القاص حسن النعمي أحد كتاب القصة السعودية الجدد، صدرت له ثلاث مجموعات قصصبة، هي: "زمن العشق الصاخب" ( 1984م)، و"آخر ما جاء في التأويل القروي" ( 1987م)، و"حدَّث كثيبٌ قال" (1999م)، وقد نشر عدداً من القصص القصيرة في الصحافة السعودية المحلية، وهو أحد المشرفين على دورية "الراوي" التي تختص بالإبداع القصصي في الخليج، ويُصدرها النادي الأدبي بجدة.
وسبق أن توقَّفتُ قي قراءة نقدية عند قصة له بعنوان "هوامش في سيرة ليلى" نشرها في "الواحات المشمسة" (الجزء الرابع / 1414هـ- ص ص63-65)، حيثُ توقفتُ أمام شخصيتي "ليلى "و "قيس" اللتين اتخذهما القاص ـ كشخصيتين تُراثيتين ـ منطلقاً لعلاج هموم معاصرة، مثل: ضياع الأحلام، وتسرُّب الرؤى وتحولاتها، وغياب الحرية.
ومجموعة "حدَّث كثيبٌ قال" تضم إحدى عشرة قصة، هي "هوامش في سيرة ليلى"، و"حولية الفجر الخامس"، و"الجنوبي"، و"رحيل الأستاذ بخيت"، و"سيد الأبواب"، و"حدّث كثيب قال"، و"حالة إغماء"، و"رهوان بائع الجرائد"، و"بقايا صبر"، و"مدى الحلم"، و"الوجبة الثالثة".وتقع المجموعة في (78) ثمان وسبعين صفحة من القطع دون المتوسط.
المُقاومة:
نلمح في مجموعة "حدَّث كثيبٌ قال" نبض المُقاومة، فكثيب في قصة "حدَّث كثيبٌ قال" يقاوم من كانوا سبباً في إصابة جمله:
"ارتقى كثيب تلا صغيراً، قفَزَ على الجُندي من الخلف، لوى عنق الجندي بيده اليسرى، مُطبِقاً بكفه على فمه. تناقصت مُقاومته. كمَّم كثيب فم غريمه. أخرج كثيب حبلاً من جيبه. قيَّد به يدي الجندي من خلف ظهره، ثمَّ قيَّد رجليه أيضاً. أمسك كثيب طرف الحبل، وبدأ يسحب الجندي نحو خيمته. عندما وصل كثيب إلى خيمته، سحب الجندي إلى مربط الجمل، ربطه إلى جانب جمله الكسير. غمغم الجندي بشكل غير مفهوم. تركه كثيب وخرج. أحدث الجندي حركات احتجاج صاخبة".
لقد أراد كثيب أن يقاوم من كانوا سبباً في إصابة جمله، إنه يُخاطب الصحراء التي عرفت صديقَه الجمل الذي طالما اكتوت أخفافه بالرمضاء والتعب اليومي، وشهدت إصابته من قبل الجنود. ها قد جاءوا، وأقاموا فيها، وأصبحت أشياؤه، مفردات الصحراء بأكملها، مُستلبة. ومن ثمَّ حدَّث كثيبٌ قال:
"أيتُها الصحراءُ هذا غريمُنا. أقْعدَ جملي، انتهكَ نقاءَكِ، صادرَ رِحابَكِ، ثمَّ هذي قضيِّتي، وهذا غريمي، أيتُها الصحراء اشهدي".
ومن ثمَّ بادر كثيب بالمُقاومة، ورغم أنها ـ أي المقاومة ـ ليست متكافئة، فقد دافع عمّا يعتقد أنه حق، وسقطَ شامخاً:
"في صباح اليوم التالي وقفت مجموعة من الشاحنات بين خيام الحي. نزل منها عدد من العساكر يأمرون الناس بالرّحيل. بدأ النّاس بتنفيذ الأوامر بضيق مُعلَن. اندهش كثيب لما يجري في البدء، لم يُصدِّق ما يرى. ربَّما أن هناك حالة التباس. يجب أن يرحل الآخرون لا هم. رحيلهم من قبل كان من الصحراء إلى الصحراء. والآن عليهم أن يتركوا الصحراء بأكملها؟! لمن؟! يا لسخرية الأحوال! أقسم كثيب ألا يبرحها. قال للناس:
ـ قوموا إلى صحرائكم يرحمكم الله. امتشق يندقيته، ووقف على باب خيمته. أجبروه. ضربوه. قسوْا عليه إلى حدِّ الإهانة. غضبه انطلق رصاصاً مدوِّيا. سقط كثيب شامخاً كالمطر. كانت دماؤه تُوقِّع ميثاق العهد والديمومة، وكانت أصابعُه تتسنبل جذوراً في جوف الصحراء".
من مأساة الفرد إلى مأساة الجماعة:
تُحاول هذه المجموعة للقاص حسن النعمي أن تعبِّر عن مأساة الجماعة بقدر ما تُعبِّر عن مآسي أبطالها، يقول في الفقرة الأخيرة من قصة "هوامش في سيرة ليلى":
"ومن خلال تلك الكوّة رأى ما لمْ يره في حياته. رأى الناس يبكون حال ليلى. وكثر عدد الذين أيقنوا بوجودها. وكبر الإيمان بوجود ليلى حتى كان سابقة ذات أبعاد غير معروفة، ودهش قيس لهذا التحول في عشق ليلى. هل كان يحلم؟ ربما. إنها حالة استفاقة في قيلولة حارة. ولم يعد وحده الهائم في رحاب ليلى. وليلى التي كانت هواه أضحت هاجس عشق في دماء الآخرين. واستشرف الناس قدومها، ربما من مكان قريب أو بعيد. لا يهم. فحضورها كان طاغياً، حتى الذين لا يُحبُّون ليلى أحسُّوا بوجودها. بخطر داهم يفضح سرَّهمْ. فجأة انتفض قيس. صرخ حتى ضجَّ المكان. ففي ركن ما من الأرض رأى الطغاة يتآمرون على قتل ما تبقّى من ليلى".
وبالجملتين الأخيرتين كشف القاص حسن النعمي المستور، الذي لم يكن مستورا عند القارئ الخبير بأساليب القص، ووضّح أوراق لعبته الفنية، وعَرَّف من لم يكن يعرف أن "ليلى" ـ في هذا النص ـ رمز لحلم الجموع الذي يحول الطغاة دون تحقيقه.
وفي قصة "الجنوبي" تتسع دائرة المرموز إليه (من الدلالة على المعاناة الفردية لشخص بعينه هو بطل القصة إلى مأساة عامة، هي ضياع الحقوق، وعدم القدرة على استردادها، وهي مأساة المهمّشين ومسلوبي الحقوق في عالمنا المُعاصر، والذين لا يستطيعون أن ينالوا حقوقهم بالشكوى أو بالصّراخ).
ومن ثمّ نرى المفارقة التصويرية بين ما هو كائن، وما ينبغي أن يكون، حيث تبدأ القصة بضياع أثمن ما يمتلكه البطل وهو أرضه:
"البدء كان اشتهاءً، ولكنهم سلبوا الأرض ذات المواسم، وكان بداخلي أرض وتحت الأرض أرض، وقرب الأرض أرض، وفي الأرض أرض، وبين الأرض أرض، و…
ولما سألتهم:
ـ لماذا الأرض ذات المواسم؟!
أجاب الذي أعرف سحنته، وقسوته، وغلظته، وسطوته، وهيبته، وجبروته، وأعرف كلَّ ما انتهى إليه الحقد في داخله، أجاب بهدوء الواثق، المالك، القادر، المستبد، المتسلط:
ـ هذه الأرض بغيتنا.
ومات اشتهائي حنقا".
ويعرف البطل أنه غير قادر على استعادة ما فقده، فقاضيه هو سارقُه، وهو أعزل، بينما القاضي مُدجَّج بسلاح السلطة الباطشة. ومن ثمَّ فإنَّ أقصى ما يقدر أن يعمله البطل، هو الإبانة عن فهم حدود اللعبة، وأنَّ القاضي سارق، لا يحق له أن يكون الخَصْم والحكم في آن:
"عندما أقف بين يدي القاضي غداً، سيسألني عمّا أودُّ قوله، سأقول له ما لم تقله الأحداث. سأقول: كفى عبثاً. سأقول: أنتَ الخصْم والحكم".
التناص:
من العناصر الفنية التي يستخدمها القاص حسن النعمي في هذه المجموعة "التناص"، وقد يكون التناص مفردةً تراثية يعي دورها في عمله الفني، الذي يُقدِّمه لقارئ مُعاصر "فالوعي بالتراث دون وعي بالدور التاريخي من شأنه أن ينتهي بهذا التراث إلى الجمود حيث تغيب كل الفعاليات اللازمة لاستمرار حيويته".
فقصة "هوامش في سيرة ليلى" تتكوّن من مفردتين تُراثيتين يريد لهما الكاتب أن يعيشا حياتنا، فهو يروي قصة خاصة بـ"ليلى" أخرى مُعاصرة، و"قيس" آخر مُعاصر، والشخصية التاريخية عندما تدخل في إطار العمل الفني تُصبح شخصية أخرى لها همومها التي تنبع من واقع العمل الفني لا من الإطار التاريخي الذي انطلقت منه. ومن ثم فقيس ـ في النص القصصي ـ هنا هو"قيس" 1997م لا "قيس بن الملوح في القصة التراثية التي رواها أبو الفرج الأصفهاني في الجزء الثاني من كتاب "الأغاني"، و"ليلى" الضائعة (والعائدة) ـ في النص ـ ليست هي صاحبة "قيس بن الملوّح" في القصة التراثية، وإنما هو الإنسان العربي المهموم في 1997م بالعولمة، وضياع فلسطين، والباكي على مجده الدارس، وضياع أحلامه الجميلة!.
وفي قصة "الجنوبي" يستخدم شطراً من معلقة امرئ القيس:
ألا أيُّها الليلُِ الطويلُ ألا انْجَلِ
ولكنه يأتي بعد الشطر السابق، بجملة على لسان البطل المأزوم بفقد أرضه، والحالم بمواجهة القاضي / السارق، تبين عدم تحقق أحلامه في العدل، وعودة الأرض إلى صاحبها:
"ولما حلَّ النَّهار لم أ تبيَّن بياضَه من سواده".
وتجاور الفقرتين التراثية / على لسان امرئ القيس، والمُعاصرة / على لسان السارد، تكشف لنا أيضاً عن ضياع الأحلام ـ كما ضاعت الأرض من "الجنوبي" الفقير ـ وتومئ إلى تواري الحق الأعزل، أمام الباطل الباطش المسلح.
وفي قصة "رحيل الأستاذ بخيت": يقتبس قول الله تعالى: "لا علم لنا إلا ما علمتنا" (بعض الآية (32) من سورة البقرة، في حوار بين الأستاذ بخيت وتلاميذه الصغار، فلا تحس أنَّ الجملة القرآنية غريبة في داخل الفقرة، بل هي جزء من بنائها الحي، القادر على الإشعاع وإضاءة المعاني والشعور:
"أقلقه صمتُ الطباشير أيما قلق. أوحت له المسألة بانطفاء الضوء بين أصابعه. ثلاثون سنة رافق فيها الطباشير. طوى عليها من شغافه دم الحب. الطباشير التي رسم بها شكل الحقيقة، وجه الضوء، رائحة الحب، بادلته هاجس الحيرة. ضبط من قبل متلبساً بحالة عشق بيضاء. قيل فيما بعد إنها كانت سنبلة الوصال التي أسكنها رحم الطباشير. في الصّباحات كان يرتدي أعين الصبية، يُملي عليهم لماذا أصبح للشمس عين واحدة؟ يذكر أنه عندما قال عبارته ذات المذاق الغريب:
ـ أيها الصبية هل تعرفون لماذا توجد لكم أصابع؟
قالوا:
ـ "لا علم لنا إلا ما علمتنا"، ولكن ربما نأكل بها حيناً، وحيناً نقضي بها حوائج أخرى.
قال:
ـ لم تبتعدوا ولم تصيبوا عينَ غايتي".
البطل:
يعتني حسن النعمي ببطل قصته اعتناءً كبيراً، بل ويرقُبُه في حركته، ويترصّده منذ مولده، وكأنَّه أحد ظواهر الطبيعة. يقول عن "نابت" بطل قصة "حولية الفجر الخامس":
"ها أنت يا نابت، وامتداد الفرح في عينيك، حبل مجدول من معاناة الأيّام. أبوك من قبل كان ضوءاً من الفرح، يذكر أنَّ ولادتك كانت بعد أن أكل الحصى ذاته، وكانت الأرض تحبل بالجوع، وتلد الظمأ، ونبتَّ أنتَ في آخر الزمان، تشرنقتَ داخل غيمة. لم يُصدِّق أبوك أن وفادتك كانت في يوم مطير، حتى إن الصّابرين خافوا من لون الفرح الناري في عيني أبيك، تفاءلوا بك خيراً".
ويقول عن "ليلى" بطلة قصته "هوامش في سيرة ليلى":
"ليلى كانت فضاءً، بل كانت سماءً، بل كانت أمومة. كانت خبراً بشَّر به الأنبياء، وقدّسه المُحتاجون".
ومن ثمَّ لا نعجب حينما نقرأ هذا الحوار بين قيس وآخر، عن ليلى، يُقدِّم له السارد بأن قيساً "كان واحداً من عشاقها. عشاق ليلى".
-"سأله رجل عجوز:
ـ ومن أنت حتى تبحث عنها؟!
حزن على سؤال كهذا، وقال:
ـ إنها الرغبة الوحيدة في بقائي، بها عشت، وبأملها في الرجوع سأعيش. إنها شيء أنقى من وجه الأرض.
قال العجوز بأسى:
ـ ليتني أعرف أين هي؟".
* إن مجموعة "حدَّث كثيبٌ قال" واحدة من أفضل المجموعات القصصية التي صدرت عام 1999م، وهي تكشف لنا بوضوح كيف أن القاص المقتدر، المرتبط بهموم الجماعة يستطيع أن يُقدِّم فنا أخَّاذاً إذا أراد، من خلال استعماله لأدوات فنِّه استعمالاً جيداً، والابتعاد ـ ما أمكن ـ عن السقوط في شراك التقريرية، التي تُبعِد العمل الأدبي خطواتٍ كثيرةً عن طريق الفن الصحيح.