وقد حاول الباحث مناقشة ذلك وتمييز هذه المفردات العربية في دراسة نشرت قبل حوالي عشرين سنة في عدد خاص من مجلة "المعرفة" السورية. وفي هذا الإطار حاول المؤلف عرض الأرضية التاريخية، وإبراز التواصل المباشر للألبان مع اللغة العربية من خلال الإسلام والاتصال المباشر والترجمة، وأهم المجالات التي انتشرت فيها هذه المفردات، مع مصير هذه المفردات بعد التطورات السياسية التي لحقت بالألبان(3). وقد أعقبت هذه المحاولة دراسة أخرى للمفردات العربية في نتاج كاتب ألباني معاصر (سنان حساني) لما لذلك من مغزى خاص بالنسبة للإطار المكاني والزماني والثقافي والسياسي(4).
وبعد نشر هذه الدراسة أُتيح للمؤلف الإطلاع على "موسوعة حلب المقارنة" للمرحوم خير الدين الأسدي، التي أصدرت حينئذ، حيث نشر بعد ذلك دراسة مطولة بعنوان "إسهام الأسدي في الكشف عن المفردات العربية في اللغات البلقانية"(5). وفي الواقع أن هذه الدراسة كانت تركز على إسهام رائد للمرحوم الأسدي (1900- 1971) في هذا المجال، حيث أنه ركز أكثر على وجود المفردات العربية في اللغة الألبانية بالمقارنة مع اللغات البلقانية الأخرى. وهكذا نجد في قائمة المفردات العربية في اللغات البلقانية (كما وردت لديه: الرومانية والقرواطية والبلغارية واليونانية والألبانية) 126 مفردة أبرز وجود معظمها (88 مفردة) في اللغة الألبانية.
وفي غضون ذلك (1988) أُتيح للمؤلف أن يزور "معهد اللغة والأدب" التابع لأكاديمية العلوم في تيرانا، وأن يطلع على إسهام عالم آخر في هذا المجال، ألا وهو المستشرق الألباني المرحوم طاهر دزداري Tahir Dizdari (1901- 1972)، والذي لم يأخذ حظه من الشهرة خارج ألبانيا بسبب عدم وفاقه مع النظام الحاكم آنذاك.
وقد ولد ط. دزداري في مدينة شكودرا Shkodra بشمال ألبانيا في عائلة ذات تقاليد ثقافية قومية. فقد كان والده نصوح دزداري أدبياً وصحفياً معروفاً على المستوى القومي، واشتغل بجمع التراث الشعبي الألباني مما أثّر لاحقاً على توجه الفتى طاهر نحو هذا المجال. وقد بدأ طاهر دراسته بمدينته في المدرسة العسكرية العثمانية حيث تعلم التركية والعربية، ثم تابع دراسته (بعد نهاية الحكم العثماني في 1912) في المدرسة اليسوعية حيث تعلم هناك الإيطالية والفرنسية.
وفي 1920 بدأ ط. دزداري عمله الوظيفي في إدارة الدولة الألبانية الجديدة وتدرج في العمل حتى أصبح مديراً لمنطقة بوكا Puka في 1939، حين تعرضت ألبانيا للغزو الإيطالي. وبسبب مقاومته حينئذ للغزو الإيطالي اعتقل ونفي إلى أحد معسكرات الاعتقال في إيطاليا، حيث بقي هناك إلى سنة 1942، وخلال 1943- 1944، بعد استسلام إيطاليا وانسحاب قواتها من ألبانيا، بدأ ط. دزداري بشكل منظم في جمع التراث الشعبي الألباني والكتابة في الصحف والمجلات الألبانية حول الإسلام والثقافة الشرقية، وأخذ ينشر أولى مقالاته حول المفردات الشرقية في اللغة الألبانية مستهلاً ذلك في 1944 بـ"المفردات الإيرانية في اللغة الألبانية".
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتسلم الحزب الشيوعي للسلطة، جال ط. دزداري أرجاء البلاد خلال 1945- 1951 لجمع التراث الشعبي من أفواه الناس. ولكن في 1951 سجن عدة شهور للاشتباه به فيما سُمّي حينئذ بمحاولة الاعتداء على السفارة السوفييتية. ومع أنه بُرّىء من التهمة إلا أن علاقته مع النظام لم تعد على ما يرام(6).
وتفيد المعطيات المتوفرة لدينا أن ط. دزداري قد استمر في الاهتمام الجدي بالمفردات العربية وغيرها من المفردات الشرقية في اللغة الألبانية خلال الخمسينات بعد أن تفرغ تماماً للبحث العلمي والتأليف. وقد أصبح هذا الموضوع شغله الشاغل طيلة العشرين سنة اللاحقة، أي حتى وفاته في عام 1962، حيث أتيح له أن يجوب أرجاء البلاد ويتصل بالناس في مختلف مواقعهم وأن يسجل من أفواههم مباشرة المعطيات التي كانت تهمه.
ويُلاحظ هنا أن ط. دزداري لم يأخذ بالمصطلح الشائع حتى ذلك الحين، أي "التركيات" أو المفردات التركية، بل فضّل أن يستخدم مصطلح "الشرقيات" Orientalizmat أو المفردات الشرقية في اللغة الألبانية التي تضم العربية والتركية والفارسية. ونظراً لإضلاعه في هذا المجال فقد نشرت له مجلة "دراسات فيلولوجية" خلال 1960- 1966 عدة حلقات من المفردات الشرقية في اللغة الألبانية التي كان يجمعها وينسقها ويعلق عليها(7). وبعد نشر هذه الحلقات انضم ط. دزداري للعمل في "معهد اللغة والأدب" حيث تفرغ هناك لإكمال مشروعه الحياتي "المفردات الشرقية في اللغة الألبانية"، الذي أنجزه قبل وفاته بقليل في أيار 1972. وقد تجاوز هذا المعجم الموسوعي الألفي صفحة وتضمن حوالي 4500 مفردة من اللغات الشرقية التي دخلت واستقرت في اللغة الألبانية.
وفي الحقيقة لدينا بعض الشبه بين هذا المعجم الموسوعي وبين "موسوعة حلب المقارنة" للمرحوم الأسدي. فقد كانت فكرة الموسوعة في البداية عند الأسدي أقرب إلى المعجم الذي يهدف إلى الكشف عن جذور اللهجة الحلبية في اللغات الأخرى، إلا أن ثقافة الأسدي الواسعة حولت العمل إلى موسوعة بما أضافه من الأمثال والحكم والنوادر الخ. وفي المقابل كان المرحوم دزداري يطمح إلى وضع معجم للمفردات الشرقية في اللغة الألبانية، يتتبع فيه جذور هذه المفردات في اللغات الأخرى (العربية والتركية والفارسية)، إلا أن ما أضافه أيضاً من الأمثال والحكم والنوادر الألبانية التي تستعمل فيها تلك المفردات الشرقية حول هذا المعجم إلى موسوعة مصغّرة عن التراث الشعبي الألباني.
وفي هذا العمل الموسوعي وضع المرحوم دزداري المفردات حسب التسلسل الأبجدي في اللغة الألبانية، حيث كان يحلل كل مفردة ابتداءً من توضيح أصلها وما لحقت بها من تغيرات صوتية في الألبانية حسب المناطق التي تستخدم فيها، وينتقل إلى شرح معانيها إذ كان لها أكثر من معنى، ويستشهد على ذلك بالأمثال والحكم والنوادر. وكمثال على غنى هذا المعجم الموسوعي ومنهج المؤلف في استعراض المفردات الشرقية (العربية) نقدم هنا ترجمة كاملة لمفردة واحدة:
"آلة alet-i (ع) تستخدم في ألبانيا الجنوبية والوسطى، ولكن في ألبانيا الشمالية تضاف إليها الهاء h في البداية وتشدّد اللام ً في الوسط فتصبح hallat.
1- أداة لإنجاز عمل ما، أداة لازمة لممارسة مهنة ما في الصناعة والزراعة والعمليات الطبية الخ. وفي الأمثال الشعبية يقال "الشغل للآلة والمديح لصاحبها" Hallati punon e izot ilavddohet ويقال "كل قليلا واعمل كالآلة" Ha pak e ban hallat.
2- العضو التناسلي للرجل.
3- في المفهوم المجازي تستخدم بمعنى أداة أو لعبة، ويقال في الأمثال الشعبية "لا تكن أداة بيد فلان أو علاّن" hallati i njanit e tjetrit Mos ubën "(8).
وتجدر الإشارة إلى أن المرحوم دزداري جمع على هذا النحو 4406 مفردة تغطى الجوانب الإدارية- التاريخية والحياتية- الثقافية، أي ما كان يُستخدم ولا يزال إلى حد ما في القاموس الشعبي في بعض المناطق الألبانية وما يستخدم الآن في اللغة الأدبية بعد أن استقر في المعاجم الحديثة. وفيما يتعلق بأصول هذه المفردات الشرقية فقد توزعت حسب المرحوم دزداري كما يلي:
1460 مفردة عربية.
1732 مفردة تركية.
505 مفردة فارسية.
72 مفردة مركبة عربية- فارسية.
433 مفردة مركبة عربية- تركية.
27 مفردة عربية(9).
وعلى الرغم من ضخامة العمل المبذول خلال ثلاثين سنة وأهمية هذا المعجم الموسوعي، سواء باعتباره تعبيراً تاريخياً عن العلاقات الثقافية بين الألبان والشرق/ الإسلام أو مرجعاً مهماً للمشتغلين في وضع المعاجم الحديثة والباحثين في التراث الشعبي، إلا أن مصيره كان كمصير صاحبه حيث عانى من الإهمال والعزل ولم يطبع حتى الآن منذ تسليمه في 1972! والمثير في الأمر أن هذا المعجم الموسوعي الذي طالما انتظره المعنيون لم يعد سراً، حيث أفاد في وضع "معجم اللغة الألبانية الحالية" الذي صدر في تيرانا سنة 1980 وأُشير إليه في المقدمة ضمن المراجع التي اعتمد عليها المشتغلون في وضع هذا القاموس. وقد أفاد منه بشكل خاص الباحث الألباني المعروف أكرم تشاباي E. Qabyj في وضع كتابه المشهور "دراسات اتمولوجية في حقل الألبانية"(10) الذي صدر في تيرانا سنة 1989، حيث استشهد بالمرحوم دزداري على الشكل التالي:
1- في الجزء الثاني A- B 111 مرة.
2- في الجزء الثالث C- D 158 مرة(11).
وفي الواقع إن تغييب مثل هذا المعجم الموسوعي طيلة هذه العقود لا يمكن فهمه إلا بطبيعة النظام السائد وسياسة النظام في تلك السنوات بالذات (نهاية الستينات وطيلة السبعينات). فطبيعة النظام الشمولي السابق في ألبانيا (1945- 1991) كانت تسمح في أحسن الأحوال بـ"تغييب" المثقف وهو على قيد الحياة وذلك بعدم السماح له بالنشر في الصحف والمجلات أو بنشر مؤلفاته(12). ومن ناحية أخرى فقد أدت سياسة النظام بعد "الثورة الثقافية" إلى حد "إلغاء الدين" في سنة 1967 والعمل على "تغييب" الدين تماماً من الكتب ومن الوعي. ولذلك لم يكن النظام ينظر بارتياح حينئذ إلى المرحوم دزداري وأمثاله من المهتمين بالعلاقات الثقافية- التاريخية مع الشرق/ الإسلام، وإلى موضوع "الشرقيات" في اللغة الألبانية بالتحديد، فقد كانت معظم المفردات العربية تتعلق بالثقافة الشرقية والإسلامية، وهذا ما كان يمكن أن يحفظ هذه المفاهيم في أذهان الناس، ولذلك تمّ التوجيه بالتقليل قدر الإمكان من هذه المفردات في المعاجم اللغوية التي وضعت ونشرت في تلك السنوات كـ"معجم اللغة الألبانية الحالية" وغيره(13).
وفي تلك الظروف الصعبة جاء التكريم للمستشرق دزداري، الذي كان يعاني من إحباط شديد، من الخارج حين وُجّهت له الكوليج دو فرانس دعوة للمشاركة في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين في باريس خلال تموز 1972. إلا أن الموت خطفه في أيار 1972 وحرمه من المشاركة في مثل هذا المؤتمر الدولي بالموضوع الأثير إلى روحه- المفردات الشرقية في اللغة الألبانية، وعلى كل حال إن التكريم الوحيد الممكن للمستشرق دزداري، الذي قضى جل حياته يبحث في هذا المجال، إنما يكمن في إصدار هذا المعجم الموسوعي الذي طال انتظاره(14).
----------------------
الهوامش
(1) للمزيد حول هذا "التشرق" في الثقافة الألبانية ونتائجه بما في ذلك تزايد المفردات العربية في اللغة الألبانية انظر كتابنا: الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1983.
(2) F. Miklosich., Die turkischen Elemente in den sudes- und- osteuropqisccheen Sparchen 1-2 1884- 1890, A. Xhuvani. Per pastertine” egjuhes. Tirane 1966 A. Krajani Hyrja e truqizamave ne shqipen dhe perpjekjet per zevendisimin e tyre. Studime filologjke. no l. Tirane 1965, E. Cabaj. Per njeshtrezim kronologjik te huazimeve turke te shqipes. strudime filologjke, no. 2. Trirane 1975. A. Kostallari.” Reth depertimit te turqizmave ne gjuhen shqipe.” Gjurmime albanologjike. no 8. Prishtine” 1977.
(3) اللغة العربية في اللغة الألبانية، مجلة "المعرفة" عدد 178، دمشق 1976- ص173- 183.
(4) مغزى المفردات العربيةفي رواية سنان حساني" بدأ العنب ينضج"، مجلة "الموقف الأدبي" عدد196 ، دمشق1987، ص.96-108.
(5) إسهام الأسدي في الكشف عن المفردات العربية في اللغات البلقانية، مجلة "مجمع اللغة العربية الأردني" عدد 48، عمان 1995، ص 211- 261 .
(6) Sulejman Cerkezi, “Tahir Dizdari- Gjuhetar dhe orientalist I shquar”. Dituria islame no. 51, Prishtine 1993. PP. 12-13.
(7) T. Dizdari, Huazime orientalizmash ne shqip”. Buletini i Universitetit Shteteror te Tiranes- Seria e shkencave shoqerore, no. l. Tirane 1960.
(8) Tahir Dizdari, Orientalizmat ne gjuhen shqipe, doreshkrim ne Institutin e Gjuhes e letersise. P. 18 .
(9) Gerkezi, P. 13, Nasuf T. Dizdari. “RReth doreshkrimit “Orientalizmat ne gjuhen shqipe “te Tahir Dizdarit” in: Feja. Kultura dhe tradita islame nder shqiptaret. Prishtine 1995, P. 334.
(10) Eqrem Cabej. Studime etimologjike Ne fushe te shqipes. Tirane 1989.
(11) Cerkezi, P. 13, Dizdari. P. 331.
(12) تكفي الإشارة هنا كنموذج إلى أحد أهم أعلام الأدب والنقد في ألبانيا فائق كونتيسا F. Konica، الذي كان أول من ترجم "ألف ليلة وليلة" في اللغة الألبانية، طيلة 1954- 1991.
(13) Akademia e shkencave. Fjalori I gjuhes shqipe, Tirane 1980.
تجدر الإشارة إلى أن المجلة الفصلية " برلا Perla التي تصدرها المؤسسة الثقافية " سعدي الشيرازي" في تيرانا، والتي تعنى بالصلات الثقافية الفارسية- الألبانية، قد بادرت منذ عددها الأول ( 1996) إلى نشر المفردات الفارسية من هذا المعجم واستمرت في ذلك حتى العدد الأخير من سنة 1997(8 حلقات). وبهذا يتجدد الأمل في أن تبادر مجلة أخرى إلى نشر المفردات العربية أيضاً.
----------------
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العددان 71 - 72 - السنة 18 - تموز "يوليو" 1998 - ربيع الأول 1418