العربية التقنية وإشكالية المصطلح «المصطلح اللساني نموذجاً»

1- هذه مناسبة أخرى لتفنيد الادعاءات المغرضة، التي ما انفكت تشكك في مدى كفاية اللغة العربية، كلما تعلق الأمر بمجال من المجالات العلمية أو التقنية. وسننطلق في سبيلنا هذا من الحقيقة الثابتة التي لا يعتقد أحد بخلافها إلا على سبيل الجحود، والتي مفادها أنه لا تفاضل بين اللغات في ما يتعلق بكفاياتها الوظيفية، وإن أي تفاضل ممكن إنما هو متعلق بكفاءات توظيف هذه اللغات.

لقد شاع استعمال المصطلح "كفاية" للدلالة على مفهوم "الكفاءة"، وهو استعمال شارد بالنظر إلى ما يقتضيه نظام التدليل في العربية. فمثلا لقد استعمل مصطلح "التدريس بالكفايات" في سياقات علمية تقتضي أن يكون المقصود به ليس ما يتعلق به من مفهوم، بل ما يتعلق بمصطلح أخر هو "التدريس بالكفاءات". وكذلك يستعمل مصطلح "الكفاية اللغوية" ويكون المفهوم المقصود هو مفهوم "الكفاءة اللغوية". وإذا دققت النظر في اللغة قبل الاصطلاح، فستجد أن معنى الكفاية لا يصح أن تعلقه بالأشخاص أو الذوات الفاعلة، فعوض أن تقول عن أحدهم: إنه ذو كفاية، تصحح فتقول: إنه ذو كفاءة. ليخلص معنى الكفاية للتعلق بالأشياء والوسائل والبرامج والمناهج، وغيرها مما يصح أن تقول فيه: إنه كاف أو غير ذي كفاية. وهكذا يمكنك أن تفرق في الاصطلاح بين مفهوم الكفاية اللغوية ومفهوم الكفاءة اللغوية، فالأول متعلق باللغة ومدى ما تتيحه من إمكانيات لأداء أغراض الأفراد، والثاني متعلق بالأفراد ومدى قدرتهم على استثمار ما تتيحه اللغة من إمكانيات.

لقد ميزنا بين الكفاية اللغوية والكفاءة اللغوية لنحصر مجال التفاضل الممكن بين الكفاءات، لا كما تُشيع الادعاءات المغرضة التي توجه التفاضل إلى الكفايات، بناء على وهم أو إيهام التطابق بين الكفاية اللغوية وكفاءة المستعمل. إن حقيقة التفاضل الوارد أو الممكن في سياق الحديث عن اللغات لا يكون في ما بين يدي اللغات، وإنما هو ممكن خارجها، أي ليس يكون بين اللغات لذاتها، وإنما بالنظر إلى القيمين على هذه اللغات. وهنا أيضا نميز بين مستعملين للغة: مستعمل مستفيد أو مستهلك يعول على اللغة لتحقيق أغراضه، ومستعمل مسؤول تعول عليه اللغة كي تبقى وكي تتطور، ويعول عليه المعولون عليها، وهذا الأخير هو المقصود عندنا بالقيم على اللغة. ومهمته تلك مهمة معقدة لا تؤتى إلا بتضافر إرادات صادقة تثمنها مجهودات علمية رصينة. 

2- إن اللغات الطبيعية كلها تشترك في مجموعة من الخصائص، أهمها في سياقنا هذا: خاصيتي "الاعتباطية" و"الإبداعية"، ولعل هتين الخاصيتين تؤكدان حقيقة طواعية اللغات، وتمثلان رخصة تكيفها المستمر مع كل ما جد ويستجد في حياة الناس اليومية علمية وعملية. وإذا استطاع أحد أن يرفع عن واحدة من اللغات واحدة من الخاصيتين، يمكنه حينها أن يطعن في كفايتها.

أما اللغة العربية، فقد حوصرت وهي تحاصر بمجموعة أحكام إسقاطية تطعن في كفايتها، أحكام لا يزكيها علم ولا يؤكدها واقع. إن العربية لغة سياقية، ما كانت لأدب فقط، ولا تحجرت لدين أو فلسفة، ولا تخصصت لعلم بعينه، بل هي لكل ذلك وأكثر بحكم طبيعتها الاعتباطية التي لا تقصر دالا على مدلول، وهذا ثابت بالتجربة والتاريخ يشهد. ثم إن العربية لغة اشتقاقية بامتياز وهذه خاصية لها دون كثير من اللغات الطبيعية، وهذا يؤهلها لتكون من الرائدات إنتاجيا وإبداعيا. أضف إلى ما تقبله وحداتها من نحت ونقل  وتعديل وغيره، وما تقبله هي من توليد، وما يوفره نظامها من إمكانيات للترجمة والتعريب. إن لغة بهذه المرونة والطواعية جديرة بمكانة تليق بها بين اللغات الرائدة، جدارة يحكم بها العلم وتؤكدها التجربة.

وهكذا فإن المشكل إذن ليس مشكل كفاية، مادام لا يعزى إلى عدم قابلية أو طواعية اللغة، فالعربية لا تمتنع ولا تتمنع عن أي رغبة حقيقية جادة للتطوير، إنما المشكل في تقصير القيم على تفعيل هذه القابلية واستثمار هذه الإمكانية، والتقصير هنا بمعنيين: إما عدم المحاولة أصلا، أو المحاولة مع تفويت الإصابة. وبذلك اتخذ شكلين مختلفين، بحسب ما يُرتاد من مجالات معرفية، بحيث يتجلى في ما يلاحظ من تفريط أو إفراط في التعامل مع قضية المصطلح مثلا.

أما التفريط، فإنه يُرد إلى غياب الهمم وتخاذل الرجال. كما نلاحظ مثلا عند كثيرين من رواد ما يعرف بالعلوم الدقيقة، فهؤلاء سواء كانوا منتجين أو مستهلكين، لم يكلف أغلبهم نفسه عناء النظر في إمكانية صلاحية العربية لتداول هذه العلوم وحتى الإنتاج بها. فهم يستهلكون أو يثنون عن وعي أو عن غير وعي على ما وصل إليهم من أن العربية ليست لغة علم، وهم يغضون الطرف عن البينة التي بين أيديهم، التي تدحض هذا الزعم، أو تدمر هذه القشة التي يتشبثون بها أو يختبئون وراءها. والبينة هذه مفادها أنه ليس كل ما يُتداول بالفرنسية من علم أصليا لها، وليس كل ما يتداول بالإنجليزية خاصا بها. (ليس المطلوب هنا التخلي عن لغة من اللغات، وإنما المطلوب، بل الواجب هو عدم التخلي عن الهويات. ولو تخلى كل ذي لغة عن لغته لمثل هذه الأسباب، فما كان الزمن، بالنظر إلى تاريخ العربية الحافل، ليبقي على غيرها لغةً).

وأما الإفراط، فإنه يرد مثلا إلى ما يلاحظ من تهافت في التعامل مع القضية المعهودة في مجال العلوم الإنسانية، تهافت تحكمه الارتجالية والعفوية وأحادية الرأي، يُعوزه التخطيط والمنهج والالتزام الجماعي، تهافت حاصله تضخم في المصطلحات وتضارب في المفاهيم، هذا في أحسن الأحوال، وفي أسوئها، إضاعة للجهد والوقت ومعه إضاعة للعلم واللغة. وإذا كان عيب التفريط في التعامل مع قضية المصطلح يكمن في ما وراءه من خضوع واستسلام وحتى استلاب، فإن عيب الإفراط في ذلك يكمن ليس في المحاولة، بل في إتيانها على غير هدى، وما يترتب عنه من تضييع للفرص على اللغة وعلى المعولين عليها. ويمكن أن يكون حكم هذه المحاولة كحكم من اجتهد، فإن أصاب فله ولغيره، ولا يمكن إلا الثناء عليه. وإن لم يصب فإما أن يكون ذلك عن غير قصد، فيرده بعد علمه بفساده. أو يكون عن قصد، وهذا أكثر شرا ممن لم يحاول. 

3- ذلك هو واقع التعامل مع قضية المصطلح في العلوم الإنسانية، واللسانيات من العلوم المعنية. إلا أنه لا يسعنا في هذه المداخلة رصد كل آثار الإفراط أو التهافت الذي حصل في التعامل مع قضية المصطلح في المجال اللساني، ومع ذلك فإن عينة واحدة كفيلة بإبراز هذا المشكل، خاصة إذا كانت هذه العينة تتكون من المصطلحات التي سيقت لتسمية العلم وفروعه. فإذا اُختلف حول تسمية العلم، مع أنها أهم وحدة اصطلاحية أساسية في أي جهاز مفاهيمي خاص، فما بالك إذا تعلق الأمر بباق المصطلحات التي تكوِّن هذا الجهاز. لقد آثرنا اختيار هذه العينة من المصطلحات لأنها ستمثل أفضل شاهد على واقع لا يُثنى عليه.

اللسانيات، الألسنيات، الألسنية، اللسنيات،...هذه كلها مصطلحات سيقت لمقابلة المصطلح الأجنبي "La linguistique"، لكن هل كانت هذه التسميات كلها ضرورية لعلم واحد!؟ على اعتبار اختلافها في المفهوم طبعا. هل كان هذا التعدد المصطلحي ضروريا!؟ خصوصا وأنت تعلم بأن مثل هذا التعدد يعد واحدا من عيوب اللغات القطاعية، لأنه على قدر ما يزكي ثراء اللغات، قد يعمل على تعطيل دقتها ويؤدي إلى التباسها. ومعلوم أن أهم ما يقتضيه تخصيص اللغات لمجالات بعينها هو توخي الدقة والاحتراز من الالتباس ما أمكن.

إن اللغة لا تكون كافية قطاعيا إلا بقدر ما يكون جهازها المفاهيمي - المعول عليه في قطاع بعينه- قائما على ربطٍ ثنائي دقيق بين تمثُّل دقيق وتمثيل دقيق. وهذه مستويات ثلاثة لدقة الاصطلاح: دقة التمثل، والمقصود بها تحديد المفهوم تحديدا يخلِّصه لما له مما ليس له، كي يكون جامعا لكل ما ينسحب عليه من عناصر، مانعا لغيرها. ودقة التمثيل تعني حسن اختيار الصيغة الملائمة للمصطلح المعني بمقابلة المفهوم، والالتزام في صياغته بما يقتضيه نظام اللغة المعهود. والمستوى الثالث من الدقة يتمثل في ربط المصطلحات المناسبة بالمفاهيم المناسبة في ثنائيات لا تحتمل التعدد في أي من طرفيها داخل نفس الجهاز أو النسق الخاص على الأقل.

كان هذا جانبا مما يطمح إليه الناظر في قضية المصطلح. أما التجربة أو الممارسة، فأنها قد لا تخلو من بعض التجاوزات في هذا المستوى. إلا أنه ينبغي أن لا تكون هذه فوق الحد الأدنى المسموح به لضمان دقة اللغة وكفايتها قطاعيا. وإذن، أين واقع المصطلح اللساني المترجم أو المعرب من هذا 

4- لنعد إلى المصطلحات التي أوردنا أعلاه لننظر في مدى دقة مقابلها الأصلي وملاءمته لما سيق له من مفهوم في الأصل الأجنبي. لقد سيق المصطلح "La linguistique" في بداية الأمر لتسمية العلم الذي يهتم بدراسة اللغة في ذاتها لذاتها، أي باعتبارها بنية مستقلة تمثل موضوعا وهدفا في نفس الآن. لكنه سرعان ما أفل هذا التصور، إذ أعقبته تصورات أخرى متاخمة نظريا ومزاحمة موضوعيا، تصورات راجعت النظر في استقلالية الموضوع، ووسعت المجال لتعدد الأهداف واختلافها، موسعة بذلك مجال البحث وآفاقه حتى صار الحاصل علما لا يمكن أن تنسحب عليه التسمية التي كانت للعلم الذي يهتم بدراسة اللغة في ذاتها لذاتها. لقد اتسع مجال النظر وتطور العلم ليشمل عددا من الشعب والفروع المتخصصة، تعالج ليس اللسان فقط ولا الكلام فحسب، بل تعالج فضلا عن ذلك ظواهر ما قبل اللسان وما بعد الكلام. أضف إلى ما انفتح عليه هذا العلم في سياق تكامل العلوم من تخصصات أخرى، كعلم النفس وعلم الاجتماع والسيميائيات وعلوم التربية والحياة وغيرها. وإذن، هل يمكن أن نصنف مثلا الأعمال التي قام بها "تشومسكي" أو "ديك" أو "ديكرو" على أنها أعمالا تندرج تحت نفس التسمية " linguistique"، دون مراجعة ضرورية لمفهوم هذه التسمية المعهود لدى "سوسير". كان هذا فقط مجرد تنبيه إلى تطور المفهوم وتحجر المصطلح، وهذه طريقة متعارف عليها في التطوير المصطلحي، وهي تتم بموجب "التعديل" باعتباره واحدة من الآليات المعتمدة في المعالجات المصطلحية، تُعتمد لتعديل وحدة اصطلاحية قائمة، إما بتغيير المصطلح دون المفهوم، أو بتغيير المفهوم دون المصطلح وهذا الأخير هو المطرد وهو ما يصف الحالة التي عندنا.

هذا في ما يتعلق بالمصطلح الأصلي، أما المقابلات العربية مادامت في إثره، فإنها كذلك لا تُقبل إلا باعتبار ما لحقها من تغيير في المفهوم دون المصطلح.

ثم إن المطرد في تسمية العلوم هو أن يصاغ للتسمية مصطلح فيه إضافة أو نسبة إلى موضوع ما. أما الإضافة فنحو: علم الكلام ،علم النفس، ... وهذه مركبات إضافية. أما النسبة فهي نسبة ما يشمله أو يعنيه المفهوم العام الذي ينسحب على كل العلوم إلى موضوع ما، بهدف تخصيصه ليكون اسماً لعلم بعينه يتميز به عن غيره من العلوم.

أما العلم بالفهم العام فهو جهاز ونسق وممارسة، إي مجموعة من المعارف المعلَّلة والمتراكمة بموجب ممارسات نظرية وتطبيقية ممنهجة ومؤطرة بعدد من القواعد والقوانين المعلِّلة. مع اعتبار جدلية العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة، لأن تضافر هذه لا يكون في خطية بسيطة، بل كل منها يكون في إثر الآخر ويكون الآخر في إثره. ثم إن مجموع هذه المستويات المتضافرة دون فصل أو إقصاء هو ما ينبغي أن ننسبه إلى موضوع يكون عليه الاشتغال لتسمية علم من العلوم.

هذا، أما الذي في المصطلحات التي أتينا عليها فهو النسبة، نسبة العلم إلى موضوع هو "اللسان". فهو لسانيات أو ألسنيات ...، وإن شئت أن تصوغ على الإضافة قلت: علم اللسان. لكن إذا كان الموضوع هو اللسان، فلماذا لم يكن مفهوم التسمية في البداية هو "العلم الذي يهتم بدراسة اللسان في ذاته لذاته"!؟ وإذا كان المفهوم على ما هو عليه، فلماذا لم تكن التسمية هي "اللغويات" نسبة إلى اللغة!؟ هذه مفارقة أخرى تبرز شرود المقابلات المعربة، لكن هذا والذي قبله قد لا يمثل مبررا لإلغائها كلها، إلا أننا قد لا نعدم في ما سيلي ما يبرر إيثار استعمال مصطلح "اللسانيات" دون غيره مما ورد. 

5- لقد أشرنا في ما سبق إلى أن كفاية لغة من اللغات قطاعيا تقاس، من بين ما تقاس به، بمدى دقتها اصطلاحيا. وقد ميزنا لتمام هذه الدقة ثلاث مستويات أو شروط: دقة التمثل، ودقة التمثيل، ودقة الربط بينهما. ولما نظرنا في المصطلحات التي وردت لمقابلة المصطلح الأجنبي "La linguistique" وجدنا أنها كلها وما تقابله في يومنا هذا لا تستوفي الشرط الأول، باعتبار ما لحقها من تعديل أو مراجعة على مستوى المفهوم. إن دقة التمثل إذن، إذا تحققت لهذه التسميات بموجب التعديل، فإنها ستظل مرهونة بمدى نجاحه. لأنك تعلم بأن التعديل كالنقل وهما آليتان يتم بموجبهما إفراغ وحدات دالة مما وضعت له من مدلول أو مفهوم في الأصل، وشحنها بغيره. ولعل هذا الإجراء ينطوي على نوع من المغامرة، مادامت الوحدات لا تتخلى بسهولة عما كان لها في الأصل، إنها تظل تستتبعه أو يظل هو يواكبها. إن الأمر في هذا الإجراء إذن مرهون بمدى نجاح المواضعة الثانية. وإذا قبلنا بمثل هذا الرهان في المواضعات الخاصة، فسيترتب عنه القبول بكل تلك المصطلحات أو التسميات، مادامت لا تتفاوت في مدى استيفائها لشرط الدقة في التمثل بهذا الاعتبار. ولكن إذا نظرنا في مدى استيفائها للشرط الثاني أو الثالث، فسيتضح بأن مصطلح "اللسانيات" هو الأحرى بالتداول. لماذا؟ لأن في مصطلحات "الألسنية" "الألسنيات" "اللسنيات" تكسيراً أو خروجاً عما يقتضيه نظام العربية في هذا المستوى. إن هذا النظام كما تعلم، يقضي بأن النسبة للمفرد تكون أصح وأسلم من النسبة للجمع ما لم يمنع عنها مانع. وبهذا يصح التفاضل بين أن تنسب ل"اللسان" أو ننسب ل"الألسن". ثم إن في "اللسنيات" تكسيرا في صيغة المنسوب إليه، وهذا لا يقتضيه الحال ولا يقضي به النظام.

تلك إذن ملاحظات حول صياغة ما لدينا من مصطلحات، ولعلها ملاحظات تسمح بحساب التفاوت في دقة التمثيل بين الصياغة الاصطلاحية "لسانيات" والصيغ الأخرى الثلاث، وتسمح بالتالي بإيثار التسمية "اللسانيات" باعتبارها أكثر دقة على مستوى التمثيل. أضف إلى أن هناك ما يؤكد هذا الموقف بالنظر إلى مدى دقة تلك التسميات على المستوى الثالث، أي بالنظر إلى مدى ملاءمة الصياغة الاصطلاحية للمفهوم الذي ينبغي أن يحيل عليه المصطلح. فإذا نظرت في مصطلح "الألسنية" مثلا، فستجد أن في هذه الصيغة نسبة مفرد لمجموع، والذي يقتضيه الحال هنا هو نسبة مجموع لمفرد، فالمجموع المنسوب كما علمنا، هو مجموع العناصر التي ينسحب عليها مفهوم العلم، وهي المعارف والقوانين والأبحاث، وهذه كلها لا يصح التدليل عليها بصيغة المفرد. والمفرد المنسوب إليه هو "اللسان"، فصحت "اللسانيات" ولم تصح "الألسنية" بهذا الاعتبار، ولا "الألسنيات" و"اللسنيات" للاعتبار الذي قبله. وعليه، إذا كان من تفاضل بين التسميات الأربع، فستختار "اللسانيات" على هذا الأساس. ولكن، ماذا عن مصطلح آخر مزاحم هو "علم اللغة"؟

إن كفاية اللغات كما علمنا، يمكن أن تتعطل قطاعيا بسبب ما قد يشهده الاصطلاح فيها من تعدد، وإذا كنا قد وقفنا على ما قد يترتب من آثار سلبية، جراء تعدد المصطلحات واختلافها على المفهوم الواحد، فأن ذلك ما هو إلا شكل من أشكال التعدد. أما الشكل الثاني، فهو حيث تتعدد المفاهيم والمصطلح واحد. وهذا أيضا مما يجب دفعه والاحتراز منه لضمان كفاية اللغات قطاعيا. وبهذا يمكن الاعتراض على استعمال المصطلح "علم اللغة" في السياق الذي ينبغي أن نستعمل فيه مصطلح "اللسانيات".

إن مصطلح "علم اللغة" مصطلح محجوز سلفا قبل ظهور العلم الوافد، محجوز لتسمية علم راسخ رسوخ العلوم العربية الأصيلة، علم قائم بخواصه المرجعية والنظرية والمنهجية، له أعلامه وأهدافه ومصطلحاته الخاصة. إن الثقافة العربية احتفظت لهذا المصطلح بمفهوم خاص، وستظل تحتفظ له به، إلى درجة أنها لا تترك فيه مجالا لأي نقل أو تعديل. وعليه، فإن أي محاولة في هذا الاتجاه بصدده، لن تكون إلا مدعاة للالتباس أو التضليل، لأنها ستضيف للمصطلح مفهوما آخر إلى جانب مفهومه الأصلي الملازم، فيتعددا عليه ويختلفا، فتحار في أي منهما المقصود إذا استعمل هذا المصطلح بهذا الاعتبار. إن الأمر في الواقع يتعلق بعلمين مختلفين: ما سمي علم اللغة وما يسمى لسانيات، وهما يختلفان عن بعضهما من حيث الأهداف والمناهج والمرجعيات، ويختلفان في المفاهيم، ولا يمكن أن يندرجا تحت تسمية واحدة على الرغم مما قد يبدو بينهما من تداخل. أما المتخصصون الواعون بهذا الاختلاف، فقد تركوا ما كان لما كان، وبحثوا للعلم الوافد عن تسمية جديدة، فكانت التسميات التي ذكرنا، والتي من بينها آثرنا مصطلح "اللسانيات" كما رأيت. 

وأخيراً إن للعلم الذي آثرنا من بين تسمياته "اللسانيات" فروعا تعلمها، وتعلم أيضا أنه قد اُختلف حول ما سيق لتسميتها من مصطلحات مقابلة. إلا أننا سنترك النظر في أمرها إلى مناسبة أخرى، أما الذي نريد الإشارة إليه الآن، هو أنه إذا كانت ظاهرة التعدد والاختلاف في الاصطلاح تمثل واحدا من أسباب تعطيل كفاية اللغات، فإنه لا يليق بأي كان – واللسانيون على وجه الخصوص- العمل على تكريس ورودها. وإلى جانب هذا العتاب، يجب أن لا نغفل الإشادة بالمجهودات الجبارة التي تحمد لأصحابها، والتي سيقت لمجابهة هذه الظاهرة والتصدي لأسبابها خدمة للعلم واللغة.

-----------------------

(*)- مداخلة في ندوة دولية في موضوع "معاجم المصطلحات اللسانية، تحليل وتقويم ومقارنة"

نظمت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، المغرب، بتاريخ 25-26 نونبر 2010.

د. عبد السلام إسماعيلي علوي- أستاذ اللسانيات والتواصل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، المغرب.

Girls Nike Air Force 1 Shadow White Sail Stone Atomic Pink CZ8107-100 – Buy Best Price Adidas&Nike Sport Sneakers

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: