بُذور الدّراسة الدلالية لألفاظ القُرآن الكَريم - د. سَعُد الكردي

نشأ البحث في دلالة الألفاظ- عند العرب - في مرحلة مبكرة ابَّان قيام الحركة العلمية الناشطة حول القرآن الكريم، الذي نزل بلغة العرب المثالية، فارتبطت به ارتباطاً وثيقاً. ولمّا كان القرآن الكريم (دستور) المسلمين الذي يوضح لهم أمور دينهم ودنياهم تعيّن عليهم قراءته وحفظه وفهمه.‏

وحين عرضوا لذلك، استوقف بعضَهم غموضُ بعض ألفاظه، فمسّت الحاجة إلى تفسيره تفسيراً لغوياً يزيل ذلك الغموض، وكثرت الحاجة إلى معرفة المفردات ومعانيها، فزادت عناية العلماء بها، استجابة لتلك الحاجة، فالتفتوا إلى آثارهم الأدبية التي تحمل في طواياها ألفاظ العربية، وتراكيبها، وطرائقها في التعبير بعدما جمعوها، وراحوا يستنبطون منها، ما يحتاجون إليه، في فهم كتابهم العزيز، وهكذا قامت حلقات العلم، التي غُرِسَت في تربتها بذور الدرس اللغوي، ممّا أدّى إلى ابتعاث اللغة، ودراستها دراسة وضحّت معاني مفرداتها، ومعالمها الصوتية والصرفية والنحوية، وتعاقب على تلك الدراسة أجيال من العلماء، لجعل اللغة علماً مضبوطاً، يَسْهُل تعليمها، ويحقق علماؤها الهدف الذي قامت من أجله دراستهم تلك، وهو الحفاظ على القرآن من اللحن، وفهمه، والوقوف على سرِّ إعجازه، ولذلك كان القرآن هو المحور، الذي دارت عليه، فبقيت اللغة طوال القرن الأول للهجرة، وشطراً من القرن الثاني، حملية على غيرها من العلوم الدينية (1).‏

وقد نمت هذه الحركة العلمية اللغوية، التي دارت حول القرآن، على يد علماء الدين- أول مرة- الذين عكفوا على تلاوة القرآن، ودراسته آناء الليل وأطراف النهار، باذلين من ذات أنفسهم أبلغ الجهد، لفهم مقاصده، وتبليغها للناس، ممّا دفع بعضهم إلى القول (نشأت الرواية على يد القراء والمفسرين). (2) الذين رأوا أنَّ التعمق في دراسة اللغة أمر ضروري يمكنّهم من فهم القرآن، وهذا ما صرّح به (دي بور) بقوله: "وأكبر ما جعل التعمق في دراسة اللغة أمراً ضرورياً، هو اشتغال المسلمين بمدارسة القرآن وقراءته وتفسيره". (3).‏

وهذا ما قصده عبد المجيد عابدين بقوله: "اتصل الدّين باللغة اتصالاً وثيقاً في العصور الإسلامية كلهِّا، وكان الباعث على اهتمام علماء اللغة بجمع الشواهد اللغوية، وتقعيد اللغة باعثاً دينياً، وهو ضبط نصوص القرآن الكريم، وتعليم الطلاب لغة القرآن، وجرت مناهج التعليم منذ أقد العصور الإسلامية على المزج بين المعارف الدينية واللغوية... ومِنْ ثَمَّ كان اللغوي غالباً رجلَ دِيْنٍ، ولا ترى عالماً من علماء اللغة القدامى، إلاّ كان مُقْرِئاً أو مفسِّراً أو مُحَدِّثاً أو متكلِّماً أو فقيهاً". (4).‏

وفي الحقيقة إذا عُدْنا إلى تراثنا الدّيني واللغوي نجد أنَّ الذين اهتموا بتفسير مفردات القرآن هم المفسرون وعلماء القراءة- في بداية الأمر- ثم علماء الغريب والأشباه والنظائر في القرآن، وعلماء اللغة، فيما بعد، ومن هنا كانت كتب التفسير والقراءة والغريب...، من المظان الغنية بالثروة اللغوية، وبعد أنْ انفصلت اللغة عن علوم الدين، أخذت تصبّ تلك الظواهر اللغوية، في كتب اللغة. والذي يهمّنا في هذه الفقرة أنْ نُوجِز القول بصفحات يسيرةٍ عن الجهود التي بذلت في بيان معاني مفردات القرآن الكريم ودلالاتها، ومن أهم تلك الجهود:‏

1 - جهود علماء غريب القرآن:‏

كان القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، سبب ظهور (علم الغريب) لوجود كلمات فيهما تحتاج إلى تفسير وتوضيح، باعتماد العرف اللغوي السائد آنذاك. فبدأت الدراسة، في هذا الميدان، من ميادين اللغة، بالبحث عن معاني الألفاظ الغريبة فيهما، وتوضيح معانيها ومراميها وأساليبها، وتأييد ذلك التفسير والتوضيح، بالشواهد، من شعر العرب.‏

ولقد اهتمّ العلماء بهذا الجانب من البحث اللغوي اهتماماً كبيراً، فذكرت لهم كتب التراجم والطبقات كتباً كثيرة في هذا الميدان. (50).‏

وهذا ما دفع أستاذنا الدكتور مسعود بوبو إلى الحديث عن عناية هؤلاء العلماء بهذا الجانب اللغوي، فقال: "لقد أولى اللغويون العرب القدماء هذا الجانب اللغوي عناية خاصة، تناولوا فيه الغريب من الألفاظ بالبحث الجاد والمعالجة المتأنية، بل لقد كان هذا اللون من البحث الذي أقيمت عليه الدراسات اللغوية عندهم بصورة عامة غداة شرعوا في التماس المعاني الدقيقة لما غمض واشتبه عليهم من ألفاظ القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وأفردوا لهذا الغرض الكتب المطولة التي ما زالت مراجع لا غنى عنها للاطمئنان إلى سلامة الدّلالة اللغوية وصحتها عند تحري الدّقة وصحة الاحتجاج في قضايا الغريب". (6)‏

ولعل أقدم من تناول البحث في غريب القرآن أبو سعيد أبان بن تغلب بن رباح البكري (ت 141ه‍) الذي قال فيه ياقوت "صنّف [أبان] كتاب الغريب في القرآن وذكر شواهده من الشعر". (7) ثم تعاقبت كتب كثيرة في غريب القرآن، ومن الذين ألفوا فيه: أبو فيد مؤرخ السدوسي (ت 195ه‍) وأبو محمد يحيى ابن المبارك اليزيدي (ت 202ه‍) والنضر بن شميل (ت 204ه‍) وأبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى (ت 213ه‍)، وأبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216ه‍) والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (ت 215 أو 221ه‍)، وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224ه‍) ومحمد بن سلام الجمحي (ت 231ه‍)، وابن قتيبة (ت 276ه‍) وثعلب (ت 291ه‍). (8). وقد وصل إلينا من كتب هؤلاء المؤلفين كتاب (غريب القرآن) لابن قتيبة. (9) وكتب الغريب هذه كتب لغة، على الرغم من أنّها لم تكن خالصة للغة، ألّفها لغويون بارزون عند العرب، وهذا شيء طبيعي؛ لأن علم الغريب علم يُعنى بشرح الكلمات الغريبة. ويفسّر المعاني الخفيّة والأساليب الغامضة، فيجلو معناها ويكشف عن مراميها. (10) ومن يَعُدْ إلى كتاب (غريب القرآن) لابن قتيبة (ت 276ه‍) يجد سعة العلم، وغزارة المادة، من خلال تفسير المفردات الغريبة تفسيراً لغوياً مؤيَّداً بالشواهد الشعرية الكثيرة، والأحاديث النبوية الشريفة، كما يجد أنَّه مزّج بين منهج المفسرين وعلماء اللغة، ولذلك قال الدكتور حسين نصار:‏

"ومنهج كتاب ابن قتيبة خليط من منهج كتب اللغة، وكتب التفسير، فهو يضم ظواهرهما معاً. فبينما يفسر الألفاظ لغوياً، ويستشهد عليها بالأشعار والأحاديث وأقوال العرب، ويبيّن وزنها أحياناً، يفسّرها قرآنياً، فيبيّن في السور المدني من المكي أحياناً، ويقتبس أقوال مشهوري المفسرين" (11).‏

وهذا يعني أنَّ علماء غريب القرآن، أسهموا في تفسير المفردات الغربية في القرآن الكريم، وتوضيح دلالاتها وبيان مراميها وأساليبها، وعملهم هذا يُعدُّ خطوة من خطوات الدراسة اللغوية عند العرب، يدخل- بقدر كبير- تحت الدراسة الدلالية للألفاظ.‏

2 - جهود علماء القراءة:‏

علم القراءة علم يضبط قراءة القرآن ومخارجها ووجوه أدائها: غُرِست بذور هذا العلم في تربة الحركة العلمية التي أخذت تدرس القرآن، في مراحل مبكرة، أيام الصحابة الذين توافدو على الأمصار المفتوحة كالبصرة والكوفة...، واشتهر بالإقراء سبعة، منهم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وأبَي، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، وكلهم يسند إلى الرسول (. (12) وشرعوا يُقْرِئون الناس آيات الذكر الحكيم، وخير مثال على ذلك ما قام به أبو موسى الأشعري (ت 44ه‍) الذي قَدِم البصرة والياً عليها من قبل عمر بن الخطاب سنة سبع عشرة للهجرة، وكانوا يطلقون على مصحفه اسم (لباب القلوب)، وكان يطوف على الناس في مسجدها، فيقعدهم حلقة ويقرئهم القرآن الكريم خمسَ آيات خمسَ آيات ولما نُمِي خبر إقرائه إياهم إلى عمر أعجبه ذلك فنعتهم بالكياسة. (13)‏

ثم تعاقب التابعون وتابعوهم على إقراء الناس، وممّا يلفت النظر أنَّ الروّاد الأوائل الذين وضعوا نقط المصحف وضبطه تعاقبوا على الاقراء في البصرة، فكانت حركة الاختيار عند هذه الطبقة تساير نمو علم العربية. وفي طليعة هذه الطبقة أبو الأسود الدؤلي (ت 69ه‍) مؤسس علم النحو، وأول من نقط المصحف نقط الاعراب، وقد أخذ القراءة عرضاً على علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وعنه أخذ النحو والقراءة يحيى بن يعمر (ت 129ه‍)، ونصر بن عاصم (ت 90ه‍) اللذان كان لهما في نقط المصاحف شأن، حتى لقد اُدعي لكلّ واحدٍ منهما أنّه السابق إلى ذلك. وعن نصر ويحيى أخذ القراءة عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت 117ه‍)، وعلى عبد الله بن أبي اسحق عرض عيسى بن عمر الثقفي ( ت 149هـ )وهو شيخ الخليل بن أحمد في العربية.‏

ومن ثم غطّى على جميع مَنْ تقدم الامام العلم أبو عمرو بن العلاء (ت 154ه‍) الذي يُعَدّ القِمّة التي انتهى إليها تطور حركة الاختيار، وما تشتمل عليه من أسس نقدية قبل حركة التأليف المنهجي وظهور الكتب الجامعة في القراءات وتحليلها. ومن بعد أبي عمرو قام صاحبه أبو محمد يحيى بن المبارك المعروف باليزيدي (ت 202ه‍) وعنه انتشرت قراءة أبي عمرو في الآفاق، واختار إلى جانب ذلك قراءة لنفسه. (14).‏

ويرتبط علم القراءات بنزول القرآن على سبعة أحرف، واذْنِ الرسول (ص) لكل قبيلة أن تؤدي ألفاظ التنزيل بلغتها لصعوبة تحولها إلى لسانٍ غير لسانها مما أدّى إلى اختلاف القراءات، وكثيراً ما كان اختلاف وجوه القراءة يؤدّي إلى اختلاف وجهات النظر في معاني اللفظ القرآني، وفق الوجه المختار، فمن القراء من وافق اختياره معنى اللفظ وأبقى عليه، ومنهم من خالف اختياره معنى اللفظ ووجه إلى معنى آخر غير الأول، والأمثلة على ذلك كثيرة منها اختلاف القراء في قراءة قوله تعالى (وقُرّآناً فَرَقْنَاه لتَقرَأهُ على الناسِ على مُكْثٍ (15). فقرأتْهُ عامة قرّاء الأمصار "فَرَقْنَاه" بتخفيف الراء بمعنى أحكمناه وفصّلناه وبينّاه. وذكر عن ابن عباس أنّه كان يقرؤه بتشديد الراء (فرّقناه)، بمعنى نزّلناه شيئاً بعد شيء، آية بعد آية..‏

قال الطبري:وأولى القراءتين بالصواب عندنا: القراءة الأولى، لأنها القراءة التي عليها الحُجة مجمعة، ولا يجوز خلافها فيما كانت عليه مجمعة من أمر الدين والقرآن (16).‏

ومنها اختلاف القراء في قراءة قوله تعالى: (آتوني زُبُرَ الحديد). (17)‏

فمن قرأه بالمدّ (آتوني) جعله من الاعطاء، ومَنْ قرأه (أتُوني) جعله من المجيء. والوجه أن يكون ها هنا من الإعطاء لأنه لو أراد المجيء، لأتى معه بالباء، كما قال تعالى: (وَأْتُوني بِأهْلِكُمْ أجْمَعِيْن). (18)‏

إن اختلاف القراء في قراءة هذه الحروف وأشباهها، دفع القرّاء إلى التماس معاني المفردات لدعم الوجه المختار، وتوجيهه، وتوضيحه، ممّا أدى بهم إلى أن يُسْهِموا في تفسيرِ مفرداتِ عدد غيرِ قليلٍ من مفردات القرآن.‏

3 - جهود الباحثين في لغات القرآن:‏

لعل أول من أُثِرَ عنه العمل في هذا الميدان اللغوي المتَّصل بألفاظ القرآن، الصحابي الجليل عبد الله بن عباس (ت 68ه‍). وفي مقدمة ما وصل إلينا من كتب لغات القرآن كتابه (اللغات في القرآن). (19)‏

والكتاب يلقي الضوء على لغات القبائل قبل الإسلام، ويحدد نسبة ما أخَذَ القرآن من ألفاظ كل قبيلة من هذه القبائل،ويبيّن ما تعني تلك الألفاظ في لغة القبيلة.‏

كما يلقي الضوء على ما وافق لغة العرب من الألفاظ التي قد يكون لفظها من لغة الفرس أو من اللغة الحبشية، أو اللغة النبطية، أو من اللغة السريانية، أو من اللغة القبطية (20).‏

ومَنْ يقف على عمل ابن عباس في هذا الكتاب يجد أنه كان يفسّر اللفظ القرآني بلغة إحدى القبائل أو لهجتها. ومن أمثلة ذلك، قوله تعالى: (إنْ تَرَكَ خَيْراً الوصية) (21)، يعني بالخير المال بلغة جرهم. وقوله تعالى: (ضَيِّقا حَرَجا) (22). يعني شاكّاً بلغة قريش. وقوله تعالى: (فَتَوَلَّى بِرُكنه). (23) يعني برهطه، بلغة كنانة. وقوله تعالى: (في يَوْمٍ ذي مَسْغَبَةٍ). (24) يعني ذي مجاعة بلغة هذيل. (25)‏

وألف في لغات القرآن عدد من علماء اللغة والتفسير، منهم مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150ه‍) وهشام بن محمد الكلبي (ت 204ه‍)، والهيثم بن عدي (ت 209ه‍)، وأبو زكريا الفراء (ت 209ه‍) وأبو زيد الأنصاري (ت 215ه‍) وعبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216ه‍). (26) ويتضح مما سبق أن الباحثين في لغات القرآن أسهموا في تفسير مفردات القرآن وتوضيح دلالاته، من خلال تبيين معناها عند بعض القبائل العربية، أو من خلال بيان موافقتها للفظ من ألفاظ أجناس الأمم الأخرى، أو بيان أصلها غير العربي.‏

- 4جهود الباحثين في الوجوه والنظائر في القرآن:‏

لحظ نفر من الباحثين في النص القرآني، أنّ اللفظ الواحد في القرآن الكريم تتعدد دلالاته وتختلف من تركيب إلى تركيب، ومن سياق إلى سياق، وظلّ ذلك يدور في خَلدَ المفسرين، حتى صار موضوعَ علمٍ قائمٍ بذاته، هو "علم الوجوه والنظائر" يشكل فَرْعاً من فروع الدراسات القرآنية ذات الصلة الوشيجة بالدراسات اللغوية الدّلالية، لأن فيه إحساساً بتعدّد الوجوهَ (المعاني) للفظ الواحد في التعبير القرآني، يظهر ثراء اللغة. ويجعل أصحاب هذا العلم- الوجوه- اسماً للمعاني، و- النظائر –اسماً للألفاظ. (27)‏

ولعلّ أول كتاب وصل إلينا في هذا العلم كتاب (الأشباه والنظائر) (28)، لمقاتل بن سليمان (ت 150ه‍) (29)، حاول فيه حصر /وجوه/ كثير من الألفاظ، والعبارات، والحروف الواردة في القرآن الكريم، مستشهداً على كل وجه بِعَدِدٍ من آيات القرآن. وكانت عنايته واضحة بشرح معنى اللفظ في سياقاته المختلفة، فيذكر المعنى الأصلي للفظ، ثم يذكر بقية المعاني الفرعية؛ ومثال ذلك أنه ذكر لكلمة /الموت/ خمسة وجوه وردت في سياقات القرآن، أربعة منها فرعية، كأن تأخذ معنى النُطَف التي لم تخلق، أو معنى الضال عن التوحيد، أو معنى جدوبة الأرض، وقلة النبات، أو معنى ذهاب الروح من غير استيفاء الأرزاق. ثمّ يشير إلى المعنى الخامس- الأصلي- بقوله: "الموت بعينه. ذهاب الروح بالآجال، وهو الموت الذي لا يرجع صاحبه إلى الدنيا" (30).‏

وقد أسهم الباحثون في هذا العلم في تفسير دلالات كثيرة من ألفاظ القرآن الكريم، وعباراته، وحروفه، وأماطوا اللثام عن معانيها الأصلية، والفرعية، الواردة في سياقات القرآن، وبينوا اختلاف دلالاتها من سياق إلى آخر ومن تركيب إلى تركيب.‏

5 - جهود الباحثين في المشترك اللفظي في القرآن:‏

يقصد بالمشترك اللفظي تعدّد المعنى للفظ الواحد، وهو بهذا المعنى قريب من علم "الوجوه والنظائر" ومن العلماء الذين أسهموا في دراسة مفردات القرآن وتوضيح دلالاته، وربطها بظاهرة الاشتراك اللفظي، نفرٌ ألَّفوا كتباً في المشترك اللفظي في القرآن الكريم.‏

ومن أهم من ألفوا في هذا الموضوع المتعلِّق بألفاظ القرآن، أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد ( ت 286ه‍) وقد وصل إلينا كتابه بعنوان: "ما اتفق لفظه واختلف معناه في القرآن المجيد" (31).‏

قال في مقدمة هذا الكتاب "هذه حروف ألّفناها من كتاب الله عز وجلّ متفقة الألفاظ مختلفة المعاني.. " (32)‏

وقد أوضح ما يريد بذلك بقوله: وأمّا اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، فنحو: وجدت شيئاً إذا أردت وجدان الضالة، ووجدت على الرجل من الموجدة، ووجدت زيداً كريماً، علمت... ثم بينّ في مكان آخر أنَّ من الألفاظ القرآنية التي يتفق لفظها ويختلف معناها /ظن/ فهي في قوله تعالى: إلاّ أماني وإنْ هم إلاّ يظنّون) (33). من الشك، و/ظن/ في قوله تعالى: (الَّذِيْنَ يَظُنُّونَ أنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ) (34). من اليقين، لأنهم لو لم يكونوا مستيقنين لكانوا ضُلاّلاً شكّاكاً في توحيد الله تعالى (35).‏

ومن يتابع المبرّد في باقي الألفاظ التي نثرها على صفحات كتابه، يجد في عمله إسهاماً في تفسير مفردات القرآن وتبيين دلالاتها المختلفة، في إطار المشترك اللفظي الذي كان المحور الذي يدور عليه كتابه، وكان يدعم ما يذهب إليه في إثبات الدّلالة المقصودة من اللفظ بأشعار العرب.‏

6 - جهود المفسرين وفق المنهج اللغوي في التفسير:‏

علم التفسير من أهم العلوم التي انصرفت إلى النظر في معاني ألفاظ القرآن الكريم، ودلالاتها، وشرحها، إلى جانب عنايته بمعاني الآيات وما يتعلق بها، ويهمّنا من هؤلاء المفسرين مَنْ سلك المنهج اللغوي منهم في التفسير، ليظهر لنا ما قدّموه في ميدان تفسير معاني المفردات، وتوضيح دلالاتها، ولكي تتبين لنا جهود الطبري الدّلالية على حقيقتها، نؤثر أن نُلْمِح إلى جهود من سبقوه من المفسرين الذين سلكوا المسلك المشار إليه آنفاً، يايجازٍ شديد، أمثال عبد الله بن عباس (ت 68ه‍) وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182ه‍).‏

آ- عبد الله بن عباس (13ق. ه‍- 68ه‍):‏

تذكر الروايات أنَّ أوّل من قام بتفسير مفردات القرآن الغامضة تفسيراً لغوياً الصحابي الجليل عبد الله بن عباس. الذي كان أعرف الناس بالقرآن. قال الحسن البصري: "إنَّ أوّل مَنْ عرَّف (علّم) بالبصرة ابن عباس، صعد المنبر فقرأ سورة البقرة ففسّرها حرفاً حرفاً...) (36)، وصنيعه هذا دفع عبد الله بن عمر إلى القول: "نعم ترجمان القرآن ابن عباس". (37) وقد أشاد أبو بكر النقاش في تفسيره "شفاء الصدور" (38) كثيراً بمنزلة ابن عباس عند الصحابة والتابعين، وبجلالة قدره في هذا المجال، وقال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أعضل به الأمر قال لابن عباس: غُصْ يا غواص أي أشِرْ برأيك، وقال: من كان سائلاً عن شيء من القرآن، فليسأل عبد الله بن عباس فانّه ختم القرآن، وهو حِبْر القرآن.. وكان الامام علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- يمتدح فيه جودة رأيه وكثرة إصابته. (39) وهذا ما أهله لأن يُعَدَّ المؤسس الحقيقي لعلم التفسير، فهو الذي نهجه، ووضحّ أصوله.‏

وعُرِف عنه بأنه كان يعتمد على الشعر القديم في تفسير عربية القرآن، وقد أثِرَ عنه قوله: (إذا أشكل عليكم الشيء من القرآن فارجعوا إلى الشعر فانه ديوان العرب). وكان يُسْأل عن القرآن فينشد الشعر. (40) وعنايته مذكورة في غير ما كتاب من كتب الأدب. وتلك طريقة جديدة لم يسبق إليها. وقد نَسَب له ابن النديم كتاباً في التفسير. (41) وروى الطبري في تفسيره أغلب ما قاله ابن عباس في تفسير القرآن.‏

كم أورد السيوطي كثيراً من ذلك في كتابه (الاتقان في علوم القرآن). (42)‏

وتفسير ابن عباس المروي بالأسانيد الراجعة إلى تلاميذه المباشرين، قد جُمع في مجموعات منذ عهد مُبَكِّر؛ ومن أوثق تلك المجموعات، المجموعة التي روى محصولَها عن ابن عباس عليُّ بن أبي طلحة الهاشمي، يقول فيها أحمد بن حنبل:‏

"إنَّ في مصر تفسيراً عن ابن عباس رواه عليُّ بن أبي طلحة، وليس بكثير أنْ يُرْحَل إلى مصر من أجله". (43)‏

ويُروى أنَّ نافع بن الأزرق (ت 65ه‍)، أحد رؤوس الخوارج، كان يأتي ابن عباس ويسأله عن أشياء من القرآن الكريم، ويطلب منه مصداقه من كلام العرب، حتى بلغت تلك الأسئلة حوالي مائتين وخمسين سؤالاً، وقد أجاب عنها ابن عباس، مؤيداً ما يذهب إليه بأشعار العرب. (44)‏

ومن ذلك تفسيره قوله تعالى (فاذا هُمْ بالسّاهِرَةِ). (45)،، قال بالأرض، ألم تسمع قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:‏

فذاكَ جزاءُ ما عَملُوا قَديْماً وَكُلّْ بَعْدَ ذلِكُمُ يَدُومُ‏

وَفِيْهَا لَحْم سَاهِرةٍ وبَحْرٍ وما فاهوا به لَهُمُ مُقِيْمُ (46)‏

وهكذا يمضي نافع بن الأزرق يسأل وابن عباس يجيب (47).‏

يُلْحَظ من المثال السابق أن ابن عباس يفسر مفردات القرآن تفسيراً لغوياً، يأتي باللفظة، ويشرحها بلفظة تقابلها، ويستشهد بأشعار العرب، ليؤكد ذلك المعنى، الذي ذهب إليه،ولكن إذا عدنا إلى بعض الكتب القديمة التي أوردت بعض آثار ابن عباس، نجد أنه كان يشير في أثناء تفسير المفردات إلى جذورها، فقد جاء عنه أنه قال: "الرحمن: الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب". (48)‏

وأُثِرَ عنه تفسير بعض العبارات القرآنية، وايضاح المعنى المقصود منها، من ذلك تفسيره عبارة "انّه عمل غير صالح" من قوله تعالى: (يَا نْوحُ انّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلكَ انَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَالحٍ). (49) بقول الله لنوح: سؤالك ايّاي ما ليس لكَ به علم عمل غير صالح (50) كما كان يوضّح دلالة التركيب اللغوي أحياناً كما فعل في قوله تعالى: (ايّاكَ نَعْبُد) (51) بقوله: ايّاك نوحّد ونخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك (52).‏

وقد أشِيرَ- سابقاً- في أثناء الحديث عن جهود علماء لغات القرآن في تفسير المفردات إلى إحاطة ابن عباس باللهجات واختلاف اللغات وخصوصاً ما يتعلق بدلالة المفردات، لأن لغة القرآن حوت من جميع لهجات العرب، وقد روت لابن عباس كتب اللغة والنحو ظواهر تفسيرية بيَّن فيها ما تعني تلك المفردات في لهجات بعض القبائل، من ذلك شرحه كلمة /ييأس/ من قوله تعالى: (آفَلَمْ ييَأس الذِيْنَ آمنوا) (53). بقوله ييأس في معنى يعلم لغة للنخع. ومنه تفسيره كلمة (لهو) من قوله تعالى: (لَو أرَدْنا أنْ نَتَخِذَ لهَواً) (54) بقوله: اللهو: الولد بلغة حضرموت. ومنه شرحه كلمة (بور) من قوله تعالى: (وَكُنتُمْ قوماً بُوراً) (55) بقوله: البور في لغة أزد عمان: الفاسد. (56) ويدل هذا على معرفته الواسعة بلغات القرآن، وما وافق منها لهجات القبائل ولغاتها، وقد أثِر عنه بعض العبارات التي تؤكد ذلك، فقد سُئِل عن معنى كلمة (قسورة) في قوله تعالى: (كأنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مَنْ قَسْورَةٍ) (57) فقال: هي عُصَب الرجال، وما أعلمه بلغة أحد من العرب: الأسد (58) وقوله:‏

"وما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد" عبارة لا يطلقها إلاّ من أحاط بلغات العرب ولهجاتها، وتمرّس بها، وخَبِرَها، حتى كأنها أمامه لا يخفى عنه منها شيء. ولعله- إلى جانب ذلك- كان على معرفة بلغات الأمم الأخرى، كالفارسية والحبشية والنبطية، وقد روى له الطبري في تفسيره ما يؤكد ذلك، ومنه قوله في كلمة (سجيل) (59): هو بالفارسية: سنك وجل، سنك هو الحجر، وجل هو الطين، وقال: بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل قالوا: (62) (نشأ) (62) وقال في قوله تعالى: (فصرهن) (64): هي نبطية فَشَقّقْهُنّ. وقال في قول الله (طه) (65): يالنبطية يا رجل (66).‏

وكان ابن عباس إلى جانب اهتمامه بالشعر محتجاً به لمعاني المفردات والتراكيب، يستعين به على فهم مفردات القرآن، بما يسمعه من أفواه الفصحاء، وقد رُوي من هذا كثير عنه، منه قوله: لم أدْرِ ما البعل في القرآن حتى رأيت أعرابياً، فقلت له: لمن هذه الناقة؟ فقال: أنا بعلها. أي ربهّا (67).‏

هذا كلّه أهَّل ابن عباس لأن يؤثّر تأثيراً بارزاً في تفسير معاني ألفاظ القرآن وتوضيح دلالاتها، وأن يكون أول من أرسى دعائم المنهج اللغوي في التفسير.‏

ومن يقف على جهود ابن عباس اللغوية، ويدرسها دراسة متأنية يدرك مالها من منزلة علمية؛ فهي من ناحية تشكّل مصدراً أساسياً لكتب معاني القرآن التي الِّفَت بعده، وما كُتُبُ معاني القرآن التي ألِّفَتْ في القرن الثاني للهجرة إلاّ تطوير لمجالس ابن عباس وحلقاته (68)، وتشكّل من ناحية أخرى نواة للمعاجم العربية؛ وهذا ما دفع الدكتور رمضان عبد التواب إلى القول: "وبذلك يمكننا أن نعدَّ تفسير ابن عباس على هذا النحو نواة للمعاجم العربية، فقد بدأت الدراسة في هذا الميدان من ميادين اللغة بالبحث عن معاني الألفاظ الغريبة في القرآن الكريم" (69).‏

ب- عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182ه‍):‏

ومن التفاسير التي اتخذت من المنهج اللغوي مسلكاً تفسير عبد الرحمن بن زيد (ت 182ه‍)، الذي فُقِدَ أصله، وقد أورده الطبري في تفسيره، فكوّن مصدراً من مصادره في التفسير (07).‏

والمنهج اللغوي في التفسير عند ابن زيد أخذ منحى أكثر سَعَة من تفسير ابن عباس، وهذا ناتج عن تطور الحركة العلمية بوجه عام، وتطور البحث اللغوي عند العرب بوجه خاص في عمر ابن زيد، فقد عاصر ظهور المعجم العربي المنظّم، ونضج الدرس اللغوي والنحوي على يد الخليل بن أحمد (ت 170ه‍)، ومن في طبقته، واكتمال أصوله وفروعه في كتاب سيبويه (ت 180ه‍) وهذا ما سوّغ للمنهج اللغوي في تفسير ابن زيد أن يكون أكثر تطوراً واتساعاً منه في تفسير ابن عباس، لأن تفسير ابن عباس يمثل مرحلة أولية من مراحل التفسير اللغوي، أما تفسير ابن زيد، أما تفسير ابن زيد، فيمثِّل مرحلة متطورة لاحقة.‏

ولذلك أصبحنا، نرى في تفسير ابن زيد- إلى جانب تفسير المفردات وتوضيح دلالاتها- معالجات لغوية- تزيد من توضيح دلالات المفردات، ويحتجُّ ابن زيد لذلك كلِّه بالشواهد من كلام العرب وأشعارها- كبيان جنس الكلمة، وعددها، وأسباب تسميتها عند العرب، أو ما يُسمى بالتأصيل الاشتقاقي، واستخدامها في سياق كلام العرب، والاشارة إلى تعدد صيغ البناء الواحد، وتوضيح ذلك بالنظائر من كلام العرب، والاشارة إلى اختلاف معنى الكلمة باختلاف بنائها، وتوضيح ذلك بمثيلاتها من كلام العرب، وإشارته إلى الأسماء التي لا تُسمَّى بما يُطلق عليها إلاّ إذا توافرت فيها صفات معينة، وتفسير المفردات، وتحديد الفروق بين قريباتها في المعنى، والاشارة إلى أنَّ الله خاطب الناس باللغة المعروفة المشهورة المتداولة لديهم، وتأكيد وجود هذه المعاني في كلام العرب.‏

والأمثلة في تفسيره على ذلك كثيرة، فمن المفردات التي فسّرها تفسيراً لغوياً كلمة (حميم) في قوله تعالى: (فَلَيْس لَهُ اليَومَ ها هنا حَمِيْمٌ) (71) قال: حميم: القريب في كلام العرب (72)، ومنها تفسيره كلمة (ثاقب) في قوله تعالى (فَأتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقبٌ) (73)، قال: الثاقب: المستوقد، والرجل يقول: أثْقِبْ نارَكَ، ويقول: استثقب نارك: استوفد نارك. (74) ومن تفسير المفردات وبيان جنسها وعددها تفسيره كلمة (الطاغوت) في قوله تعالى:‏

(والَّذِيْنَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوت أنْ يَعْبُدوها (75)، قال: الشيطان، هو هنا واحد، وهي جماعة، والطاغوت واحد مؤنث، ولذلك قيل: أن يعبدوها.‏

وقيل: إنّما اُنِّثَتْ لأنّها في معنى جماعة (76). ومنها تفسير المفردة، وبيان لغاتها من كلام العرب، كتفسيره كلمة (مدّكر) في قوله تعالى: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). (77) قال المُدّكر: الذي يتذكر، وفي كلام العرب المُدّكر والمُذّكر. (87) ومنها تفسير المفردة، والاشارة إلى تَعَدّد صيغ البناء الواحد، وتوضيحها بذكر مثيلاتها، كتفسيره كلمة (كُبّار) في قوله تعالى: (وَمَكَروا مَكْراً كُبَّاراً) (79) قال الكُبَّار: هو الكبير، تقول العرب: أمرٌ عَجِيْب وعُجَاب بالتخفيف، وعُجَّاب بالتشديد، وَرجُل حُسَان وحُسَّان، وجُمَال وجُمَّال بالتخفيف والتشديد، وكذلك كبير وكُبَّار بالتشديد (80) ومنها تفسير المفردة والاشارة إلى اختلاف دلالة المفردة باختلاف بنائها كتفسيره (القاسطين) في قوله تعالى: (وأنَّا مِنَّا المُسْلِمُونَ ومِنَّا القَاسِطُون..) (81)، قال المُقْسِط: العادل، والقاسط: الجائر، ومنها قول الشاعر:‏

قَسطْنَا على الأمْلاكِ في عَهْدِ تُبّعٍ ومِنْ قَبل ما أدْرَى النفوسَ عقابُها (82)‏

ومنها تفسير المفردة، وتحديد معناها، وأسباب تسميتها، كتفسيره (الغَبَرة) و (القَتَرة) في قوله تعالى: (وَوُجُوهٌ علَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) (83). قال: هذه وجوه أهل النار، والقَتَرَة من الغَبَرَة وهما واحد، قال: فأمّا في الدنيا فانَّ (القَتَرَة) ما ارتفع فلحق بالسماء، ورفعته الريح، تسمية العرب (القَتَرَة) وما كان في أسفل الأرض فهو (الغَبَرَة) (84)،ومنها تفسير المفردة، وإحساسه باستخدامها المجازي، والاشارة إلى أن الله تعالى، خاطب العرب، بالمعروف المشهور من كلامهم، المتداول لديهم، ويتضح ذلك من تفسير كلمة (الخَيْر) من قوله تعالى: (وإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْر لَشَدِيْدٌ) (85) قال: الخير: المال، وربَّما يكون حراماً أو خبيثاً، ولكن الناس يعدونه خيراً، فسمّاه الله خيراً، لأن الناس يسمّونه خيراً في الدنيا. كما سمّى القتال سوءاً يقول تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمُ سُوْءٌ) (86)، قال: لم يمسهم قتال وليس هو عند الله بسوءٍ، ولكن يسمّونه سوءاً (87) ولعلّه كان على معرفة- إلى حدٍ ما –باللغات الأخرى غير العربية، فقد أثرَ عنه قوله في تفسير كلمة (الطور) من قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّوْرَ) (88) الطور: الجبل بالسيريانية. (89)‏

وتدل الأمثلة السابقة على أنّ المفسر عبد الرحمن بن زيد (ت 182 ه‍) الذي سلك المنهج اللغوي في التفسير، قد أسهم في تفسير مفردات القرآن، وإيضاح دلالاتها، كما تناول بعض المسائل اللغوية التي تزيد من إيضاح تلك الدلالات.‏

وهذا القدر من الدراسات اللغوية التي دارت حول شرح مفردات القرآن الكريم وإيضاح دلالاتها، مما قام بها القراء والمفسرون وعلماء الغريب والباحثون في لغات القرآن، والوجوه والنظائر، وما اتفقت ألفاظه واختلفت معانيه، وغيرها من الدراسات تنهض دليلاً لا يُجْحد على ما بذله السلف في هذا الميدان، على الرغم من تفاوت مناهجهم وأساليبهم في البحث كل حسب رأيه وعلمه، كاف لاعطائنا صورة مبسّطة عن هذا النوع من الدراسة اللغوية التي تُعَدّ من بذور الدراسة الدّلالية في نظر علم اللغة الحديث، لأن دراسة المفردات "ربما كانت الأصل، الذي بدأ به علماء اللغة خطواتهم الأولى، نحو علم الدلالة الحالي، منذ أن عرضت للانسان القديم ألفاظ من لغته أو من لغات أخرى، لم يفهمها... وهذا ما فعله علماء العربية من المفسّرين والمعجميين والشراح في هذا الميدان، بدءاً بابن عباس (ت 68ه‍) (90) فَشَرْحُ مفردات القرآن الكريم أو الحديث الشريف، وجلاء غامضه، وبيان ما وافق من ألفاظه بعض لهجات القبائل، وإظهار دلالة بعض الألفاظ بربطها بظاهرة الاشتراك اللفظي، وبيان معنى المفردة الأصلي ثم بيان معانيها الفرعية أو الثانوية أو الدينية، التي يظهرها السياق، والاحتجاج لذلك بأشعار العرب، وذكر بعض القضايا اللغوية التي تزيد من إيضاح دلالة المفردة أو تساعد على ومعرفة أصل تلك الدلالة، يُعَدّ بذوراً دلالية طُرِحت ونُوقِشَت في البحث اللغوي عند العرب في مراحل مبكرة.‏

ولعل الحديث السابق عن المظاهر التي تجلّت بها تلك الدراسات اللغوية المبكرة، قبل الطبري، وايضاح بعض معالمها الأساسية، وما وصلت إليه، أن يكون ضرورياً، ليقابل بعمل الطبري في هذا الميدان، فتظهر جهوده فيه أو مدى الاتساع الذي أدخله عليه، والطريق التي اتّبع، فتعرف مكانته، وتقوّم في ضوء الدراسات اللغوية. وهذا سيوضح في مقالة قادمة إن شاء الله.‏

***‏

الحواشي:‏

1 - للتفصيل يُنظَر: تهذيب اللغة للأزهري: 1/4-5. المعجم العربي نشأته وتطوره: 1/31. في أصول النحو، للأفغاني: 100. رواية اللغة: 67،58. البحث اللغوي عند العرب: 67،61. المفصل في تاريخ النحو:31،11. فقه اللغة في الكتب العربية:35،33. فصول في فقه العربية: 108،5 د. رمضان عبد التواب. دراسات في اللغة، د. مسعود بوبو: 109،107. المجاز والنقل في اللغة: 3.‏

- 2 رواية اللغة: 57.‏

- 3تاريخ الفلسفة في الاسلام: 37.‏

- 4المدخل إلى دراسة النحو العربي على ضوء اللغات السامية: 102.‏

5- الفهرست:78 ، 96. النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/4-5. كتاب الدلائل في غريب الحديث للسرقسطي، دارسة الدكتور شاكر الفحام: 4 الطور اللغوي التاريخي: 42.‏

- 6 أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج: 351.‏

- 7معجم الأدباء: 1/108. ويُنظر: فصول في فقه العربية، د. رمضان عبد التواب: 110.‏

8-الفهرست: 37 رواية اللغة: 90-91 مصادر التراث العربي: 137.‏

9-طَبَعَتْهُ دار إحياء الكتب بالقاهرة سنة 1958م بتحقيق الأستاذ السيد أحمر صقر.‏

10-كتاب الدلائل في غريب الحديث للسرقطي: 4.‏

11-المعجم العربي نشأته وتطوره: 1/42.‏

12-تقريب النشر: 19.‏

13-مشاهير علماء الأمصار للبُستي: 37، طبقات الحفاظ للسيوطي: 7.‏

14-محاضرات الأستاذ أحمد راتب النفّاخ في (علم القراءات) على طلبة الدراسات العليا في العام الدراسي 1978-1979م في جامعة دمشق.‏

15-الاسراء: 106.‏

16-تفسير الطبري: 15/178 ح.‏

17-الكهف: 96.‏

18-يوسف: 93. تفسير الطبري: 16/25 ح، ويُنْظَر: الحجة في القراءات السبع، لابن خالويه /232 تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، بيروت مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة 1410ه‍- 1990م.‏

19-براوية ابن حسنون المقرئ (ت 386ه‍) باسناده إلى ابن عباس، حققه الدكتور صلاح الدين المنجِّد، وطبعه في بيروت عام 1972م.‏

20-ما روي عن ابن عباس في تفسيره يدل على أنه كان يذهب إلى القول بوجود ألفاظ غير عربية في القرآن جاءته أخذاً واستعارة ولكن ما جاء هنا يدل على أن هذه الألفاظ عربية وافقت ألفاظ أجناس الأمم الأخرى، وربما التبس مذهبه على ابن حسنون. يُنْظَر: المعجم العربي نشأته وتطوره: 1/73 ونزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر: 43.‏

21-البقرة: 180.‏

22-الأنعام: 125.‏

23-الذرايات: 39.‏

24-البلد: 14.‏

25-اللغات في القرآن: 24،29،44،52. ونزهة الأعين الناظرة في علم الوجوه والنظائر: 43-44.‏

26-الفهرست: 38، المعجم العربي نشأته وتطوره: 1/75. ونزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر: 43.‏

27-الاتقان في علوم القرآن: 1/142 (النوع التاسع والثلاثون). والأشباه والنظائر للثعالبي (مقدمة المحقق): 11.‏

28-حققه الدكتور عبد الله شحاته، طبعه عام 1975 م بالقاهرة.‏

29-كان من الأظنَّاء المهتمين، ينسب إليه القول بالتجسيم.‏

30-الأشباه والنظائر، لمقاتل بن سليمان: 226-228.‏

31-حقَّقه العلاَّمة عبد العزيز الميمني، وطبعته المطبعة السلفية بالقاهرة عام 1350ه‍.‏

32-ما اتفق لفظه واختلف معناه للمبرّد: 2.‏

33-البقرة: 78.‏

34-البقرة: 46.‏

35-ما اتفق لفظه واختلف معناه للمبرّد: 2،8.‏

36-البيان والتبين للجاحظ: 1/58.‏

37-طبقات الفقهاء للشيرازي: 49.‏

38-ما زال مخطوطاً.‏

39-شفاء الصدور (مخطوط) لأبي بكر النقاش، نسخة مكتبة جستربيتي المصورة: ق/21، 22 عن نزهة الأعين النواظر: 40.‏

40- الفاضل في اللغة والأدب، للمبرَّد: 10.‏

41- الفهرست: 36.‏

42- الاتقالن في علوم القرآن: 36- ص 115.‏

43-مذاهب التفسير الإسلامي: 96- 98.‏

44-وقد جُمعَت تلك الأسئلة وأجوبتها في كتاب مستقل بعنوان (سؤالات نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن عباس)، نشره الدكتور إبراهيم السامرائي، ببغداد سنة 1968م.‏

45- النازعات: 14.‏

46- ديوان أمية بن أبي الصلت: 475 تحقيق أستاذنا الدكتور عبد الحفيظ السلطي، ط3، دمشق 1977م.‏

47-سؤالات نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن عباس: 22، 27، ويُنْظَر الفاضل في اللغة والأدب: 10.‏

48-تفسير الطبري: 1/129 ش.‏

49-هود: 46.‏

50_معاني القرآن: 2/17 للفرّاء.‏

51-الفاتحة: 5.‏

52-تفسير الطبري: 1/160.‏

53- الرعد 31.‏

54- الأنبياء: 17.‏

55- الفتح: 12.‏

56-معاني القرآن، للفرّاء: 2/64،200، 3/66.‏

57-المدَّثِّر: 50-51.‏

58-تفسير الطبري: 29/169 ح قيل لعكرمة: القسورة الأسد بلسان الحبشة. فقال:‏

القسورة الرماة، والأسد بلسان الحبشة: عنبسة: (المرجع نفسه).‏

59-هود: 82 والفيل: 4.‏

60- تفسير الطبري: 14/94، 30/299 ح.‏

61-يس: 1.‏

62-يشير إلى الآية 6 من سورة المزَّمِّل: (إنَّ نَاشِئة الليَّلِ هي أشَدّ وَطئاً وَأقْوَمُ قيِْلاً).‏

63-تفسير الطبري: 1/13-14 ش، 22/148 ح.‏

64-البقرة: 260.‏

65-طه: 1.‏

66-تفسير الطبري: 5/502، 16/135ح.‏

67-جمهرة اللغة لابن دريد: 1/314.‏

68-يُنْظَر على سبيل المثال/ معاني القرآن للفرّاء: 1/38، 75، 78، 85، 114، 153، 173- 147.‏

2/17، 64، 200، 3/66، 77، 98، 129، 191، 204، 210، 228، 231، 232، 240، 252، 260، 263، 266، 275، 276، 280، 284، 295، ... وكثير غيرها.‏

69-فصول في فقه العربية: 110.‏

70-استخراج تفسير ابن زيد من تفسير الطبري، يعطينا صور واضحة عن الأصل المفقود ويقوم مقامه، ويمثل مرحلة من مراحل التفسير اللغوي، كما يُعَدّ مصدراً من مصادر كتب معاني القرآن ومجازه.‏

71-الحاقة: 35.‏

72-تفسير الطبري: 29/65 ح.‏

73-الصاقات: 10.‏

74-تفسير الطبري: 23/41 ح.‏

75-الزُّمَر: 17.‏

76-تفسير الطبري:23/206 ح.‏

77-القمر: 15.‏

78-تفسير الطبري: 27/96 ح. المعنى: مذتكر، وإذا قلت: مفتعل فيما أوله ذال صارت الذال وتاء الافتعال دالاً مشددة. وبعض بني أسد يقولون: مذَّكر فيغلبّون الذال فتصير ذالاً مشددة. (معاني القرآن 3/107 للفرّاء).‏

79-نوح: 22.‏

80-تفسير الطبري: 29/98 ح.‏

81-الجن: 14.‏

82-تفسير الطبري 29/113 ح قال أبو عبيدة: المقسط وهو العادل، والقاسط الجائر، دون أن يذكر الشاهد (مجاز القرآن: 1/90).‏

83-عبس: 40-41.‏

84-تفسير الطبري: 30/63 ح.‏

85-العاديات: 8.‏

86-آل عمران: 174.‏

87-تفسير الطبري: 30/235، 279.‏

88-البقرة: 63.‏

89-تفسير الطبري: 2/158 ش.‏

90-دراسات في اللغة، للدكتور مسعود بوبو: 99- 100 وينظر/ أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج:‏

307-308.‏

***‏

مصادر البحث ومراجعه:‏

-الاتقان في علوم القرآن، السيوطي، المطبعة الأزهرية، القاهرة- 1318ه‍.‏

-أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج، د. مسعود بوبو، وزارة الثقافة، دمشق 1982م.‏

-الأشباه والنظائر في الألفاظ القرآنية، للثعالبي، ح محمد المصري، سعد الدين للطباعة والنشر، ط1، دمشق بيروت، القاهرة 1404ه‍- 1984م.‏

-الأشباه والنظائر في القرآن الكريم، مقاتل بن سليمان، دراسة وتحقيق عبد الله محمود شحاته- الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة- 1975م.‏

-البحث اللغوي عند العرب، د. أحمد مختار عمر، دار المعارف بمصر- 1971م.‏

-البيان والتبيين، للجاحظ، ح، عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي- القاهرة.‏

-تاريخ الفلسفة في الإسلام، دي بور، ترجمة عبد الهادي أبو ريدة- لجنة التأليف والترجمة والنشر- 1938م.‏

-التطور اللغوي التاريخي، د. إبراهيم السامرائي، ط2، دار الأندلس، 1401ه‍- 1981م.‏

-التطور اللغوي، د. رمضان عبد التواب، ط1، مكتبة الخانجي بالقاهرة- 1983م.‏

-تفسير الطبري: (جامع البيان عن تأويل القرآن) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، حقَّقه وعلَّق حواشيه:‏

محمود محمد شاكر- راجعه وخرَّج أحاديثه: أحمد محمد شاكر، دار المعارف بمصر 1955- 1969م (طُبِعَ منه 16 جزءاً)، وهي المقصودة بالرمز (ش).‏

-تفسير الطبري: (جامع البيان عن تأويل أي القرآن) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ط2، شركة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1954- 1958م، وهي المقصودة بالرمز (ح).‏

-تقريب النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، ح ابراهيم عطوة عوض، شركة مصطفى الحلبي وأولاده بمصر، ط1- 1381ه‍- 1961م.‏

-تهذيب اللغة، للأزهري، ح عبد السلام هارون، راجعه محمد علي النجار، المؤسسة المصرية العامة للتأليف- 1384ه‍- 1964م.‏

-الحجة في القراءات السبع، لابن خالويه، ح عبد العالم سالم مكرم، ط5، مؤسسة الرسالة- بيروت، 1410ه‍- 1990م.‏

-دراسات في اللغة، د. مسعود بوبو، جامعة دمشق، 1983- 1984م.‏

-ديوان أمية بن أبي الصلت، جمع وتحقيق ودراسة، صنعه د. عبد الحفيظ السطلي، توزيع مكتبة أطلس بدمشق 1974م.‏

-رواية اللغة، د. عبد الحميد الشلقاني، دار المعارف بمصر- 1971م.‏

-سؤالات نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن عباس، نشره. د. ابراهيم السامرائي، بغداد 1968م.‏

-طبقات الحفَّاظ، للسيوطي، ح علي محمد عمر، ط1- 1973م.‏

-طبقات الفقهاء للشيرازي، ح إحسان عباس، بيروت- 1970م.‏

-الفاضل في اللغة والأدب، للمبرّد، ح عبد العزيز الميمني، دار الكتب المصرية- 1955م.‏

-فصول في فقه العربية، د. رمضان عبد التواب، ط2، مكتبة الخانجي، القاهرة- 1983م.‏

-فقه اللغة في الكتب العربية، د. عبده الراجحي، دار النهضة العربية، بيروت 1979م.‏

-الفهرست، لابن النديم، ح رضا- تجدد، طهران 1391ه‍- 1971م.‏

-في أصول النحو العربي- سعيد الأفغاني، ط3، مطبعة جامعة دمشق- 1964م.‏

-كتاب الدلائل في غريب الحديث، للسرقسطي، دراسة د. شاكر الفحام، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق- 1396ه‍- 1976م.‏

-كتاب اللغات في القرآن لابن عباس، رواية ابن حسنون، ح د. صلاح الدين المنجَّد، بيروت- 1972م.‏

-المجاز والنقل في اللغة العربية، محمد جمال القباني، رسالة ماجستير (على الآلة الكاتبة) جامعة دمشق- 1411ه‍- 1991م.‏

-المدخل إلى دراسة النحو العربي على ضوء اللغات السامية، عبد المجيد عابدين، ط1، مصر- 1951م.‏

-مذاهب التفسير الاسلامي، جولد تسيهر، ترجمة عبد الحليم النجار، مطبعة السنَّة المحمديَّة، مصر- 1374ه‍- 1955م.‏

-مصادر التراث العربي، د. عمر دقاق، مكتبة دار الشرق، بيروت (بلا تاريخ).‏

-معاني القرآن، أبو زكريا الفرّاء، ط2، عالم الكتب، بيروت- 1980م.‏

-معجم الأدباء، ياقوت الحموي، مطبوعات دار المأمون بمصر (بلا تاريخ).‏

-المعجم العربي نشأته وتطوره، د. حسين نصار، ط2، دار مصر للطباعة- 1968م.‏

-نزهة الأعين النواظر في علوم الوجوه والنظائر، لابن الجوزي، دراسة وتحقيق محمد عبد الكريم الراضي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1404ه‍- 1984م.‏
-----------
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 66 - السنة 17 - كانون الثاني "يناير" 1997 - شعبان 1417
http://awu-dam.org/trath/66/turath66-002.htm

Air Jordan 1 Retro High OG "First Class Flight" White/Dynamic Yellow-Black

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: