هذه الأمور مجتمعة أدت إلى أن يكون هناك أخذ وعطاء بين العربية وغيرها من اللغات ما دفع أستاذنا الدكتور مسعود بوبو إلى القول: (إن وجود الدخيل في اللغات ظاهرة إنسانية طبيعية تنتج عن التقاء البشر واختلاطهم مما أدى إلى اختلاط اللغات، وتبادل الألفاظ، فأخذت كل لغة ما تحتاج إليه من ألفاظ لغة أخرى، وما من لغة ذات شأن في تاريخ الحضارة الإنسانية إلا كانت عرضة لمثل هذا التبادل اللغوي، بل إن عملية التبادل اللغوي واتساعها، جعلها حقيقية علمية لا يمكن إغفالها مما دفع البحث اللغوي إلى دراستها دراسة معمَّقة موسَّعة).(4)
ولكن هذا الأخذ لم يكن عشوائياً، بل جرى حسب أصول العربية، فلم تؤخذ تلك الألفاظ الدخيلة عن الأمم الأخرى كما هي منطوقة في لغاتها الأصلية، بل نطقت حسب أصول العرب في النطق والاستعمال فقاسوها على كلامهم وقواعدهم فكلمة (المهندز) الفارسية نطقوها (المهندس) لأن الدال والزاي لا يجتمعان في كلمة من كلام العرب، وعلى هذه الشاكلة تمَّ أخذُ ألفاظ الأمم الأخرى ولم يأخذوا الألفاظ الدخيلة بنطقها الأصلي إلا في النادر، وفي حالة الضرورة القصوى، وهكذا فعلت اللغات الأخرى التي أخذت ألفاظاً من اللغة العربية، ولا يخفى عن ذهن أحد كيف تُنطق كلمة (دمشق)أو (حلب) أو (القاهرة) في اللغة الإنكليزية، فإنهم ينطقونها حسب مخارج أصواتهم، وأصول لغتهم، لا ينطقونها كما تنطق في لغتها الأصلية.
ولم تصبح دراسة الدخيل في أوربا علماً مستقلاً له أصوله وقواعده، ومعاييره وعلماؤه إلا في نهاية القرن التاسع عشر عندما أخذت معالم الدراسات اللغوية التاريخية تتضح صورتها، واتجهت نحو تأصيل اللغات، وتبيين فصائلها المنحدرة عنها، ومدى الاتصال بينها، واقتراض بعضها من بعض وكانت دراساتهم قبل هذا التاريخ تتسم بالحدس والتخمين، لافتقارها إلى الوثائق التاريخية والوسائل المساعدة على إيضاح هذا الغرض العلمي(5).
وأثيرت مسألة الدخيل في البحث اللغوي عند العرب في مراحل مبكرة جداً، تعود بذورها الأولى إلى بدايات القرن الهجري الأول حين بدأت الحركة العلمية الناشطة التي دارت حول القرآن الكريم، وعلومه، فاستوقفتهم كلمات وردت فيه مثل (الترقيم، وأبّ، وأوّاه، وغسلين، وحنان...) وغيرها من الكلمات التي غمضَتْ دلالتها على صحابة رسول اللَّه، أمثال أبي بكر وعمر بن الخطاب، وعبد اللَّه ابن عباس رضي اللَّه عنهم.(6) والذين تتبعوا تلك الألفاظ وجدوا أنها دخيلة من ألفاظ الأمم الأخرى، وما هي بالعربية الصريحة، فامتثل أمامهم السؤال الكبير: هل في القرآن كلام غير عربي؟(7)
ونتيجة لاختلاف إجابتهم عن هذا السؤال اختلفت مواقفهم من الدخيل، بين رافض لوجود الدخيل في القرآن الكريم، وبين متساهل راض بوجود الدخيل فيه، وبين معتدل وقف موقفاً وسطاً بين الموقفين السابقين.(8)
ولم يعمِّق علماء العربية القدماء البحث في هذه المسألة اللغوية، بل اكتفوا بالإشارة إلى الكلمات الدخيلة، واللغة التي تنتمي إليها، ولم يخصصوا أبحاثاً لقضية التبادل اللغوي بين اللغات، أو البرهنة العلمية على ما بينها من تواصل، ولم يبينوا الآثار السلبية أو الإيجابية لذلك التواصل بين اللغات، وآثار الألفاظ الدخيلة في اللغة الآخذة. حتى جاء العصر الحديث وقام علماء مختصون بهذا الجانب وأعطوا هذه المسألة حقها من الدراسة. وبحثوا فيها بحثاً دقيقاً مستفيضاً أماط اللثام عن كثير من مسائلها، وما زال البحث مستمراً فيها، لأن قضية التأصيل اللغوي والدلالي تحتاج إلى جهود كبيرة، وهمم عالية، وصبر، وأناة، ودراية، ومازالت بعض المسائل فيها بحاجة إلى دراسة وبيان.
ولا شك في أن الألفاظ الدخيلة تكون آثارها إيجابية في اللغة الآخذة إذا أدخلت عليها أسماء ودلالات غير موجودة فيها، لأنها تغنيها بهذه الدلالات الجديدة، وتجعل مجال التعبير عن الأغراض أوسع وأدق. أما إذا كانت الألفاظ الدخيلة لا تضيف معاني ولا دلالات جديدة إلى اللغة الآخذة، فتكون آثارها سلبية فيها، لأنها تؤدي إلى تضخيمها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إذا لم يتم التعامل مع مسألة الدخيل بطريقة علمية مدروسة تنظر إلى الدخيل نظرة موضوعية يكون تأثيرها سلبياً في قواعد اللغة العربية وأصولها فتدخل على تلك القواعد ما ليس منها، مما يؤدي إلى توزع هذه القواعد وتعدُّدها وخصوصاً إذا عُدَّ هذا الدخيل أصيلاً، واشتُقَّ منه كما يشتَقّ من الأصول العربية، فإنه يُدخِل على القاعدة شيئاً من الإرباك والاختلاف حول بعض أحرفه أهي أصلية أم زائدة؟ وهكذا فيدخل العربية في مداخل ليست بحاجة إليها مما يؤدي إلى تضخيم القاعدة وتشعيبها وعدم انسجامها، ومما يؤدي إلى التأويل الخارج عن طبيعة اللغة، واصطناع الحجج غير المقنعة، والبعيدة عن منطق اللغة، فتزيد مشكلات اللغة وربما غموضها.
ويُستحسن ألا يغيب عن الأذهان أن الأخذ عن اللغات الأخرى أمر طبيعي لا ينقص من مكانة اللغة كما إنه في الوقت نفسه لا يزيد من عظمتها، وإنما الأمر حاجة أو عدم حاجة، ولا يتعلق برفع المكانة أو خفضها، وعلى كل حال ما دخل على العربية من ألفاظ الأمم الأخرى في تاريخها الطويل يسير جداً بالنسبة إلى بنيانها الضخم، ومادتها الوفرة الغنية المتنوعة دخلها في مرحلة النضج والكمال، ولم يدخلها في مرحلة النشأة والتكوين، وهو مقصور على الألفاظ دون الأصوات والحروف والجمل والتراكيب والعبارات" إلا في بعض ما نقع عليه من التعابير العصرية الحديثة جداً في المجلات الدورية والصحف اليومية"(9) فقد جاوز الألفاظ إلى الجمل والعبارات والتراكيب، فأدخل عبارات غير عربية في نظامها أقرب إلى اللغات الأجنبية في نظامها منها إلى طرائق العرب وأساليبهم في التعبير.
تلك مسألة الدخيل بوجهها الموجز البسيط. فما هو موقف الطبري منها؟
تناول الطبري مسألة الدخيل في القرآن الكريم في مقدمة تفسيره بحديث نظري أفرد له باباً من أبواب المقدمة بعنوان: (القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم)(10). وتناولها بوجهٍ تطبيقي في متن التفسير في أثناء شرح الآيات الكريمة.(11)
نصَّ الطبري على أنَّ القرآن عربي لأنه منزل على النبي محمد (ص) وهو عربي والقوم المرسل إليهم عرب، وغير جائز أن يخاطب اللَّه أحداً من خلقه إلا بما يفهمه وبذلك نطق أيضاً محكم التنزيل (إنَّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)(12)
وقال: (وإنه لتنزيل رَبِّ العالمين. نَزَل به الروح الأمين على قلبكَ لتكون من المُنْذِرِيْنَ. بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ)(13)، وغير جائز -في رأيه- الاعتقاد أن بعض القرآن فارسي لا عربي، وبعضه نبطيّ لا عربيّ، وبعضه روميّ لا عربيّ، وبعضه حبشي لا عربي. وقال في موضع آخر: ((أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الأمم))(14)
وبيّن أن الأحرف التي وردت في القرآن موافقة لألفاظ بعض أجناس الأمم، قد كانت للعرب كلاماً تنطق به قبل نزول القرآن، ومن الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة بمعنى واحد، فكيف بجنسين منها؟
كما قد وجدنا اتفاق كثير منه فيما علمنا من الألسن المختلفة، وذلك كالدرهم والدنيا، والدواة والقلم والقرطاس، وغير ذلك ممّا اتفقت فيه الفارسية والعربية باللفظ والمعنى. ولعل ذلك كذلك في سائر الألسن التي نجهل منطقها ولا نعرف كلامها.(15)
ومذهبه هذا يعني أن في القرآن ألفاظاً استعملها العرب، وهذه الألفاظ أنفسها مما استعملته الفرس أو الروم أو الحبش على جهة اتفاق اللغات على استعمال لفظ واحد بمعنى واحد، لا على جهة انفراد الكلمة من القرآن بأنها فارسية غير عربية، أورومية غير عربية. وهو مذهب غير سديد عند اللغويين المحدثين، لأنه يغفل مسألة التأصيل اللغوي، وطبائع اللغات، وتواريخها.
وذهب مثل هذا المذهب أبو عبيدة، حين قال: ((وقد يوافق اللفظُ اللفظَ ويقاربه ومعناهما واحدٌ، وأحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها، فمن ذلك الاستبرق، وهو الغليظ من الديباج، وهو استبره بالفارسية أو غيرها، وعدد ألفاظاً أخرى ثم قال: ((وذلك كلّه من لغات العرب وإنْ وافقه في لفظه ومعناه شيء من غير لغاتهم)). وقال ابن فارس: (( وهكذا كما قاله أبو عبيدة)). وقال الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه:
(( ماوقع في القرآن من نحو المِشكاة، والقسطاس، والاستبرق، والتّبحيل، لا نُسَلِّم أنها غير عربية، بل غايتُه أنّ وضعَ العرب فيها وافق لغة أخرى كالصابون والتنور، إن اللغات فيها متفقة))(16)
والطبري لا يقبل أن تسمّى تلك الألفاظ التي اتفقت في اللفظ والمعنى في لسانين من ألسنة الأمم المختلفة عربية، ولا فارسية، ولا حبشية، ولا رومية، ولا معربة، بل يطلق عليها تسمية لعلها خاصة به، فهو يرى، أن يُسمَّى اللفظ المتفق في الفارسية والعربية (عربياً فارسياً)، واللفظ المتفق بالحبشية والعربية (حبشياً عربياً)، واللفظ المتفق بالرومية والعربية (رومياً عربياً)، وشرط ذلك عنده أن تكون الأمَّتان مستعملتين له في بيانهما ومنطقهما، استعمال سائر منطقهما وبيانهما.
وهذا يتضح من رفضه آراء القائلين على تلك الكلمات: (إنّ ذلك كلَّه فارسي لا عربي، أو ذلك كله عربي لا فارسي، أو قال بعضه عربي وبعضه فارسي، أو قال كان مخرج أصله من عند العرب فوقع إلى العجم فنطقوا به، أو قال: كان مخرج أصله من عند الفرس فوقع إلى العرب فأعربته)(17)
وعلَّل ذلك بقوله: (لأنَّ العرب ليست بأولى أن تكون صاحبة ذلك الأصل، ولا العجم أحق أن يكونوا أصحاب ذلك الأصل، إذا كان استعمال ذلك بلفظ واحد موجوداً في الجنسين. والمدّعي أنَّ مخرج أصل ذلك إنّما كان من أحد الجنسين إلى الآخر، مدع أمراً لا يوصل إلى حقيقة صحته إلاّ بخبرٍ يوجب العلم، ويزيل الشك ويقطع العذر صحته)(18)
لعل الحقبة التاريخية المبكّرة التي عاش فيها الطبري (224-310هـ) تشفع له أن يطلق مثل هذه الأحكام، لأن تلك الحقبة، لم تكن تعرف الدراسات اللغوية المقارنة، ولم تكن تملك وسائل المعرفة العلمية المتقدمة في أصول اللغات، ولم تكن قد ظهرت بعد دراسات المعرّب والدخيل بوجهها الموسّع على يد الجواليقي (ت540هـ)، وما كان مفقوداً في عصر الطبري قد ظهر في الدراسات اللغوية الحديثة بفروعها المقارنة والتأصيلية، وقيام دراسات جادة حول المعرب والدخيل أزال اللبس عن هذه المسألة، فباتت معروفة أصول الكلمات ولم يعد هناك غموض في نسبتها، على الرغم من اختلاف المواقف في ذلك.
ومع كلّ ما قال يبقى في مذهبه هذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل يلحظ في تسميته تلك القائمة على اقتران اسم الأمتين المستعملتين للفظ، والشروط التي وضعها لإطلاق تلك التسمية وميض نظرة متقدمة إلى اللغة، عند الطبري، تنمّ على أنه كان يرى أن اللغة بنت الحاجة والاستعمال، وأنّها قاسم مشترك فيه بين الأمم، ومن حق الأمة المستعملة للفظ أنْ ينسبَ إليها، وعندما يكون اللفظ مستعملاً في لغتين، لا يضير -في رأيه- أن ينسب إلى الأمتين؟ فهو يرى أن اللغة كالمال والقادر على استخدامه والتصرف به هو المالك له، فالاستعمال في رأيه هو المعوَّل عليه.
ومنطلق الطبري هذا منطلق لغوي محض، يدعمه منطق العربية، ومذهب العرب في استخدام كلامهم، فهو يعوّلون على الكلام الأكثر استعمالاً واستخداماً من غيره في نصوصهم الأدبية، وعلى هذا بنوا قواعد لغتهم، وهو في مذهبه هذا يلتقي مع ابن جني في قوله: (ماقيس عى كلام العرب فهو من كلام العرب)(19) ولكنه أضاف أنه لاضير أن ينسب إلى غير العرب إذا كان مستعملاً في لغتهم.
وفي رأيه أنَّ أنساب اللغة تخالف أنساب بني آدم، لأن أنساب بني آدم محصورة على أحد الطرفين، دون الآخر لقوله تعالى( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند اللَّه)(20) ثم قال: ((وليس كذلك في المنطق والبيان، لأن المنطق إنّما هو منسوب إلى من كان به معروفاً استعماله))(21).
ولكن لا بد من الإشارة إلى أنَّ مذهب الطبري هذا يهمل عامل الزمن والأسبقية في الاستخدام، ويخالف منطق التأصيل اللغوي، ممّا يؤدي إلى إغفال الهوية الأصلية لبعض الألفاظ.
ولم يكتف الطبري بعرض آرائه النظرية في مقدمة تفسيره، بل راح يطبّقها تطبيقاً عملياً في تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، فتجلّى موقفه تطبيقياً إلى جانب تجلّيه نظرياً -فيما سبق- من خلال موقفه من الألفاظ التي وافقت في اللفظ والمعنى غيرها من ألفاظ الأمم الأخرى، والتي وردت في آي القرآن الكريم، وقد آثرتُ أنْ أُكثِرَ من ذكر تلك الكلمات، عسى أن يكون في ذكرها شيء من الإفادة أولاً، ولأنَّ عدداً غير يسير منها غير مذكور في كتاب المعرّب للجواليقي ثانياً، ولأني وجدت بعضها في كتاب المعرب للجواليقي منسوباً لأئمة متأخرين أمثال الأصمعي وابن قتيبة، وابن دريد، وهي في حقيقة الأمر صادرة عن علماء الصحابة والتابعين، فأوردتها منسوبة إلى أصحابها أمثال أبي موسى الأشعري، وابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك بن مزاحم العقيلي، والحسن البصري، وقتادة بن دعامة السدوسى، السدي... مِمّا يبيّن أنّ هؤلاء الأئمة كانوا على معرفة حسنة بلغات الأمم المجاورة لهم ثالثاً.
من ذلك تفسير الآية الكريمة (يا بني اسرائيل)(22)، يعني بقوله: (يابني إسرائيل) ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن.
ومنه كذلك تفسيره لقوله تعالى (قُلْ من كان عدّواً لجبريل...)(23)، قال (جِبْر) و (ميك) إنهما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى (عبد)، والآخر بمعنى (عبيد) وأما (إيل) فهو الله تعالى ذكره.
وقرئ على عدة وجوه (جَبْرَئيل) بالفتح والهمز والمد، و (جِبريل) بالكسر وترك الهمز، و (جبرئلّ) بالهمز وترك المد وتشديد اللام. وفي أثناء توجيه القراءة الثالثة (جبرئلّ) قال: إنه قصد بقوله ذلك كذلك إلى إضافة (جبر) إلى اسم الله الذي يسمّى بلسان العرب دون السرياني والعبرانيّ. وذلك أنّ (الإل) هو الله، كما قال: (لايَرقُبُون في مؤمنٍ إلاّ ولا ذِمةً)(24)، ثم قال: فقال جماعة من أهل العلم (الإل) هو الله، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لوفد بني حنيفة حين سألهم عما كان مسيلمة يقول فأخبروه. فقال لهم: (ويحكم أين يُذْهَبُ بكم واللهِ إنّ هذا الكلام ما خرج من إلٍّ ولا برٍّ). يعني بقوله: (من إلٍ): من الله.(25)
كما تناول كلمة (طور) وكلمة (سيناء أوسينين) لورودهما في عدة آيات كريمة. ففي قوله تعالى (ورفعنا فوقكم الطور)(26).
نقل عن قتادة، وعن مجاهد، وعن ابن زيد أقوالهم، الطور: هو الجبل بالسريانية(27) وفي قوله (وشجرة تخرج من طورِ سيناءَ)(28)، نقل عن الضحاك قوله: الطور: الجبل بالنبطية، ومعنى سيناء: حسنة بالنبطية.(29) وفي قوله تعالى (وطورِ سينينَ)(30)، نقل عن عكرمة قوله: (وطورِ سينين) هو الحسن بلغة الحبشة، يقولون للشيء الحسن: سينا سينا.
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: طور سينين: جبل معروف، لأن الطور هو الجبل ذو النبات فإضافته إلى سينين تعريف له، ولو كان نعتا للطور، كما قال من قال معناه: حسن أو مبارك، لكان الطور منوناً، وذلك أن الشيء لا يضاف إلى نعته لغير علة تدعو إلى ذلك.(31)
وتناول كلمة (السَّريّ) في قوله تعالى (قد جعل ربّك من تحتك سَريّا)(32)، فنقل عن مجاهد، السّرى: نهر بالسريانية.
وقول سعيد بن جبير، السَّريّ: هو الجدول، النهر الصغير، وهو بالنبطية السَّريّ. وقول الضحاك، السريّ: جدول صغير بالسريانية. قال قتادة: والسّريّ هو الجدول، تسمية أهل الحجاز.
قال الطبري: والسَّريّ معروف من كلام العرب أنه النهر الصغير، ومنه قول لبيد:
فتوسّطا عُرْضَ السَّريِّ وَصَدَّعا ْ * * * * * مسجورةً متجاوراً(33)قلاَّمها(34)
وتناول كلمة (طه) من قوله تعالى (طه. ما أَنْزَلنَا عليك القرآن لتشقى(35)) فقال: اختُلِف في تأويلها: فقال بعضهم: معناه: يا رجل. وذهب ابن عباس وعكرمة إلى أنها بالنبطية تعني: يا رجل، أو يا إنسان.
وذهب سعيد بن جبير وقتادة إلى أنها تعني بالسريانية: يا رجل.
وقال آخرون: اسم من أسماء الله.
وقال آخرون: هو حروف هجاء.
وقال آخرون: هو حروف مقطّعة، كلّ حرف منها يدل على معنى.
قال الطبري: والصواب عندي معناه: يا رجل، لأنها كلمة معروفة في عكٍّ فيما بلغني، وأن معناه فيهم: يارجل، أُنْشِدتُ لمتمم بن نويرة:(36)
هتفت بِطَه في القتالِ فلم يُجِبْ ْ * * * * * فَخِفْتُ عليه أَنْ يكونَ موائِلا
وقال آخر: إن السفاهةَ طهَ من خلائِقِكُمْ * * * * * لا باركَ اللّهُ في القومِ الملاعينِ(37)
فإذا كان ذلك معروفاً فيهم على ما ذكرنا فالواجب أنْ يوجّه تأويله إلى المعروف فيهم من معناه، ولا سيما إذا وافق ذلك تأويل أهم العلم من الصحابة والتابعين فتأويل الكلام إذن: يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى.(38)
ظهر من هذه الأمثلة التي سقناها موقفه من الألفاظ الواردة في القرآن وقد وافقت في اللفظ والمعنى ألفاظاً من لغات أجناس الأمم الأخرى، وهو عدم إقراره بوجود ألفاظ غير عربية في القرآن الكريم، ولذلك جعل كلَّ الألفاظ التي تحدثنا عنها ذات دلالات عربية لأنها مستعملة في كلامهم بهذه الدلالات، بل راح يطبّق عليها قواعد النحو العربي -كما ظهر في أثناء تحليله لكلمتي طور سيناء أو سينين- إيماناً منه بأنها من كلامهم لأنها مستعملة فيهم بهذه المعاني، وهذا ما جعل موقفه من مسألة الدخيل واضحاً بوجهه النظري والتطبيقي، تمشياً مع مذهبه الذي حدّده في مقدمة تفسيره المطولة، وهو عدم إقراره بوجود ألفاظ غير عربية في القرآن الكريم، ولذلك رأيناه يجعل دلالة كثير من الكلمات -التي أثبت علم اللغة الحديث بدراساته التأصيلية أنها دخيلة غير عربية -ذات أصل عربي مثل الإبلاس (في تفسير معنى إيليس) والسجيِّل والأوّاه، والفاسق، والطور، والمسيح، وغيرها من الكلمات.
ويلاحظ أن الأئمة الذين نقل عنهم الطبري معاني هذه الألفاظ الدخيلة في لغتها الأصلية كانوا على معرفة بلغات الأمم المجاورة لهم لكنهم اكتفوا بالإشارة إلى أصول هذه الألفاظ غير العربية، ولم يقبلوا على البحث فيها معتمدين على التحليل الذي يؤدي بهم إلى الوصول إلى القوانين العامة أو استخلاص الأحكام، كما هو مأمول من مثل هذا اللون من البحث. ولم يهدفوا من دراسة الدخيل إلى إظهار قضية التبادل اللغوي بين اللغات، أو البرهنة على صلتها بعضها ببعض، وما لتلك الصلات والألفاظ الدخيلة من آثار سلبية أو إيجابية في اللغة التي تأخذها، ولكن على الرغم من كل ذلك تبقى لإشارتهم تلك إلى دلالات تلك الألفاظ بلغات الأمم الأخرى، منزلتها العلمية، وخصوصاً إذا نظرنا إليها في ضوء الظرف التاريخي المبكر الذي بحثت فيه، والذي لم يعرف البحوث اللغوية المقارنة، ولا البحوث التأصيلية، ولم يعرف من أدوات البحث ووسائله وطرائقه مايعرفه علماء اليوم، ولو وجد من تابعهم في عملهم هذا، لكان في صنيعهم وصنيع من خلفهم فوائد جمّة، وخير عميم، يصيبه الباحثون المهتمون بالدراسات اللغوية المقارنة والتأصيلية والتقابلية.
ولعل موقف الطبري هذا من مسألة الدخيل ناتج من عدم معرفته الصحيحة باللغات السامية كالعبرية والسريانية...، وغيرها من لغات الأمم الأخرى المجاورة للعرب كالفارسية والرومية، مما جعله غير موفق في رد كثير من الكلمات الدخيلة إلى أصولها الأجنبية.
ولكن على الرغم من كل ذلك تعد جهود الطبري في أصل الدلالة حلقة مبكرة من حلقات اهتمام العلماء العرب بهذا الموضوع، أراد من خلال ذلك أن يكشف الستار عن المعنى الأصلي لكثير من ألفاظ القرآن الكريم وأن يبين أن دلالاتها عربية الأصل على الرغم من اتفاقها في اللفظ والمعنى مع ألفاظ أجناس الأمم الأخرى، وعمله هذا لم يكن مقصوداً لذاته، بل جاء على شكل ظواهر لغوية نثرها في تفسير لآيات الذكر الحكيم، لكنها تعد إسهاماً في التحليل الدلالي لبنية اللغة، وترمي إلى استكناه دلالة الكلمة والوقوف على أصولها وصفاً وتطبيقاً.
المصادر والمراجع:
1- أبحاث في اللغة والأدب، د. مسعود بوبو، دار شمأل للطباعة والنشر، دمشق- 1994
2- الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، المطبعة الأزهرية، القاهرة -1318هـ.
3- أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج، د. مسعود بوبو، وزارة الثقافة دمشق - 1982م.
4- الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، طبعة دار الكتب، بيروت- 1960.
5-تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة 1349هـ= 1931م.
6- تفسير الطبري= (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) لابن جرير الطبري، ط2، شركة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1954-1958م وهي المقصودة بالرمز (ح).
7-تفسير الطبري = (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) لابن جرير الطبري حققه وعلق حواشيه محمود شاكر راجعه وخرج أحاديثه أحمد شاكر، دار المعارف بمصر، 1955-1969 (طبع منه 16 جزءاً) وهي المقصودة بالرمز (ش).
8- التنبيه والإشراف، للمسعودي، تحقيق الصاوي، مصر1938.
9- الخصائص، لابن جني، حققه محمد علي النجار، دار الهدى، بيروت 1952م.
10- ديوان لبيد بن ربيعة العامري، دار القاموس الحديث، بيروت (بلا تاريخ).
11- طبقات فحول الشعراء، ابن سلام الجمحي، حققه محمود شاكر، دار المعارف بمصر- 1952م.
13- طبقات المفسرين: طبعة ليدن 1829هـ.
14- طبقات المفسرين، للداودي، حققه عمر علي عمر، مركز تحقيق التراث بدار الكتب، ط1- 1392هـ = 1972م.
15- فتوح البلدان، للبلاذري، طبعة مصر -1901م.
16- كتاب المصاحف، للسجستاني (عبد الله بن سليمان بن الأشعث)، مصر - 1936م.
17- لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، ط1، حيدر آباد الدكن -1331هـ.
18- المزهر في علوم اللغة وأنواعها، حققه محمد جاد المولى وزملاؤه، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي-1958م.
19- مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، د. ناصر الدين الأسد، ط3 دار المعارف بمصر - 1966م.
20- المعارف، لابن قتيبة، تصحيح الصاوي، المطبعة الرحمانية- 1935م.
21- معجم الأدباء، ياقوب الحموي، مطبوعات دار المأمون بمصر (بلا تاريخ)
22- معجم الشعراء (ع-ي ) للمرزبائي، تصحيح وتعليق كرنكو، القاهرة- 1954م.
23- المعرَّب من الكلام الأعجمي للجواليقي، حققه أحمد شاكر، دار الكتب، القاهرة 1361هـ.
(1) محمد بن جرير الطبري ولد بـ (آمل) سنة 224هـ، انصرف إلى طلب العلم منذ نعومة أظفاره في بلده، ثم طوّف في الأمصار الإسلامية فحصّل علوماً كثيرة أهلته لأن يصبح من كبار أعلام الثقافة العربية الإسلامية ترك لنا كتباً كثيرة أهمها (تاريخ الرسل والملوك) وتفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) توفي سنة 310هـ (ينظر: تاريخ بغداد: 2/162، ومعجم الأدباء: 18/40 وما بعدها، ولسان الميزان: 5/100، وطبقات الشافعية الكبرى: 2/135، وطبقات المفسرين للسيوطي: 30، طبقات المفسرين للداودي: 2/106، وغيرها....).
(2) فتوح البلدان، للبلاذري: 479، كتاب المصاحف للسجستاني: 3 التنبيه والإشراف للمسعودي: 246 الأغاني: 2/101-102، 3/120، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية: 54-55.
(3) المعارف لابن قتنيبة: 192، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية: 56.
(4) أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج: 5-6.
(5) أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج: 7.
(6) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 115، وأبحاث في اللغة والأدب، د. مسعود بوبو: 98.
(7) أثر الدخيل على العربية الفصحى: 70-71.
(8) ينظر: المعرب للجواليقي: 4-5 والإتقان في علوم القرآن: 1/136-140 والمزهر في علوم اللغة: 1/266- 269.
(9) أبحاث في اللغة والأدب: 111
(10) تفسير الطبري: 1/12ش.
(11) تفسير الطبري: 2/157-159ش وينظر كذلك: 1/509-510ش.
(12) يوسف: 2
(13) الشعراء: 192-195
(14) يُنظر تفسير الطبري: 1/11-13، 17-18، 21ش.
(15) نفسه: 1/14-15ش.
(16) المزهر في علوم اللغة: 1/266-267.
(17) تفسير الطبري: 1/15ش.
(18) نفسه.
(19) الخصائص: 1/114.
(20) الأحزاب: 5
(21) تفسير الطبري: 1/17ش.
(22) البقرة: 40.
قال الجواليقي في المعرب: 221: (قال ابن قتيبة الطور الجبل بالسريانية في حين أنه ينسب لمجاهد (ت 103هـ) تفسير الطبري: 2/158ح
(23) البقرة: 97
(24) التوبة: 10
(25) تفسير الطبري: 2/389-392ش.
(26) البقرة: 63
(27) تفسير الطبري: 2/158-159ح
(28) المؤمنون: 20
(29) تفسير الطبري: 18/13ح.
(30) التين: 2
(31) تفسير الطبري: 30/240-241ح.
(32) مريم: 24.
(33) ديوان لبيد بن ربيعة العامري: 220، العرض: الناحية. التصديع: التشقيق. السجر: الملء. أي عيناً مسجورةً حذف الموصوف لمّا دلّت عليه الصفة. القلاّم: ضرب من النبت.
(34) تفسير الطبري: 16/69-71ح.
(35) طه: 1-2.
(36) متمم بن نويرة، شاعر مخضرم، من أصحاب المراثي المقدمين. (طبقات فحول الشعراء: 169- 170 معجم الشعراء: 466
(37) لم أقف على قائل البيت وهو في (تفسير الطبري: 16/135-137ح.
(38) تفسير الطبري: 16/135-137ح.
------------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 76 - السنة 19 - تموز "يوليو" 1999 - ربيع الأول 1420