالي إلى خارج لبنان، فضل السعي لإنقاذ أخيه فارس، الذي اعتنق البروتستانتية، وأصبح مرشحاً ليكون مبشراً لهذا المذهب، وبالتالي مهدداً بالسجن والعقاب كأخيه.
وفي اليوم الثاني من شهر كانون الثاني 1826م غادر فارس شدياق مدينة بيروت على ظهر سفينة أقلته إلى الإسكندرية. وكان يحمل كتاباً من المبشر إسحاق بيرد إلى مبشر آخر موجود في مصر، ويطلب فيه مساعدة فارس على السفر إلى مالطة. ولما وصلت السفينة إلى الإسكندرية استقبله القسيس المقيم فيها وأنزله في مسكن يقع بجواره، ولبث عنده ينتظر وصول السفينة التي ستقله إلى مالطة.
ولما تعرف القسيس على فارس شدياق وتحدث معه خلال ذلك، أعجب بذكائه وسعة اطلاعه، ورغب في استبقائه في مصر، إلا أن إسحاق بيرد رفض ذلك، رغبة منه في إبعاد فارس عن جو مصر، الذي يمكن أن يغريه بترك الزهد والتبشير- وبهدف تعليم فارس اللغة العربية للأجانب وتصحيح الترجمات الدينية للمبشرين.
ولما وصل فارس شدياق إلى مالطة طلب منه القسيس أن يغيّر لباسه الشرقي، من عمة وجلباب، وأن يرتدي سروالاً ضيّقاً وقبعة، لكي يكون شبيهاً بالمبشرين الأميركان، كما طلب منه أن يتعلم اللغة الإنكليزية للتعاون مع المبشرين.
ولكن الجو الرطب الذي يسود جزيرة مالطة أصاب الشدياق بداء المفاصل وجعله طريح الفراش، فأشار الطبيب على القسيس أن يعيده إلى مصر. وبلغت مدة إقامته في مالطة سنة أو أكثر قليلاً. ويقال إنه عمل في الطبعة الأميركية الموجودة في تلك الجزيرة، ولكن المطبوعات التي صدرت منها كانت ركيكة العبارة، وهي غالباً بقلم المرسلين الأميركيين الذين كانوا فيها.
عودة الشدياق إلى مصر وعمله وزواجه فيها:
عاد فارس شدياق إلى مصر 1828، كما عاد إلى زيّه الشرقي، ومكث مدة يعمل مع المبشرين الأميركان. فنصحه أحد معارفه أن يتصل برجل وجيه ليؤمن لـه وظيفة في الدولة. وبهذه الصورة انتقل للعمل في جريدة الوقائع المصرية التي أنشأها الوالي محمد علي باشا. وكانت تلك الجريدة تنشر أخبار هذا الوالي، وفيها كثير من التمجيد لشخصه وأعماله. وصدر العدد الأول منها بتاريخ 3/2/1828 أربع صفحات وباللغة التركية، كما كانت تصدر بصورة غير منتظمة.
كانت المدرسة التي سكن فيها الشدياق بالقاهرة مجاورة لمنزل تاجر سوري من بيت الصولي. وكان لهذا التاجر بنت مغرمة باللهو والطرب. وكان فارس شدياق منذ صباه يجيد الغناء والعزف على الطنبور. فكانت تصعد إلى سطح المنزل وتنصت لغنائه وعزفه. ولما لاحظ أن صعودها كان من أجله مال إليها، وعمل على اللقاء بها عدة مرات. واتفقا بعد ذلك على الزواج. إلا أن أهل الفتاة رفضوا طلبه حينما تقدم لخطبتها، لأنه كان بروتستانتي المذهب، وهم من الكاثوليك، ولما أصر العاشقان على الزواج وافق الأهل، ولكن بشرط أن يعتنق فارس الكاثوليكية ولو ليوم واحد.
لقد امتلأ قلب شدياق بحب مصر، فلم يترك فيها شاردة ولا واردة إلا وصفها بإسهاب، ففيها يجد الغريب ملهى ومأوى، وينسى عندها أهلاً ووطناً، مسيحياً كان أم مسلماً. ووصف لطافة أهلها وظرافة أقوالهم وسهولة معشرهم. ففيهم العالم والفقيه، والشاعر والأديب. وهي بلد الخير ومعدن الكرم... وعدد المهن المنتشرة فيها، كما وصف أصحابها وطرق معاملتهم لأفراد الشعب. وخصّص الفصل العاشر من كتاب الساق على الساق ص(216) للكلام عن الطب والأطباء في مصر. وجاء بأمثلة طريفة على الطرق المتبعة لديهم في معالجة المرض.
كان فارس قد تلقى قبل زواجه 1834م كتاباً من رئيس جمعية التبشير في مالطة يعرض عليه فيه وظيفة مترجم ومصحح لما يطبع من كتب التبشير البروتستنتي، وبأجرة تفوق ما كان يتقاضاه من الخرجي بمصر. ولما عزم على السفر أطلع خطيبته قبل زواجهما على ذلك، فرضيت أولاً ثم عدلت عن ذلك بعد الزواج، بحجة أن النساء يتعرضن للخطر أو العقم عند السفر، يضاف إلى ذلك أن من الصعب عليها فراق أهلها وأصحابها بمصر للذهاب إلى بلد ليس لهما فيه قريب أو صديق. فقال لها زوجها إن صديقهما الخرجي سيسافر هو وزوجته معهما، كما أن والدتها شجعتها على السفر، وكذلك فعل الطبيب الذي استشارته في هذا الأمر، فسكن روعها ووافقت على السفر.
كان المبشر الذي صحب الفارياق وزوجته قد كتب رسالة إلى أحد معارفه بالإسكندرية يطلب منه فيها أن يهيئ لفارس وزوجته منزلاً ليقيما فيه، ريثما تأتي السفينة التي سوف تقلّهما إلى جزيرة مالطة. وكانت زوجة الشدياق شأنها شأن البنات في مصر وبلاد الشام، في ذلك الوقت، لم تعاشر أحداً سوى الخدم وأهل البيت. وكانت أمها لم تطلعها على شيء من أمور الدنيا، كما يقول زوجها، مخافة أن تنجلي الغشاوة عن عينيها قبل الأوان. ولا يخفى أن البنات إذا كنّ يجهلن القراءة والكتابة، وحسن المحاضرة، وآداب المجالس والموائد، فلا بدّ أن يتجّهن إلى معرفة المكائد والحيل عن طريق الخدم. وربما أفضى بهن هذا الجهل إلى التهافت على الشباب والانقياد لهم دون النظر إلى العواقب.
أما إذا تعلمت الفتاة مزاولة أحد الفنون، وانصرفت للمطالعة والكتابة في أحد العلوم المفيدة فإنها تصبح صنو الشاب المثقف، بحيث تستطيع منعه من التطاول عليها بعلمه ومعرفته، كما تمنعه من تجاوز حدود الأدب، إذا سعى إلى تجاوزها.
لقد أوغل الشدياق بالكلام على الحياة الزوجية وأسرارها الخفية، كما وصف محاسن جسم المرأة ومساوئه، متبعاً الطريقة التي عُرف بها، وهي مزج الجد بالهزل، والحقيقة بالخيال، وخصص لذلك كثيراً من صفحات كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق". ونظراً لاهتمامه الدائم بمعاني الألفاظ العربية فقد أنهى حديثه عن المرأة بذكر ما ينيف على أربعين لفظة تدل كل واحدة منها على إحدى الصفات الحسنة أو القبيحة، مما تتصف به المرأة عادة.
لقد وصف الشدياق حاله بعد الزواج، وكيف تلاءمت الميول والطباع، بينه وبين زوجته، معترفاً بما فيها من محاسن وما فيه من عيوب، وقال: "وإن يكن بي من عيب في خَلْقي، يستره عني حُسن خُلُقي. فإني لا أعارضها في طعامها ولا في لباسها، أو في صحوها ومنامها.." وأخيراً يقول: "وفي الجملة فإن عيشي معها أصبح رغيداً، وحالي سعيداً، وحظّي مديداً، وطعامي مريّاً، وشرابي هنيئاً، وثوبي وضيئاً، وفرشي وطيئاً، وبيتي مأنوساً".
عودة فارس شدياق مع زوجته إلى مالطة:
في عام 1834م تلقى الشدياق كتاباً من رئيس جمعية التبشير الكنسية في مالطة، يعرض عليه تولّي وظيفة مترجم ومصحح للكتب والمنشورات المتعلقة بالتبشير البروتستني، والإشراف على ما يطبع منها. ولما عرض الشدياق الأمر على زوجته وافقت على السفر، ذلك لأن راتب الوظيفة المعروض أعلى مما كان يتقاضاه زوجها من قسيس مدرسة الدير التي كان يدرّس فيها.
بدأ الشدياق بتنفيذ العمل الذي جاء من أجله إلى مالطة، وهو ترجمة "كتاب الصلوات" المستعمل في الكنيسة الإيرلندية، والخاص بالمذهب البروتستنتي، مع ترجمة مزامير داود. وفي هذا الكتاب بعض النصوص المقتبسة من الكتاب المقدس (التوراة). وقد تم طبعه بعد ترجمته إلى اللغة العربية 1840م.
لقد أتقن الشدياق ترجمة هذا الكتاب، فنال إعجاب المبشرين، وأثنوا عليه أمام حاكم الجزيرة. وهذا ما دعاه لأن يطلب من فارس شدياق تعليم اللغة العربية للطلاب في مدرسة الجزيرة. وتحقيقاً لطلب الحاكم وزع الشدياق وقته للعمل بالترجمة والتأليف وطبع الكتب إلى جانب التعليم في المدرسة.
وبتاريخ 5/4/1839م أرسل فارس إلى أخيه طنوس رسالة يقول لـه فيها: إنه يعمل في المطبعة التي هي لمجمع الإنكليز. وفي تلك المطبعة عمل فارس على طبع الكتب لطلاب المدارس. وهي من أوائل المطابع في الشرق وقد جرى الطبع فيها باستعمال القوالب الرصاصية للحروف العربية التي يلتصق بعضها ببعض.
قام الشدياق أثناء وجوده في مالطة أيضاً بتأليف عدة كتب لتعليم اللغة العربية للأجانب، منها كتاب "اللفيف في كل معنى طريف"، وهو يضم أمثالاً وحكماً عربية، وقصصاً مقتبسة من كتاب كليلة ودمنة. كما ألف كتاباً لتعليم اللغتين العربية والإنكليزية دعاه "المحاورة الأنسية في اللغتين العربية والإنكليزية" وهو يشتمل على جمل مكتوبة باللغة الإنكليزية مع ترجمتها إلى اللغة العربية، وألف أيضاً كتاباً في النحو المقارن بين اللغتين العربية والإنكليزية دعاه "الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنكليزية"، وتم طبع الكتابين الأخيرين في مجلد واحد 1299هـ/ 1881م.
لم يقتصر نشاط الشدياق على وضع المؤلفات اللغوية، فقد قام بتصحيح كتاب في الجغرافية، واسمه "الكنز المختار في كشف الأراضي والبحار"، كما ترجم كتاب "شرح طبائع الحيوان"، ثم أشرف على طباعة تلك الكتب.
لقد أقام الشدياق في جزيرة مالطة مدة أربعة عشر عاماً، فعلّم في مدارسها، واختلط بسكانها، وسجل مشاهداته وخواطره عما صادف فيها. ووضع ذلك في كتاب أطلق عليه اسم "كتاب الواسطة في معرفة أحوال مالطة". ولما دعته لجنة الترجمة، التابعة لجمعية نشر المعارف المسيحية، إلى لندن للتعاون معه على ترجمة "كتاب الاختيارات من كتاب الصلوات العامة" أخذ يسجل ما شاهده في تلك المدينة وفي غيرها من المدن الأوربية. ثم قام بتأليف كتاب ضم تلك الذكريات ودعاه "كشف المخبّا عن فنون أوربا". وطُبع الكتابان معاً فيما بعد في مطبعة الجوائب بالقسطنطينية، وذلك سنة 1299هـ/ 1881م وكان الشدياق قد أسس جريدة " الجوائب" بالقسطنطينية سنة 1277هـ بعد أن أقام فيها بضع سنين.
ومما ذكره فارس شدياق، في المقدمة الموحّدة لهذين الكتابين، والتي تدل على اعتناقه الإسلام، قوله بعد البسملة: "الحمد لله الذي أحصى كل شيء كتاباً، وأعد للمتقين جزاء حساباً. والهم ابن آدم أن يضرب في الأرض ويكدح لنفسه كدحاً، ويجوب مناكب البلاد ويسعى ليدرك نجحاً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله، والذي بهرت آيات نبوّته الناظرين، وبزغت شمس دينه فأفل منها سها الكافرين. ونادى بالحق فزهق الباطل وامّحى طلله...".
سفر فارس شدياق إلى إنكلترا:
كانت لجنة الترجمة التابعة لجمعية نشر المعارف المسيحية في لندن قد كلفت الشدياق 1843 بترجمة كتاب "الاختيارات من كتاب الصلوات العامة، والأدعية التي تتلى في أيام الآحاد والأعياد ومعمودية الأطفال". وهو كتاب كبير، يحوي فصولاً من الكتاب المقدس، منها المزامير وبعض الإصحاحات من الأناجيل. وكان لهذا الكتاب أهمية كبيرة بالنسبة لسكان أوربة وآسيا وأفريقية من المسيحيين المتكلمين باللغة العربية.
ولما ذهب إلى لندن المطران اثناسيوس التتنجي الحلبي، مطران طرابلس الشام للروم الكاثوليك، واتصل بأعضاء لجنة الترجمة المذكورة، سألوه عما تمّ في ترجمة ذلك الكتاب من الإنكليزية إلى العربية. فطعن المطران بترجمة الشدياق، وطلب منهم أن يفوّضوه للقيام بهذا العمل، لكي تكون لغته وأسلوبه أكثر فهماً من قبل الطوائف المسيحية. فاقتنعت اللجنة برأي المطران، وأقالت الشدياق دون أن تعلمه بالسبب.
أعاد المطران النظر بترجمة الشدياق، وجعل يبدّل الألفاظ العربية الفصيحة، الواردة في الكتاب المترجم، بألفاظ عاميّة ركيكة. وحينما انتهى من ذلك أرسل الكتاب للطبع.
كان مدير المطبعة من أصدقاء الشدياق، فكلّفه بتصحيح أخطاء الطبع، دون التعرّض لتصحيح أخطاء الترجمة. وبهذه الصورة اطلع الشدياق بصورة غير مباشرة على المكيدة التي قام بها المطران التتنجي، والتي أدت لإقالته من عمله.
لذلك قام الشدياق بتحرير رسالة باللغة العربية بيّن فيها جملة من الأخطاء اللغوية والنحوية الواردة في ترجمة المطران، وأرسلها إلى اللجنة في لندن. وفي أوائل 1844م عُرضت انتقادات الشدياق على اللجنة، فوجدت أنها تافهة أو غير صحيحة. فغضب الشدياق وهدد بنشر رسالته في الجزيرة التي تصدر بمالطة. ولما نفذ تهديده قطعت اللجنة علاقتها به.
لقد ساءت الحالة المادية لفارس شدياق بسبب انقطاع موارده من الترجمة وتصحيح الطباعة. كما ساءت علاقته بالمطران التتنجي بسبب الهجاء المقذع الذي وجهه له، فقرّر ترك مالطة والرجوع إلى مصر والاستقرار فيها.
إلا أن أعضاء اللجنة داخلهم الريب بصحة ترجمة المطران، التي قام بها بعد تنحية الشدياق. فعرضوها على بعض العلماء الملمين باللغة العربية، ومنهم الدكتور صموئيل لي Samuel Lee
(1783- 1852)م، الأستاذ في جامعة كمبردج في إنكلترا. فأجمعت آراؤهم على أن الشدياق مصيب بانتقاده للترجمة التي قام بها المطران. فاقترحوا تنحية المطران عن عمله، كما اقترح الدكتور لي دعوة الشدياق إلى إنكلترا لمتابعة عمله في الترجمة. ولما تبلّغ الشدياق قرار اللجنة أبدى موافقته على التوجه إلى إنكلترا. لكنه اشترط احتفاظه بوظيفته كمدرّس للغة العربية في مالطة بعد إنجازه عمله. ولما حصل الشدياق على موافقة اللجنة استدعى زوجته وأولاده من مصر، وهيّأ لهم مسكناً لإقامتهم في جزيرة مالطة. وفي أوائل عام 1846م سافر الشدياق من مالطة إلى لندن عن طريق مرسيليا وباريس. وكان السبب في مجيئه العمل على ترجمة "كتاب الاختيارات العامة" من اللغة الإنكليزية إلى العربية، بالتعاون مع الدكتور لي، والمقيم في قرية بارلي الواقعة في ضاحية لندن.
كانت قرية بارلي متأخرة من ناحية الحضارة والعمران، ويقول الشدياق إنه لم يجد فيها من المآكل إلا نفاية ما يوجد في المدن. فاستولى عليه فيها، من سوء الطعام ورداءة الجو، ضعف في المعدة، ووهن في الركب. وأصيب بالغشي في دار "الدكطرلي" في إحدى المرات، فأمر الخادمة أن تسعفه بقطعة من الخبز المشوي.
وفي تلك القرية بدأ الشدياق بتأليف كتابه: "الواسطة في معرفة أحوال مالطة". ومما قاله فيه:
"لقد قدّر لي أن أؤلف هذا الكتاب لا في مروج إيطاليا النضيرة، ولا في رياض الشام الأنيقة، فأخال أن بين كل كلمتين منه (أي الكتاب) أرى دخاناً متصاعداً، وظلاماً متكاثفاً. وكنت كلما خرجت من حجري إلى موضع أتوجّس أن يصيبني سوء، إما من تزاحم الناس أو البهائم، أومن رداءة الطعام الذي يؤكل في المطاعم".
لقد شملت سخرية الشدياق أموراً كثيرة لاحظها في بلاد الإنكليز، ومنها عاداتهم وتقاليدهم، ومآدبهم وطبخهم، وطبائعهم وكساؤهم، وبخلهم وبلادتهم، ولهوهم ومعتقداتهم، وأشرافهم ورجال دينهم، وطلاّب جامعاتهم وأساتذتهم.
لقد أنهى الشدياق، بالتعاون مع الدكتور لي، ترجمة كتاب "الرسوم الكنسية وطقوسها"، ثم انتقلا إلى جامعة كمبردج لمراجعة الترجمة مع الأستاذ جاريت Jarret، أستاذ اللغة العربية فيها. وفي عام 1849م وضعت لجنة الترجمة والنشر التابعة "لجمعية نشر المعارف المسيحية" تقريراً أثنت فيه على العمل الذي قام به الدكتور لي مع فارس الشدياق، وطبع هذا الكتاب مع مزامير داود في لندن
1850م.
قبل مغادرة الشدياق لجزيرة مالطة جرى بينه وبين زوجته حديث تذكرا فيه الأيام السعيدة التي مرّت عليهما في الخطبة والزواج في مصر. فأراد الشدياق أن يتأكد من بقاء زوجته وفيّة له أثناء غيابه، فقالت له:
"إعلم أن بعض النساء لا يتحرجّن عن وصال غير بعولتهن لسببين: الأول لعدم اكتفائهن بالمقدار المرتّب لهن منهم. والسبب الثاني لاستطلاع أحوال الرجال واختبارهم، أو لاعتقادهن أن الزوج يخون زوجته عند كل فرصة تسنح لـه. ثم قالت: "وإني أعاهدك على ما كنا عليه من الحبّ والوداد من أيام السطح إلى الآن. ولكن حين أشعر أنك بدّلت السطح بالشطح أقابلك بفعل مثل فعلك، والبادي أظلم".
وبعد غياب دام ثمانية أشهر أو تزيد عاد الشدياق إلى مالطة، بعد أن أنهى الترجمة التي قام بها مع الدكتور لي. وكان أثناء غيابه دائم التفكير في زوجته، كما كان يلوم نفسه لعدم اصطحابها معه في سفره. وكانت تمرّ بمخيلته أحياناً هواجس تجعله يسيء الظن بها، سيما وأنها سمحت له بالسفر وحيداً مع التشجيع ودون ممانعة.
وحينما فتح باب منزله شمّ رائحة الخيانة، كما قال في رسالة بعث بها إلى أخيه طنّوس، إذ وجد عند زوجته شاباً مليح الصورة، وهما منفردان في المنزل.
لقد ساءت العلاقة بين الزوجين، وتدهورت الحالة النفسية لفارس، فلازم منزله خجلاً من لقاء الأصدقاء، وكانت مصيبته في هذا الحادث لا تقل سوءاً عن مصيبته حينما فقد أخاه أسعد، ومن المستغرب أنه حينما تكلم على صفات المرأة وطباعها، وخصص لذلك عدة أبواب من كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق" لم يذكر شيئاً عن هذا الحادث، بل على العكس نجده قد غالى في وصف محاسن زوجته، ومحبتها وإخلاصها له.
عودة الشدياق إلى إنكلترا:
في أوائل عام 1848م رغبت لجنة الترجمة التابعة لجمعية نشر المعارف المسيحية، القيام بترجمة عربية جديدة للكتاب المقدس (التوراة)، عن طريق اللغات القديمة التي كتب بها. فاقترح الدكتور لي على الأعضاء أن يكلّفوا فارس شدياق القيام بهذا العمل، على أن يكون ذلك تحت إشرافه شخصياً. وعندما وافقت اللجنة على اقتراحه أسرع بإرسال كتاب إلى الشدياق يعلمه بذلك. ولما كان هذا العمل يستغرق إنجازه سنتين على الأقل لذلك لم يرَ الدكتور لي مانعاً من أن يصطحب الشدياق عائلته معه في سفره إلى إنكلترا.
لقد اغتبط الشدياق بهذا التكليف، لكنه اشترط أن يكون الراتب الذي سيتقاضاه عن هذه الترجمة يوازي مجموع دخله في جزيرة مالطة. ولما وافقته اللجنة على ذلك غادر الجزيرة مع عائلته في أيلول 1848م متجهاً إلى لندن عن طريق مرسيليا –باريس- كاليه- وبعد وصوله إلى لندن توجه إلى قرية بارلي، التي أطلق عليها اسم القرية المشؤومة. ذلك لأن ابنه أسعد، وهو أصغر أولاده وأحبهم إليه، أصيب فيها بمرض الخناق (دفتريا)، وتوفي عن عمر لا يتجاوز السنتين. فرثاه والده بقصيدة عصماء تنم عن شدة حزنه ولوعته، ومنها هذه الأبيات:
الدمع بعدك ما ذكرتُك جارِ
والذكرُ ما واراك تربٌ وار
يا راحلاً عن مهجةٍ غادرتها
تصلى من الحسرات كل أوار
سيّان إن جنَّ الظلام عليّ أو
طلع الصباح وأنت عني سار
وفي النهاية يقول:
بعضُ الرزايا قد يُساغ وبعضها
يبقى شجاً يُشجي مدى الأعصار
لقد كره الشدياق تلك القرية المشؤومة بعد وفاة ولده فيها، لذلك رأت اللجنة، حرصاً منها على استمرار العمل في الترجمة، أن تنقله إلى كمبريج، وهي قريبة من قرية بارلي، فسافر الشدياق إليها مع أهله، وبقي فيها ما يزيد على السنة، حيث واصل عمله مع الدكتور لي، وغيره من أساتذة جامعة كمبريج.
مكث الشدياق في مالطة زهاء (14) عاماً، قام خلالها بالإضافة إلى الترجمة والتعليم، بتأليف بعض الكتب المدرسية، ومنها: "اللفيف في كل معنى طريف"، كما ترجم كتاب "شرح طبائع الحيوان". وقام في تلك الفترة أيضاً بعدة زيارات لأقطار عربية، وهي سورية ولبنان وتونس. وبعد أن أنهى في لندن الترجمة الجديدة للكتاب المقدس، تحت إشراف الدكتور صموئيل، ذهب مع أسرته إلى باريس حيث عاش حياة حرة طليقة دامت أكثر من سنتين، وألّف خلالها كتابه المشهور "الساق على الساق فيما هو الفارياق". ثم عاد بعدها إلى لندن حيث ألف كتابه "كشف المخبأ عن فنون أوربا".
لقد حاول الشدياق، أثناء وجوده في لندن، الحصول على منصب في إحدى الكليات الإنكليزية لتعليم اللغة العربية، ولكنه وجد أن هذه اللغة غير مرغوب بها. كما وجد أن من يريد تدريس
إحدى اللغات الشرقية عليه أن يدرّس اللاتينية. يضاف إلى ذلك أنهم لا يرغبون توظيف الأجانب في تلك المدارس.
لهذه الأسباب قرر الشدياق، في أوائل عام 1850م، الإقامة في باريس، لأن المعيشة فيها رخيصة، ولغة العرب فيها شائعة، كما قرر تعلّم اللغة الفرنسية للحصول على مصدر الرزق. يضاف إلى كل ذلك أن الأطباء الإنكليز قد نصحوا الشدياق بنقل زوجته إلى فرنسا بسبب إصابتها بخفقان القلب. ولكن الخفقان لازمها في باريس. فأشار الأطباء بأن تترك باريس إلى مرسيليا أو إلى استانبول، لأن الجو فيهما دافئ، فسافرت إلى استانبول ومعها ابنها سليم.
أما فارس فقد بقي وحيداً ومتسكعاً في باريس، فصرف ما كان ادّخره من المال على القمار والشراب والسكن. ولما جاء الأمير عبد القادر الجزائري إلى باريس 1853م استقبل بحفاوة بالغة من قبل الدولة والشعب. فانتهز الشدياق الفرصة ونظم قصيدة مدحه فيها وأرسلها إليه فسرّ الأمير بالقصيدة، واستدعى الشدياق لزيارته، فلما حضر شكره الأمير على ثنائه وأجزل له العطاء.
لقد أعجب الشدياق باللغة الفرنسية وأحب أن يتعلمها، فاتفق مع رجل فرنسي، يرغب بتعلم اللغة العربية، على أن يعلم كل منهما الآخر دون أجر. كما تعرّف على بعض مدرسي اللغة العربية في باريس ومنهم: Reimaud, Caussim de Perceval. وعقد الصداقة مع المستشرق الفرنسي Etienne de Quatremere، واجتمع بالشاعر الفرنسي المشهور Alphonee de Lamartine. ومن الشخصيات الرسمية الفرنسية التي تعرّف عليها الشدياق وتعددت اجتماعاته معه الكونت دوكرانج، وهو ترجمان الدولة الفرنسية، وقد ساعده الشدياق على ترجمة بعض الرسائل الفرنسية إلى اللغة العربية. وفي أحد اجتماعات الشدياق مع الكونت سأله الأخير عمّا إذا كان من الصحيح ما يقال عنه بأنه يعمل جاسوساً من قبل الحكومة الإنكليزية في فرنسا. فأجابه الشدياق: "بودي لو كنت جاسوساً، إذن ما كنت لأكلف أحداً بشيء، فإن جاسوس الإنكليز يستغني بوظيفته عن أن يتوصل بأحد لنوال أربه".
مكث فارس شدياق في باريس من أوائل عام 1850م إلى منتصف عام 1853. وقام أثناء ذلك بتأليف ثلاثة كتب هي، "سر الليال" و "الجاسوس على القاموس" و"منتهى العجب". كما ألّف كتاباً في قواعد اللغة الفرنسية، بالاشتراك مع غوستاف دوغا، عضو الجمعية الآسيوية، ودعاه "السند الراوي في الصرف الفرنساوي".
لقد شاعت في البلاد الإسلامية أنباء الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، ولما كان فارس شدياق يتردد إلى لندن فقد قام بنظم قصيدة يمدح فيها السلطان ويدعو الناس للجهاد دفاعاً عن الدولة، ثم قدّمها لسفير الدولة العثمانية الذي رفعها للصدر الأعظم في استانبول. ونظراً لما لاقته تلك القصيدة من الاستحسان فقد صدر الأمر من الباب العالي بتعيين الشدياق موظفاً في ديوان الترجمة السلطاني. ولكن نظراً لعودة زوجة الشدياق من استانبول إلى مالطة في ذلك الوقت، ولحصول الشدياق على عمل في لندن لذلك عدل عن قبول الوظيفة في ديوان الترجمة. أما العمل الذي وجده الشدياق في لندن فهو كاتبٌ في محلات الخواجات حوّا. وبالرغم من الجهد الذي كان يبذله الشدياق في تلك المحلات فقد استطاع إنجاز تأليف كتاب "كشف المخبَّا عن فنون أوربا". وقد أودع فيه ما رآه وعاناه في سفره بين لندن وباريس.
كان فارس شدياق يعيش مع ابنه المريض فايز، المصاب بداء الخنازير، وكانت زوجته تعيش في مالطة ومعها ابنها سليم. وكان راتب فارس الهزيل لا يسد حاجتهم للغذاء والدواء رغم التّقتير، والجهد. وفي أحد الأيام أرسل سليم إلى والده يخبره أن والدته في حالة النزع. ولما كان ابنه فائز بحاجة إلى جو دافئ، حسب نصيحة الطبيب، فقد نوى إرساله إلى مالطة ليرى والدته قبل وفاتها، ولكن لأمر ما وجد من الأنسب إرساله إلى دمشق حيث يقطن خاله. وهكذا تبعثر أفراد هذه الأسرة وحلّ بهم البؤس والشقّاء. ومما زاد الأمر تعاسة فصل فارس من وظيفته التي أمضى فيها سنتين.
سفر فارس شدياق إلى تونس:
كان الوزير التونسي خير الدين باشا قد قام بزيارة لأوربا وعاش فيها عدة سنوات قبل أن يتولى الحكم في تونس. فلفتت أنظاره النهضة العلمية التي بدأت تنمو وتزدهر فيها، وخاصة في فرنسا. وألف بعد عودته كتاباً دعاه: "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" ومن آرائه التي أوردها في هذا الكتاب اقتناعه بأن السبيل الوحيد لنهضة العالم الإسلامي هو اقتباس الأفكار العلمية والسياسية المنتشرة في أوربا، وإنشاء المؤسسات التي تعمل على نشرها.
وحينما زار خير الدين باشا باي تونس لندن، وكان الشدياق فيها، بادر إلى تهنئته بالوصول، وأنشده قصيدة مدحه فيها. فوقعت في نفسه موقعاً حسناً، وعرض على الشدياق وظيفة حسنة في تونس، وهي إنشاء صحيفة (جورنال) تضم الأخبار الداخلية والخارجية، مترجمة من اللغات الأجنبية أو غير مترجمة.
في أواخر عام 1846م سافر باي تونس الأمير أحمد باشا إلى باريس بدعوة من الحكومة الفرنسية، وذلك للاطلاع على ما وصلت إليه الحضارة في أوربا في ذلك العصر. وأثناء هذه الزيارة تبرع لفقراء مرسيليا وباريس بمبالغ مجزية من المال. وكان فارس شدياق حينئذ يقوم بالتعليم في باريس، ويعيش في ضنك لضآلة مورد رزقه. فانتهز فرصة زيارة الباي وأرسل إليه قصيدة يمدحه بها. فأعجب الباي بالقصيدة، وأرسل إلى الشدياق رسالة يدعوه بها لزيارة تونس مع عائلته على متن سفينة حربية أرسلها لنقلهم. فلبى الشدياق الدعوة وسافر إلى تونس مصطحباً زوجته وولديه أسعد وسليماً، وحلّ ضيفاً في دار أمير البحر التونسي. ولما زار الشدياق باي تونس للسلام عليه أكرمه الباي وأنعم عليه، ثم زار بعد ذلك الوزير مصطفى باشا، الذي كان يجمع تحت سلطته كامل أمور الدولة، ولما تحدث الوزير مع الشدياق أعجب بفطنته وذكائه وإتقانه للغة الإنكليزية. فكلفه بنقل ما يصل إليه من أخبار السياسة الدولية، المنشورة في الصحف الإنكليزية، ومنحه راتباً جيداً إضافة للهدايا الثمينة التي غمره بها الباي.
لقد أطلق على الصحيفة التي عهد إلى فارس الشدياق رئاسة تحريرها اسم "جريدة الرائد التونسي" وكان لهذا التكريم أثر بليغ في نفس الشدياق فاعتنق الإسلام، وأطلق على نفسه اسم أحمد فارس الشدياق، وكنى نفسه بأبي العباس، وجرى إسلامه على يد مفتي الحنفية محمد بيرم الرابع، وكانت إضافة اسم أحمد تيمناً باسم الباي المصلح أحمد باشا، وكُني بأبي العباس على عادة أهل تونس في تكنية من اسمه أحمد. ويقول الأب لويس شيخو، في مجلة المشرق، إن الشدياق أسلم طمعاً في المناصب، ولا يستبعد أن يكون الشدياق قد اتخذ قراره باعتناق الإسلام رغبة منه في الاندماج مع أكثرية سكان العالم العربي الذي عاش فيه الشدياق، واعتزازه الواضح في مؤلفاته بالتراث الإسلامي، وكثرة استشهاده ببعض آيات القرآن الكريم.
وفاة الشدياق ودفنه في لبنان:
في صيف عام 1887 توفي الشدياق وهو في مصبغة بقاضي كوي باستانبول. فصدرت الإرادة السنية بدفنه في تربة السلطان محمود، إلا أن ولده سليماً، الذي كان مع والده في استانبول، التمس من السلطان أن يكون دفن جثمان والده في جبل لبنان، عملاً بوصية والده، فأذن له القيام بذلك.
لقد نقل جثمان الشدياق على باخرة نمساوية حملته إلى لبنان ولما وصل النعش إلى بيروت سار خلفه حملة الرايات، ومشايخ الطرق أمامه. وهم يهللون ويكبرون. وسار وراءه المفتي والعلماء ورجال الشرطة وابنه سليم. ولما وصلوا إلى الجامع الكبير وتمت الصلاة عليه، قام بعض أصدقائه بإلقاء الخطب والقصائد في رثائه. ثم وضع النعش بعد ذلك على عجلة الأموات ليصار إلى دفنه في قرية الحدث.
لقد ذكر الكاتب والمؤرخ مارون عبود في نهاية كتابه "صقر قريش" أن جريدة "صوت الأحرار" نشرت بتاريخ 8 آذار 1938 الخبر الآتي:
"منذ خمسين سنة جيء بجثمان الفقيد العلامة أحمد فارس شدياق من استانبول إلى مسقط رأسه في قرية الحدث بلبنان حيث دفن في مقبرة العائلة، ثم نقل إلى مقبرة خاصة في الحازمية بجوار مدافن المتصرفين.
وحدث أخيراً أنه بينما كان العمال يحفرون الأرض على طريق عالية، لاختصار المسافة وتجنّب الأكواع، عثروا على نعش من الرصاص. ولما فتحوه وجدوا فيه جثمان أحمد فارس الشدياق، وهو على حاله، كأنه مات منذ يومين. ونقل التابوت إلى مدفن جديد يقع في ضواحي الحازمية. وشاع عند العوام أن الشدياق قديس، لأن جسده لم يَبْلَ بعد مضي خمسين سنة على وفاته".
المراجع:
1-كتاب الساق على الساق فيما هو الفارياق، تأليف فارس شدياق.
2-كتاب الواسطة في معرفة أحوال مالطة، تأليف فارس شدياق.
3-كتاب كشف المخبا عن فنون أوربا، تأليف فارس شدياق.
4-الكتاب المقدس (التوراة).
5-صقر لبنان للأستاذ مارون عبود.
6-أحمد فارس الشدياق لعماد الصلح.
----------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 86-87 ربيع الآخر 1423 هـ آب (أغسطس) 2002 السنة الثانية و العشرون