هناك معارك تعترك فيها اللغات كما تعترك الجيوش على حدود الدول وفي أعماقها وقد لا تراها العيون، ولأن الناس يصلون نار المعارك العسكرية وتسيل الدماء وتهلك الجموع ؛ فلا يهتم أحد بالمعارك الثقافية الأخرى ، وبخاصة معارك اللغات..
اليوم تنكمش اللغة العربية، وتحاصر في كل ركن، وتحل محلها اللغة العبرية والإنجليزية والفرنسية . فدول المشرق العربي تعيش نهباً للغة الإنجليزية وأحياناً الفرنسية ، في القرى النائية وأعماق الصحراء تجد اللوحات باللغة الإنجـلـيـزيـة فـي الوقت الذي لم يقف على أبواب هذه الأماكن متحدث بهذه اللغة . بل وصل الأمر بشركتين عربيتين في بلد عربي أن تـكـتـبا العقود بينها بالإنجليزية وتمنعا عمالها من الحديث بالـعـربـيـة، وبـلـغ الـجـهـل والـتـخـلـف بهــؤلاء أن تكون جميع اللوحات الإرشادية بالإنجليزية، وأحـيـانـاً نـصـف اللوحات .
وفي دول المغرب العربي مشروع فرنسة شامل، ففرنسا تقوم بمعونات ثقافية مجانية بإرسال مدرسي اللغة الفرنسية وإغراق الأسواق بالـكـتـب والأفـلام الفـرنسية بالإضافة إلى البرامج التلفزيونية . وأوقف مشروع التعريب في هذه البلدان بحجة أن التعريب أدى للأصولية .
ويوم ينتهي النفوذ السياسي والاقتصادي للفرنسية والإنجلـيـزيـة - وقد يكون قريباً - هل سترثها اللغات المتخلفة جداً كاليابانية والصينية والهندية وندرسـهـا فـي مدارسنا ونحول وسائل إعلامنا لها ، أم أن المستقبل للعبرية والتي تتزايد شهرتها واهتمام العالم بها ، لأن اليهود احترموا لغتهم ففرضوها على العالم ، ولم يكن أحد يتحدث بـهـا إلا كهـنـة معابد اليهود وكانت العبرية والديانة اليهودية أهم وسائل تكوين دولة مـتـرابـطـة، لأن الـيـهود قدموا من شعوب شتى ولغات شتى فجمعتهم العبرية والديانة اليهودية .
إننا لنلوي ألسنتنا بعجمتهم ورطانتهم في كل بلدانهم حيث لا يحترمون لنا لغة ولا ذات، ويـوم يدخـلـون بلداننا ترانا نستبق تحت أقدامهم لنترجم لهم خدماً طيعين بلا أجر ، بل ونحــرص ألا تعكــر مزاجهم كلمة عربية واحدة ، بل إن المريض في الدول العربية عندما يشتد به المرض قد لا يفـكـر في الذهاب إلى المستشفى لأنه لا يستطيع أن يشرح مرضه بلغة أخرى ، وهم لا يفهمونه بل ربما أمرضوه أو قتلوه لأنه لا يعرف لغتهم ولا يعرفون لغته .
لقد انهارت الثقافة الإسلامـيــة وعلومها العربية يوم أن كانت اللغة التركية لغة ثانية بل لغة مسيطرة في البلاد العربية، وعشنا زمناً طويلاً من الانطواء وضعف العلوم والثقافة ، لأن اللغة المهيمنة لم تكن لغة المجتمع فلم تكن العربية ، ولم يتعرب الأتراك ، واليوم سيكون بقاء اللغات الأجنبية مسيطرة في بلاد المسلمين علامة انهيار ثقافي وتبعية سياسية شاملة ، فمجتمع يعيش بلغتين ويحيا ثقافتين مجتمع مصيره المسخ والانهيار ، فاختاروا لكم حياة ثقافية وحضارية واحدة، إما أن تكون العربية، أو الفرنسية، أو الإنـجـلـيـزيـة، وتجنبوا مشاريع التقليد الفاشلة قديماً وحديثاً . ونحن اليوم نعيد تجربة العهد التركي الـفـاشـلـة ثقافياً مع أنها حمت المسلمين عسكرياً زمناً طويلاً ، نعيد التجربة مع الغربيين. لقد آن لنا أن نعي ثقـافـتـنـا ونـعـرف أهمية لغتنا وألا نحيا حياة المسوخ ، وليس في هذا منع لوجود مختصين ونقلة لما نحتاجه من الغرب أو الشرق ، فتكون هناك حاجة دائماً لمن يعرف هذه اللغات سواء اليابانية أو الصينية أو العبرية أو الإنجليزية أو الفرنسية ، ولكن ليس بهذه العملية الماسخة لشعوبنا، الممزقة لها سياسياً وثقافياً ، آن لنا أن نتخلص من هذا الاستعمار الفكري المزري.
-----------
مجلة البيان – العدد 65 – المحرم 1414هـ - يوليو 1993م