البعد التواصلي للغة

إن التواصل أساس الوجود الإنساني، فبدونه لا يستطيع قضاء أغراضه، وربط صلات مع غيره، كما أنه لا سبيل للتنمية الشاملة في غياب التواصل الإيجابي بين مكونات المجتمع ومع العالم الخارجي، فالتواصل يحقق الرقي والازدهار والتقدم للبشرية.

و للتواصل أنماط متعددة، فقد يتم عبر الكلمة وعبر الصورة وعبر الحركة... ويتفاوت التأثير بين هذه الأنماط تبعا للوضعية التواصلية، ويبقى للكلمة تأثيرها الفعال، حيث وبمعية الأنماط الأخرى يكون الأثر أبلغ في المتلقين.

فكيف تحقق الكلمة، أي اللغة، التواصل؟ ذلك ما سنجيب عنه، لكن وقبل ذلك لا بد أن نحدد معنى التواصل، وأهدافه.

1- تعريف التواصل

أ- في اللغة :

أصل التواصل من وصل، وهو بخلاف الهجران والتصارم، يقول ابن منظور:" وَصَلْتُ الشَّيءَ وَصْلاً وصِلَةً، والوصلُ ضد الهجْرانِ. ابن سيده: الوصْلُ خلافُ الفَصْلِ، وَصَلَ الشّيءَ بالشّيءِ يَصِلُهُ وَصْلاً وصِلَةً وصُلَةً... واتّصَلَ الشّيءُ بالشَّيءِ لم يَنْقطِعْ... ووَصَلَ الشّيءَ إلى الشّيءِ وَصُولاً، وتَوصّلَ إليه انتَهَى إليه وبَلَغَهُ... والتّواصُلُ ضد التّصارُمُ." 1

يدور معنى التواصل، إذن، حول التلاقي والارتباط والتأثير والإبلاغ...

و يؤكد المعجم الفرنسي Le Petit  Robert  تلك المعاني، حيث يعتبر التواصل:" فعل الاتصال وربط علاقة مع ( شخص أو شيء)، والتبادل والإخبار..." 2

ب- في الاصطلاح:

يستقي التواصل دلالاته من التعريف اللغوي، مع توسع البعض في تعريفه، ومنهم شارل كوليي Charles Cooley  الذي عرف التواصل بقوله:" التواصل هو الميكانيزم الذي بواسطته توجد العلاقات الإنسانية وتتطور، إنه يتضمن كل رموز الذهن مع وسائل تبليغها عبر المجال وتعزيزها في الزمان، ويتضمن أيضا تعابير الوجه وهيئات الجسم، والحركات ونبرة الصوت والكلمات والكتابات والمطبوعات والقطارات والتلغراف والتلفون، وكل ما يشمله آخر ما تمّ من الاكتشافات في المكان والزمان." 3

يعتبر شارل كوليي التواصل جوهر العلاقات الإنسانية وأساسها الذي تبنى عليه، ويتخذ التواصل عنده شكلين: التواصل اللفظي ممثلا في اللغة والتواصل غير اللفظي ويتمثل في الصورة  والحركة والإيماءات...

و إذا كان شارل كوليي قد أعطى تعريفا عاما للتواصل، فإن صوفي موارون Sophie Moirand  تنتقل بنا من العام إلى الخاص، حيث تحصر التواصل في التفاعل بين طرفي الاتصال، تقول:" يعتبر التواصل تبادلا تفاعليا بين شخصين على الأقل، ويتم هذا التبادل عبر استعمال علامات لفظية وغير لفظية، ويتناوب الأشخاص على إنتاج واستقبال الرسائل." 4

تشير صوفي موارون إلى سمة من سمات التواصل الأساسية ويتعلق الأمر بالتفاعل المتبادل بين طرفي العملية التواصلية، وتكون اللغة الشفوية أو المكتوبة، وآليات التواصل اللفظي هي القناة التي تمرر من خلالها الرسالة، كما أن المرسل والمتلقي يتناوبان في تقمّص الأدوار.

و في خضمّ هذا التفاعل الذي يتسم في ظاهره بالبساطة، يبرز علماء النفس مدى تعقد العمليات التي تتداخل في الوضعية الاتصالية، يقول طلعت منصور في مقالة له بعنوان سيكولوجيا الاتصال:" الاتصال الإنساني، إذن، ليس عملية أحادية مفردة، ولكنه مركب من العمليات – أي مجموعة من القوى المعقدة المتواترة التي تتفاعل في مجال موقف دينامي- بل إن أي نشاط يؤثر في الاتصال الإنساني هو في حد ذاته مركب من عناصر متفاعلة فيما بينها."

فالتواصل في نظرة الإنسان البسيط ليس سوى عمليات يومية معتادة، بينما هو في نظر العالم المتبصر، عملية بالغة التعقيد، تتأثر بالحيثيات المحيطة بالوضعية التواصلية، حيث تتداخل عوامل نفسية واجتماعية ومعرفية لتصوغ العملية التواصلية وتتحكم فيها.

و يصف ميشال زكريا العملية التواصلية بقوله:

" ينطلق الشخص الأول أو المتكلم خلالها من دلالات ومعان كامنة في ذهنه فيحرك أوتارا معينة في حلقه فتصدر عنه إشارات صوتية، تتنقل هذه الإشارات الصوتية عبر الهواء فيلتقطها الشخص الثاني أو المستمع، ويعيها عبر جهازه السمعي إلى أن تصل إلى ذهنه، ولا بد من أن تتوافق خلال عملية التواصل الدلالات التي يرسلها المتكلم مع الدلالات التي تصل إلى ذهن المستمع لإنجاح عملية التواصل." 6

2- أهداف التواصل وتواصلية اللغة

أ‌- أهداف التواصل

إن الناس في محادثاتهم وتواصلهم اليومي يرومون من وراء ذلك تحقيق أغراض وقضاء حاجات، تتنوع تبعا للوضعية التواصلية وللأطراف المتواصلة.

و اللغة هي التي تحقق غايات التواصل وأهدافه، ومن بين تلك الأهداف:

* الاكتشاف: حيث يكتشف الإنسان ذاته والعالم المحيط به، يقول رفيق لبوحسيني عن الاكتشاف:" يأخذ هذا المفهوم مراتب ثلاث تتدرج من الأهم إلى ما دون ذلك كما الآتي:- التعلم والتعرف على الذات، وقد لخص العالم كلينك Kleinke  هذا المفهوم وأهميته بقوله:" إن الوعي بالذات هو قلب كل تواصل". -معرفة العالم أو المحيط واكتشافه.-واغاتا المقارنة مع الآخرين، تعتبر المقارنة إطارا طبيعيا للعلاقات الإنسانية القائمة على معاني الاندماج المجتمعي." (7)

* الاقتراب والتقارب: يتحقق من خلال ربط علاقات حميمة مع الآخرين وصيانة هذه العلاقات وتقويتها. 8

* الإقناع والاقتناع: يقول لبوحسيني:" قد يتوهم الواهم أن هذا الهدف يتحقق خصوصا في المجال التجاري أو الحقوقي، إلا أنه مصاحب للسلوك الإنساني في كل تفاصيل حياته، القائمة على تبادل المصالح عبر قناة التفاوض... وتمارس عمليات الإقناع في المجالات التالية عالم الأفكار وعالم المعتقدات وعالم السلوكات والحالات." 9

ب- اللغة كنشاط تواصلي 

قدّر الله للإنسان أن يتميز عن سائر الكائنات ليكون خليفته في الأرض، وخصّه بمقومات تعينه على أداء تلك المهمة، ومن بين أهم تلك المقومات اللغة، ليستطيع بواسطتها التواصل مع أخيه الإنسان والتفاعل الإيجابي ما يفضي إلى القيام بمهمة الاستخلاف، وتحقيق الرقي والازدهار في حياة الناس.

كما أن الإنسان، وعبر آلية اللغة، يستطيع أن يتمثل الكون والعلاقات والقوانين التي تسيره، فيعي هذا الوجود، ويصل إلى أن يسخره لأغراضه، يقول طلعت منصور:

" فباللغة يستطيع الإنسان أن يجرد هذا الوجود المادي والإنساني في خصائص وعلاقات وقوانين، وأن يتحقق له الوعي بهذا الوجود والتحكم فيه." 10

و لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى هذا الوعي بالوجود والتحكم فيه، في حدود ما قدّر الله له، إلا بمعية أخيه الإنسان، لذلك فهو يحتاج إلى اللغة للتواصل معه وللتفكير الجماعي لبلوغ هذا الهدف.

فاللغة بهذا المعنى تساعد الإنسان على بلوغ غايتين: التواصل مع الآخر وتمثل الوجود وتسخيره لصالحه، يقول جون جوزيف في كتابه اللغة والهوية:" لقد عرف اللغويون والفلاسفة الغايات الأساسية للغة تقليديا من خلال أحد البعدين التاليين أو من خلالهما معا:  - التواصل مع الغير، إذ يستحيل على بني البشر العيش في عزلة. – تمثل الكون لأنفسنا في عقولنا." 11

فالوظيفة الأولى للغة أنها تلبي حاجة التعايش مع الآخر، وهو جوهر التواصل.

يقول طلعت منصور:" فالوظيفة الأولية للكلام واللغة – وهي الوظيفة الاتصالية- هي بالدرجة الأولى وسيلة المعاشرة الاجتماعية، وسيلة التعبير والفهم، ومن حقائق علم النفس استحالة الفهم وتواصله بين العقول بدون وجود تعبير وسيطي." 12

و يؤكد ذلك، أيضا، أندريه مارتيني، حيث يقول:" إن الوظيفة الأساسية للغة هي وظيفة التواصل... وإذا كانت اللغة تتغير عبر الزمن، فلكي تتواءم بشكل أساسي مع إشباع حاجات التواصل للجماعة التي تتكلم تلك اللغة." 13

إذن لا يمكن تحقيق التواصل من دون لغة، كما لا يُتصور وجود لغة بدون تواصل، حيث يتناقل الناس المعلومات والأفكار والخبرات. لذلك تبرز الحاجة إلى تعلم اللغة واكتسابها كآلية لتحقيق التفاعل مع الذات ومع المجتمع.

-------------------------------------

1-  محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، لسان العرب، ط 1، دار صادر، بيروت، ( ب.ت)، الأجزاء 15، مج 11، ص 726. 

                                                                             

2-    A.Rey et J.Rey – Debove, Le Petit Robert, Edition Le Robert, 1987. p.346.

3-      عبد اللطيف الفارابي وآخرون، معجم علوم التربية، ، سلسلة علوم التربية، عدد 9-10، دار الخطابي للطباعة والنشر، 1994، ص 43.

4-     Sophie Moirand, Enseigner à communiquer en langue étrangère, Hachette, Paris, 1990, p.10.

5-    طلعت منصور، سيكولوجية الاتصال، عالم الفكر، المجلد 11، العدد 2، سبتمبر، 1980، ص 105-106.

  6-  ميشال زكريا، الألسنية (علم اللغة الحديث)، المبادئ والأعلام، ط 2، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1403ه-1983م. ص 48.

  7-   رفيق لبوحسيني، الأبعاد الرابطة بين اللغة العربية والتواصل، سلسلة فكر ونقد ، الكتاب الثالث، ط 1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2010، ص 64.

  8-      نفس الرجع، ص 64.

  9-    نفس المرجع، ص 65.

  10-  طلعت منصور، سيكولوجية الاتصال، مرجع سابق، ص 123.

  11-   جون جوزيف، اللغة والهوية، ترجمة عبد النور خراقي، عالم المعرفة، عدد 342، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أغسطس 2007، ص 35.

  12-  طلعت منصور، سيكولوجية الاتصال، مرجع سابق، ص 124.

13-  André Martinet, Eléments de linguistique générale. p.9.

Nike

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: