1-رؤية متأملة
عبد الله بن صالح الوشمي أحد الأصوات السعودية الشعرية الشابة، وقد أصدر مؤخراً ديوانه الأول «البحر والمرأة العاصفة» الذي يكشف عن طاقة شعرية متميزة، متوهجة بالعطاء.
في هذا الديوان يمتزج الهم العام بالهم الخاص فلا تدري إن كان الشاعر يتحدث عن نفسه، أم عن الإنسان المسلم والعربي الحالم بالعيش كريماً في عالم تتقاسمه الذؤبان، فلا يظفر إلا بالخسران:
الغلامُ الذي ألِفَ الحبْرَ والرَّاحلةْ
قاتلتْهُ العواصِمُ عاصمةً عاصمةْ
قاتلتْهُ، ولكنهُ لمْ يزلْ
صاحبَ السيفِ والحبْرِ والراحلةْ
يبداُ العشقَ منْ أرْضِهِ البكرِ أوْ أُمِّهِ السنبلةْ
قالَ: هلْ سوفَ آوي إلى جبلٍ
أمْ إلى قبْلةٍ ثانيةْ؟!!
ومضى يستحثُّ خُطا القافِلةْ!
حائراً سوف تحرقُهُ الريحُ والبِيدُ والأسئلةْ (قصيدة «الغلام»-ص27)
فلا تدري هل هو يتحدثُ عن غلامٍ فعلاً هو ذات الشاعر الطفلة المتوهجة بالعطاء والأسئلة، ولكن المثبِّطات تُحاصره من كل جانب. أم يتحدث عن واقع الأمة التي ألفت رحلة العطاء العلمي والمعرفي، وقدمت عطاءها الحضاري الإسلامي للعالم كله، ولكن العالم الآن يتكتّل أمامها ويصفها بالجاهلية والانغلاق! ويتكتل العالم لمحاربة الأمة التي كانت «خير أمة أخرجت للناس» فهل يريدون منها أن تلجأ إلى جبل ـ رمز الانعزال والقوقعة والتخلف الحضاري وعدم المشاركة في السباق ـ أم تلجأ إلى معتقد آخر «قبلة ثانية؟!!».
إن هذا لن يكون، فعليه أن يلوذ بكعبته، وأن يقابل عقبات كؤوداً وأن يدوس على أحزانه التي تعترضُ طريقه:
هاهو الآن يمضي إلى كعبتِهِ
خائفاً
غاضباً
منتبِهْ!!
يكتُم الرملَ من تحتِ صرختِهِ
تلبسُ الشمسُ من حولِهِ ثوبَها للحدادْ
يا تُرى
هل سيبدأُ رحلتَهُ بالبكاءْ؟
موجِعٌ حين يمضي وزوجتُهُ رأسُها للوراءْ
هيَ منْ صحْبِ يوسفَ لكنَّهُ
شاعرٌ ..
جاءَ منْ بلدِ الأنبياءْ (القصيدة نفسها، ص27، 28)
إنه يرجعُ إلى ميراثهِ، ويُشهد على ذلك الناس « هاهو الآن يمضي إلى كعبتِهِ» يُرافقُه الخوفُ على مستقبلٍ وليدٍ لا يدري كنهه، يملؤه الغضبُ ممّن لا يفهمونه أو يعوقون سيرته، متنبهاً إلى هؤلاء الذين يعرقلون الرحلة!
وفي قصيدته «أوراق من سيرة البدوي الذي عانق الشمس» نرى فيها تلك العاطفة الجياشة التي تملك عليه مشاعره؛ فلا تدري أيضاً هل البدوي الذي عانق الشمس هو الشاعر أم هو العربي المُعاصر الذي يُلاقي المثبطات التي تعوي كأنها الذئاب في ليالي البيد من حوله:
عارٍ على كفِّه تخضرُّ مرآتي * أنا هنا عندهُ والموْعِدُ الآتي
أصحابُهُ في ليالي البيدِ قافِيَةً * والذئبُ يعْوي وأشواقُ الغدِ العاتي
هو الصراخُ هو الخيْلُ التي ذبُلتْ * في شدْقِهِ أغنياتُ الموسمِ الشاتي
هو الليالي هو البحرُ الذي غرقتْ * في شاطئيْهِ نهاياتُ النِّهاياتِ
من أينَ جئتَ رياحُ البِيدِ ظامئةٌ * والرملُ يشكو وأكداسٌ حكاياتي
(ص15)
وتتسع دائرة الشاعر لتشمل آفاق الحلم، فيعانق همومنا، متحديا الألفة التي تميت طزاجة الرؤية:
يقول في قصيدة «ذاكرة الحرف»:
أريدُ أن أكونْ
سنبلةً مثقلةَ، أريدُ أنْ أكونْ
أو نبضةَ الغُصْنِ إذا أزمعَ أنْ يكونْ
أوْ دورة الماءِ على الأرضِ إذا همَّ بأنْ
يبدأَ رحلةَ الغصونْ
أُريدُ أنْ أكونْ!
(ص73)
2-معجم رومانسي:
رغم أن الشاعر حالم بتجاوز المثبطات، وأنه حالم دائماً بصباح جديد، ينتصر ويحقق ما يريده لنفسه وأمته، فإننا نلحظ أن معجمه رومانسي، ومن أجواء القصيدة الأولى:
يعزفون الحب على أوتارهم، تكتب الأرض ديوانها في عروقي، قارئ الرمل، أخرج القلب عصفوره، خلفي قراصنة البحر، أنت يا وطني ساحلي، لا تملك العش، ليس سوى الليل من يعشقك، قدري قدر النخلة، خطاي ... تعرف الجنة، يعشق الأرض، أعود كما قطرة عائدة، المراكب أحرقها الخائفون، جنون الشتاء، أرحل كالغيمة، للحقول التي ستورق، تزهر في شفتي السنبلة، عيناي ... ترقبان الصباح، يا وطني أنت ظلي، دهتني رياح الزمن ... إلخ.
وتتكرر هذه المفردات ـ التي تنتمي إلى الرؤية الرومانسية ـ ومثيلاتها في قصائده الأخرى، فنراه مثلاً يقول في قصيدة «عودة السندباد» وهي من جياد قصائده:
نبوءة الشعر في عينيْهِ تحرقُهُ * شعراً وترسمهُ لليلِ مزمارا
كمْ عانقَ الموْجَ كيْ يحظى بقبلتهِ * وكمْ روى عنْ ليالي الحبِّ أخبارا .
من ذا سيقرأُ مجهولي؟ أنا وطنٌ * غيْرَ النجومِ أنا لا أعرفُ الجارا
أعطيتُهُ من ثمارِ الحب لؤلؤةً * لا بَرَّ يحملُ عن عشّاقِهِ العارا
حزينةٌ كلُّ أمواجي، وهلْ نظرتْ * عيْناكَ بحراً على أمواجِه ِثارا
(ص24)
لكنه ـ وإن اعتراه الحزن كالرومانسيين، نجد تأمله تأملاً إيجابيا، فهو شاعر ذو رؤية إسلامية ترى "إن مع العسر يُسراً" (سورة الشرح: 6)، ولذا فهو يرفض اليأس، بل يجعل الشعر ملاذه وملاذ الصامتين:
أكتبُ كيْ أبينْ
أكتبُ كي أولدَ في شفاهِ الصّامتينْ
(ص73)
واستخدامه الفعل المضارع « أكتبُ» يوحي بإصراره على الكتابة التي يرى لها مكانة جليلة، فكأنه صوت الصامتين الذين لا يتكلمون.
***
إن ديوان "البحر والمرأة العاصفة" للشاعر عبد الله بن صالح الوشمي منذ عنوانه يُغامر فيما هو حلم «البحر، والمرأة العاصفة» فلا بحر هنا، وتظل المرأة العاصفة حلماً شعريا، يريد به الشعر المُغامر الذي يقتحم ما هو ثابت، ومكرر. والديوان ـ رغم أنه الديوان الأول ـ يكشف عن طاقة شعرية لشاعر مقتدر جعلت مقرري جائزة الأمير فيصل بن فهد للإبداع الشعري يمنحونه جائزة الأمير عن جدارة واستحقاق.