معلم اللغة العربية بين تدريس ما يعتقده وتدريس ما يحتاجه الطالب

ملخص:

عنوان الورقة: معلم اللغة بين تدريس ما يعتقده وتدريس ما يحتاجه الطالب

حاجات طالب العربية في عصرنا تختلف عن حاجاته في العصور الخالية؛ فطالب العربية فيما مضى يطلبها لواحدٍ أو أكثر من الأهداف الآتية:

1- دراسة النحو من أجل توظيفه في فهم وتحليل النصوص الشرعية والأدبية.

2- مجاراة أهل العلم، والبَجَحِ بأن من يتكلّم لديه إلمامة، أو معرفةٍ بشيءٍ منه.

3- مماراة للجهلة ومفاخرة لمن ينقصهم هذا العلم.

4- من باب المكمِّلات الشخصية من ضرورة معرفة الشخص بشيءٍ من العربية.

5- التسلية بطرح الألغاز, وحلِّها.

ولم يكن عمل الطلاب ودرسهم أكثر من قراءة كتاب بل متنٍ من متون النحو، من أوّله إلى آخره، يتحفّظ مسائله، ويحاجي بمشكلها، ويبجح بحلّ ألغازها، وفكِّ رموزها، فإذا انتهى من متنٍ شرع في متنٍ آخر، أو انتقل إلى شرحٍ من شروحه، حتّى يمرَّ على مجموعةٍ من متون النحو وشروحها، وحواشيها، لا تختلف عن بعضها إلا بالحجم، وصياغة القاعدة، واختلاف العبارة وضوحًا وسهولة، واختصارًا وبسطًا.

وهذه الأهداف لا تخرج عن التحصيل المعرفي المنضبط بالقواعد، المؤيَّد بالشواهد، المحرر العبارة، غير أنه يفتقر إلى التمهير، والتطبيق، والممارسة لما تحفَّظه من القواعد، وألمّ به من المسائل، قراءة، وإلقاءً، وإنشادًا، وكتابةً؛ فهو عارف بالقواعد، عاجز عن تطبيقها، فضلا عن عجزه عن تحليل الخطاب، وتفكيك النصوص، وتذوُّق أعمال المبدعين، والتمييز بينها.

وما يجري الآن في قاعات تعليم اللغة العربية وفصول دراستها، ليس من هذا  ببعيدٍ، يلتحق الطالب مثلا بقسم اللغة العربية؛ ليجد نفسه في إعصار من قراءة كتب العربية على هذا،  فهو يتنقّل من مستوًى إلى مستوًى، فينتقل من موضوع إلى موضوع في مستوًى واحد، وأهداف واحدة، فكل ما تغيّر هو الموضوع، وأمّا الأهداف فهي مختزلة في جانبها المعرفي من حفظ القاعدة، والقدرة على تذكُّرها، والقدرة على فهم عبارة الكتاب المقرّر، لدى أمثل الطلاب طريقة، دون تطبيقٍ أو ممارسة، أو عناية بمهارات، أو استجابة لمتطلبات العصر؛ فالدرس امتداد لماضٍ، وصورة متكرِّرة، في بيئةٍ تختلف عن الماضي في أهدافها، وحياتها، واتصالها، وطرائق الاتصال، ومدى تغلغل الجوانب الكلامية في الحياة على ما سيأتي بيانه في الورقة، إن شاء الله.

وأودُّ من خلال هذه الورقة طرح أمورٍ على أساطين العربية، وأسئلة عن أهداف مقررات العربية خاصة النحو: المعرفية، والمهارية، ووسائل تعليمهما الطالب، وتكوينها لديه، وكيف يقيسون مدى تحقّقها في الطالب، وقدرته على تمثُّلها. وقد فرضت حياة العصر نوعين من المهارات: نوعًا يشترك فيه طلاب العربية مع غيرهم, ونوعًا يخصهم دون غيرهم.

---------------

العربية تدرس قديمًا وحديثًا, فهل يتساوى درسها في الزمنين: الحاضر والغابر؟ بل كيف كان يجري درس العربية في تاريخنا؟ وما أهداف طلابه؟ وكيف يجري درسها في العصر؟ ثمّ إنه إن كان ثمّت خلاف, فما هذا الخلاف؟ وهل يتمثّل باختلاف الوسيلة؟ أم باختلاف المادة والمحتوى؟ وهل ثمّت خلاف في الأهداف والمقاصد؟. وهل الاختلاف في شيء ممّا ذُكِر موجب لاختلافاتٍ أخرى؟

من الواضح أن أهدافهم في السابق لا تتجاوز خمسة:

• دراسة النحو، وعلوم اللغة الأخرى من أجل توظيفه في فهم وتحليل النصوص الشرعية والأدبية من إعراب، وقراءة صحيحة، وتخريج لما يشكل إعرابه، أو معناه،  وتوجيه ما يمكن توجيهه.

• دراستها من باب مجاراة أهل العلم، والبَجَحِ بأن من يتكلّم لديه إلمامة، أو معرفةٍ بشيءٍ منها، كما هو حال كثيرٍ من أبناء الزعماء والقادة والولاة والخلفاء والأمراء حين يتّخذون لأبنائهم من يؤدِّبهم.

• دراستها مماراةً للجهلة ومفاخرة لمن تنقصهم هذه العلوم، ولا يحيطون بها، فيظهر نفسه في المجالس أنّه عالم بالنحو ملمٌّ بالعربية، عارف بشيءٍ من آدابها، وليرفع عنه الصفة المعاشية من تجارة أو فلاحة، أو صناعة، أو حرفة أخرى.

• دراستها من باب المكمِّلات الشخصية من ضرورة معرفة الشخص بشيءٍ من العربية، أو أداءً لما يفرضه نظام الحياة، والأعراف الاجتماعية، أو يقتضيه نظام التعليم، ومتطلبات الانخراط في طلابه.

• التسلية بطرح الألغاز, والمحاجاة, وهي بضاعة راجت في العصور الماضية, وأُلِّفت فيها بعض التصانيف، وتشاغل بها من لا شأن له بتطوير درس العربية. 

ولم يكن عمل الطلاب ودرسهم أكثر من قراءة كتاب بل متنٍ من متون النحو، من أوّله إلى آخره، يتحفّظ مسائله، ويحاجي بمشكلها، ويبجح بحلّ ألغازها، وفكِّ رموزها، فإذا انتهى من متنٍ شرع في متنٍ آخر، أو انتقل إلى شرحٍ من شروحه، حتّى يمرَّ على مجموعةٍ من متون النحو وشروحها، وحواشيها، لا تختلف عن بعضها إلا بالحجم، وصياغة القاعدة، واختلاف العبارة وضوحًا وسهولة، واختصارًا وبسطًا. هذا من ناحيةٍ ومن ناحيةٍ أخرى، يقدِّم معلِّمو اللغة العربية لطلّابهم ما تعلّموه، ويسعون إلى تخريج جيلٍ يسير على خطاهم, وفق نمطٍ يناسبهم, ولا يخالف إعداد معلِّميهم.

وهذه الأهداف لا تخرج عن التحصيل المعرفي المنضبط بالقواعد، المؤيَّد بالشواهد، المحرر العبارة، غير أنه يفتقر إلى التمهير، والتطبيق، والممارسة لما تحفَّظه من القواعد، وألمّ به من المسائل، قراءة، وإلقاءً، وإنشادًا، وكتابةً؛ فهو عارف بالقواعد، عاجز عن تطبيقها، فضلا عن عجزه عن تحليل الخطاب، وتفكيك النصوص، وتذوُّق أعمال المبدعين، والتمييز بينها.

وما يجري الآن في قاعات تعليم اللغة العربية وفصول دراستها، ليس من هذا  ببعيدٍ، يلتحق الطالب مثلا بقسم اللغة العربية؛ ليجد نفسه في إعصار من قراءة كتب العربية على هذا،  فهو يتنقّل من مستوًى إلى مستوًى، فينتقل من موضوع إلى موضوع في مستوًى واحد، وأهداف واحدة، فكل ما تغيّر هو الموضوع، وأمّا الأهداف فهي مختزلة في جانبها المعرفي من حفظ القاعدة، والقدرة على تذكُّرها، والقدرة على فهم عبارة الكتاب المقرّر، لدى أمثل الطلاب طريقة، دون تطبيقٍ أو ممارسة، أو عناية بمهارات، أو استجابة لمتطلبات العصر؛ فالدرس امتداد لماضٍ، وصورة متكرِّرة، في بيئةٍ تختلف عن الماضي في أهدافها، وحياتها، واتصالها، وطرائق الاتصال، ومدى تغلغل الجوانب الكلامية في الحياة على ما سيأتينا، إن شاء الله.

وأودُّ هنا طرح أمورٍ على أساطين العربية، وأسئلة عن أهداف مقرر النحو: المعرفية، والمهارية، ووسائل تعليمهما الطالب، وتكوينها لديه، وكيف يقيسون مدى تحقّقها في الطالب، وقدرته على تمثُّلها.

وقد حكى نحوًا من هذه الصورة عبد الله ربيع ، في مقالٍ له بعنوان "من مشكلاتنا الصوتيّة في نطق العربية الفصحى وتعليمها" نشره في مجلّة كليّة اللغة العربية العدد الثامن 1398هـ 1978م.

وهل يقوم درس العربية في جامعاتنا على تخطيط؟ أنالا أريد فرض إجابة، ولكن أريد أن أعرض الآتي:

في أقسام اللغة العربية يكاد الإجماع يقع على أن يدرس الطالب كتابًا نصّيًّا من كتب النحو التراثي، بقسم الكتاب على مستوياتٍ يأخذ في كلِّ مستوًى جزءًا منه، مع حذف ما يراه القسم أو الأساتذة عسير الفهم على الطلاب، وهذه القراءة الغاية منها حفظ قواعد النحو، وشواهد الاستثناءات والشواذّ وما خرج على المطرد, من دون أن يصحب ذلك غالبًا لا ممارسة ولا تطبيق، ثمّ يمتحن الطالب بـ" اذكر أوجه كذا، أو شروط كذا، أو أدوات كذا، أو معاني حرفٍ من الحروف، أو اذكر الشاهد، أو عيِّن موضع الاستشهاد، ووجهه، وإعراب ما جرى إعرابه في الدروس، وتحفّظه الطالب بوعيٍ أو بدونه، بتذوُّقٍ أو بدونه, أو اذكر الخلاف وأدلّة كل فريق، أو مثِّل لما يأتي".

وقد لامس هذا الوضع رمضان عبد التواب بقوله"ولعلّ السبب في ذلك (ضعف الخريجين في اللغة العربية) يرجع بعضه إلى اعتقاد الكثيرين منا, بأن في تعليم قواعد اللغة تعليمًا للغة, وتفكيرنا في الأمر على هذا النحو, كتفكير من يعلِّم قواعد العروض، لكي ينشئ شاعرًا، أو كتفكير من يحفظ صفحتين في قواعد قيادة السيارات, ثمّ يظنّ أنّه بهذا الحفظ وحده, قد أصبح سائقًا ماهرًا, فإن اهتمامنا بتعليم القواعد النحويّة, في مرحلة مبكرة من حياة الطفل, جعلنا نظنّ أن مقياس إجادة اللغة هو البراعة في حفظ المصطلحات النحويّة, والتفنُّن في عدِّ مسوِّغات الابتداء بالنكرة, ومجيء الحال معرفة, وأحوال الصفة المشبّهة, وما إلى ذلك. وكل هذه الأمور وأمثالها، يردِّدها التلميذ، في هذه السنِّ المبكِّرة بلا وعيٍ، ثمّ ينساها عقب الفراغ، ولا يبقى في ذهنه منها إلا التندُّر على صعوبة اللغة العربية وما لاقاه في تعلّمها من عنتٍ ومشقّة"[فصول في فقه العربية/مكتبة الخانجي ص420]

وحتّى لا أكون متجنِّيًا فيما أقول أرغب لمن لديه غير ما أعلم أن يفيدني بذلك، فلعلّ في الميدان ما لا أعلمه؛ إذ كلّ ما أقوله من تجربة وممارسة، وتصوّرات كوّنتها من خلال عملي، ومن خلال اطلاعي على الخطط الدراسية في أقسام اللغة العربية المختلفة، ومن خلال الخلطة بالطلاب والأساتذة.

وليس الأمر واقفًا عند هذا الحدِّ ؛ فالنمط التعليمي في الغالب واحد، غير قابل للتنوّع والتعدّد بحسب الغاية والمقاصد والأهداف، ولا بحسب الفئات التي تقدّم لهم هذه البرامج، فالكل يدرس مقرّرًا واحدًا، ومنهجًا واحدًا ، لتحقيق أهداف واحدة ، وإن وجد اختلاف فالاختلاف في الكمية ، والاختيار، وصُنِّفَ لمتعلّم واحد، غير متنوِّع وغير متعدِّد، وليس لديهم اعتبار لمن يدرس اللغة لأغراضٍ خاصّة، وليس في حسابهم من يحتاج إليها وسيلة اتصال حيويّة, أو مؤقّتةٍ، وليس لديهم من يقصد إلى مهاراتها، ولا يهمّه التزيّد من معارفها وقواعدها.....إلخ. بغضّ النظر عمّن يتكلّم اللغة.

فهناك فئاتٌ تستخدم اللغة كالباحثين، والمترجمين، والتربويين والإعلاميين، والمشتغلين بالحاسب الآلي وميكنة اللغة أو المعالجة الآلية للغة، والطلاب، ولها أهداف ومقاصد خاصة، ولا بدّ من مراعاتها والاستجابة لها، ولا يجوز لأهل اللغة أن يستمسكوا بطريقتهم الوحيدة في الدرس اللغوي ، كما يجري عليه العمل في درس اللغة التقليدي، والتعليم الناجح هو الذي يراعي فئات المستفيدين، وتنوّع تلك الفئات، وأهدافها الخاصة.

من أبرز ملامح مشهد الدرس اللغويّ غياب الهدف عن الأستاذ، وأول أسباب النجاح وضوح الأهداف، وواقعيّتها، وقابليّتها للقياس، ومن أول معايير الجودة وضوح الهدف. والتفريق بين من يطلب المعرفة اللغوية، وبين من يطلب المهارات اللغوية، وتنوع الدرس حسب الفئات؛ فالدرس عند معظم معلمي العربية وأساتذتها واحد ، وفي الغالب يعتمد قراءة نصّ تراثيّ ، أو إذا أحسنّا الظنّ شرح نصٍّ تراثيّ، وهذا على الرغم من جلالته وقيمته ليس بالضرورة صالحًا لجميع الفئات التي تدرس العربية. وهي أهداف تصغر لو قرِنت بأهداف التربية في العصر الحديث, وهي أربعة: ((تعلّم لتعرف، تعلّم لتعمل، تعلّم لتكون، تعلّم لتشارك الآخرين)). (الثقافة العربية وعصر المعلومات /نبيل علي/ عالم المعرفة (265) ص307)

******

لا أريد أن أتحدّث عن مكانة المعلِّم وهيبته في السابق, وكونه قدوةً يقتدى به, فهذا من المسلّمات, ومن اللائق بالمعلِّم، ومن واجباته, ومن واجبات المجتمع نحو المعلِّم, وهي قيمٌ معتبرة في جميع المجتمعات البشريّة، حتّى قال شوقيٌّ:

قُم لِلمُعَلِّمِ       وَفِّهِ         التَّبْجِيلا            كادَ     المُعَلِّمُ أَن يَكونَ  رَسولا

أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي          يَبني  وَيُنشِئُ  أَنفُسًا    وَعُقولا

سُبحانَكَ  اللَهُمَّ    خَيرَ       مُعَلِّمٍ            عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ   الأولى

المعلِّم في الماضي ملقِّنٌ, وتلميذه متلقِّنٌ, على المعلِّم أن يتكلّم, وعلى التلميذ أن يستمع, أو يسمع على الأقلِّ, التلميذ حاجاته محدودة, وتطلّعاته محصورة بأن يعرف القراءة والكتابة, ويلمّ بمبادئ الحساب, وما يحتاج إليه في حياته اليومية, بحسب ما يقتضيه ما يعدّ له من عمل, ثمّ بعد ذلك ينخرط في مهنة والده ((صنعة أبوك لا يغلبوك)). و((ولد الوزِّ عوّام)). قصارى أمر  المتعلِّم أن ينخرط في مهنة والده بعد بلوغه، إن كان الأب فلّاحًا فمصير الابن الفلاحة، فهو فلاح بالوراثة, وإن كان تاجرًا اشتغل بالتجارة, وإن كان حدّادًا اشتغل بالحدادة, وإن كان صائغًا انخرط في الصياغة, وإن كان خيّاطًا صار الابن خيّاطًا، وهلمّ جرًّا في سائر المهن, يتوارثها الأبناء عن الآباء, ويتلقّاها اللاحق عن السابق, كان هذا هو السائد إلى وقتٍ قريبٍ؛ فالمهن تتوارث, والتعليم لا يقصد منه غير الإعداد الأوّليّ بما يساعد على ممارسة هذه المهن, والغايات وراء هذه مغيّبة أو غائبة, والعلم باللغة أو بشيءٍ منها ينطبق عليه ما ذُكِر، فطالب علوم اللغة سواء كانت نحوًا، أو أدبًا، أو بلاغة, إنما يطلبها؛ لأنّها تكمل تكوينه, أو تعطيه شيئًا  من الوجاهة, أو تعطيه مقعدًا مرموقًا في المجالس أو صدرها, وتتيح له أن يشارك بها في الإلغاز والمحاجاة، وطرح النوادر والغرائب، ومباهاة الجهلة, ومزاحمة أهل العلم, على نحوٍ مما أسلفنا.

في حين أن تلميذ معلِّم العربية في هذا العصر قد يعمل أعمالًا مختلفة متنوِّعة تنوُّع أنشطة الحياة, فقد يكون عاملًا على قدر من المهارة,أو يكون طبيبًا, ويحتاج إلى اللغة لتحقيق تواصل جيِّد مع زائريه ومستشاريه, وطالبي استشارته ونصحه ودوائه, ومرتادي عيادته ومشفاه, ودور اللغة في هذا المقام واضح، ولا سيّما حين يكون الطبيب نفسيًّا, وكم من طبيب تسلّل إلى قلب مريضه من خلال لغته, ومنطقه، وأسلوبه, وبيانه، وتصرّفه في المادّة اللغويّة, وحسن التوظيف للبيان.

وقد يكون سياسيًّا, وحاجته للغة أمر ظاهر, بل قد يكون السياسي من أكثر الناس حاجةً إليها، فهو يموِّه على الجمهور, ويخادع من يتعامل معهم، وفي سبيل هذا يتلعّب باللغة, ويستطيع بها أن يتخلّص من كثيرٍ من المآزق, وأن يخفيَ بعض المآخذ في سياسته, ويظهر سياسته بالمظهر المناسب الملائم, الذي يحقّق للجماهير رغبتها، وهي في حقيقتها ليست كذلك, كل ما يعمله هو توظيف اللغة بما يخدم أغراضه السياسية, وأهدافه المرحلية, ووصوليته التي ترمقها عينه, ويحاول حجبها عن مسامع الآخرين.

وقد يكون رئيس مجموعة أو رئيس شركة أو منشطٍ ما, له مجلس إدارة، يتبوّأ قيادته, وهنا تأتي أهمّيّة اللغة, وتصرّفه فيها, حين يدير اللقاء أو الجلسة, وحين يعدُّ التقرير, وحين يرغب في تسويق منتجاته, وحين يرغب في تحسين صورتها, ومخاطبة الجهات أو الأفراد المستفيدين من هذه النواتج.

وقد ينخرط في أيِّ نشاطٍ في الحياة يتطلّب انفتاحه على البيئة المحيطة, واختلاطه ببشرٍ مثله, وكل هذا منوطٌ بقدرته البيانية, وبمهاراته اللغويّة.

وقد يكون رجل قانون يتعيَّن عليه أن يتعامل مع اللغة بطريقةٍ خاصّةٍ معبِّرة، توصل المعنى بدقّة، غير ملتبسٍ, ولا محتمل، إلا أن يكون ذلك مقصده.

كلّ هذه الأنماط تتطلّب تعليمًا خاصًّا, وإعدادًا لغويًّا مناسبًا، فهل فكّر أهل اللغة وعلماؤها فيما يجب فعله في مثل هذه البيئات، من أجل إعداد عناصر قادرة على أن تعيش معها، ومن أجل إعداد برامج لغويّة مناسبة لإعداد هذه العناصر.

المعلّم في الماضي ملقِّن, وتلميذه متلقِّن, على المعلّم أن يتكلّم وعلى التلميذ أن يستمع, أو أن يسمع على الأقلِّ,  غير أنّ دور المعلِّم في عصرنا  قد اختلف؛ إذْ عقد العصر الحديث بين اللغة والتربية زواجًا موثَّقًا، وصار بينهما لحمة لا تنفصل؛ إذ تعنى التربية بالسلوك الإنساني ومهاراته؛ واللغة سواء كانت شفهيّة, أو مكتوبة، لها مهارات من أهمِّ المهارات التي لا يستغني عنها إنسان، وعجزه فيها قصور ونقص، فباللغة يظهر إبداعاته، وتميُّزه، ويعبّر عن مشاعره وعواطفه، ويبين عن أفكاره وعلمه, ويصل إلى الآخرين, ويتفاهم مع شركائه في الحياة، وبها تعرف قيمته ومكانته, وهي سلوك يتّخذ أنماطًا متعدِّدة, ولكلِّ نمطٍ توجّهاته، وضوابطه, وقيمه, ولطالما تبارى البشر في لغاتهم، وإنجازاتهم بها، ولطالما وظّفوها في نتاجهم الإبداعي. وبين التربية في العصر الحديث واللغة مواضع التقاء، يصوِّرها ((الشكل التالي، المنقول من [الثقافة العربية ص324] عبر مسالك عدّة:

abusafwan

ولنا أن نلمَّ بشرحٍ مبسَّطٍ لهذه الأربعة يناسب مقامنا, فنقول:

اللغة أداة التفكير، فليست وسيلة اتصالٍ فقط, وإن كانت هذه وظيفتها الأساسيّة، التي يشترك فيها جميع مستخدميها؛ فهي أداة بيد مستعملها؛ إذْ يمكنه أن يجعل منها أداة تبين عن الحقيقة, أو أداة تضليل وتعمية، كلُّ هذا ممكن, ووظيفةٌ للغة, ويوضِّح هذه العلاقة ما في كتاب [الثقافة العربية ص325] ((تمثِّل علاقة اللغة بالتفكير مثالا كلاسيكيا لمعضلة »الدجاجة والبيضة « فما أن يتحدث المرء عن التفكير حتى يجد نفسه يفكر في قدرة الإنسان على استخدام اللغة؛ إن اللغة هي أداة التحليل المنطقي، وأداة حل المشاكل، وأداة التجريد وتقطير المفاهيم، وأداة تنظيم الذاكرة البشرية، وكل هذه أمور ذات صلة وثيقة بغايات التربية الأربع.((

وأمّا كون اللغة أداة للإبداع ؛ فلأنّها ((وسيلة البشر لممارسة الإبداع على مدار حياتهم اليومية, فهي لا تتوقف عن ابتكار العبارات الجديدة والتوسع في استخدام الألفاظ واستحداث التكنيكيات اللغوية لأغراض الإقناع أو التهرب أو التمويه وخلافه، نحن نبدع لغويا لكي »نتعلم لنعمل« فالعمل  في عصر المعلومات يعني العمل المبدع، والعمل المبدع يتوقف بدوره على قدرة صانعه على التواصل مع الآخرين. ونحن نبدع لغويا لكي »نتعلم لنكون« فلكي نكون لابد لنا أن نبدع لغويًّا، حتى نثبت تميزنا وتفردنا،  واللغة من أهم وسائل التميز. ونحن نبدع لغويا لكي »نتعلم لنعرف « فمعرفة عصر المعلومات لا تعد تحصيلا بل انتقاء واستخلاصا وتوظيفا، وكلها أمور ذات صلة وثيقة باللغة.  ونحن نبدع لغويا لكي »نشارك الآخرين «نقاسمهم الحوار، ونتذوق آدابهم، و مزج تراث فنونهم بتراثنا، وجميعها أمور وثيقة الصلة باللغة.(([الثقافة العربية ص325]

وأمّا كون اللغة أداة للنمو الذهني فهذا من البدهيات التي يتعسَّر شرحها، وهو أمر واضح بالعودة إلى مراحل النموِّ الأولى؛  إذْ ((يعتبر النمو الذهني وتطور مراحله من القضايا التربوية الأساسية،  خاصة فيما يخص تربية الصغار، ويعد اكتساب الطفل للغة الأم مدخلا مهمًّا لعلم المعرفة، حيث يكشف الآليات الأساسية لاكتساب المعرفة الرمزية، وستظل اللغة  دوما  أمضى الوسائل لتنمية  القدرات الذهنية )). [الثقافة العربية ص325].

اللغة أداة لتحليل الخطاب) النصوص) ؛ إذ يستطيع محلِّل النص اللغويّ على اختلافها توظيف اللغة في أنواع من التحليل من لساني، وبنيوي، وتفكيكي، وسيمائي، وأسلوبي، ومنطقي، وإحصائي, وغيرها، مما هو معروف الآن, وما يمكن أن يعرف في المستقبل, كما يمكن توظيف التحليل في فهم النصوص وتوجيهها, وإقامة الجدل العلمي المبني على دلالة الألفاظ, ودور اللغة في هذا التحليل واضح، بل الأمر يتجاوز هذا؛ إذْ هي أكثر أنساق الرموز استخداما في نقد المادة التعليمية،  علاوة على ذلك تسهم من خلال كونها أداة الأنثروبولوجيا الرمزية في مجال الدراسات الثقافية المقارنة التي تسهم في تحقيق الغاية التربوية الرابعة"تعلّم لتشارك الآخرين". انظر [الثقافة العربية ص325 ص326].

وبعد، فإنّ اللغة كما هي تواصل، هي فكر,  وإبداع، وهي استنباط، وهي إيتكيت، وهي ذوق, وخلق، وهي ضرورة لتسيير كثيرٍ من مناشطنا الاجتماعية والسياسية والإدارية، وهي بعد هذا ضرورة للمبدع، الذي لا بدَّ له من اللغة، في صناعة إبداعه، والتعريف به, وتعرّف إبداعات الآخرين. ومن هنا تأتي أهمّيّتها في حياتنا.

*******

إن الطالب إلى جانب ما ينبغي أن يكوَّن لديه من معارف في تخصّصه, وما يتّصل به، هناك  مهارات عامة، لا بدَّ لطالب العربية وغيرها من اكتسابها, وهي المهارات الإدراكية، ومهارات الاتصال, وما يتّصل بها, وهي مهارات عامّة لابدّ لطالب العربية من اكتسابها ، كسائر الطلاب؛ فالمهارات الإدراكية تتلخّص في الآتي:

1- أن يستطيع القيام بالاستقصاءات.

2- أن يفهم ويقوّم المعلومات والمفاهيم والأدلة الجديدة من مصادر متنوعة.

3-  أن يطبق النتائج على نطاق واسعٍ من القضايا والمشكلات مع قدر بسيط من التوجيه. 

4- أن يستطيع أن يبحث المشكلات المعقدة نسبياً مستخدماً أشكالاً متنوعة من تقنيات المعلومات والمصادر الأخرى.

5- أن يقترح حلولاً مبتكرة لها مع مراعاة المعارف النظرية والخبرات العملية ذات العلاقة وما يترتب على القرارات المتخذة.

6- أن يستطيع تطبيق هذه المهارات والمدركات في سياقات أكاديمية ومهنية متصلة بمجال دراسته.[ينظر الإطار الوطني للمؤهِّلات للتعليم العالي في المملكة العربية السعودية/الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي/ مايو 2009م ص33] 

وأمّا مهارات التعامل مع الآخرين و تحمل المسؤولية، فتتلخَّص في ممارساتٍ, أهمُّها:  

1- الإسهام في الحلول البناءة للقضايا في المواقف الجماعية ، ويعمل على تسهيلها، سواء أكان في مركز قيادي أم كان عضواً في جماعة.

 2- إمكان أن يمارس قيادة الجماعة في مواقف متنوعة تتطلب استجابات مبتكرة. 

3- أن يقوم بالمبادرة في تحديد القضايا التي تتطلب عناية خاصة والتصدي بشكل مناسب لها سواءً أكان ذلك بشكل انفرادي أم من خلال العمل الجماعي.

4- أن يتحمل مسؤولية تعلمه الذاتي ويستطيع أن يحدد ويستخدم وسائل إيجاد المعلومات الجديدة أو أساليب التحليل اللازمة لإنجاز المهام المسندة إليه. .[ينظر الإطار الوطني(مصدر سابق) ص34] 

وهذه كلّها تحتاج إلى اللغة ومهاراتها, وتوظيف البيان, والمهارات الكلامية.

ومهارات التواصل وتقنية المعلومات، والمهارات العددية، تتلخَّص في الممارسات التالية:

1- يمكن أن يحدد الأساليب الإحصائية والرياضية ذات العلاقة عند دراسة القضايا والمشكلات، وأن يطبقها بشكل إبداعي في تفسير المعلومات واقتراح الحلول.

2- يمكن أن يتواصل بفعالية شفهيًّا وكتابيًّا، وأن يختار ويستخدم أشكال العرض المناسبة للقضايا المختلفة وللمتلقين المختلفين.

3- يستخدم بشكل معتاد (روتيني) أكثر تقنيات المعلومات والاتصالات مناسبة في جمع، وتفسير، وإيصال المعلومات والأفكار)). [ينظر الإطار الوطني(مصدر سابق) ص34] ومكان اللغة في هذه الممارسات غير خافٍ.

وهذه المهارات هي مهارات الإعداد العام لممارسة الحياة, يشترك فيها جميع الطلاب, لا يشذّ عنها طلاب فرعٍ من فروع المعرفة، ومكان اللغة ودورها فيها واضح؛ فالمهارات اللغويّة, وهي أربع مهارات رئيسية: القراءة, والكتابة، والإلقاء والإنشاد, والحوار. ولكل مهارة منها مهارات فرعيّة. هذه المهارات ملازمة للمهارات الإدراكية، ومهارات التواصل, والقيادة، وتحمل المسئولية, مما يجعلنا لا نحتاج إلى مزيدٍ من الشرح.

-------------

هذا من ناحية, ومن ناحيةٍ أخرى، نحن في عصرٍ سريع التغيُّر, سريع التحوُّل؛ فالاتصال الذي كان قوامه اللغة المنطوقة، أو الشفويّة, تحوّل ليكون اتّصالًا مكتوبًا, ومن مسلّمات اللغة وبدهيّاتها أن بين اللغتين: المنطوقة والمكتوبة فرقًا كبيرًا, بل فروقًا؛ فالأولى متحرّكة متغيِّرة، والثانية ثابتة.

ويمكن أن نلحظ تغيُّراتِ الاتِّصال أو التواصل في أربعة أمور:

            طبيعة العلاقة بين المرسل والمستقبل.

            تنوّع أشكال الاتصال, وتعدّد أنماطه.

            اتِّساع نطاقه.

            تعدُّد مطالب فاعليّته.

فقد تحوّلت لغة الاتِّصال من لغة منطوقةٍ إلى لغةٍ مكتوبة، عبر وسائط, كالبريد الألكتروني، ومشتقّاته، وما تفرّع عنه، من وسائل المحادثة، وغرف المحادثة, والدردشة. وحلقات النقاش، والمنتديات؛ فلغة المشافهة أو الحوار الشفهي تكون معضَّدةً بالانفعالات، وما يصحبها من أفعالٍ كلاميّة, وغيرها من حركاتٍ باليد، أو إشارة بإصبع، أو غمزة بعين، أو خلجات الشفاه، وتغيير ملامح الوجه، أو أوضاع الجسم والأعضاء, وما فيه من توظيف حركة الجسد, وهذا ليس منه شيء في لغة الكتابة, إلا على سبيل الإخبار عنه، وحكايته.

لم يقف الأمر عند هذا الطور الكتابي, بل انتقل لتواصلٍ أوسع نطاقًا، امتزج فيه المكتوب بالمنطوق والمسموع، وبالمرئيّ من خلال توظيف الرموز المعبّرة, و الصورة ثابتة كانت أم متحرِّكة, وهي تحمل اختصارات، لا أقول اختصارات لجمل، بل اختصارات لمعاني ومواقف، وتعبيرات لها دلالات لغوية, ونفسية.

وتغيّرت أطراف التواصل: المرسل والمستقبل, فلم تعد مقصورة على الإنسان والإنسان, فقد صار التواصل بين الإنسان والآلة، فشاركت الإنسان بيانه، وهو أهمّ خصائصه، وجاذبته أطراف الحديث, وصار الإنسان بإمكانه أن يحادث الآلة، كما كان بإمكانه أن يلاعبها، ويصارعها، ويسابقها، فقامت الآلة مقام الطرف الآخر الذي يتفاعل معه الإنسان, والآلة في هذا النمط من الاتِّصال تحسب، وتجادل, وتناور، وتغازل، وتضاحك، وتلاعب, وتباري، وتتجاوب مع الإنسان, كما يريد، وتقوم مقام الإنسان، فيما كان سابقًا من خصائصه. بل صارت الآلة تنوب عن الإنسان، وتقوم بعمله اللغوي، و بأشرف ما في الإنسان من البيان وما يتّصل به؛ فالآلة تكتب عنه، وتقرأ له، بالصوت الذي يريد ويعجبه, وتترجم بأداءٍ راشد غير ببغائيّ، وقد يفوق الإنسان سرعة, ودقّة. واستطاعت الآلة اختصار المسافات، وإزالة الحواجز اللغويّة, وقضت على مشكلة اختلاف الألسنة واللغات.

وكلّ هذه التغيُّرات توجِب علينا مراجعة كثيرٍ من قيمنا اللغويّة, وعلاقاتنا اللغويّة, والمهارات اللغويّة، وكيفية اكتسابها, والبحث في الأبعاد النفسيّة والاجتماعية لهذا النمط من التواصل. [ينظر في هذا ما كتبه نبيل علي في الثقافة العربية وعصر المعلومات ص234ص235]

إن ما يبحث عنه أبناء هذا العصر ما يتلاءم ومعطياته, وهذه التحوّلات والتغيُّرات, وما يلزم عنها، من حاجات، وما يتجدّد لها من مقاصد وأغراض؛ فطالب العربية يريد مهاراتٍ تخدمه في حياته, ويحتاج إليها في إدارة نشاطه، مثل استيعاب المقروء, وإدراك فكرته الكلية, وجزئيّات هذه الفكرة, وعلاقة التراكيب ببعضها, وعلاقة الأفكار ببعضها, وترتيب الكلام بعضه على بعض, وسرعة القراءة، والمزاوجة بين النصِّ وغيره من الصور والرموز  والنماذج, وتنظيم النص وإخراجه, مما لا يعنى به درس العربية في وضعه المتوارث خلفًا عن سلف.

*******

من يطالع ما كتبه المعنيّون بتعليم العربية قبل عقدين أو ثلاثة يرى طرحًا للموضوع، ومناقشة لآراءٍ لم تعد كافيةً في نقاشه, ولا طرحه, أمام الجدل والإقناع, فحين يتحدّث رمضان عبد التوّاب عن مشكلة تعليم العربية, تلخيصها في ((ضعف مستوى دارسي العربية, ومعالجته بتأليف مقرّراتٍ جديدة, وتغييراتٍ شكليّة في المضمون، أي: المادّة, ثمّ لا يكون لذك ثمرة,وتناول القضيّة من خلال أربعة محاور: لماذا نهتمّ بالفصحى؟ وهل العربية لغة صعبة؟ وانتقاء مدرِّس اللغة العربية وإعداده, والطريق الأمثل لإعداده. فالاهتمام بالعربية الفصحى بتعليمها ودرسها؛ لارتباطها بالقرآن، وهذا لا يعني القضاء على العامّيّات, وهي لغة الحديث اليوميّ قضاءً تامًّا؛ لأنّه خلاف السنن الكونيّة. وكلّ ما يمكن عمله تقريب المسافة بينهما، بالرقيِّ بالعاميّات. وبإمكاننا أن نبدِّد وهم صعوبة العربية بالاقتصار على القواعد الأساسية والكليّة, ومن الممكن اختصارها في صفحات, أو مشجّراتٍ معدودة, وهي عامّة ما يحتاجه طالب العربية من غير المختصِّين بها. ومن العسير القضاء على مشكلة اختيار معلِّمي اللغة من ضعاف الطلاب الذين لا تقبلهم الأقسام التي تؤهِّل خرِّيجيها لوظائف أفضل, وفرص أجود, إضافة إلى ضعف برامج إعداد المعلِّم, وتدريبه وهو على رأس العمل, مع أنها محدودة الفائدة إذا كانت البذرة غير صالحة.

وبيّن أنّ الطريق الأمثل في رأيه تلقِّي اللغة من البيئة, كما يتعلّم الأطفال اللغة من دون حفظ قواعد, بل بطريق نطق الصواب وتكراره أمامه وهو يحاكي ويقلِّد, وقد أرشد إلى طريقٍ يقوم مقام السماع, وهو طريق القراءة للنصوص الأدبية المضبوطة, قديمة وحديثة, وحفظ كثيرٍ منها حتّى تتكوّن الملكة القادرة على محاكاة هذه النصوص. وهي فكرة تتلاقى مع فكرة ابن خلدون في تكوين الملكة اللغويّة, ثمّ أراد استدراك نقصٍ في فكرته, فأشرك وسائل الإعلام المسموعة والمرئيّة, إن وجِدت, في التعويض عن السماع)). [ينظر فصول في فقه العربيةص413ص424]

وكلام رمضان ينقصه أشياء جدّت في حياتنا اللغويّة تتعلّق بالتقنيات, والاتصال, أحدثت تغيّراتٍ كبيرة في اللغة، طبيعتها, وقيمها، ووسائل تقديمها، وتوظيفها. وهو الأمر الذي تتطلّع هذه الورقة أن تلمَّّ.

*******

لدينا فئتان تعلِّمان اللغة:

الأولى:فئة تتصف بالعجز, وعدم القدرة على مجاراة العصر, وهي التي تدرّس ما تعتقده, وما تلقّنته في تعليمها, وحفظته من قواعد اللغة، وما تظنّه كافيًا في هذا الباب, فالمعلِّمون جيلًا بعد جيل، يتعاقبون على مسلَّماتٍ، لا يخرجون عنها. ولا يفكِّرون في الخروج عليها.

الثانية: فئة تحاول – وإن لم تفعل – درس اللغة معزولة عن المقاصد النفعية، والتربويّة, والتعليمية، والترقِّي بمستوى الأداء اللغويّ، وهي فئة أشار إليها محمد محمد حسين بقوله:‘‘إن العلم يقصد لذاته, وللذّة المعرفة وحدها, فلذّة المعرفة هدف مقصود لذاته, وهذا تصوُّر للمعرفة غير إسلامي’’. [ينظر مقالات في اللغة والأدب ص54ص55] وهذا أحد معطيات علم اللغة العام, أو علم اللغة الحديث, أو علم اللغة الوصفي, وهو توجُّهٌ لم يجد قبولا في بيئته التي نبت فيها، فضلًا عن البيئات التي استوردته, وأراد حملته إحلاله محلّ ما لدى الأمّة من أصيلٍ، يناسب لغتها وقيمها.

********

اللغة من مشتركات الحياة؛ إذ الناس بل مستعملوها فيها على درجة سواء من ناحية الإتاحة، ولكلٍّ منهم أن يتعلّم منها حسب حاجته، وأن يكتسب منها حسب طاقته، ولأهل اللغة كما لطلابها تلمّس الحاجة والطاقة، وفي اللغة ثلاثة مستويات، كما أسلفنا، وليس مستوًى واحدًا كما هو جارٍ في درس العربية : 

المستوى الأوّل : مستوًى أدبيّ يوظّف اللغة توظيفًا خاصًّا ، ويجنح إلى التسامي فوق اللغة العاديّة، في أنظمتها المختلفة من بنية وتركيب، ومن خروج في معانيها عن مقتضى الظاهر. ومن خروج دلالة ألفاظها من حقلٍ دلالي إلى حقل دلالي آخر، ويتمثّل هذا المستوى في الشعر والخطابة، والكتابات الأدبية، وكلّ ما يقصد إلى الجمع بين جودة المعنى ، وجودة العبارة، ويوظف إمكانات اللغة والخيال، وقدرات أخرى.وهذا المستوى له طلابه ، وهم من نوعٍ خاصٍّ، وليسوا كلّ الأنواع والفئات، وهذا النوع أعلى المستويات وأرفعها، ولغة هذا المستوى قابلة للمراجعة والتصحيح والتنقيح، لتخرج بصورة تلائم مستواها التداولي.

المستوى الثاني: وهو مستوًى تداوليٌّ، لا يحتاج إلا أساسيات اللغة في مفرداتها التي توظّف في معانيها الوضعية غالبًا، كما لا يحتاج إلى كثير ممّا يرد في كتب النحو من قواعد فرعية، وخلاف، ومعانٍ، كما أن من يكتب بهذا المستوى أو يتحدّث ليس بحاجة لأن يوظِّف إمكانات اللغة التي تخرج عن القياس والمطّرد، وما تدعو إليه ضرورة الإبداع. وطلاّب هذا النوع لا بدَّ من تحديد حاجاتهم، ولا بدَّ من الرأفة بهم، وعدم تكليفهم ما لا يحتاجون، والاكتفاء بالحدِّ الأدنى من الكفايات اللغويّة، ذات الصبغة العملية، وبإمكانهم توظيفها في استعمالهم اللغويِّ. ومن هذه الفئة طلاّب الأقسام في العلوم الطبيعية والطبية، والعلوم الأخرى.

المستوى الثالث: المستوى التواصلي الذي يقال في مقام خاص، ويؤدّي غرضًا آنيًّا محدودًا بالزمان والمكان وأطراف الخطاب، ولا يجري عليه التدوين في الغالب؛ لعدم الحاجة إلى تدوينه، ثم هو لا يصلح للتداول – كما هو -  فيما بعد، وهو معظم كلام البشر وأكثره ، ولو قيل 99% من الكلام وما يدور من لغة وحديث وحوار هو من هذا المستوى لم يكن ذلك بعيدًا من الصواب، بل كلّ ما يجري على الألسنة من حديث المجالس والفكاهة والطرفة، بل لغة المدرِّس في فصله من هذا المستوى، ولا يرقى إلى المستوى التداولي، وهو بحكم آنيّته يتطلّب شيئًا من اليسر، والسهولة، والاقتصاد، ولا يلتزم بقواعد النحو القياسية بقدر ما يلتزمه من نجاح في الأداء والفائدة،  ثم هو مستوًى يتميّز بالأخذ في الترخصات، وأن الكلام فيه تغلب عليه العفوية، ثمّ هو يمثِّل كلام الناس العفويَّ ، وكلامهم الفطريّ على سجيّتِهم، دون تكلُّف؛ فالمتكلّم يهمّه أن يتواصل مع الآخرين، وأن يفهم ما يريد، باقتصاد وجهدٍ قليلٍ، وبأخصر طريق، وأيسر سبيلٍ. وأن بعضه يؤدَّى بالصوت وبعضه يؤدّى بوسيلة دلالية أخرى غير لغويّة، مثل الإشارة وحركات العين، وأخيرًا هو مستوًى يراعي المقام، ولا يتكلّف كالمستوى التداوليّ، وقد أسلفنا الحديث عنه.

وكان التواصل ينحصر في اللغة الشفويّة ، والخطأ الشفهيّ والحوار ، وقد كان هذا النوع يمثِّل نسبة تجاوز 95% من اللغة المستعملة، والتي تصدر عن مستخدمي اللغة، أيّ لغة كانت، بل هناك لغات لا تعرف غير هذا النمط، ولا تعرف لغة مكتوبة فضلا عن لغة أدبية إبداعية عالية. ثمّ تغيّر التواصل في عصرنا، وظهرت أنماط صارت تضارع أو تقارب لغة المشافهة، فصار لدينا البريد الإليكتروني، والماسنجر، ولغات جديدة للمحادثة والحوار والمخاطبة المكتوبة، كما يجري في غرف المحادثة من خلال الشبكة، من مثل ما يسمونه (الشات)، ولغتها في الغالب لا تختلف عن لغة الخطاب والحوار الشفهي إلا في كتابته في وسيلة أليكترونية، وهذا يفرض على أهل العربية أن يقتحموه؛ ليكون لهم رأيٌ واجتهاد في صناعة لغة تواصل جديدة تتوزّع بين المشافهة والكتابة بالوسائل الأليكترونية، التي هي أشبه بالمشافهة.

وكما يغفل أهل اللغة عن هذا النمط من لغة التواصل يغفلون عن لغة البرامج الحوارية في الإذاعات، والقنوات التلفزيونية، وهي تتطلّب قدراتٍ تواصليّة مناسبة أكثر ممّا تطلبه من إتقانٍ للنظام اللغويِّ، وصحّةٍ في التركيب النحوي.

لا شكّ أنّ الحديث في هذه المقامات التواصلية، بهذه الوسائل ليس كحديث في مستوًى تداولي، سواء كان نصًّا ثريًّا ، أي: أدبيًّا ، أو كان نصًّا محدودًا في لغته ، ومعانيه، وأساليبه، وتراكيبه، ومفرداته. ومن المعلوم أن المستوى التداولي يشمل النوعين؛ إذ التواصلي ما لا يناسب غير المقام الذي ورد فيه. والتداولي ما يصلح لمقامه الذي أنشئ من أجله، وهو صالح لاجتياز الجغرافيا والتاريخ، وتناقله عبر الحدود ، بحيث يصح ويسوغ استعماله في سياقات غير المقام أو الموقف الذي دعا إلى إنشائه.

إن أهمّ شيءٍ في لغة التواصل حنكة التعامل مع الغير، وما من شكٍّ في أهمّيّة التواصل مع الآخرين، ومن أهمّ الوسائل لإنجاح هذا التواصل أن يكون لدى الشخص قدرة على الإقناع والتأثير في الآخرين، وممّا يحسن توظيفه لهذه المهمّة اللغة ومهاراتها، والقدرة على توظيفها، كما ينبغي. وقد ((أغفلت معظم دراساتنا اللغوية استخدام اللغة وظيفيًّا، بمعنى استخدامها في مسار الحياة الواقعية, استخدامها في إبداء الآراء والدفاع عنها، وفي عمليات التبادل والتفاوض والتراسل والتهاتف، وهلمّ جرًّا . يتّضح ذلك بصورة سافرة في ضعف مهارات الاتّصال لدى الغالبية منّا: كتابة وقراءة وشفاهة واستماعًا، وليس هذا – حتمًا – نتيجة قصور في العربية؛ فهي تملك العديد من الخصائص والأدوات التي تؤهِّلها لتكون لغة حوار فعّالة، إننا ما زلنا أسرى اللغة المكتوبة غير ملمِّين بالعلاقات اللغويّة والتداوليّة والمقامية التي تربط بين أدائنا الشفهي وأدائنا الكتابي، ويتجلّى ذلك – بوضوح – في أساليب حوارنا وتفاوضنا)). [الثقافة العربية وعصر المعلومات ص239]

((إهمال الجانب الوظيفي لاستخدام اللغة، وعدم تنمية المهارات اللغوية المطلوبة في الحياة العملية؛ فنحن ننحاز إلى جانب الخطابة [أي اللغة الأدبية ولغة الشعر، واللغة التداولية] على حساب فاعلية التواصل)) [الثقافة ص269]

((اللسان في تصور اللغويين المحدثين جملة من الصيغ، أو ذخيرة كوّنتها الممارسات الكلامية، لدى المتكلمين باللغة، وهو نظام نحويّ، قائم في عقل كل متكلِّم لتلبية كل المقاصد والأغراض، واللغة الشرط اللازم لكي يكون الكلام مفهومًا))

[ينظر المرايا المقعّرة /عبد العزيز حمودة/ عالم المعرفة 272/أغسطس 2001/ص207ص208]

*******

أصبح المتعلم محور العملية التعليمية ، وذلك بعد أن أصبحت القدرة على مواصلة التعلم ذاتيا، لا التعليم، هي أساس تربية عصر المعلومات. وتعني محورية المتعلم تلك، التركيز على احتياجات المتعلم ، وإضفاء الطابع الفردي الشخصي على عملية التعليم ومراعاة خلفيته المعرفية، وما في حوزة عقله من مفاهيم، صائبة كانت أو خاطئة. إن التمركز على المتعلم، سيغير من طبيعة العلاقات البينية التي تربط رباعية: المتعلم ، المعلم، المنهج ، المنهجيات، وسيتطلب  أيضا  بنية تعليمية متجاوبة مع مطالب المتعلم وقدراته, هذا فيما يخص المتعلم، أما بالنسبة للمعلم فيجب أن توفر له هذه البيئة التعليمية مزيدا من الحرية في اختيار مادة الدراسة، وأسلوب تقديمها وعرضها وكذلك في تقويم أداء طلبته، لقد أصبحت مهمة التربية الأساسية  كما ذكرنا سلفا  هي أن تعلم الإنسان كيف يتعلم، وكيف يواصل تعلمه من المهد إلى اللحد، هذا عن مطالب إعداد الأجيال الحالية بمواصفات عصر المعلومات. [الثقافة العربية ص344]

******

لا بدّ من مراجعة ما نقدّمه لطلّابنا من العربية من حيث المضمون والمادّة، ومن حيث طرائق تقديمها؛ للأسباب الآتية:

تغيُّر حاجات الطالب ومقاصده من دراسة العربيّة، وفقًا لتغيُّرات الحياة في عصرنا؛ إذْ تغيِّرت متطلَّبات الحياة, ومؤهِّلات الشخص التي تؤهِّله ليعيش حياةً صحيحةً سليمة.

تطوّر وظيفة اللغة في العصر؛ فنحن الآن في عصر التمهير, ولا قيمة فيه للمعارف المجرَّدة أو النظريّة من دون تمهير؛ إذ لم تنحصر في كونها حصيلة معرفيّة، فحسب، بل صارت سلوكًا, وممارساتٍ, ومهاراتٍ.

تطوُّر التقنية، خاصّةً تقنيات الاتّصال والإعلام, وتعاظم دور اللغة فيها.

تأكّد ارتباط اللغة بالمهارات المشتركة، التي يتعيَّن على الطالب إتقانها، فضلًا عن كون المهارات اللغويّة المختلفة مطلب مشترك من الجميع.

ولا بدّ من تهيئة درسنا اللغويِّ ليتلاءم وتغيُّرات العصر، وحاجاته, وتقنياته, فتراجع الموادّ المقدَّمة للطالب، كما تراجع بعض قيمنا اللغويّة، في ترتيب الأولويّات، والتخطئة والتصويب, وتقويم الأداء اللغويّ, والإفادة من كثيرٍ من الترخُّصات, وتطوير أدائنا اللغويِّ، بما يناسب العصر, كما فعل الكتّاب في العصور الأولى حين نقلوا العربيّة من لغةِ مشافهةٍ إلى لغة كتابة.

كما أنّه لا بدَّ من وضع مصفوفةٍ بالمهارات التي يتعيِّن على المعلّم في درس العربية تعليمها، وعلى الطالب تعلُّمها, وألّا يكتفى بالجانب المعرفيِّ التقليديّ, الذي يعمد إلى اختيار كتابٍ, أو اختيار مادّة من القواعد, يتحفَّظها.

الذي نريده معلِّم لغة براجماتي (نفعي) يكون تأهيله على النحو التالي:

يقدِّم لطلّابه ما يحتاجون إليه لا ما يعتقده، إن ما نريده من معلِّم العربية في هذا العصر، أن يكون مثلًا خمسة في واحد  فـ ((قد فقد معلم عصر المعلومات سلطة احتكار المعرفة ليتغير دوره … من كونه مجرد ناقل للمعرفة إلى كونه مشاركًا، وموجهًا يقدم لطلبته يد العون، لإرشادهم إلى موارد المعلومات، وفرص التعلم المتعددة، المتاحة عبر الإنترنت. لقد أصبحت مهمة المعلم مزيجا من مهام المربي، والقائد، ومدير المشروع البحثي، والناقد، والمستشار، واﻟﻤﺨرج السينمائي، ومدير المسرح.(([الثقافة العربية ص345] ولم يعد مقبولًا من المعلِّم ومعلِّم العربيّة خاصّةً أن يقدِّم لطلّابه ما درسه, ولُقِّنه وتأسّس عليه، فالجيل الذي يعلِّمه ليس الجيل الذي صحبه في فترة تكوينه، ممّا يقضي علينا أن نراجع برامجنا، وخططنا التكوينية التي تسهم في إعداد المعلِّم وتأهيله, وتكوينه.

الحاجة إلى تجديد خبرات معلِّمي العربية, وإعادة تأهيله، بإلحاقه بدورات تدريبيّة، وبرامج يستدرك فيها المعلّم ما لعلّه فاته من التكوين، أو ما استجدّ في تكوين معلِّم اللغة العربية, يستدرك فيها القادرون منهم المستجدّات فيما يتطلّبه درس العربية في هذا العصر, خاصّةً وأن الوضع قد تغيَّر كثيرًا, في المقاصد, والأهداف, والوسائل، وأن حاجات الطالب من درس العربية مسّها كثير من التغيُّر, مما يستدعي تغييرًا مناسبًا في المحتوى، والوسائل, ومؤهِّلات المعلِّم، وأن معلّم العربية يجب أن يكون في سباقٍ مع الزمن في تطوير ذاته, وتحسين أدائه, ومجاراة عصره, وتلبية احتياجات طلابه.

---------------------

إننا لو صرفنا عنايتنا لما جدَّ في احتياجات طلّاب العربية في عصرنا, وهي داعية للنظر في:

متغيّرات العصر (التقنية – والاتصال"الحوار بين البشر والآلة", ولغة حوار العصر,  وأهداف التربية في عصرنا, وما جدّ فيها.

قيمنا اللغويّة, وضرورة مراجعتها, وإعادة بناء مصفوفة الأولويّات, وضوابط التصحيح.

درس اللغة العربية، وتنويعه, وفق مستوياتٍ: لغة التواصل, ولغة التداول والبيان،  المستوى الوسيط أو الهجين.  لغة العصر، مع اليقين أن كلّ مستوًى يصحّ في مجاله، ولا ينفي مستوًى مستوًى.

لو فعلنا ذلك لأمكن لمعلِّم اللغة العربية أن يقدِّم لطالبه جديدًا في درسه، ملبِّيًا لحاجاته, متوافقًا مع عصره، وأن يقدّم ما يكون حافزًا للطالب لمعرفة أهمية العربية في حياته, وضرورتها، فيبذل جهدًا مضاعفًا لتحصيلها، وتوظيفها، والإبداع فيها وبها.  تمّ بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله الكريم.

------------------

 

 

秋服 メンズ特集!2020年の最旬コーデに取り入れたい狙い目アイテム13選 , メンズファッションメディア Www-medinatheatre

التصنيف الرئيسي: 
شارك: