ملخص:
يستغرب من يتابع ما يكتبه نحاة العصر, وما يثيرونه بل يفتعلونه من معركة بين النحاة والقرّاء, أو بين النحو والقراءات, وكأن هناك معركة بين طرفين متعاديين, بينهما قدر كبير من التنافي, ولا مكان بينهما للتكامل, حتى إن بعضهم يصف النحاة بالطغاة, وحتى حشرهم آخرون مع المستشرقين الطاعنين في القرآن, وغاب عن هؤلاء أو تناسوا أن النحاة في غالبهم قرّاء تتناقل الكتب التي تعنى بتراجم القرّاء, تراجمهم, وتدرج كثيرًا من أعلام النحاة فيهم, ويكفينا أن نتصفَّح على عجلٍ كتابًا من تلك الكتب.
وهذا- إن كان من باب الفخر بالنحو، والتعصّب له- غير مستغربٍ, ولا يلحقه الذمّ من كلِّ وجهٍ ما دام في حدوده المعقولة؛ فلدينا في كل علم طائفة تغلو في علمها, وتزري بغيرها من أصحاب العلوم الأخرى, فلا يرون علمًا غير علمهم.
وقد حاول هؤلاء أن يجدوا لما يقولونه نوع شرعيّة, فالتمسوها من مقالات النحاة قديمًا وحديثًا, فإذا وجدوا ما هو زلّة في التعبير عن مسألة عاملوها كأنّها جنحة قاتلة, أو انحراف في المنهج، و هي لا تعدو ممارسة خاطئة.
وسوف تعتمد مناقشتي لهذا الموضوع, وحواري لعلمٍ من أعلام النحو في العصر, على أصل الخلل, وهو الخلل المنهجيّ, بتقرير مبادئ المناهج العلميّة, التي تتفق فيها العلوم, مع امتاز كلِّ علمٍ بمنهجه الخاصِّ في تناول مادّته العلميّة؛ فالنحاة ينظرون للقراءات أنّها مادّة لغويّة, لا تختلف عن كلام العرب الآخر, من نثرٍ وشعرٍ؛ ولذلك يتساوى عندهم القراءة المتواترة, والمشهورة, والشاذّة, والمتروكة, وقراءة الخطأ والباطلة, التي يقرأ بها الأعراب ومن يحتجّ بلغته على خلاف قراءة القرّاء, ما دام إسنادها يصحّ إلى عربيٍّ سليم السليقة, يحتجّ بلسانه, فلو قرأ أعرابيّ شيئًا من القرآن وأخطأ فيه لكانت قراءته في النحو لديهم مقبولة, وخطؤه حجّة, ولا يلحَّن لمخالفته الصحيح الثابت من القراءة؛ لأن النحاة لا ينظرون إلى القراءة باعتبارها قراءة, ولا في حال القراء وصحّة تلقّيهم كما ينظر مشايخ الإقراء؛ فهم لا يفرِّقون بين القراءات، وإن اختلف مستواها, ولا يقولون: إنّ قراءة تلغي قراءةً أخرى, فالكل محتجّ به, فلا تردّ قراءة بقراءة، فالكل مددٌ لدرس اللغة.
وسوف يكون من ممارستي في نقاش الموضوع الرجوع إلى أصول القراءة, ومقاصدها, وموضوعها، والرجوع إلى أصول العربية, ومقاصدها, وموضوعها.
وآمل أن يكون فيما أقدّمه طرح شيءٍ فيه من الجدّة والطرافة, وتصحيح بعض ما علِق في الأذهان, ورسخ عند بعض الغيورين، الذين تدفعهم الغيرة إلى الغلوِّ والتجاوز في الحوار مع غيرهم.
وقد جاءت دراسة الموضوع على النحو التالي:
1) ملخّص.
2) مقدّمة.
3) اتِّهام النحاة بتخطئة القرّاء, ونماذج منها.
4) موقف الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة: عرض.
5) مناقشة أفكار الشيخ عضيمة, وآرائه من خلال:
• القراء نحاة, والنحاة قرّاء.
• مبادئ.
• مفاهيم.
• نماذج وأمثلة.
6) الخاتمة والخلاصة.
===================
مقــدمـة:
قبل الولوج في الموضوع أرى أنني بحاجة إلى العودة إلى أيام الطلب, في مرحلة الطلب في الدراسات العليا الماجستير وقد درسنا النحو على أستاذنا أحمد مكي الأنصاري, وهو ممن يغلبه حماسه للقراءات، حتّى نصب نفسه محاميًا مدافعًا عن القراء من جور النحاة عليهم, ونسبتهم إلى ما لا يليق بهم، كما يرى؛ إذْ يقول: «لقد جاوزوا كلّ حدٍّ معقول أو مقبول حين طعنوا في بعض القراءات, وخطَّئوها, ولحَّنوا قارئها, وحرّموا القراءة بها» [سيبويه والقراءات ص249]. وحين يسم ما قام به النحاة بأنّه "هجومًٌ عنيفٌ سخيفٌ لا يليق بذي دينٍ أو ذي حياءٍ فضلا عن العلماء الأجلّاء" [سيبويه والقراءات ص249]
ومن قبل قال أستاذنا محمد عبد الخالق عضيمة: ((... القرآن الكريم حجّة في العربية بقراءاته المتواترة وغير المتواترة, كما هو حجّة في الشريعة, فالقراءات الشاذة التي فقدت شرط التواتر لا تقلّ شأنًا عن أوثق ما نقِل إلينا من ألفاظ اللغة وأساليبها, وقد أجمع العلماء على أن نقل اللغة يُكتفى فيه برواية الآحاد.
لو أراد دارس النحو أن يحتكم إلى أسلوب القرآن وقراءاته في كل ما يعرض له من قوانين النحو والصرف، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا ؛ ذلك لأن الشعر قد استبدَّ بجهد النحاة، فركنوا إليه, وعوّلوا عليه, بل جاوز كثيرٌ منهم حدّه، فنسب اللحن إلى القرّاء الأئمة, ورماهم بأنهم لا يدرون ما العربية؟! وكان تعويل النحويين على الشعر ثُغرةً نفذ منها الطاعنون عليهم؛ لأن الشعر رُوِيَ برواياتٍ كثيرة, ثمّ هو موضع ضرورة)).[من مقال له بعنوان: دراسات لأسلوب القرآن الكريم في مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية/ العدد الخامس 1395هـ 1975م ص92] و[دراسات 1/2]
وطرح سؤالًا : هل كان للنحويين استقراء للقرآن في جميع رواياته؟ فأجاب بوجوده في كتب النحو في بعض المسائل، فاستشهدوا بالقرآن وببعض القراءات، المتواتر منها وغير المتواتر، ولكنه لا يقاس باستشهادهم بالشعر الذي غلب عليهم, واستبدّ بجهدهم. [انظر دراسات لأسلوب القرآن الكريم في مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية/العدد الخامس 1395هـ 1975م ص92] وقال: ((وللنحويين بجانب هذا قوانين كثيرة لم يحتكموا فيها لأسلوب القرآن, فمنعوا أساليب كثيرة، جاء نظيرها في القرآن, من ذلك : ....)) [دراسات لأسلوب القرآن الكريم في مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية/ العدد الخامس 1395هـ 1975م ص93]
وما ذكره الشيخ من أن ((لبعض النحاة جرأة عجيبة, يجزم بأن القرآن خلا من بعض الأساليب, من غير أن ينظر في القرآن, ويستقرئ أسلوبه, وساق أمثلة ونماذج ....)) [دراسات لأسلوب القرآن الكريم في مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية/ العدد الخامس 1395هـ 1975م ص94-95] والحق أن هذا لا يدلّ على ما قاله, بل يدلّ على العكس, وما وقعوا فيه لا يخرج عن كونه وهمًا.
ويقول: ((لست أزعم أن القرآن قد تضمّن جميع الأحكام النحويّة, فالقرآن لم ينزل ليكون كتاب نحوٍ, وإنما هو كتاب تشريع وهداية, وإنما أقول: ما جاء في القرآن كان حجّة قاطعة, وما لم يقع في القرآن نلتمسه في كلام العرب، ونظير هذا الأحكام الشرعية؛ إذا حاء الحكم في القرآن عُمِل به, وإن لم يرد به نصٌّ في القرآن التمسناه في السنة وغيرها)) [دراسات لأسلوب القرآن الكريم في مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية/ العدد الخامس 1395هـ 1975م ص95].
ومن يتتبع ما ورد في كتب النحو قديمًا يجد ما ظاهره يوافق ما قاله شيخنا، وتحاملًا على النحاة، قد يزيله حوار هذه الورقة، من مثل ما ذكره السيوطي في الإتقان، وغيره، من نقد قراءة ((ابن عامر (زُيِّنَ) على البناء للمفعول الذي هو القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولًا بينهما بمفعوله، وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورات الشعر). تبع في ذلك الزمخشري، وقد أطبق الناس على الإنكار عليه في ذلك.
قال ابن المنير: نبرأ إلى الله تعالى ونبرئ حملة كتابه وحفظة كلامه عما رماهم به، فقد ركب عمياء، وتخيل القراءة اجتهاداً أو اختيارًا لا نقلاً وإسنادًا، وزعم أن مستنده ما وجده مكتوبًا في بعض المصاحف شركائهم بالياء وجعل قراءته سمجة، ونحن نعلم أنَّ هذه القراءة قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل كما أنزلها عليه، وبلغت إلينا بالتواتر عنه، فالوجوه السبعة متواترة عن أفصح من نطق بالضاد جملةً وتفصيلًا، ولا مبالاة بقول الزمخشري وأمثاله..... [نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي 3/ 387] وبعد أن ناقش الزمخشري أورد بعض الشواهد, فقال: فهذه شواهد من العربية يجمع شملها هذه القراءة، وليس القصد تصحيح القراءة بالعربية بل تصحيح العربية بالقراءة. اهـ
قال الكواشي: كلام الزمخشري يشعر أن ابن عامر قد ارتكب محظوراً، وأن قراءته قد بلغت من الرداءة مبلغاً لم ييلغه شيء من جائز كلام العرب وأشعارهم، وأنه غير ثقة لأنه يأخذ القراءة من المصحف لا من المشايخ ومع ذلك أسندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جاهل بالعربية، وليس الطعن في ابن عامر طعناً فيه وإنما هو طعن في علماء الأمصار حيث جعلوه أحد القراء السبعة المرضية، وفي الفقهاء حيث لم ينكروا عليهم إجماعهم على قراءته، وأنهم يقرءونها في محاريبهم، والله أكرم من أن يجمعهم على الخطأ. اهـ
وقال أبو حيان: أعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة نظيرها في كلام العرب في غير ما بيت، وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقًا وغربًا، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم. اهـ
وقال الشيخ سعد الدين: هذا عذر أشَد من الجرم؛ حيث طعن في إسناد القراء السبعة [نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي 3/ 388] وروايتهم وزعم أنَّهم إنما يقرءون من عند أنفسهم، وهذه عادته يطعن في تواتر القراءات السبع وينسب الخطأ تارة إليهم كما في هذا الموضع، وتارة إلى الرواة عنهم، وكلاهما خطأ؛ لأن القراءات متواترة، وكذا الروايات عنهم وهى ما يستشهد بها لها، وقد وقع الفصل فيها بغير الظرف ينبغي أن يحكم بالجواز [لوروده في أشعار عن العرب]. لأن تخطئة الثقات والفصحاء أبعد من ذلك، أو يعتذر لمثله بما ذكر صاحب الانتصاف من أن إضافة المصدر إلى معموله وإن كانت محضة لكنها تشبه غير المحضة، واتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره, وقد جاز في الغير الفصل بالظرف فيتميز هو عن الغير بجواز الفصل بغير الظرف. اهـ
قال الطَّيبي: ذهب هنا إلى أن مثل هذا التركيب ممتنع، وخطأ إمام أئمة المسلمين، وضعفه في قوله (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدَهِ رُسُلِهُ)، فبين كلاميه تخالف.
وقال مكى: لم أر أحدًا تحمل قراءته إلا على الصحة والسلامة، وقراءته أصل يستدل به لا له. [ينظر نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي 3/ 389]
وَكَثِيرًا أَرَى النَّحْوِيِّينَ يَتَحَيَّرُونَ فِي تَقْرِيرِ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَإِذَا اسْتَشْهَدُوا فِي تَقْرِيرِهِ بِبَيْتٍ مَجْهُولٍ فَرِحُوا بِهِ، وَأَنَا شَدِيدُ التَّعَجُّبِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا جَعَلُوا وُرُودَ ذَلِكَ الْبَيْتِ الْمَجْهُولِ عَلَى وَفْقِهِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَلِأَنْ يَجْعَلُوا وُرُودَ الْقُرْآنِ بِهِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ كَانَ أَوْلَى. [تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير 9/ 401]
*******
اتِّهام النحاة بتخطئة القرّاء, ونماذج منها:
قال عضيمة: تبيّن لي أن أكثر النحويين ردًّا للقراءات هو أبو حاتم السجستاني, قال عنه تلميذه الْمُبَرِّدُ: كَانَ أَبُو حَاتِمٍ دُونَ أَصْحَابِهِ فِي النَّحْوِ، وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلْدَتِهِمْ لَمْ يُلْقَ أَعْلَمُ مِنْهُ. [البحر المحيط في التفسير 8/ 231]
وَكَانَ أَبُو حَاتِمٍ يَطْعَنُ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ [البحر المحيط في التفسير 9/ 439] جَسَارَةً مِنْهُ، عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. [البحر المحيط في التفسير 9/ 440]
أضف إلى هذا أن النحويين كثُر منهم تلحين القرّاء الأئمّة, يستوي في ذلك القراءات المتواترة وغيرها, وسنعرض لذلك بتفصيلٍ وافٍ, إن شاء الله)). [دراسات 1/12-13]
ويقول الشيخ عضيمة: ((إلى سنة 1940هـ كانت معلوماتي لا تتجاوز أن الزمخشري هو الذي يطعن في القرّاء, وأن لاعتزاله إصبعًا في هذا, فلمّا قرأت "المقتضب" لأبي العبّاس المبرّد راعني أن يقول عن نافع أحد القرّاء السبعة: إنّه لا يدري ما العربيّة. كما لحّن كثيرًا من القراءات السبعة المتواترة. ولمّا وسّعت دائرة القراءة وجدت المازنيَّ سبق المبرَّدَ إلى ذلك, كما وجدت أن أبا عمرو بن العلاء قال عن قراءةٍ لابن مروان: احتبى ابن مروان في لحنه. نقل عنه سيبويه هذا, كما قال سيبويه عن قراءةٍ لنافع سبعيّة في همز النبيّ: إنّها رديئة. والفرّاء يتحدّث عن وهَمٍ القرّاء ويقول: قلّما يخلو واحدٌ من القرّاء من وَهَمٍ. تبيَّن لي أن تلك الحملة الآثمة قد استفتح بابها, وحمل لواءها نحاة البصرة المتقدِّمون, ثمّ تبعهم نحاة الكوفة وغيرهم)). [دراسات لأسلوب القرآن الكريم في مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية/ العدد الخامس 1395هـ 1975م ص96] .
قلت: الأمر ليس كما ذكر الشيخ؛ لأن الدليل كي يصبح صالحًا للاحتجاج لا بدّ فيه من توافر أمرين: الاعتداد به, وكفايته. و مقارنة النحو بالشريعة غير مسلّمة، والفرق بينهما كبير, وسأوضِّح ذلك، إن شاء الله.
وقال عضيمة: ((ونرى في كتب النحو ذكر بعض المسائل من غير استشهاد لها بكلام العرب، أو القرآن على حين أن شواهدها في القرآن كثيرة جدًّا في شرح الشافية للرضي 1/46 "يحكى عن الأخفش أن كلّ (فُعْلٍ) في الكلام فتثقيله جائز, إلا ما كان صفةً أو معتلَّ العين, كحُمْرٍ وسُوق؛ فإنهما لا يثقَّلان إلا في ضرورة الشعر, وكذا قال عيسى بن عمر: إنّ كلَّ (فُعْلٍ) كان فمن العرب من يخفِّفه, ومنهم من يثقِّلُه، نحو عُسْر, ويُسْر".
كلّ ما كان على (فُعْلٍ) في القرآن فقد قرئ فيه بالتثقيل في القراءات المتواترة {العسر, اليسر, عسرة, العسرى, جزء, الرعب, رعبًا, نكرًا, رحمًا, سحتًا, عذرًا})), وههنا إحالات على كتب القراءات تركتها.[دراسات ص12-ص13]
وفي المنهج يقول عضيمة: ((يحتفظ النحويون لأنفسهم بحرية الرأي, وانطلاق الفكر, فلا يعرفون الحجر على الآراء, ولا تقديس رأي الفرد مهما علت منزلته. قال أبو الفتح: اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجّة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص, والمقيس على المنصوص, فأمّا إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجّةً عليه, وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنّهم لا يجتمعون على الخطأ, كما جاء النص عن رسول الله من قوله: "أمّتي لا تجتمع على ضلالة" وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة, فكلّ من فرِقَ له عن علّة صحيحة, وطريقٍ نهجةٍ كان خليل نفسه, وأبا عمرو فكره)).[الخصائص 1/189-190] ويقول أبو حيّان: "لسنا متعبّدين بمذهب البصريين". فسيبويه إمام البصريين غير منازع ولا مدافع تعرّض كتابه لنقد من نحاة البصرة: الأخفش, والمازني، والمبرّد, وما أكثر ما استعمل المبرد الأسلوب اللاذع في نقد سيبويه، حتّى ابن القيِّم وهو ليس معدودًا في النحاة, يقول في [البدائع 3/28] "فسيبويه (رحمه الله) ممن يؤخذ من قوله وينرك, وأمّا أن يعتقد صحة قوله في كل شيء فكلا". ولم يكن هذا صادرًا عن صلف وكبرياء؛ فللنحويين تواضع عجيب، سيبويه الذي أثار إعجاب الناس بكتابه, وظفِر بتقديرهم, لم يبدأه بخطبة يكشف فيها عن جهوده, وإنما بدأه بالبسملة ثمّ دخل إلى الموضوع, وكذلك فعل المبرّد في (المقتضب). [دراسات 1/14-15]
قلت: لعلّ الأمر سببه أنّ تأليف كتاب سيبويه كان في بداية عصر التصنيف.
*******
ويقول عضيمة: ((يؤسفني أن أقول: إن كتب النحو واللغة والتفسير وغيرها قد تضمّنت نصوصًا كثيرة في الطعن على الأئمّة القرّاء الذين تواترت قراءاتهم في السبع, والذين ارتضت الأمّة الإسلاميّة قراءاتهم, فركنوا إليها, وعوّلوا عليها.
أ- في مراتب النحويين لأبي الطيِّب اللغويِّ ص26-27 سأل أبو حاتم عن حمزةَ أبا زيدٍ، والأصمعيَّ، ويعقوبَ الحضرميَّ, وغيرهم من العلماء، فأجمعوا على أنّه لم يكن شيئًا, ولم يكن يعرف كلام العرب, ولا النحو, ولا كان يدّعي ذلك, وكان يلحن في القرآن, ولا يعقله يقول: "وما أنتم بمصرخيِّ" بكسر الياء المشدّدة, وليس ذلك من كلام العرب, ونحو هذا من القراءة. قال أبو حاتم: وإنما أهل الكوفة يكابرون فيه ويباهتون؛ فقد صيَّره الجهّال من الناس شيئًا عظيمًا بالمكابرة والبهت)). [دراسات عضيمة 1/19]
ب- قال أبو عثمان المازني في التصريف: فأمّا قراءة من قرأ من أهل المدينة "معايش" بالهمز, فهي خطأ؛ فلا يلتفت إليها, وإنما أخذت عن نافع بن أبي نعيمٍ, ولم يكن يدري ما العربية, وله أحرفٌ يقرؤها لحنًا نحوًا من هذا. [المنصف 1/307] وقد ردّد هذا الكلام المبرّد في [المقتضب 1/123]. [دراسات عضيمة 1/20]
ت- أورد عضيمة نصًّا لابن قتيبة، هو ((وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو أن تكون غلطًا من الكاتب، كما ذكرت عائشة رضي الله عنها. فإن كانت على مذاهب النحويين فليس هاهنا لحن بحمد الله. وإن كانت خطأ في الكتاب، فليس على رسوله جناية الكاتب في الخط. ولو كان هذا عيبا يرجع على القرآن، لرجع عليه كل خطأ وقع في كتابة المصحف من طريق التّهجّي: [تأويل مشكل القرآن ص: 41]..... وكذلك لحن اللاحنين من القرّاء المتأخرين، لا يجعل حجّة على الكتاب. وقد كان الناس قديما يقرءون بلغاتهم كما أعلمتك. ثم خلف قوم بعد قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة، ولا علم التكلّف، فَهَفَوْا في كثير من الحروف وزلّوا وقرءوا بالشاذ وأخلّوا. منهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، وقرّبه من القلوب بالدين.
لم أر فيمن تتبعت وجوه قراءته أكثر تخليطا، ولا أشد اضطرابا منه، لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره، ثم يؤصِّل أصلًا ويخالف إلى غيره لغير ما علّة. ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلَّا على طلب الحيلة الضعيفة. هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز بإفراطه في المد والهمزة [تأويل مشكل القرآن ص: 42])) لعلّ ابن قتيبة يقصد حمزة. قال ابن مطرف الكناني في القرطين 2/15: «باقي الباب لم أكتبه لما فيه من الطعن على حمزة, وكان أورع أهل زمانه».
ث- ونقل عضيمة كلام الزركشي «عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كره قراءة حَمْزَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ طُولِ الْمَدِّ وَغَيْرِهِ فَقَالَ لَا تُعْجِبُنِي وَلَوْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً لَمَا كَرِهَهَا» [البرهان في علوم القرآن 1/ 320]
ج- ونقل أيضا كلام الفراء : ((وقد خفض الياء من قوله (بِمُصْرِخِيّ) الأعمش ويحيى بن وثَّاب جَميعًا. حَدَّثَنِي القاسم بن مَعْن عَن الْأَعْمَش عَن يَحْيَى أَنَّهُ خفض الياء. قَالَ الفراء: ولعلها من وَهْم القراء طبقة يَحْيَى فإنه قل من سلم منهم من الوهم. ولعله ظَنَّ أن الباء فِي (بِمصرخي) خافضة للحرف كله، والياء من المتكلم خارجة من ذَلِكَ)). [معاني القرآن للفراء 2/ 75] وهي قراءة حمزة . وأعاد هذا الكلام أبو عبيدة القاسم بن سلام كما في البحر 5/419 [دراسات عضيمة 1/20]
ح- وكذلك قوله عز وجل: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} مختلسًا غير ممكن كسر الهمزة, حتى دعا ذلك من لطف عليه تحصيل اللفظ إلى أن ادعى أن أبا عمرو كان يسكن الهمزة والذي رواه صاحب الكتاب اختلاس هذه الحركة لا حذفها البتة, وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القراء الذين رووه ساكنًا. ولم يؤت القوم في ذلك من ضعف أمانة، لكن أتوا من ضعف دراية.[الخصائص 1/73- 74]
خ- قال الزمخشري: ((وقرئ: فيغفر ويعذب، مجزومين عطفًا على جواب الشرط، ومرفوعين على: فهو يغفر ويعذب. فإن قلت: كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء. ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأً فاحشًا. وراويه عن أبى عمرو مخطئ مرّتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم. والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو)) . [تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل 1/ 330]
د- همز "مَعَايِش, ومَصَاوِب" خطأ: قال أبو عثمان: فأما قراءة من قرأ من أهل المدينة: "معائش" بالهمز فهي خطأ, فلا يلتفت إليها، وإنما أخذت عن نافع بن أبي نعيم، ولم يكن يدري ما العربية, وله أحرف يقرؤها لحنا نحوا من هذا. [المنصف لابن جني، شرح كتاب التصريف لأبي عثمان المازني ص: 307] قال أبو الفتح: قد اختلفت الرواية عن نافع، فأكثر أصحابه يروي عنه: "مَعَايِش" بلا همز، والذي روى عنه بالهمز خارجة بن مصعب. وإنما كان همزها خطأ عنده؛ لأنها لا تخلو من أن تكون جمع "معاش، أو معيشة, أو معيش" [المنصف لابن جني، شرح كتاب التصريف لأبي عثمان المازني ص: 308] لا يهمزها، وإنما يجوز مثل هذا الغلط عندهم لما يستهويهم من الشبه؛ لأنهم ليست لهم قياسات يستعصمون بها. وإنما يخلدون إلى طبائعهم، فمن أجل ذلك قرأ الحسن البصري رحمة الله عليه: "وما تنزلت به الشَّيَاطون"؛ لأنه توهم أنه جمع التصحيح نحو "الزيدون" وليس منه.وكذلك قراءته: "ولا أَدْرَأْتُكُم به" جاء به كأنه من "درأته" أي: دفعته وليس منه, وإنما هو من "دريت بالشيء" أي: علمت به, وكذلك قراءة من قرأ "عادَ للُّؤلى", فهمز وهو خطأ منه. [المنصف لابن جني، شرح كتاب التصريف لأبي عثمان المازني ص: 311]
ذ- قال المازني في ختام كتابه "التصريف" ((والتصريف إنما ينبغي أن ينظر فيه من قد نقّب في العربية؛ فإنّ فيه إشكالا وصعوبة على من ركبه غير ناظر في غيره من النحو, وإنما هو والإدغام والإمالة فضل من فضول العربية. وأكثر من يسأل عن الإدغام والإمالة القرّاء للقرآن، فيصعب عليهم؛ لأنهم لم يعملوا أنفسهم فيما هو دونه من العربية, فربما سأل الرجل منهم عن المسألة قد سأل عنها بعض العلماء, فكتب لفظه، فإن أجابه غير ذلك العالم بمعناه، وخالف لفظه كان عنده مخطئًا, فلا يلتفت إلى قوله: أخطأت، فإنما يحمله على ذلك جهله بالمعاني, وتعلقه بالألفاظ)). [المنصف2341]
ر- قال أبو الفتح: هذا الذي حكاه أبو عثمان عن هؤلاء القوم مستفيض مشهور, وقد مرّ بي منه مع كثيرٍ منهم أشياء كثيرة, لا تساوي حكايتها, وهم عندي كالمعذورين فيه؛ لصعوبة هذا الشأن.
ز- وحكي لي عن بعض مشايخهم ممّن كان له اسم فيهم وصيت أنه قال: الأصل في "قوّة" : قوية" كأنّه لمّا رأى أن اللام في "قويت" ياءً توهّمها أصلا في الكلمة ولم يعلم أنها انقلبت عن الواو لانكسار ما قبلها؛ ولا أنّ "القوّة" من مضاعف الواو, ولو توقّف عن الفتيا – بما لا يعلم – لكان أشبه به وأليق. [المنصف 2/431 دراسات عضيمة 1/21]
وقال الشيخ عضيمة: ((تلحين القرّاء هذه الحملة الآثمة استفتح بابها, وحمل لواءها نحاة البصرة المتقدِّمون, ثم تابعهم غيرهم من اللغويين, والمفسِّرين, ومصنِّفي القراءات. وفي البخاري حديث عن عائشة رضي الله عنها في ردِّ قراءة [كُذِبوا] بالتخفيف من قوله {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } [يوسف: 110] )) [دراسات عضيمة ص19] وأورد ما في البحاري ((عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} [يوسف: 110] قَالَ: قُلْتُ: أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: «كُذِّبُوا» قُلْتُ: فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ؟ قَالَتْ: «أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ» فَقُلْتُ لَهَا: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا، قَالَتْ: «مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا» [صحيح البخاري 6/77-78])). [دراسات عضيمة ص19]
((3)) اتِّهام النحاة بتخطئة القرّاء, ونماذج منها.
((وكذلك قراءة الحسن: "ولا أَدْرَأْتُكُم به" جاء به كأنه من "درأته" أي: دفعته وليس منه, وإنما هو من "دريت بالشيء" أي: علمت به, وكذلك قراءة من قرأ "عادَ للُّؤلى", فهمز وهو خطأ منه. وهو بمنزلة قول الشاعر:
لحب المؤقدان إلى مُؤْسَى
فهمز الواو الساكنة؛ لأنه توهم الضمة قبلها فيها.
ومن ذهب إلى أن "أَوّل من وَألَ" فهو عندنا مخطئ؛ لأنه لا حجة له عليه -وقد ذكرته قبل- ولهذا الغلط نظائر في كلامهم، فإذا جاءك فاعرفه لتسلمه كما سمعته ولا تقس عليه)). [المنصف لابن جني، شرح كتاب التصريف لأبي عثمان المازني ص: 311]
قيل له: هيهات! ما أبعدك عن تصور أحوالهم, وبعد أغراضهم ولطف أسرارهم, حتى كأنك لم ترهم وقد ضايقوا أنفسهم, وخففوا عن ألسنتهم, بأن اختلسوا الحركات اختلاسًا وأخفوها فلم يمكنوها في أماكن كثيرة ولم يشبعوها؛ ألا ترى إلى قراءة أبي عمرو " مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ " مختلسًا لا محققًا؛ وكذلك قوله عز وجل: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} مخفي لا مستوفي, وكذلك قوله عز وجل: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} مختلسًا غير ممكِّنٍ كسْرَ الهمزة, حتى دعا ذلك من لطف عليه تحصيل اللفظ إلى أن ادعى أن أبا عمرو كان يسكن الهمزة والذي رواه صاحب الكتاب اختلاس هذه الحركة لا حذفها البتة, وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القراء الذين رووه ساكنًا. ولم يؤت القوم في ذلك من ضعف أمانة، لكن أتوا من ضعف دراية. وأبلغ من هذا في المعنى ما رواه من قول الراجز:
متى أنام لا يؤرقني الكري ..... ليلًا ولا أسمع أجراس المطيّْ
بإشمام القاف من يؤرقني ومعلوم أن هذا الإشمام إنما هو للعين لا للأذن وليست هناك حركة البتة ولو كانت فيه حركة لكسرت الوزن ألا ترى أن الوزن من الرجز ولو اعتدت القاف متحركة لصار من الكامل. فإذا قنعوا من الحركة بأن يومئوا إليها بالآلة التي من عاداتها أن تستعمل في النطق بها من غير أن يخرجوا إلى حس السمع شيئًا من الحركة مشبعة ولا مختلسة أعني إعمالهم الشفتين للإشمام في المرفوع بغير صوت يسمع هناك لم يبق وراء ذلك شيء يستدل به على عنايتهم بهذا الأمر ألا ترى إلى مصارفتهم أنفسهم في الحركة على قلتها ولطفها, حتى يخرجوها تارة مختلسة غير مشبعة وأخرى مشمة للعين لا للأذن. ومما أسكنوا فيه الحرف إسكانًا صريحًا ما أنشده من قوله: [الخصائص 1/73- 74]
رحت وفي رجليك ما فيهما .... و قد بدا هَنْكَ من المِئْزَرِ
بسكون النون البتة من "هنك ". وأنشدنا أبو عليٍّ رحمه الله لجرير:
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فلا تعرفكم العرب
بسكون فاء تعرفكم أنشدنا هذا بالموصل سنة إحدى وأربعين, وقد سئل عن قول الشاعر:
فلما تبين غب أمري وأمره .... وولت بأعجاز الأمور صدور
وقال الراعي:
تأبى قضاعة أن تعرفْ لكم نسبا ... وابنا نزار فأنتم بيضةُ البَلَدِ
وعلى هذا حملوا بيت لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبطْ بعضَ النفوس حِمامُها
وبيت الكتاب:
فاليوم أشرب غير مستحقب ...... إثمًا من الله ولا واغــل
[الخصائص 1/ 75]
وعليه ما أنشده من قوله:
إذا اعوججن قلت: صاحب قوم
واعتراض أبي العباس في هذا الموضع إنما هو رَدٌّ للرواية, وتحكم على السماع بالشهوة مجردة من النَّصِفَةِ, ونفسه ظلم لا من جعله خصمه. وهذا واضح. ومنه إسكانهم نحو رسل, وعجز, وعضد, وظرف, وكرم, وعلم, وكتف, وكبد وعصر. [الخصائص 1/ 76]
********
((وللرد على النحويين في تحكيم أقيستهم نسوق أقوال العلماء في ذلك)) عضيمة 1/27 ((ومنهم من قال أن يكون الأول حرف مد ولين, نحو محيايْ في قراءة الإسكان, ولو سلّم أن النحويين اتفقوا على الأول لم يمنعنا ذلك من القراءة بالإدغام المحض، لأن القراءة لا تتبع العربية بل العربية تتبع القراءة لأنها مسموعة من أفصح العرب بإجماع وهو نبينا- صلى الله عليه وسلّم- ومن أصحابه ومن بعدهم إلى أن فسدت الألسن بكثرة المولَّدين، وهم أيضا من أفصح العرب، وقد قال ابن الحاجب ما معناه: إذا اختلف النحويون والقراء كان المصير إلى القراء أولى؛ لأنهم ناقلون عمن ثبتت عصمته من الغلط، ولأن القراءة ثبتت تواترًا ,وما نقله النحويون آحاد، ثم لو سلّم أن ذلك ليس بمتواتر؛ فالقراء أعدل وأكثر فالرجوع إليهم أولى, وأيضًا فلا ينعقد إجماع النحويين بدونهم لأنهم شاركوهم في نقل اللغة، وكثير منهم من النحويين.
وهذا كلام ليس مسلَّمًا به، فالتواتر والآحاد، لا أهمّيّة له في النحو واللغة، إذ المهمُّ هو أفراد المرويِّ سواء كان آحادًا أم متواترًا, ولا ينازع النحاة في أن ما جاء في القراءة، وإن خالف قياس النحاة، هو المتبوع قراءةً، وليس معناه لزومَ أن نقيس عليه، وإن كان ما جاء في القراءة أولى بالاستعمال من القياس، بل يتعيَّن في ذاته, وإن لم يصحّ القياس عليه، ولا تأسيس ضوابط مطّردة تبنى عليه.
وكون القرّاء أعدل ليس مناطًا يعلّق عليه الحكم اللغويّ؛ فالمهمّ هو أن يكون من رُوِيَتْ عنه اللغة سليم السليقة، يتكلّم على جبلّته اللغويّة، لا يستطيع تغييرها، ولا تكلّف غيرها، ينطق على سجيّته وطبعه، وأهل النحو واللغة أخذوا عن الأعراب مباشرة، وأسانيدهم عالية، تفوق في علوِّها أسانيد القرّاء، وغيرهم كالمحدِّثين والأخباريين والمؤرِّخين.
وأمّا دليل الإجماع عند النحاة فهو محلّ رفضٍ لدى أكثر النحاة للاختلاف فيمن ينعقد بهم إجماع أهل العربيّة، وليس له مكان في الحديث عن تفضيل القرّاء على النحاة في اللغة, ومشاركتهم النحاة في روايتها.
وكلام الفخر الآتي لا قيمة له، وهو كلام من لم يلمَّ بطريقة النحاة في الاحتجاج؛ إذ لا يصحّحون القراءة بكلام العرب، وإنّما يصحِّحون القراءة بالرواية وإسنادها، ومدى إتقان القارئ قراءته، وإن خالفت كلام العرب، وقياس النحاة؛ لأنّها دليل بنفسها، والكلام هو في طرد القياس عليها وعدمه, وهو موضع كلام النحاة، وحين يستشهدون للقراءة بشيءٍ من كلام العرب إنما يؤازرونها ويقوّونها، ويحتجّون لها، وإن لم يلزم منه القياس. وهم بفعلهم لا يثبتون القراءة، وإنّما يقصدون إلى إثباتِ نظيرٍ لها من كلام العرب. كما أنّهم لم يقيموا قواعدهم, ولم يؤسِّسوا لضوابطهم، بالبيت والبيتين، بل لهم أصول أبانها علماء العربية، عليها بنِيَت القواعد، ورُسِمت الضوابط.
وقال الإمام الفخر ما معناه: أنا شديد العجب من النحويين إذا وجد أحدهم بيتا من الشعر، ولو كان قائله مجهولا يجعله دليلا على صحة القراءة، وفرح به، ولو جعل ورود القراءة دليلا على صحته كان أولى.
وقال صاحب الانتصاف (هو ابن المنيِّر الإسكندري ت683هـ): «ليس القصد تصحيح القراءة بالعربية بل تصحيح العربية بالقراءة».
قلت: لم يقصد النحاة إلى تصحيح القراءة بالعربية، فهم مسلِّمون لها، قابلوها، بل يقرءون بها، ويؤثرونها على ما لديهم من قواعد وأقيسة، وإن خالفتها، كما أنّه لا تصحّح العربية بالقراءة لا تصحّح القراءة بالعربية؛ لأن القراءة كسائر كلام العرب الثابت المرويِّ عمّن يحتجّ بلغته؛ فالكلّ دليل نحويّ، ويعامل معاملة الدليل النحويّ في الاحتجاج به، بشرطي الاعتداد به وكفايته، كما لا تصحّح القراءة بأقيسة العربية؛ لأنها مرويّة بالسند المتّصل شفاهًا عمّن يحتجّ بلغته، بل هو الأفصح لسانًا والأصحّ بيانًا.
وقال السيوطي في كتابه الاقتراح في أصول النحو: «فكل ما ورد أنه قرئ به جاز الاحتجاج به في العربية, سواء كان متواترًا، أم آحادًا، أم شاذًّا»، ثم قال: «وكان قوم من النحاة المتقدمين يعيبون على عاصم وحمزة وابن عامر قراءات بعيدة في العربية وينسبونهم إلى اللحن وهم مخطئون في ذلك فإن قراءتهم ثابتة بالأسانيد المتواترة لا طعن فيها وثبوت ذلك دليل على جوازه في العربية»، وقد ردّ المتأخرون منهم ابن مالك على من عاب عليهم بأبلغ رد، واختار ما وردت به قراءتهم في العربية، وإن منعه الأكثرون. [ينظر كلام ابن ملك وتعقيب الشاطبي في موضعه من هذا العمل] .
فالحاصل أن الحق الذي لا شك فيه، والتحقيق الذي لا تعويل إلا عليه أن الجمع بين الساكنين جائز، لورود الأدلة القاطعة به، فما من قارئ من السبعة وغيرهم إلا وقرأ به في بعض المواضع، وورد عن العرب، وحكاه الثقات عنهم، واختاره جماعة من أئمة اللغة منهم أبو عبيدة، وناهيك به، وقال: هو لغة النبي فيما يروى عنه نِعْمَّا بإسكان العين وتشديد الميم. نِعْمّا المال الصالح للرجل الصالح، و حكى النحويُّونَ الكوفيُّونَ سماعًا من العرب شهر رمضان مدغما، و حكى سيبويه ذلك في الشعر، وإنما أطلت في هذه المسألة الكلام لأنه اللائق بالمقام. وعن الفرّاء: غلط الشيخ في قراءته «الشياطون» ظنّ أنها النون التي على هجاءين، فقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة، فهلا جاز أن يحتجّ بقول الحسن وصاحبه- يريد: محمد بن السميفع- مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا به إلا وقد سمعا فيه. [تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل 3/ 339] اوقال أبو حيّان: "الشَّيَاطُونَ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الْبَقَرَةِ، وَقَدْ رَدَّهَا أَبُو حَاتِمٍ والفرّاء، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هِيَ غَلَطٌ مِنْهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هُوَ غَلَطٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: غَلِطَ الشَّيْخُ، ظَنَّ أَنَّهَا النُّونُ الَّتِي عَلَى هَجَائِنَ. فَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: إنْ جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الْعَجَّاجِ وَرُؤْبَةَ، فَهَلَّا جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَصَاحِبِهِ، يُرِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ السَّمَيْفَعِ، مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْرَآ بِهَا إِلَّا وَقَدْ سَمِعَا فِيهِ؟ [البحر المحيط في التفسير 8/ 196] وابن السميفع هو (محمد بن السميفع اليماني أحد القراء، له قراءة شاذة منقطعة السند، قاله أبو عمرو الداني، وَغيره. الداني: لا أعلم لقراءة ابن السميفع قراءة يوصلها وإنما يروى موقوف عليه قال: وَلا أعلم له راويًا غير إسماعيل بن مسلم.) [لسان الميزان ترجمة 6886].
وَفي بعض مسائل الإدغام بين النحاة والقرّاء قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ((وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ نَخْسِفْ بِهِمْ، بِالْإِدْغَامِ، وَلَيْسَتْ بِقَوِيَّةٍ. انْتَهَى. وَالْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَيُوجَدُ فِيهَا الْفَصِيحُ وَالْأَفْصَحُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَيْسِيرِهِ تَعَالَى الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَلَا الْتِفَاتَ لِقَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ وَلَا الزَّمَخْشَرِيِّ. [البحر المحيط في التفسير 8/ 523] ومراده بـ "ليست بقويّةٍ" أنّها ليست بقويةٍ في قياس النحو، ولم يطعن في سندها وثبوتها قراءةً, وهو لا يزيد على قول أبي عليٍّ وغيره، وينظر في هذا ما أوردنه ص . وتفسير الزمخشريِّ للردِّ واضح، لا يتعارض مع ما قلناه، ممّا لا يدع مجالا لتحميل كلامه ما لا يحتمل.
وَأَدْغَمَ الْكِسَائِيُّ الْفَاءَ فِي الْبَاءِ فِي نَخْسِفْ بِهِمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْبَاءَ أَضْعَفُ فِي الصَّوْتِ مِنَ الْفَاءِ، فَلَا تُدْغَمُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ تُدْغَمُ فِي الْفَاءِ، نَحْوُ: اضرب فُلَانًا، وَهَذَا [مثل] مَا تُدْغَمُ الْبَاءُ فِي الْمِيمِ، كَقَوْلِكَ: اضْرِبْ مَالِكًا، وَلَا تُدْغَمُ الْمِيمُ فِي الْبَاءِ، كَقَوْلِكَ: اصمم بِكَ، لِأَنَّ الْبَاءَ انْحَطَّتْ عَنِ الْمِيمِ بِفَقْدِ الْغُنَّةِ الَّتِي فِي الْمِيمِ. [البحر المحيط في التفسير 8/ 523]
قَالَ صَاحِبُ (الْمُمْتِعِ): لَا يُجِيزُ سِيبَوَيْهِ إِسْكَانَ هَذِهِ التَّاءِ فِي تَتَكَلَّمُونَ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّهَا إِذَا سَكَنَتِ احْتِيجَ لَهَا أَلِفُ وَصْلٍ، وَأَلِفُ الْوَصْلِ لَا تَلْحَقُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ، فَإِذَا اتَّصَلَتْ بِمَا قَبْلَهَا جَازَ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَمْزَةِ وَصْلٍ. إِلَّا أَنَّ مِثْلَ إِنْ تَوَلَّوْا وإِذْ تَلَقَّوْنَهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى حَالٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ، وَلَيْسَ السَّاكِنُ الأول حرفَ مدٍّ ولينٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقِرَاءَةُ الْبَزِّيِّ ثَابِتَةٌ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَلَيْسَ الْعِلْمُ مَحْصُورًا وَلَا مَقْصُورًا عَلَى مَا نَقَلَهُ وَقَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ، فَلَا تَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ. [البحر المحيط في التفسير 2/ 679]
قلت: ((هذا كلام غير علميّ، لو جاز في القرآن لم يبنَ عليه قاعدة، ولا يلزم من وروده في القرآن جعله قياسًا مطّردًا)). وقول أبي حيّان ((فلا تنظر إلى قولهم)) قولٌ لم يحرَّر؛ فالنحاة يتحدَّثون عن القياس, ولا يتحدّثون عن القراءة من حيث هي قراءة؛ فالقراءة عندهم محفوظة لا تخالف، ويجب اتِّباعها، وإن خالف القواعد والقياس، وهم إنّما يمنعون القياس عليها، ولا يقصِدون إلى تخطئة القراءة، وعدم جواز القراءة بها، أو التشكيك في روايتها، والأمر مختلف، كما بيّنّا في مواضع من هذا العمل.
((فَإِنْ سَكَنَتِ الرَّاءُ أَدْغَمَهَا فِي اللَّامِ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ إِلَّا مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ، عَنِ الْيَزِيدِيِّ، عَنْهُ: أَنَّهُ أَظْهَرَهَا، وَذَلِكَ إِذَا قَرَأَ بِإِظْهَارِ الْمِثْلَيْنِ، وَالْمُتَقَارِبَيْنِ الْمُتَحَرِّكَيْنِ لَا غَيْرَ، عَلَى أَنَّ الْمَعْمُولَ فِي مَذْهَبِهِ بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْإِدْغَامِ نَحْوُ: وَيَغْفِرْ لَكُمْ. انْتَهَى. وَأَجَازَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَحَكَيَاهُ سَمَاعًا، وَوَافَقَهُمَا عَلَى سَمَاعِهِ رِوَايَةً وَإِجَازَةً أَبُو جَعْفَرٍ الرُّؤَاسِيُّ، وَهُوَ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ أَبُو عَمْرٍو عَلَى الْإِدْغَامِ رِوَايَةً وَإِجَازَةً، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَابَعَهُ يَعْقُوبُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ حَسَّانَ. وَالْإِدْغَامُ وَجْهٌ مِنَ الْقِيَاسِ، ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَقَدِ اعْتَمَدَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْقُرَّاءِ مِنَ الْإِدْغَامِ الَّذِي مَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ يَكُونُ ذَلِكَ إِخْفَاءً لَا إِدْغَامًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْقُرَّاءِ أَنَّهُمْ غَلَطُوا، وَمَا ضَبَطُوا، وَلَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِدْغَامِ، وَعَقْدَ هَذَا الرَّجُلُ بَابًا قَالَ: هَذَا بَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ مَا أَدْغَمَتِ الْقُرَّاءُ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُهُ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ لَيْسَ مَحْصُورًا فِيمَا نَقَلَهُ البصريون فقط، والقراآت لَا تَجِيءُ عَلَى مَا عَلِمَهُ الْبَصْرِيُّونَ وَنَقَلُوهُ، بَلِ الْقُرَّاءُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يَكَادُونَ يَكُونُونَ مِثْلَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى نَقْلِ إدغام الراء في اللام كَبِيرُ الْبَصْرِيِّينَ وَرَأْسُهُمْ: أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ. وَكُبَرَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ: الرُّؤَاسِيُّ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَجَازُوهُ وَرَووهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ, وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى عِلْمِهِمْ وَنَقْلِهِمْ؛ إِذْ مَنْ عَلِمَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّ رَاوِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُخْطِئٌ مَرَّتَيْنِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ صَوَابٌ، وَالَّذِي رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ الرُّوَاةُ، وَمِنْهُمْ: أَبُو مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيُّ وَهُوَ إِمَامٌ فِي النَّحْوِ, إِمَامٌ في القراءات, إِمَامٌ فِي اللُّغَاتِ)). [البحر المحيط في التفسير 2/ 754]
قلت: الإدغام صحيح في القراءة, يحفظ ولا يقاس عليه، وكلام النحاة عن تأسيس قياسٍ يطّرِد. وقول أبي حيّان لا يخلو من تحاملٍ وغلوٍّ يجافي الحقيقة؛ فنحاة البصرة لم يدّعوا ولا غيرهم الإحاطة باللغة وكلام العرب، واستعمالاتهم، فإمام أهل البصرة في العربية والقراءة أبو عمرو بن العلاء، هو الذي قال: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا، ولو جاءكم لجاءكم علم وشعر كثير، غير أنّهم إنّما يهتمّون بما يؤسِّسون عليه قياسهم، وهو الأعمّ, ويطَّرحون ما سواه ممّا يخرج عن قياسهم، ويعدّونه لغاتٍ من لغات العرب، للمتكلّم أن يستعملها كما جاءت، لا يتعدّى ذلك إلى القياس عليها، كما بيّنّا في مواضع من هذا العمل.
وقال أبو حيّان: ((وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَعايِشَ بِالْيَاءِ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْيَاءَ فِي الْمُفْرَدِ هِيَ أَصْلٌ لَا زَائِدَةٌ فَتُهْمَزُ وَإِنَّمَا تُهْمَزُ الزَّائِدَةُ نَحْوُ: صَحَائِفُ فِي صَحِيفَةٍ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ: مَعَائِشَ بِالْهَمْزَةِ وَلَيْسَ بِالْقِيَاسِ لَكِنَّهُمْ رَوَوْهُ وَهُمْ ثِقَاتٌ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَشَذَّ هَذَا الْهَمْزُ، كَمَا شذ في منائر جَمْعِ مَنَارَةٍ وَأَصْلُهَا مَنْوَرَةٌ وَفِي مَصَائِبَ جَمْعِ مُصِيبَةٍ وَأَصْلُهَا مُصْوِبَةٌ وَكَانَ الْقِيَاسُ مَنَاوِرَ وَمَصَاوِبَ. وَقَدْ قَالُوا: مَصَاوِبَ عَلَى الْأَصْلِ, كَمَا قَالُوا فِي جَمْعِ مَقَامَةٍ مَقَاوِمَ وَمَعُونَةٍ مَعَاوِنَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَمِيعُ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ تَزْعُمُ أَنَّ هَمْزَهَا خَطَأٌ، وَلَا أَعْلَمُ لَهَا وَجْهًا إِلَّا التَّشْبِيهَ بِصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ, وَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: أَصْلُ أَخْذِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنْ نَافِعٍ وَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَا الْعَرَبِيَّةُ وَكَلَامُ العرب التصحيح فِي نَحْوِ هَذَا. انْتَهَى. وَلَسْنَا مُتَعَبِّدِينَ بِأَقْوَالِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رُبَّمَا هَمَزَتِ الْعَرَبُ هَذَا وَشَبَهَهُ يتوهّمون أنها فعلية فَيُشَبِّهُونَ مُفْعِلَةَ بِفَعِيلَةَ. انْتَهَى. فَهَذَا نَقْلٌ مِنَ الْفَرَّاءِ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا يَهْمِزُونَ هَذَا وَشَبَهَهُ, وَجَاءَ به نقل الْقِرَاءَةِ الثِّقَاتُ، ابْنُ عَامِرٍ وَهُوَ عَرَبِيٌّ صُرَاحٌ وَقَدْ أَخَذَ الْقُرْآنَ عَنْ عُثْمَانَ قَبْلَ ظُهُورِ اللَّحْنِ، وَالْأَعْرَجُ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ قُرَّاءِ التَّابِعِينَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْعِلْمِ بِالْمَكَانِ الَّذِي قَلَّ أَنْ يُدَانِيَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، وَالْأَعْمَشُ وَهُوَ مِنَ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالْحِفْظِ وَالثِّقَةِ بِمَكَانٍ، وَنَافِعٌ وَهُوَ قَدْ قَرَأَ عَلَى سَبْعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَهُمْ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالضَّبْطِ وَالثِّقَةِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي لَا يُجْهَلُ، فَوَجَبَ قَبُولُ مَا نَقَلُوهُ إِلَيْنَا وَلَا مُبَالَاةَ بِمُخَالَفَةِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَأَمَّا قَوْلُ المازني أصل أخذ هذه الْقِرَاءَةِ عَنْ نَافِعٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهَا نُقِلَتْ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَعَنِ الْأَعْرَجِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ نَافِعًا لَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَا الْعَرَبِيَّةُ فَشَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا الْعَرَبِيَّةُ, وَهِيَ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ فَهُوَ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ إِذْ هُوَ فَصِيحٌ مُتَكَلِّمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ نَاقِلٌ لِلْقِرَاءَةِ عَنِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ وَكَثِيرٌ من هؤلاء النُّحَاةِ يُسِيئُونَ الظَّنَّ بِالْقُرَّاءِ ولا يجوز لهم)) [البحر المحيط في التفسير 5/ 15]
وقوله((وَلَسْنَا مُتَعَبِّدِينَ بِأَقْوَالِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ)) إيراد مثل هذه العبارة، من توظيف النصِّ الشرعيِّ ليؤدِّي مهمّة في مسألة علميّة, وهوتوظيف غير مقبول، ولسنا بأتقى وأورع من النحاة الذين يضعون القراءة موضعها الصحيح. وكلام الفرّاء لا يخرج عن كلام النحاة؛ فهو يقول: إنّه قليل في كلام العرب، وهذا لا يلزم منه القياس عليه، وهل قال أحدٌ: إنّ القُرّاء يقرءون بما يخالف العربية، أو يقرءون بما ليس له مثيلٌ في لغةٍ من لغات العرب، أو نظير؟
وكذا قوله)) فَوَجَبَ قَبُولُ مَا نَقَلُوهُ إِلَيْنَا وَلَا مُبَالَاةَ بِمُخَالَفَةِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ فِي مِثْلِ هَذَا)). لا يلتفت لمثله؛ إذ هو كلام خطابيّ، بعيد عن أصول العلم؛ إذ كيف يهمل كلام أئمّة العربية في شأنٍ من شئونها؟!ومن المرجع إذا لم يكن علماء البصرة هم المرجع؟!
* * *
موقف الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة: عرض.
عقد الشيخ عضيمة فصلًا للقراء السبعة ونصيب كل منهم في تلحين قراءته, ثم الطوائف التي لحّنت القراءات من الصحابة والتابعين, كابن عباس، وعائشة, وشريح القاضي, والنحويين القراء, أمثال: أبي عمرو, والكسائي, والنحويين الذين لم يصفهم بالقراء، مثل: سيبويه, وأبي الحسن الأخفش, والفراء, والمازني, والمبرّد, والزجاج, وأبي جعفر النحاس, وأبي علي الفارسي, وأبي الفتح بن جني, والزمخشري, وكمال الدين الأنباري, وأبي البقاء العكبري. ومن اللغويين أمثال الأصمعي, وأبي عبيدٍ القاسم بن سلام, وأبي حاتم السجستاني, وابن قتيبة, وابن خالويه, والجوهريّ. ومن المفسّرين أمثال: ابن جرير الطبري, وابن عطية. ومن مصنفي القراءات والقراء, أمثال: أبي بكر بن مجاهد, وعاصم الجحدري, وهارون الأعور.
أسباب طعن النحاة في القراءات والقرّاء من وجهة نظر الشيخ عضيمة:
رجع الشيخ عضيمة موقف النحاة من بعض القراءات إلى ستة أسباب:
1) الاحتكام إلى ما وضعوه من قواعد, وسنّوه من قوانين؛ من مثل: الفصل بين المضاف والمضاف إليه, والعطف على الضمير المجرور من غير إعادة الخافض, والعطف على معمولي عاملين مختلفين, وإضافة مائة إلى الجمع, وتسكين لام الأمر مع "ثمّ", وإدغام الراء في اللام, والفاء في الباء، وتسكين الحركة الإعرابية, واجتماع الساكنين على غير حدِّه.
2) خفاء توجيه القراءة لدى بعضهم ، مثل توهيم الفارسي قارئ "هِئْتَ لك"[يوسف آية 23] بفتح التاء وكسر الهاء. وتلحين المبرّد تشديد "لمّا" , من قوله {وإِن كُلًّا لمّا} [هود آية 111] وذكر أمثلة أخرى في [دراسات لأسلوب القرآن 1/22-23]
3) أخذهم بالشائع من اللغات وإغفال ما سواه، مثل قراءة ابن عامر{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] بالواو {بالغدوة}واتهام أبي عبيدة له أنه إنما قرأ تلك القراءة اتّباعًا لخطِّ المصحف, وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها ....إلخ. ومثل قراءة الأعمش: وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم: 22] بكسر الياء، كأنه ظن أن الباء تخفض الحرف كله، واتّبعه على ذلك (حمزة) .[تأويل مشكل القرآن ص: 44]
4) عدم ورود الوزن عن العرب ، "مثل ميسُرة"{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [البقرة: 280] قراءة ضم العين(السين) وقد أنكرها الأخفش. وقراءة شنآن بإسكان النون.
5) النظر إلى مناسبة المعنى مثل كسر الهمزة من "أنْ" في قراءة ابن كثير لقوله تعالى {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [المائدة: 2 ] فهذه الآية نزلت عام الفتح سنة ثمانٍ للهجرة, والصدّ في الحديبية سنة ستٍّ، وقد خطّأ قراءة ابن كثيرٍ أبو جعفر النحّاس. .
6) مخالفة الاستعمال وإن وافق القواعد, مثل قراءة ((أئِمّة)) بالياء ، موافقة للقياس الصرفي، قال الزمخشري: ((وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة. ولا يجوز أن تكون قراءة. ومن صرح بها فهو لا حن محرف)). [تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل 2/ 251] والهمز قراءة أبي عمرو وابن كثير ونافع. ومثل قراءة ابن كثير, ونافع, وحمزة {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9]بتخفيف الميم, وضعّفها الأخفش, وأبو حاتم. البحر المحيط 7/418 [ينظر دراسات لعضيمة 1/25]
*******
مناقشة أفكار الشيخ عضيمة, وآرائه
وقد انبرى الشيخ عضيمة للردّ على النحاة فيما ذهبوا إليه بشأن القراءات بكلامٍ خلاصته: أن إنكار عائشة وابن عباس ومن حذا حذوهما لبعض القراءات كان قبل معرفة المتواتر من غيره في القراءات، وقبل التسبيع, وما صحبه من تقسيم القراءة إلى متواترة، ومشهورة، وشاذة، وباطلة. وذهب إلى أنه ليس كل صحابي كان يحفظ جميع روايات القراءة, وأورد في ذلك قصّة عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم، وكلامه على صحته لا يدل على تخطئة من اجتهد وهو أهل للاجتهاد في ردّه ما لم يبلغه من العلم والرواية، وهو ما يفعله في ردِّ القراءة النحاة واللغويون والقراء وغيرهم في رد ما يستغربونه من القراءة, أو لم يتّسق مع ما لديهم من قوانين العربية وقواعدها المطردة. واستأنس بكلام بعض النحاة قبله في ردِّهم على من اعترض القراءات، من نحو ردِّ أبي حيّان قولَ ابن عطية: ((وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يغشي» من أغشى، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «يغشّي» بالتشديد من غشّى، وهما طريقان في تعدية «غشي» إلى مفعولٍ ثانٍ، وقرأ حميد «يغشى» بفتح الياء والشين ونصب «الليل» ورفع «النهار» ، كذا قال أبو الفتح وقال أبو عمرو الدانيُّ برفع «الليل» قال القاضي أبو محمد: وأبو الفتح أثبت)). [تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 2/ 409]
قال أبوحيّان: ((... يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً التَّغْشِيَةُ التَّغْطِيَةُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُذْهِبُ اللَّيْلُ نُورَ النَّهَارِ لِيَتِمَّ قِوَامُ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا بِمَجِيءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَاللَّيْلُ لِلسُّكُونِ وَالنَّهَارُ لِلْحَرَكَةِ, وَفَحْوَى الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهَارَ يُغْشِيهِ اللَّهُ اللَّيْلَ, وَهُمَا مَفْعُولَانِ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ وَالْهَمْزَةَ مُعَدِّيَانِ، وَقَرَأَ بِالتَّضْعِيفِ الْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ وَبِإِسْكَانِ الْغَيْنِ بَاقِي السَّبْعَةِ وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الشِّينِ وَضَمِّ اللَّامِ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ كَذَا قَالَ عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي عَنْ حُمَيْدٍ بِنَصْبِ اللَّيْلَ وَرَفْعِ النَّهارَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَبُو الْفَتْحِ أَثْبَتُ. انْتَهَى وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ أَثْبَتُ كَلَامٌ لَا يَصِحُّ؛ إِذْ رُتْبَةُ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ فِي الْقِرَاءَاتِ وَمَعْرِفَتِهَا وَضَبْطِ رِوَايَاتِهَا وَاخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا يُدَانِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَاتِ, فَضْلًا عَنِ النحاة الذين ليسوا مقرئين, وَلَا رَوَوُا الْقُرْآنَ عَنْ أَحَدٍ وَلَا رُوِيَ عَنْهُمُ الْقُرْآنُ هَذَا مَعَ الدِّيَانَةِ الزَّائِدَةِ وَالتَّثَبُّتِ فِي النَّقْلِ وعدم التجاسر ووفور الحظِّ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ, فَقَدْ رَأَيْتُ لَهُ كِتَابًا فِي "كَلَّا" وَكِتَابًا فِي إِدْغَامِ أَبِي عَمْرٍو الْكَبِيرِ دَلَّا عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا لَا يَكَادُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النحاة ولا المقرئين، إِلَى سَائِرِ تَصَانِيفِهِ (رَحِمَهُ اللَّهُ) وَالَّذِي نَقَلَهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ أَمْكَنُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ؛ إِذِ اللَّيْلُ فِي قِرَاءَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا هُوَ الْفَاعِلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ إِذْ هَمْزَةُ النَّقْلِ أَوِ التَّضْعِيفُ صَيَّرَهُ مَفْعُولًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَنْصُوبَيْنِ تَعَدَّى إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ وَأَحَدُهُمَا فَاعِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا كَمَا لَزِمَ ذَلِكَ فِي مَلَّكْتُ زَيْدًا عَمْرًا؛ إِذْ رُتْبَةُ التَّقْدِيمِ هِيَ الْمُوَضِّحَةُ أَنَّهُ الْفَاعِلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا لَزِمَ ذَلِكَ فِي ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى وَالْجُمْلَةُ مِنْ يَطْلُبُهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى, وَهُوَ اللَّيْلُ إِذْ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ قَبْلَ التَّعْدِيَةِ وَتَقْدِيرُهُ حَاثًّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من النَّهَارِ وَتَقْدِيرُهُ مَحْثُوثًا, وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: طَلَبًا حَثِيثًا أي: حاثا أَوْ مُحِثًّا وَنِسْبَةُ الطَّلَبِ إِلَى اللَّيْلِ مَجَازِيَّةٌ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَاقُبِهِ اللَّازِمِ فَكَأَنَّهُ طَالِبٌ لَهُ لَا يُدْرِكُهُ، بَلْ هُوَ فِي إِثْرِهِ بِحَيْثُ يَكَادُ يُدْرِكُهُ, وَقَدَّمَ اللَّيْلَ هُنَا كَمَا قَدَّمَهُ فِي )ُىولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ( وَفِي )وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ( وَفِي) وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ( [البحر المحيط في التفسير 5/ 66]
********
أ – القراء نحاة, والنحاة قرّاء.
الصلة بين علوم العربية وعلوم القرآن منذ نشأة علوم العربية ، بل كان القرآن هو السبب لظهورها ، وتدوينها ، واشتغال الناس بها ، وجعلها أساس العلوم ؛ إذ يحكى أنَّ زيادًا لما ولي العراق لمعاوية t بعث إلى أبي الأسود ( ظالم بن عمرو ) الدُّؤلي وقال له : اعمل شيئًا تكون فيه إمامًا ، تُعْرِبُ به كتابَ الله ( تعالى ) ، وينتفع الناس به ، فاستعفاه من ذلك ، حتّى سمع رجلًا يقرأ (( أنّ الله بريء من المشركين ورسوله )) بكسر اللام ، فقال : ما ظننت أمر الناسِ صار إلى هذا ، أو لا أظن يَسَعُني إلاّ أنْ أضَعَ شيئًا أُصْلِحُ به نحو هذا ، أو كلام هذا معناه، فوضع النحو)). [أبو الطَّيِّب اللّغويّ ( ت 351 هـ ) مراتب النحويين / تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ص8] ((فجاء أبو الأسود إلى زيادٍ ، فقال له : أبْغِني كاتبًا يفهمُ عَنِّي ما أقول، فجيء برجُلٍ من عبد القيس ، فلم يَرْض فهمه، فأُتِيَ بآخر من قريش، فقال له: إذا رأيتني قد فتحتُ فمي بالحرف، فانقط نُقْطةً على أعلاه، وإذا ضَمَمْتُ فمي فانقط نقطةً بين يدي الحرف، وإذا كسَرْتُ فمي فاجْعَلِ النقطة تحت الحرف، فإنْ أتْبعْتُ شيئًا من ذلك غُنَّةً ، فاجْعَلِ النقطة نقطتين ، ففَعَل ، فهذا نقط أبي الأسود )). [مراتب النحويين ص10-ص11 وانظر المعرّي تاريخ العلماء النحويّين ص 167 ] .
وكان علماءُ العربيّة الأوائل يجمعون إلى علم العربيّة علمًا أو أكثر من علوم القرآن ، من قراءة ، أو تفسير ، أو غير ذلك ، فقد (( أخذ عبد الله ابن أبي إسحاق عن يحيى بن يعمر القراءة، وأخذها عن نصر ابن عاصم )) [مراتب النحويين ص 32]. وكان أبو عمرو بن العلاء إمامًا في العربيّة والقراءة ، حتّى (( قال شعبة لعليّ بن نصر الجهضمي : خُذِ قراءة أبي عمروٍ ، فيوشِكُ أن تكون إسنادًا . قال أبو حاتمٍ : وكان أبو عمروٍ يكتب إلى عكرمة بن خالدٍ في مكّة ، فيسأله عن الحروف )) [مراتب النحويين ص 35].
وممّن فاق في الإقراء والقراءة عاصم بن أبي النّجود وابن محيصن ، وكانا يلمّان بشيءٍ من النحو. [مراتب لنحويين ص 49].
وممّن أجاد النحو من القُرّاء يحيى بن يعمر ، كان أعلم النّاس وأفصحهم ، ومع ذلك لا يذكرونه ؛ لأنَّه استبدَّ بالنّحو غيرُه [مراتب لنحويين ص50].
وكان الأوائل من أهل العلم يَعُدُّون العلم بالعربيّة منقبةً للقارئ ، ومدعاةً لتفضيله على غيره ، حتّى (( قال أبو حاتم ( عن حمزة الزّيّات ) : وإنّما أهل الكوفة يكابرون فيه ، ويباهتون ، فقد صَيَّره الجُهَّال من النّاس شيئًا عظيمًا بالمكابرة والبَهْتِ ، وقولُ ذوي اللِّحى العظام منهم : ((كانتِ الجِنُّ تقرأُ على حمزةَ )) . قال : الجنُّ لم تقرأْ على ابن مسعودٍ ، والذين من بعده ، فكيف خصّت حمزة بالقراءة عليه ؟ وكيف يكون رئيسًا وهو لا يعرفُ الساكن من المتحرّك ، ولا مواضع الوقف والاستئناف ، ولا مواضِعَ القطع والوصل والهمز ! وإنما يحسن مثل هذا أهل البصرة ، لأنهم علماء بالعربية ، قرّاء رؤساء )) [مراتب النحويين ص 52 – 53]. وكان الأصمعيُّ : (( لا يفسِّر شيئًا من القرآن ، ولا شيئًا من اللُّغة له نظير ، أو اشتقاق في القرآنِ ، وكذلك الحديث تحرُّجًا )) [مراتب النحويين ص83].
و(( قال أبو حاتمٍ : الكسائيُّ أعلم الكوفيّين بالعربية والقرآن ، وهو قدوتهم )) [مراتب النحويين ص121].
و(( قال المازني : قرأت على يعقوب الحضرميِّ القرآن ، فلمّا ختمْتُ رمى إليَّ بخاتمه ، وقال : خُذْ ، ليس لك مثل .
وختم أبو حاتم على يعقوب سبع خَتَماتٍ ، ويُقالُ : خمسًا وعشرين ختمةً ، فأعطاه خاتمه ، وقال : أقْرئ النّاسَ [مراتب النحويين ص126].
(( كان أبو حاتم في نهاية الثقة والإتقان ، والنهوض باللُّغة والقرآن مع علمٍ واسعٍ بالإعراب أيضًا )) [مراتب النحويين ص130 وانظر ص131-ص132].
هذه شذراتٌ من كتاب تراجم للغويين ، ولو نقلنا نظرنا إلى كتابٍ في تراجم القُرَّاء نموذجًا لعلوم القرآن ، وقرأنا في كتاب (( معرفة القُرّاء الكبار للذّهبيّ شمس الدين محمد بن أحمد ( ت 748 هـ ) لوجدنا فيه كثيرًا من مثل: (( قال اليزيديُّ: كان أبو عمروٍ قد عرف القراءات، فقرأ من كل قراءة بأحسنها ، وبما يختار العرب ، وممّا بلغه عن لغة النّبيّ × وجاء تصديقه في كتاب الله ( عزّ وجلّ ) )) [معرفة القرّاء الكبار / تحقيق محمد سيد جاد الحق ، ط أولى ، القاهرة ص4]. ونجد مثل (( أحكم العربية )) [ص54]، ومثل (( النحويّ )) [ص55، 109]، و(( قرأ العربيّة )) . ومثل (( كان عاصم نحويًّا فصيحًا )) [ص75] و(( كان حمزة الزَّيَّاتُ بصيرًا بالعربيّة )) [ص93] و(( إليه ( الكسائي ) انتهت الإمامةُ في القراءة والعربيّة )) [ص101]، ومثل (( كان أبو المنذر المُزنيّ فصيحًا نحويًّا )) [ص110]. ومثل ((كان يحيى بن المبارك اليزيديُّ فصيحًا مُفوَّهًا، بارعًا في اللُّغاتِ والآداب )) [ص125] ومثل (( ثمّ اشتغل ورشٌ بالقرآن والعربيّة فمهر فيهما )) [ص126] . (( وتبتَّلَ قالونُ لإقراء القرآن والعربيّة )) [ص129]. وقول أبي حاتم السجستاني في يعقوب بن إسحاق الحضرميّ: (( هو أعلم من رأيت بالحروف والاختلافِ في القرآنِ وعلله ومذاهبه ، ومذاهب النحويّين )) [ص130 وانظر ص131]. (( وكان لا يلحن في كلامه )) [ص131]و(( برع العبّاس ابن الفضل في معرفة الإدغام الكبير، وورد أنّه ناظر الكِسائيّ في الإمالة )) [ص133]. (( وكان القاسم بن سلاّم من أعلم أهل زمانه بلغات العرب )) [ص141] وقالوا في أحمد بن صالح (( كان رجلًا جامعًا يعرفُ الفقه والحديثَ والنحو )) [ص153]. و(( صنّف محمد ابن سعدان في العربيّة والقرآن )) [ص178 وانظر ترجمة هارون بن موسى ص199]. وقالوا عن أبي حاتم السجستانيّ : (( له اليدُ الطُّولى في اللُّغاتِ ، والشّعر ، والأخبار ، والعروض ، واستخراج المعمّى ، ولم يكُ في النّحو بذاك الماهر ، وقد قرأ كتاب سيبويه مرّتين على الأخفش )) [ص179]. ونجد مثل (( المقرئ الأديب )) [ص197]، و((المقرئ المؤدِّب )) [ص196]، وقال أبو عليّ القاليّ عن محمّد بن القاسم الأنباريِّ : (( كان يحفظ ثلثمائة ألف بيتٍ شاهدًا في القرآن )) [ص225] ، وفي ترجمة أحمد بن يعقوب التائب : (( له كتابٌ حَسَنٌ في القراءاتِ ، وهو إمام في هذه الصنعةِ ، ضابطٌ ، بصيرٌ بالعربيّة )) [ص227]. ومثل (( كان محمد بن النّضْرِ عارفًا بعلل القراءاتِ بصيرًا بالتفسير والعربيّة )) [ص235]، وفي ترجمة أبي بكر محمد بن مقسم : (( كان من أحفظ أهل زمانه لنحو الكوفيّين ، وأعرفهم بالقراءات مشهورها وغريبها وشاذّها . قال أبو عمروٍ الدانيُّ : (( هو مشهور بالضبط والإتقانِ ، عالمٌ بالعربيّة ، حافظ للغة ، حَسَنُ التصنيف في علوم القرآن )) [ص247]. وفي ترجمة أحمد بن نصر (( عالم بالقراءة ، بصير بالعربيّة )) [ص258] ومثله في ترجمة علي بن محمد الأنطاكي [ص275]، وفي ترجمة محمد بن عبد الله بن أبي بكر الأصبهاني (( ثقةٌ عالم بالعربيّة )) [ص259]. وفي ترجمة عبد الله بن عطيّة (( كان يحفظ فيما يقالُ خمسين أَلْفَ بيتٍ للاستشهاد على معاني القرآن )) [ص281]. وفي ترجمة عبد الباقي ابن الحُسَيْنِ: (( كان عالمًا بالعربية بصيرًا بالمعاني )) [ص287]. وفي ترجمة أبي عمر الطَّلَمَنْكي : (( كان رأسًا في علم القرآن : قراءاته وإعرابه )) [ص309]. وفي ترجمة مكي (( كان من أهل التبحُّر في علوم القراءات والعربية ... عالمًا بمعاني القراءات )) [ص317] وكان أحمد بن عمّارٍ ( ت 430 هـ ) (( رأسًا في القراءات والعربيّة )) [ص320] وتصدر إسماعيل بن خلفٍ ( ت 455 هـ ) (( للإقراء زمانًا ولتعليم العربية )) [ص341] وكان عبد الرحمن بن أحمد الرّازي العجليّ ( ت 504 هـ ) (( عالمًا بالأدب والنحو )) [ص337 ]وينظر ترجمة عبد الملك بن سلمة [ص427] (( وكان الهذليُّ يدرس علم النحو ويفهم الكلام منه وكان مقدّمًا في النحو والصرف ، عارفًا بالعلل ، وكان القشيريُّ يراجعه في مسائل النحو )) [ص349 ]. وكان أبو محمّد التميميّ ( ت 488 هـ ) (( مفسِّرًا لُغويًّا )) [ص356 ] ، و(( تصدّر ابن شعيب لإقراء القرآن والعربية والآداب )) [ص 359]. وفي ترجمة صاحب التجريد (( قرأ العربيّة على ابن بابشاذ )) [ص383 ] . وكان عبد الله بن سعدون ( ت قبل 540 هـ ) (( محققًا للعربيَّة )) [ص398 ]. و(( برع عبد الله بن عمرو بن هشام في العربية )) [ص 419]. و(( أخذ عنه أبو عمر بن عيّادٍ القراءات والتجويد )) [ص 419]. (( وكان أبو بكرٍ اللّخميُّ إمامًا في صناعةِ الإقراء ، مشاركًا في العربيّة )) [ص 425]. وفي ترجمة يحيى بن سعدون ( ت 567 ) (( المقرئ النحويّ ... برع على الزمخشريِّ وغيره في العربيَّة )) [ص 429 ] وينظر ترجمة محمد بن خلف (ت585هـ) [ص442]. وكان الحسن بن أحمد الهمذانيّ ( ت 569 هـ ) إمامًا في النحو واللغة )) [ص 435]. وكان لعبد المنعم بن أبي بكر (ت 586 هـ) (( حظٌّ من العربيّة )) [ص 444] . (( وكان زيد بن الحسن ، أبو اليمن الكنديّ شيخَ القُرَّاء والنحاة بدمشق )). [ص 467] (( وكان شعلةُ ( ت 656 هـ ) ذا معرفةٍ تامّةٍ بالعربية واللُّغة )) [ص536]. (( وانتهت إلى محمد بن عليّ الشاطبيِّ معرفة اللغة وغريبها )) [ص 542 ]. و(( كان العماد الأصفهاني ( ت 682 هـ ) فصيحًا مُفَوَّهًا، جيِّد العربيّة )) [ص 550]. وكان محمد بن أبي العلاء ( ت 569 هـ ) (( جيِّد المعرفة بالأدب )) [ص 568]. وفي ترجمة أبي حيَّانَ (( له مصنّفات في القراءاتِ والنحو )) [ص 578]. وفي ترجمة أبي بكر بن يوسف (( ولي مشيخة القراءة والعربيّة )) [ص 596]. وطلحة بن عبد الله مهر في القراءات والعربية [ص 597]. ووصف إسماعيل بن محمد ( ت715هـ ) بمعرفة القراءة ، والبصر بالعربيّة [ص 599]. و(( محمد بن خالدِ بن بختيار النحويّ .. تخرج به جماعة في العربيّة )) [ص 55]. والحسن بن عليّ بن عُبيدة النحويّ أخذ العربيّة عن أبي السعاداتِ بن الشجريّ [ص 55]. وفي ترجمة عبد الرحمن بن هرمز (( أوّل من وضع العربيّة بالمدينة )) [ص 63].
وقد قيل نحو من هذه العباراتِ في أمثال ابن مالك وغيره من الأئمّة، وفيما أوردناه كفاية، وهو يُصوِّر مدى الترابط والتلازم بين العربية وعلومها والقرآن وعلومه من قراءاتٍ، وتفسير، ورسم، وغير ذلك .
وأنت لو نظرت تراجم القرّاء، وتأمَّلْتَ أحوالهم لوجدت أنّ المقدَّم منهم في القراءة متقدّم في علم العربيّة ، والمتوسّط متوسّط ، والضعيف ضعيف ، فلا تكادُ تجدُ متقدِّمًا في القراءة ، وترى في ترجمته مثلًا (( ونظر في العربيّة )) [ص 581]، أو نحوها من العبارات التي توحي بضعف علمه في العربيّة. ولو نظرت في ترجمة أبي بكر بن محمّد المرسيّ لوجدت فيها (( تصدَّر لتعليم النحو )) [ص 590]، (( ولم يكن من ذلك الوقت يجاريه أحدٌ لا في القراءاتِ ولا في النحو )) [ص 590]. و(( تخرّج به جماعة في القراءات والعربية والأصول )) [ص 590]. (( ولم أشاهد أحدًا في القراءات مثله )) [ص 590]، ومثل هذا في ترجمة محمد بن أحمد بن بضحان [ص 592]، وكان إحكام العربيّة مدعاةً لحذقِ الفَنّ وعلم القراءة ، كما جاء في ترجمة محمد بن أيُّوبَ ( ت 705 هـ ) الذي قيل عنه (( أقرأ الناس دهرًا ، وأحكم العربية ، وشارك في اللُّغة ... وكان حاذقًا بالفنّ عليمًا بالحلّ لحرز الأمانيّ ... )) [ص 575]. وقد وصف يوسفَ بن إبراهيم بإحكام العربيّة.[ص 54]
وكان القرّاء سابقًا يبذلون ما يملكونه في سبيل إتقان العربيّة ، قال خلف بن هشام ( 150 - 229 هـ ) : (( أشكل عليّ بابٌ من النحو ، فأنفقت ثمانيةَ آلاف درهمٍ ، حتّى حذفته )) [ص 172]. وكانوا يعنون بمعرفة من أخذ عنهم القارئ علم العربية، النحو ، واللغة ، والأدب ، والمعاني ، وقد مَرَّ ما يشهد لهذا في النصوص المنقولة آنفًا .
والتميُّز في علوم العربية مدعاة الاستقلال والانفراد بقراءة ، ومدعاة للاجتهاد في الاختيار (( قيل : إنّ ورشًا لمّا تعمَّق في النحو اتّخذ لنفسِه مقرأَ ورشٍ ، فلمّا جئت [ القائل أبو يعقوب الأزرق ] لأقرأ عليه قلت له يا أبا سعيد : إنِّي أُحِبُّ أن تقرئني مقرأ نافع خالصًا ، وتدعني ممّا استحسنْتَ لنفسك ،فقلَّدته مقرأ نافع )) [ص 150]. ويظهر ممّا أوردناه من نصوصٍ أنهم ما كانوا يقنعون بإتقان علوم العربيّة صناعةً ، بل كانوا يطلبون الفصاحة ، وكانت الفصاحة قبل أن تُدَوَّنَ علوم العربية [ص 74]، وقالوا في عاصم : (( كان نحويًّا فصيحًا )) [ص 75] و(( كان ذا نُسُكٍ وأدبٍ، وفصاحة، وصوت حَسَن )) [ص 76]. (( وكان أحمد بن عبد العزيز من أطيب النّاسِ صوتًا ، وأفصحهم أداءً )) [ص 254]. وقد وصف عبد الوارث التنوُّري بالفصاحة والبلاغة ، قال أبو عمر الجرميُّ : (( ما رأيْتُ فقيهًا أفصح منه )) [ص 135]. وفي ترجمة أحمد بن إبراهيم بن سباع الفزاري ( ت 705 هـ ) (( كان أحسن أهل زمانه قراءةً للحديث ؛ لأنَّه كان فصيحًا مفوَّهًا ، عديم اللّحن، عذب العبارة ، طيِّب الصّوت ، خبيرًا باللُّغة ، رأسًا في العربيّة وعللها )) [ص 571].
وكان ممّا ينتقص به المقرئ أو القارئ قصوره في العربية ، كما قال أبو حيّان في حسن بن عبد الله التلمساني ( ت 685 هـ ) كان بربريًّا ، في لسانه شيءٌ من رطانتهم ، وكان مشهورًا بالقراءات ، عنده نزرٌ يسيرٌ جدًّا من العربيّة ، كألفيةِ ابن معط ، ومقدمة ابن بابشاذ ، يحلّ ذلك لمن يقرأ عليه )) [ص 561]. وقد ردَّ الذّهبيّ على أبي حيَّان قوله فيه، وقال : (( إنّه كان عارفًا بالعربيّة، بل قويّ المعرفة، ويكفيه أن يشرح ألفيّة ابن معطٍ للناس... )) [ص 560-561]. وكان القصور في علم العربيّة مدعاةً إلى القصور في علم القراءاتِ ، كما قيل في محمد بن منصور ( ت 700 هـ ) : إنّه لم يبرع في العربيّة ... وكان متوسِّط المعرفةِ في القراءات )) [ص 569]. وقال عاصمٌ : (( من لم يحسِن من العربيَّةِ إلاّ وجْهًا لم يُحْسِنْ شيئًا )) [ص 75].
وبعد ، فلعلّ هذه النظرة العجلى في كتابٍ ترجم للنحاة واللغويين ، وآخر ترجم القرّاء ما يقفنا على الصلة الوثيقة بين علوم القرآن وعلوم العربية، وكأنّهما توْأمان، لا ينفكُّ أحدهما عن الآخر . والنوعان من العلوم مختلفان. فأوّلهما غاية ، والعلوم الأخرى خدمٌ له، والثاني آلةٌ يتوصَّل بها إلى فهم النوع الأوّل، وخدمته وإتقانه. ولا نغالي إذا قلنا : إنّ علوم العربية على اختلاف أنواعها ، إنّما وُجِدَتْ لخدمة القرآن وعلومه، ولعلّ المسلمين لم يُعْنوا بالعربية وآدابها، ولم يخدموها إلاّ لأنّها تمسُّ أو تخدم القرآنَ وعلومه، من قراءةٍ، ورسم ، وإعراب ، وبلاغة، وإعجاز، ومعنى وتفسير .
تلاقت جهود علماء العربيّة، وجهود خدمة القرآن في ميادين: علم الرسم، وألفاظ القرآن، ومعاني القرآن الكريم، وتفسيره، والاحتجاج للقراءات وبها، وإعجاز القرآن، وأوجه بلاغة القرآن, ودراسات عامة حول القرآن .
ب - مبادئ وأوّليّات ومسلَّمات لا بُدَّ من مراعاتها في مناقشة الموضوع:
1- القراءة سنة متّبعة: عَنِ الأَصْمَعِيِّ: قَالَ لِي أَبُو عَمْرٍو بنُ العَلاَءِ: لَوْ تَهَيَّأَ أَنْ أُفْرِغَ مَا فِي صَدْرِي مِنَ العِلْمِ فِي صَدْرِكَ، لَفَعلْتُ، وَلَقَدْ حَفِظتُ فِي عِلْمِ القُرْآنِ أَشْيَاءَ، لَوْ كَتَبتُ، مَا قَدَرَ الأَعْمَشُ عَلَى حَمْلِهَا، وَلَوْلاَ أَنْ لَيْسَ لِي أَنْ أَقرَأَ إِلاَّ بِمَا قُرِئَ، لَقَرَأْتُ حَرْفَ كَذَا ... ، وَذَكَرَ حُرُوْفاً. [سير أعلام النبلاء ط الرسالة 6/ 408] عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: انْظُرْ مَا يَقْرَأُ بِهِ أَبُو عَمْرٍو مِمَّا يَختَارُه، فَاكتُبْهُ، فَإِنَّهُ سَيَصِيْرُ لِلنَّاسِ أُسْتَاذًا. [سير أعلام النبلاء ط الرسالة 6/ 408]
قال سيبويه: ((فأما قوله عزّ وجلّ: " إنا كل شيء خَلِقْنَاهُ بِقَدَرٍ "، فإِنّما هو على قوله: زيداً ضربتُه، وهو عربيٌّ كثير. وقد قرأَ بعضهم: "وأما ثمودُ فهديناهُمْ"، إلاَّ أنّ القراءة لا تُخالَفُ؛ لأنّ القراءة السُّنَّةُ. [الكتاب لسيبويه 1/ 148] وقد قرأ أناس: "والسارقَ والسارقةَ"و" الزانيةَ والزانِيَ "، وهو في العربيّة على ما ذكرت لك من القوَّة. ولكن أَبَتِ العامَّةُ إلاّ القراءةَ بالرفع. وإنَّما كان الوجهُ في الأمر والنَّهى النصبَ لأنّ حدَّ الكلام تقديمُ الفعل، وهو فيه أوجبُ، إذ كان ذلك يكون في ألف الاستفهام، لأنّهما لا يكونان إلا بفعل. وقَبُحَ تقديمُ الاسم في سائر الحروف، لأنّها حروفٌ تَحْدُثُ قبل الفعل)). [الكتاب لسيبويه 1/ 144]
هذا الكلام يدلّ على مدى اعتداد النحاة بالقراءة, وإن خالفت قواعدهم، فقد كان القرّاء من النحاة من أمثال أبي عمرٍو بن العلاء يقرءون على خلاف ما تقضي به قواعدهم، وتوجبه ضوابطهم, فلدينا في هذا الموضوع أمران منفصلان: القراءة من حيث هي قراءة ، والقراءة من حيث هي دليل تجري عليها أحكام العربيّة, فالأمر الأوّل موقف النحاة فيه واضح، وهو التلقِّي والاتِّباع, والأخذ بما رُوِيَ ، والثاني: يعامل النحاة فيه القراءة باعتبارها دليلًا سماعيًّا لا يختلف عن غيره، من المأثور عن العرب شعرًا, ونثرًا.
2- النحو قياس والقراءة رواية:النحو قياس , وهو علم دراية ، قال الكسائيّ:
إنما النحو قياس يتّبع وبه في كلِّ علم ينتفعْ
فالنحو يعنى بالمطرد المنقاس، والقراءة تعنى بالرواية، والاتباع, ولزوم المرويِّ؛ فلا قياس فيها، ولا اجتهاد إلا في حدود المرويِّ، أمّا النحو فالقياس هو سرّ قيمته؛ حتّى قالوا عن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي: كان أوّل من بعج النحو، ومدّ القياس، وشرح العلل. وليس الأمر في القراءة كذلك، فلو حاول شخصٌ القياس في القراءة لردّ عليه عمله, ولم تقبلْ قراءته، ولو علم الناس أنّ قارئًا يقرأ بقياسه، لما التفتوا إليه، فالنحوي كلّ همّه أن يتصرّف فيما نقله الرواة، ويقيس عليه، بخلاف القارئ, الذي من شأنه أن يتقن ما سمع، ويؤدّيَه كما سمع بأمانة، وإن خالف ما لديه من قواعد اللغة والصرف والنحو والرسم؛ وفي حين أن ضعف النحويّ في القياس عيبٌ يعاب به، ويخرجه منهم ليلحق بفئاتٍ أخرى لا تجعل للقياس هذه المكانة, ولهذا لا يجوز الاقتصار في أخذ القرآن على المصحف أو الكتاب، من دون سماعٍ قراءةً أو عرضًا, وعلى ضوء هذا الأصل يمكن لنا أن نفسّر مقولة: "إن في القرآن لحنًا ستقيمه العرب بألسنتها"على أن القرآن لا تكفي فيه القراءة من الصحف،وإنما لا بدَّ من تلقّيه من أفواه الرجال مشافهة. ((عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: لَمَّا فُرِغَ مِنَ الْمُصْحَفِ أُتِيَ بِهِ عُثْمَانَ فَنَظَرَ فِيهِ فَقَالَ: «قَدْ أَحْسَنْتُمْ، وَأَجْمَلْتُمْ، أَرَى فِيهِ شَيْئًا مِنْ لَحْنٍ سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا» [المصاحف لابن أبي داود ص:122] وقال ((يَحْيَى [يَعْنِي ابْنَ آدَمَ] ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بِهَذَا، وَقَالَ: «سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا» [قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: هَذَا عِنْدِي يَعْنِي بِلُغَتِهَا، وَإِلَّا لَوْ كَانَ فِيهِ لَحَنٌّ لَا يَجُوزُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ جَمِيعًا لَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إِلَى قَوْمٍ يَقْرَءُونَهُ])). [المصاحف لابن أبي داود ص: 120] ((وعَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رُفِعَ إِلَيْهِ الْمُصْحَفُ قَالَ: " إِنَّ فِيهِ لَحْنًا، وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا)) [المصاحف لابن أبي داود ص: 122] و((عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فِي الْقُرْآنِ لَحَنٌ وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا» وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فُطَيْمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ فِي الْقُرْآنِ لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا» [قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فُطَيْمَةَ أَحَدُ كُتَّابِ الْمَصَاحِفِ])). [المصاحف لابن أبي داود ص: 122-123]
وقد دفع بعض أهل العلم ما رُوِيَ من ذلك بإنكار صحّته، ودفع ثبوته, كما في الاقتراح: ((فإن قلت فقد روي عن عثمان أنه قال : لما عرض عليه المصاحف : إن فيه لحنا ستقيمه العرب بألسنتها .
وعن عروة قال : سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله : (إن هذان لسحران) . وعن قوله: (والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) وعن قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون) فقالت يا ابن أختي , هذا عمل الكتاب, أخطئوا في الكتاب . أخرجهما أبو عبيد , في فضائله فكيف يستقيم الاستدلال بكل ما فيه بعد هذا ؟
قلت: معاذ الله كيف يظن أولا بالصحابة أنهم يلحنون في الكلام, فضلا عن القرآن وهم الفصحاء اللد؟!
فقلت : كيف يظن بهم ثانيا في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم كما أنزل وضبطوه وحفظوه وأتقنوه ؟!
ثم كيف يظن بهم ثالثا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته ؟!
ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبههم ورجوعهم عنه ؟!
ثم كيف يظن بعثمان أن يقرأه ولا يغيره ؟!
ثم كيف يظن أن القراءات استمرت على مقتضى ذلك الخطأ , وهو مروي بالتواتر خلف عن سلف ؟!
هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة. وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة عديدة , بسطتها في كتابي (الإتقان في علوم القرآن) . وأحسن ما يقال في أثر عثمان _ رضي الله عنه _ بعد تضعيفه بالاضطراب الواقع في إسناده والانقطاع: أنه وقع في روايته تحريف, فإن ابن أشته أخرجه في كتاب (المصاحف) من طريق عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر, قال: "لما فرغ من المصحف, أتي به عثمان , فنظر فيه فقال: أحسنتم وأجملتم , أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا " . فهذا الأثر لا إشكال فيه فكأنه لما عرض عليه , عند الفراغ من كتابته , رأى فيه شيئا غير لسان قريش , كما وقع لهم في (التابوت) و (التابوه) , فوعد بأنه سيقيمه على لسان قريش, ثم وفى بذلك , كما ورد من طريق آخر , أوردتها في كتاب (الإتقان) . ولعل من روى ذلك الأثر حرفه, ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان فلزم ما لزم من الإشكال, وأما أثر عائشة فقد أوضحنا الجواب عنه في (الإتقان) أيضا)). [الاقتراح ص82-ص86]
ويمكن أن يقال: إن القرآن يتلقَّى مشافهة, ولا تكفي فيه القراءة من الكتاب، كالكتب السابقة, والقرآن متَّصل الإسناد صوتًا إلى رسول الله والمشافهة أقوى من الكتابة, وطرق رواية القرآن تختلف عن طرق رواية الحديث, فالحديث يروى بالمعنى, والوجادة, وبالكتاب، بخلاف القرآن، فلا بدَّ من العرض, أو القراءة، والسماع. وهذا متوافقٌ مع قولِ ابْنِ أُشْتَةَ ((الثَّالِثُ: أنه مؤوَّل عَلَى أَشْيَاءَ خَالَفَ لَفْظُهَا رَسْمَهَا كَمَا كَتَبُوا {وَلَا أَوْضَعُوا} وَ {لَا أَذْبَحَنَّهُ} بألف بعد لا و {جزاؤا الظالمين} بواو وألف و " بأييد " بِيَاءَيْنِ فَلَوْ قُرِئَ بِظَاهِرِ الْخَطِّ لَكَانَ لَحْنًا وَبِهَذَا الْجَوَابِ وَمَا قَبْلَهُ جَزَمَ ابْنُ أُشْتَةَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ. [الإتقان في علوم القرآن 2/ 321-322]
وقال آخرون بتأويلٍ آخر: قَالَ ابْنُ أُشْتَةَ في تأويل ما رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الأعلى بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: ((لَمَّا فُرِغَ مِنَ الْمُصْحَفِ أُتِيَ بِهِ عُثْمَانَ فَنَظَرَ فِيهِ فَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ! أَرَى شَيْئًا سَنُقِيمُهُ بِأَلْسِنَتِنَا)): هَذَا الْأَثَرُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَبِهِ يَتَّضِحُ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ فَكَأَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ عَقِبَ الْفَرَاغِ مِنْ كِتَابَتِهِ فَرَأَى فِيهِ شَيْئًا كُتِبَ عَلَى غَيْرِ لِسَانِ قُرَيْشٍ، كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي " التَّابُوهُ "وَ "التَّابُوتُ" فَوَعَدَ بِأَنَّهُ سَيُقِيمُهُ عَلَى لِسَانِ قُرَيْشٍ ثُمَّ وَفَى بِذَلِكَ عِنْدَ الْعَرْضِ وَالتَّقْوِيمِ وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ شَيْئًا. وَلَعَلَّ مَنْ رَوَى تِلْكَ الْآثَارَ السَّابِقَةَ عَنْهُ حَرَّفَهَا وَلَمْ يُتْقِنِ اللَّفْظَ الَّذِي صَدَرَ عَنْ عُثْمَانَ فَلَزِمَ مِنْهُ مَا لَزِمَ مِنَ الْإِشْكَالِ، فَهَذَا أَقْوَى مَا يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ. [الإتقان في علوم القرآن 2/323 -324]
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَحْنٌ مِنَ الْكَاتِبِ فَيَعْنِي بِاللَّحْنِ الْقِرَاءَةَ وَاللُّغَةَ يَعْنِي أَنَّهَا لُغَةُ الَّذِي كَتَبَهَا وَقِرَاءَتُهُ, وَفِيهَا قِرَاءَةٌ أُخْرَى.
قَالَ ابْنُ أُشْتَةَ: فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ يَتَخَيَّرُونَ أَجْمَعَ الْحُرُوفِ لِلْمَعَانِي وَأَسْلَسَهَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَأَقْرَبَهَا فِي الْمَأْخَذِ وَأَشْهَرَهَا عِنْدَ الْعَرَبِ لِلْكِتَابَةِ فِي الْمَصَاحِفِ وَأَنَّ الْأُخْرَى كَانَتْ قِرَاءَةً مَعْرُوفَةً عِنْدَ كُلِّهِمْ وَكَذَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. [الإتقان في علوم القرآن 2/ 329]
3- الاختيار في القراءة:
عن ابن قادمٍ عن الكسائي قال: حججت مع الرشيد فقدمت لبعض الصلوات فصليت فقرأت: (ذريةً ضعافاً خافوا عليهم)، فأملت ضعافاً، فلما سلمت ضربوني بالنعال والأيدي وغير ذلك حتى غشي علي، واتصل الخبر بالرشيد فوجه بمن استنقذني، فلما جئته قال لي: ما شأنك؟ فقلت له: قرأت لهم ببعض قراءات حمزة الرديئة ففعلوا بي ما بلغ أمير المؤمنين، فقال: بئس ما صنعت، ثم ترك الكسائي كثيراً من قراءة حمزة ..
وحَدث أَبُو قُرَّة سَمِعت نَافِعًا يَقُول قَرَأت على سبعين من التَّابِعين.
وعَن نَافِع أَنه قَالَ أدْركْت هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْخَمْسَة وَغَيرهم مِمَّن سمى فَلم يحفظ أبي أَسْمَاءَهُم, قَالَ نَافِع فَنَظَرت إِلَى مَا اجْتمع عَلَيْهِ اثْنَان مِنْهُم فَأَخَذته وَمَا شَذَّ فِيهِ وَاحِد, فتركته، حَتَّى ألفْتُ هَذِه الْقِرَاءَة فِي هَذِه الْحُرُوف [السبعة في القراءات ص:61- 62]
ويروى عَن مُجَاهِد أَنه كَانَ يَقُول: ابْن مُحَيْصِن يَبْنِي ويرصِّصُ فِي الْعَرَبيَّة, يمدحه بذلك [السبعة في القراءات ص: 65]
ألا يفهم من هذا أن القراءات قائمة على الاختيار من المرويِّ، وأن القارئ يختار ؟وإلا فكيف يسم الكسائي - إن صح الخبر - بعض قراءات حمزة بالرديئة بل يترك القراءة بها؟؟ وهو يعلم أنها مأخوذة بالأثر؟؟ ثم أما كان يكفي حمزة أن يقول للكسائي : هكذا أقرأنيها من قرأت على أيديهم..بدل أن يتلمَّسَ وجهًا لما اختاره من قراءة !!!
4- تعدّد القراءة للقرّاء وللقارئ الواحد مسلّم به لدى القرّاء، ولا يرفضه أهل العربية, بل يتقبّلونه.وهذا من بدهيّات الإقراء, بل اختار ابن مجاهدٍ لكلِّ قارئٍ راويين يرويان عنه، من بين رواةٍ كثيرٍ، وبين هذين الراويين اختلافٌ ما، فتعدّد القراءات عند النحاة لا يلغي الاحتجاج بها جميعًا, فلا تردّ قراءة بقراءة، ولا تدفع قراءة قراءةً, وليست قراءة أولى من غيرها في النحو، وتقرير أحكامه، وبناء قواعده. هذا ما عليه العمل عند أهل العربية، وهو يناظر تعدّد الروايات في حال صحّتها وثبوتها, تعدّد الرواية ليس معيبًا مطلقًا، بل قد يكون التعدّد إضافة أدلّة جديدة، إذِ الروايات لا تتدافع، وتعدّد القراءات عند النحاة لا يلغي الاحتجاج بها جميعًا, فلا تردّ قراءة بقراءة، ولا تدفع قراءة قراءةً, وليست قراءة أولى من غيرها في النحو، وتقرير أحكامه، وبناء قواعده. وفي الاقتراح (( أما القرآن فكل ما ورد أنه قرئ به جاز الاحتجاج به في العربية, سواء كان متواترا, أو آحادا , أم شاذا . وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة في العربية إذا لم تخالف قياسا معلوما, بل ولو خالفته يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه, وإن لم يجز القياس عليه, كما يحتج بالمجمع على وروده ومخالفته القياس في ذلك الوارد بعينه, ولا يقاس عليه, نحو: استحوذ , ويأبى .
وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذة لا أعلم فيه خلافا بين النحاة , وإن اختلف في الاحتجاج بها في الفقه . [الاقتراح ص21]
وقد أسلفنا شرح المراد بالاحتجاج ، وأنه لا يلزم منه إقامة قاعدة مطردة، بل يعني إثبات اللغة، ولا يلزم منها القياس، فقد يكون تسويغًا لاستعمال ما ورد في القرآن، ولا يلزم منه قياس، كما ذكر ابن جني أن جميع لغات العرب حجة، ولا يلزم من كونها حجة التسوية بينها، ولا القياس عليها. مع الإيمان بفضل الله ورحمته، الذي يسّر القرآن للذكر والحفظ، فالله أرحم بعباده ، ومن رحمته أنزل القرآن على سبعة أحرف؛ مراعاة للواقع اللغوي للبيئة العربية.
5- القارئ ليس بمعصوم: هل القرّاء معصومون؟ القرّاء بشر مجتهدون كسائر البشر، يجوز عليهم الخطأ والصواب، وهذا الخطأ يمكن أن يكون في التلقِّي، والاختيار، وهذا من فعلهم, وهم بشر, وهذه مسلَّمة لا أظنّ أحدًا ينازع فيها, أو يخالف.
6- الرواية: لنا أن نضرب المثل في اختلاف المناهج في ممارساتها دون مبادئها بالرواية عند المحدِّثين، والقرّاء, وأهل اللغة. إذْ تتفق العربية والقراءة والحديث على الرواية؛ فهذه العلوم مبنيّة عليها, وكلها تعتمد السماع, والنصوص المنقولة، ولا يصحّ علم من هذه العلوم بدون الرواية، غير أن هذه الاتفاق اتّفاق مبادئ مع اختلاف التطبيق والممارسة؛ إذ كل علمٍ له طرائقه الخاصة في الرواية، التي تخالف غيره من العلوم، ففي حين يشترط المحدِّثون شروطًا في الراوي, ويختصّون بمفاهيم للرواية ما بين متواتر وآحاد، ينفرد أهل الإقراء بمفاهيم تختلف، فالتواتر عند المحدِّثين غيره عند القرأة، فحين يرى المحدِّثون أنّ عاصمًا الذي يقرأ بقراءته عامّة العالم الإسلامي صدوق، له أوهام، حجّة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون. [التقريب 1/285 وينظر تهذيب التهذيب 5/38-39] أي: أنّ حديثه حسنّ، يكون عند القرّاء النهاية في الإقراء، وتكون قراءته سبعيّة متواترة.
وحين يعنى المحدِّثون بتقسيم الحديث إلى متّصل الإسناد، ومنقطعٍ, ومتواتر وآحاد، ومعضل ومرسل ... إلخ. يخالفهم أهل اللغة فلا تجد هذه الأقسام عندهم، وإن حاول السيوطي (ت911هـ) إلباس اللغة لباس الحديث, وخلع هذه التقسيمات على مرويّات أهل اللغة، وهي محاولة غير رشيدة، فما يصحّ في اللغة لا يصحّ في الحديث, والعكس بالعكس، فأهل اللغة أسانيدهم عالية؛ فمن أخِذت عنه اللغة، وهو مصدر اللغة, التقاه الراوي عالم اللغة وجامعها، فالأصمعيّ يذهب إلى حمى ضريّة, يلتقي رجال البادية ونساءهم، وكبارهم وصبيانهم، عقلاءهم ومجانينهم، ممن لا يجيز أهل الحديث الرواية عنهم، في حين يجيز أهل اللغة الرواية عنهم؛ لسلامة سليقتهم، وصحّة نحائزهم، فيدوِّن عنهم ما سمِع منهم، وما تفوَّهوا به، ففي السند رجلٌ واحد، هو الأصمعيّ, وما يرويه مقبول عند أهل اللغة, وإن تفرّد به، لا يتطلبون آخر يعضد روايته ويقوِّيها, بخلاف المحدِّثين الذين لديهم أسانيد تنزل وتعلو, ويتعدّد الرواة، والمرويّ عنهم حتّى يتّصل السند إلى رسول الله , وتختلف نصوص, زيادة ونقصًا، معنًى ولفظًا. وللمحدّثين تفاصيل في اختلاف الرواة وزيادة بعضهم على بعض, يختلف عن حديث القرّاء وأهل اللغة، ليس هذا مكان تفصيله.
والخلاصة أن أدلّة الشريعة وإن اتّقت مع أدلّة اللغة النصّيّة: النقل والمسموع، في أشياء، وأصول تختلف عنها في أمورٍ أخرى، خاصّة فيما يتعلّق بالرواية من حيث طرائقها، وما يترتّب عليها من أحكام، وعمل؛ فأحكام الشريعة يكفي فيها الآحاد, واللغة كذلك، وهما يعتمدان المرويّ والنصّ, ولا بدّ فيه من رواية، وللرواية ضوابط، وطرق، وأنواع ودرجات، هذا من ناحية عامّة، وناحيةٍ مبدئيّة. غير أن الموضوع يتعيَّن تنازله بطريقةٍ أخرى: علوّ الإسناد, والاعتداد بالدليل المنقول، وكفايته. لو نظرنا في مرويّات المحدِّثين ومرويّات اللغويّين لوجدنا أنّ مرويّات اللغويّين تمتاز بعلوّ الإسناد، إذ في كثيرٍ من الأحيان يكون اللغويّ الذي يؤسس للدرس اللغويّ, وقياساته هو الراوي عن الأعراب، أو عمّن يحتجّ بلغته. بخلاف المحدّثين الذين يكون عادة بينهم وبين رسول اللهثلاثة رجال، أو أكثر، ولم يكن عند النحاة ما عند المحدّثين من تقسيم المرويِّ إلى متواترٍ وآحاد، بل عندهم الأمر بين مستفيضٍ وخلافه، فالمستفيض - في الغالب - هو الذي تؤسّس عليه الكلّيّات، والضوابط والقواعد المنقاسة المطِّردة،وخلافه وفيه المفردات أو الوقائع التي تحفظ ولا يقاس عليها، وللمستعمل من بعد أن يستعملها على الوجه الذي استعملته العرب، وفيه ما قد يكون مستفيضًا، لكنّه يبقى في دائرة الظاهرة اللهجيّة، والاستعمال الخاص بقومٍ, وليس لغة عامّة، يتعاورها العموم, وإن ورد عليها شيءٌ من القراءات، وإن كانت بعض الظواهر اللهجيّة مما تعاورها القوم حتّى ارتقت لتكون ظاهرة عامّة وقانونًا عامًّا لكلٍّ أن ينسج عليه، ويورد عليه كلامه كأهله، ومن نُسِبَ إليهم ذلك.
7- لغات العرب كلها حجة: وهذا ما ذكره ابن جني في باب (اختلاف اللغات وكلها حجة). يقول في ذلك: "اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك ، ولا تحظره عليهم، ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال (ما) يقبلها القياس، ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك، لأن لكل واحد من القومين ضرباً من القياس يؤخذ به، ويخلد إلى مثله. وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها، لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها. لكن غاية مالك في ذلك أن تتخير إحداهما، فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها، وأشد أنسًا بها. فأما رد إحداهما بالأخرى فلا. أولا ترى إلى قول النبي: (نزل القرآن بسبع لغات كلها كاف شاف)". [الخصائص2/12] فالله أرحم بعباده، فأنزل القرآن على سبعة أحرف؛ تيسيرًا منه للذكر والتلاوة, ومراعاة للواقع اللغوي للبيئة العربية. وبنظر في هذا ردّ النحاة القراءة ص من هذا العمل.
ومعنى حجّيّة اللغات أن يكون ما صحّ عن العرب حجّةً في إثبات ما رُوِيَ, وأنّه على لغةٍ من لغات العرب, وأنّه ليس لك أن تردّ ما ثبت ورُوِيَ بقياسٍ تقيسه، ولا أن تردّه بلغةٍ أخرى, وهذا لا يمنع أن تكون بعض اللغات قياسًا, والأخرى تحفظ ولا يقاس عليها، بل لا يمنع من الحكم على بعض ما ورد عن بعض العرب أنّه مذموم، كما نجد في "الصاحبي" بابًا في اللغات المذمومة, وكما منع سيبويه استعمال سبعة من الأصوات في القرآن والشعر، وأجازه في غيرهما.
8- النحاة ينظرون للقراءات على أساس أنها مادّة لغويّة, لا تختلف عن كلام العرب الآخر, من نثرٍ وشعرٍ, ولذلك يتساوى عندهم القراءة المتواترة, والمشهورة, والشاذّة, والمتروكة, وقراءة الخطأ والباطلة التي يقرأ بها الأعراب ومن يحتجّ بلغته على سجيّتهم وسليقتهم التي طُبِعوا عليها, ما دام إسنادها يصحّ إلى عربيٍّ سليم السليقة, يحتجّ بلسانه, فنجد سيبويه يورد القراءة وكأنها من كلام العرب، دون نصٍّ على أنها قراءة, فيقول مثلًا: ((وأهل الحجاز يقولون: مررت بهو قبل، ولديهو مالٌ، ويقولون: " فخسفنا بهو. وبدارهو الأرض ")). [الكتاب لسيبويه 4/ 195] .
ولو قرأ أعرابيّ شيئًا من القرآن وأخطأ فيه لكانت قراءته وخطؤه في النحو حجّة, ولا يلحَّن لمخالفته الصحيح الثابت من القراءة؛ لأن النحاة لا ينظرون إلى القراءة باعتبارها قراءة, ولا في حال قراءتهم, وفي حال الاحتجاج بها لا ينظرون هذه النظرة، فلو افترضنا مثلًا: أن الفرزدق وضع حديثًا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, ....إلخ. فكلامه, وما وضعه حجّة في اللغة، وإن كان كذبًا على رسول الله , مقبول لدى أهل اللغة, من حيث هو لغة, وكلام عربيٌّ, مردود عند أهل الشرع من محدِّثين وفقهاء, ومفسِّرين، لما يتضمّنه من كلام باطل, ولأنه كذب على رسول الله . وكذلك لو قرأ شيئًا من القرآن على سليقته، غير موافقٍ لقراءةٍ من القراءات المرويّة لو قرأ لكان ما فاه به حجّةً عند أهل العربية، وإن لم تكن كذلك عند القرّاء.
وكل ذلك لأن القرآن بقراءته المختلفة من المسموع عن العرب، و المراد بالمسموع عند النحاة كلام العرب كله من نثر وشعر، والقرآن شيءٌ منه.
9- القراءة مبناها على الترخّص والتسهيل ((أنزِل القرآن على سبعة أحرف)). ومبنى النحو الضبط والإلزام والاطِّراد والقياس, وليس كلّ ما تقوله العرب يقاس عليه, ويلتفت له, في حين أن ما تكلّمت به العرب يمكن أن يرد على لسان القارئ لغلبة الطبع, وقوّة النحيزة, وتمكّن السليقة.
كانت الرخصة والتوسعة في القراءة والإقراء صدر الإسلام, فأُقْرِئت قبائل العرب على ما تطوعهم به ألسنتهم، ثمّ جُمِعت الأمّة على حرفٍ واحدٍ من الأحرف السبعة خوف الفتنة، بعد أن انصهرت العرب في قالبٍ واحدٍ، تقاربت فيه ألسنتهم، وتمازجت فيه أعراقهم, واختلط أبناؤهم في جيوش الفاتحين، وكتائبها, وتجاوروا في مساكن البلدان الناشئة، مثل البصرة والكوفة، ومعسكرات الرباط في الثغور الإسلاميّة, على نحوٍ ممّا ورد في جمع القرآن، ممّا لا داعي لإيراده هنا. وآلت القراءة إلى أن تكون روايةً متقنة في جوانبها الصوتيّة والأدائيّة المختلفة، فضلا عن أبنيتها وألفاظها, وتراكيبها، وما يلزم على ذلك من المعاني.
10- كلّ ما ورد من أنّ القراء قرءوا كذا لا يعدو الوصف, والإخبار عن سماع، وروايةً عن العرب، الذين نزل القرآن بلغتهم، ولا يعدّ قاعدة يبنى عليها الكلام الطبيعي, لأن لبناء القواعد ضوابط لا تتحقّق مع كلِّ مسموعٍ، وأمّا النحاة فهم يضعون قواعدَ تُلْتَزَم ونظامًا نموذجًا للغة, فالجهة منفكّة،فحين يرد أن القراء قرءوا ((أئمّة)) بهمزتين، فهذا نقل للقراءة, وإخبار عنها، ولا يتضمّن تأسيس حكمٍ مقيسٍ؛ إذِ القياس أن تبدل الهمزة الثانية ميمًا قياسًا مطّردًا، لا يعارض القراءة، ولا يجعلنا نقول: ((الأيمّة)), وإن كانت قياسًا, كما أن لنا أن نؤثِرها في الاستعمال، لأنها المسموع عن العرب، والأخرى قياس لم يشفعْ بسماعٍ.
11- ليس كلّ ما جاز في القراءة يجوز في النحو, ونبني عليه القاعدة؛ فلا بدَّ في الدليل الذي نبني عليه القاعدة من الاعتداد به, وكفايته، والقراءة كسائر الكلام العربي, منه ما يبنى عليه ويقاس، ومنه ما يحفظ ولا يقاس, وهذا ليس بِدْعًا في القراءات، ومن ذلك الإدغام, قال سيبويه: «ومن الحروف حروفٌ لا تدغم في المقاربة وتدغم المقاربة فيها. وتلك الحروف: الميم، والراء، والفاء، والشين. فالميم لا تدغم في الباء، وذلك قولك: أكرم به، لأنهم يقلبون النون ميما في قولهم: العنبر؛ ومن بدا لك. فلما وقع مع الباء الحرف الذي يفرون إليه من النون لم يغيروه؛ وجعلوه بمنزلة النون، إذ كانا حرفي غنةٍ. وأما الإدغام في الميم فنحو قولهم: اصحمطرًا، تريد: اصحب مطرًا، مدغم...». [الكتاب لسيبويه 4/447-449]وينظر باقي الكلام عن سائر الحروف المذكورة هناك، ويرد إدغام هذه الحروف في مقارباتها لدى القرّاء، مثل إدغام الراء في اللام في قراءة أبي عمرو{اغفِر لَّنا} آل عمران آية 147 و{اشكر لّي} لقمان آية 14{نخسف بِّهِمْ}سبأ آية 9 فهذا الإدغام ونحوه خاص بالقرآن وقراءاته, ولا يكون في كلام الناس. [وينظر في الإدغام التذكرة لابن غلبون 1÷72-91]
12- النحاة يدرسون اللغة الطبيعية, والقرّاء همُّهم لغة الوحي, ويعنون بما تلقّوه وإن خالف الشائع الذائع من لغات العرب, وإن كان من اللغات المذمومة المهجورة. ومن المسلَّم به أن لغة الوحي تختلف عن لغة الناس في الحياة اليوميّة, فلغة الوحي تعنى بأشياء لا يعنى بها أهل العربية, وفي اللغة الطبيعية للبشر خاصّة الشفهيّة ترخّصات ليست في لغة الوحي، كما أن في لغة الوحي ما ليس في اللغة الطبيعية من التيسير، حتّى نزل القرآن على سبعة أحرف, وأخذ الناس بهذه الرخصة، حتّى انتفت الحاجة إليها، وصار من الممكن جمع الناس على حرفٍ واحد، وحتّى استقرّ الإقراء على أصولٍ منضبطة، وصار له قواعده وطرائقه. فصار في القرآن، وهو الوحي المنقول مشافهة بسندٍ متّصل إلى رسول الله ، وحتّى صار في لغة الوحي ما لا يطلب في لغة البشر الطبيعية، من جنس ما يرد في علم التجويد، ولدى القرّاء من أحكام المدود، والغنن، وتمكين الحروف من مخارجها، وإتقان صفاتها. بل مقاصد لغة الوحي تختلف عن مقاصد الأداء القرآني، فاللغة الشفويّة مبناها الوفاء بالمعنى، والاقتصاد في الكلام، في حين أن الأداء القرآني الإيقاع، وتحسين الصوت والتلاوة من مقاصدها.
13- النحاة اطّرحوا كثيرًا من كلام العرب ولغاتهم, في قياسهم وبناء قواعدهم, وضوابطهم، ومنها ما جاء في بعض القراءات، وهناك فرق بين أن نورد المسموع لنبني عليه قاعدة, وبين أن نورده لنخرِّج عليه أمثلة ونماذج (أو لتخريجه, وتسويغه, أو توجيهه). ((وقيل لعيسى بن عمر يوماً: أخبرني عن هذا الذي وضعت يدخل فيه كلام العرب كله. قال: لا. قلت: فمن تكلم بخلافك واحتذى ما كانت العرب تكلم به أتراه مخطئاً؟ قال: لا. قلت: فما ينفع كتابك؟)). [أخبار النحويين البصريين للسيرافي ص: 27] وقال ابن نوفل: سمِعْتُ أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء: أخبرني عمّا وضعت ممّا سمَّيتَ عربيَّة، أيدخُل فيها كلام العرب كلّه؟ فقال: لا, فقلْتُ: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب، وهم حجّة؟ قال: أعمل على الأكثر, وأسمِّي ما خالفني لغاتٍ)). [الزبيدي/طبقات النحويين واللغويين ص39] فأنت ترى كيف أن علماء العربية بنوا قواعدهم على الأعمِّ الأغلب, وما لم يدخل تحت ضوابطهم وقواعدهم جعلوه لغاتٍ تحفظ ولا يقاس عليها.
14- تعظيم النحاة للقرآن والقرّاء والقراءات؛ ولهذا التقدير والتعظيم ألّفوا في توجيه القراءات, مثل أبي علي الفارسي في الحجة, وابن جني في المحتسب, وابن زنجلة في حجة القرّاء. وهذا النمط من التأليف يدلُّ على تقدير النحاة للقرّاء وقراءاتهم، حتّى كلّفوا أنفسهم تخريجها على ما ورد من كلام العرب, أو تنزيله وتقريب ما فيها إلى قياسات النحويين, وما ارتضوه وفق القوانين اللغويّة لكلام العرب؛ كي يكون نظامًا للعربية, وقواعدها. وليس صحيحًا أن الشعر استبدّ بالنحو، فمن المعلوم أن النحو بني على كلام العرب, فالقواعد الكلية، والقوانين المطّردة، بُنِيَتْ على المستفيض من كلام العرب, ولست بحاجة إلى شاهدٍ على هذه القواعد، وإنّما تحتاج إلى الشاهد من كلام العرب شعرها ونثرها، فيما خرج على هذه القواعد، وفيما كان وقائع، مفردة، أو حوادث ليس لها سمة الاطِّراد, والقياس, أو يكون لها حكمٌ استثنائيّ, من القواعد الكلية، كأن تأتي الحال معرفة، والقاعدة أن تكون نكرة.
15- الدليل النحوي النصّيّ لا بدّ له كي يصحّ الاستدلال به من الاعتداد به, وكفايته. والقراءات ليست بِدْعًا في هذا الأمر، فهذا حكم في جميع الأدلّة، لا يستثنى منها دليل، والمعتدُّ به من كلام العرب ما ثبت، أو صحّت نسبته لمن يحتجُّ بلغته، ويتكلَّم على سليقته، ولا يهمُّ رفع جهالة العين, ما دام أنّ حال من نسِبتْ إليه اللغة يحتجُّ بلغته، وكان أن اختلف نحاة البصرة والكوفة في الاحتجاج ببعض أقاويل من رووا عنهم, ففي حين نجد الكوفيين يحتجّون بلغة الأعراب الذين سكنوا حواضر العراق، أو أكثروا من الخلطة بمن فسدت لغتهم، ومن جاورهم من الأعاجم، يردّ البصريّون ما رُوِيَ عن هذه الفئة، وينشدون البوادي طلبًا للفصاحة، وبحثًا عن أصجاب السليقة من الأعراب، وهذا الأمر وحده لا يكفي، فلا بدَّ من كفاية الدليل, كي يقام عليه الحكم، فلا يقبل ما شّذّ عن المطِّرد ليؤسَّس عليه فاعدة، وإنّما يقبَل ليحفظَ ويستعمل بعيته، وفق ضوابط قرّرها أهل العربية، تتعلّق بالكثرة النسبيّة، لا الكثرة العددية، وعامّة الخلاف بين البصريين والكوفيين مردّه إلى هذين الأمرين، وإلا فإنّ كلَّ فريقٍ يعرف أدلّة الفريق الآخر، والأمر هل هذا الفريق يعتدُّ بها؟ أو يرى فيها الكفاية لإقامة حكمٍ نحويٍّ يكون ضابطًا لما كان مثله من التراكيب.
16- أن النحويين لم يكونوا بِدْعًا في مواقفهم من القراءات، إذْ وقف الموقف نفسه بعض القرّاء، فردّوا بعض القراءات، ومستندهم اللغة ونحوها, والنحاة شاركوهم هذا الأمر، إلا أنّهم أولى بهذا؛ لأنّهم أفقه باللغة، وأعلم بالنحو، وردّهم على ما سنذكره في المفاهيم بخلاف ردِّ القرّاء على بعضهم، فقد يخرج عن مفهوم ردّ النحاة إلى أن يردّوها على مقتضى أصول القرّاء في الإقراء، وهذا ما لم يفعله النحاة.
ج - مفاهيم.
ادّعاء أن الشعر قد استبدَّ بالنحو غير صحيح، يوضّح : الاستفاضة، المراد بالشاهد. ذلك أن القواعد المطّردة، والضوابط، والقوانين اللغويّة، إذا بنِيت على المستفيض، لم تكن بحاجة إلى شاهدٍ, وإنما تحتاج إلى تمثيلٍ، كما يفعل النحاة في مصنّفاتهم, وإنما يطلَب الشاهد فيما خرج على هذه القواعد, سواء جُعِلت له قاعدة خاصّة، أم جُعِل مما يحفظ، ولا يقاس عليه، من غير أن يسلب المستعمل للغة من استعماله, أو قيل عنه: إنه ضرورة شعريّة، لا تستعمل في سعة الكلام, أو لغة أمثال، لا تصحّ إلا حكاية في أمثالها، ولا يلزم الاستشهاد لكلِّ شيءٍ، فالقواعد الكليّة مبنيّة على الاستفاضة؛ فنحن لسنا بحاجة إذا قلنا: "الحال وصفٌ فضلةٌ منصوب" أن نورد على هذه القاعدة شواهد من كلام العرب، بل يكفينا التمثيل، وحين نقول: إن الحال قد يرد معرفة, وهو مما يجوز تأويلًا، مثل: "جاء وحده، فأرسلها العراك" تحتاج إلى الشاهد للنظر فيه أهو مما يحفظ ولا يقاس عليه أم هو قابل لتبني عليه قاعدة استثنائيّة؟ أم أنّه مما يمكن إجازته بتأويلٍ يسبغه, ويجعله متوافقُا مع القاعدة النظرية, وضوابط النحو المطّردة وقياساته.
ونحن إذا نظرنا هذه النظرة، فمن الطبيعي أن يكون الخروج عن القياس والمطّرد والضوابط والقواعد الكلِّيَّة في الشعر أكثر من القرآن, وسائر كلام العرب؛ لأن الشعر موضع ضرورة، وموضع يضيق به الشاعر حتّى يضطرَّ فيه إلى الخروج على المألوف.
الردّ ، أي ردّ النص، وليس معنى الردِّ رفض النصِّ، وعدم الأخذ به مطلقًا, وعدم الاعتداد به؛ إذ قد يكون معناه عدم بناء قاعدة مطّردة، قياسًا عليه, فيكتفى بحفظ النص، ويجعل لمستمل اللغة أن يستعمله, ويفوه به على الطريقة التي سلكها العرب, أو بعضهم, وهذا هو ما يجري في الشاذِ الذي يقولون عنه: إنّه يحفظ ولا يقاس عليه, وليس معنى الردِّ الإسقاط بإطلاق، وعدم استعماله, بل للمستعمل أن يستعمله بعينه, كما استعملته العرب، وإن كان مفرداتٍ، أو وقائع، وأحداثًا ليس لها صفة الظاهرة المطّردة, وإن لم يكن له الحقّ في القياس عليه, احتجاجًا بما ثبت ورُوِيَ. ولا يلزم من ردِّ النصِّ عدم الأخذ به، فقد يؤخذ به، لكن الأمر: أيكون قياسًا مطَّرِدًا، أم أنّه يحفظ ولا يقاس عليه، وكلٌّ أخذٌ، والاختلاف اختلاف درجة، وهذا أمر يتّصل بالمفهوم التالي.
المراد بالاحتجاج إثبات ما تدلّ عليه القراءة, وليس التسوية بين المرويّات؛ فقد نحتجُّ بالشيء، ونجعله قياسًا, ونحتجّ بالشيء، ونجعله حكمًا خاصًّا بالمرويِّ، لا ينقاس ولا يطّرِد في نظائره، لكن المستعمل له الحقّ في أن يستعمله، كما استعمله العرب، ويؤدّيه كما أدّته، وإن خالف القياس، وخرج على المطَّرد، بل المتعيِّن على مستعمل اللغة أن يقدِّم استعمال العرب، وإن خالف قياس العلم؛ فالمستعمل ملزَمٌ أن يقول: استحْوَذ, وأن يدع استحاذ, وإن كانت القياس والاطِّراد.
وليس معنى الاحتجاج التسوية بين اللغات، وأداء العرب المتنوِّع المختلف؛ فهناك في الأصوات، والأبنية، والتراكيب، والدلالات لغات تروى وتتناقل، وفيها ما يطّرح، وهو المروي عمّن لا يحتجّ بلغته، ومنها ما يقبل، وينعت بأنه لغة ضعيفة، أو مرذولة، أو مذمومة، كما قال ابن فارس، وغيره. وكلّ هذا من الممكن وروده في القراءات, وما عمل من يحتجّ للقراءات إلا تنظير القراءة بشيءٍ من كلام العرب, أو تخريجه على وجهٍ مرويٍّ, أو تأويله على قياسٍ نحويٍّ.
قال ابن جني: في"باب اختلاف اللغات وكلها حجة: ... ليس لك أن تردَّ إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها. لكن غاية مالك في ذلك أن تتخيّر إحداهما فتقويها على أختها, وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسًا بها. فأما ردّ إحداهما بالأخرى فلا. أوَلا ترى إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "نزل القرآن بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ"[كما في البخاري] هذا حكم اللغتين إذا كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين أو كالمتراسلتين. فأمَّا أن تَقِلَّ إحداهما جدًّا وتكثر الأخرى جدًّا, فإنك تأخذ بأوسعهما رواية وأقواهما قياسًا, ألا تراك لا تقول: أكرمتُكِش ولا "أكرمتكس" قياسًا على لغة من قال: مررت بكش, وعجبت منكِس.... فلو أن إنسانًا استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه كان يكون مخطئًا لأجود اللغتين. فأمَّا إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه، غير منعيّ عليه. وكذلك إن قال: يقول على قياس من لغته كذا كذا, ويقول على مذهب من قال كذا كذا. [الخصائص 2/12- 14] ولسيبوبه في كتابه كلام نحو من هذا, سيأتي في موضعه من هذا العمل.
وقد عنِيَ ابن فارس بهذا الموضوع فذكر مواضع الاختلاف أو وجوهه في اللفظ والبنية والتركيب والإعراب والمعاني، وفاضل بين لغات العرب، فجعل أفصحها قريشًا, و بها نزل القرآن, وإن لم يخل من لغات العرب الأخرى, وجعل من اللغات ما هو مذموم، مع أن الاختلاف في اللغات لا يقدح في النسب, ولا المكانة.[الصاحبي 28-47]
وقد أجاز سيبويه في ((باب عدد الحروف العربية، تنوع الأداء الصوتي في ستة أصوات من التسعة والعشرين، فقال بعد أن سرد الأحرف التسعة والعشرين: وتكون خمسةً وثلاثين حرفا بحروفٍ هن فروعٌ، وأصلها من التسعة والعشرين، وهي كثيرةٌ يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار، وهي: النون الخفيفة، والهمزة التي بين بين، والألف التي تمال إمالةً شديدة، والشين التي كالجيم، والصاد التي تكون كالزاي، وألف التفخيم، يعنى بلغة أهل الحجاز، في قولهم: الصلاة والزكاة والحياة.هذا فيما روِي عن العرب الموثوق بلغتهم، أما من لم توثق بلغته فقال عن أصواتهم: وتكون اثنين وأربعين حرفاً بحروف غير مستحسنةٍ ولا كثيرةٍ في لغة من ترتضي عربيته، ولا تستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر؛ وهي: الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف، والجيم التي كالشين، والضاد الضعيفة، والصاد التي كالسين، والطاء التي كالتاء، والظاء التي كالثاء، والباء التي كالفاء. [ينظر: الكتاب لسيبويه 4/431- 432] فأنت ترى أن سيبويه أجاز التنوّع الصوتي في الأداء القرآني في ستة أصوات، ولم يستحسن القراءة بسبعة أصوات؛ لأنها لم تروَ عمّن يوثق بعربيّته، وهي داخلة في عداد المذموم.
مفهوم الاحتجاج: هل كان ابن جنّيّ متناقضًا؟ لم يكن ابن جني ولا غيره ممن صنّف في الاحتجاج للقراءات، حين احتجّوا للقراءات الشاذّة ودافعوا عنها، في حين ردّ بعضَ القراءات التي هي أعلى من الشاذّة؛ إذ الردّ يعني: المنع أن نقيس عليها، وأن نؤسِّس لقاعدةٍ عليها, وأن نجعلها قياسًا مطَّرِدًا وحين احتجّ للقراءات الشاذّة، كان قصده, أن يقول: إنّ هذه القراءة لها وجهٌ, من كلام العرب, فلا تردّ, وهذا هو ديدن النحاة الذين يقولون: القراءة سنة متبعة, وقبولها قراءةً لا يلزم منه أن نجعلها دليلًا نؤسِّس عليه حكمًا, وقاعدة مطّردة، فهذا شيءٌ آخر يختلف عن قبول القراءة قراءةً, وتخريجها، أو توجيهها، على مقتضى كلام العرب. وعلى ضوء هذا المفهوم يسهل علينا فهم قول عضيمة: ومن المفارقات العجيبة أن ابن جني وصف القرّاء عامّة في الخصائص بضعف الدراية؛ كما وصفهم في المنصف بالسهو والغلط، إذ ليس لهم قياس يرجعون إليه. ولكنه في المحتسب يدافع عن القراء, ويرد على من يخطِّئهم في القراءات الشواذّ. [دراسات 1/32-33]. وقوله بعد نقل ((قراءة يحيى وإبراهيم السلمي: "أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ" بالياء ورفع الميم، وينقل معها قول ابن مجاهد فيها: وهو خطأ، ثم يقول: قول ابن مجاهد إنه خطأ فيه سرف؛ لكن وجه غيره أقوى منه. [المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها 1/ 17] .
قال أبو الفتح: ليس ينبغي أن يُطْلَق على شيء له وجه في العربية قائم -وإن كان غيره أقوى منه- أنه غلط [المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها 1/ 236]
قلت (سليمان): اختلف المقام؛ فمقام القياس وبناء القواعد، غير مقام التخريج والتوجيه، والتماس نظير من كلام العرب. وأكثر ما يأتي اللبسُ من الخلط بين المقامات والسياقات, وتنزيل الكلام على غير سياقه، ومقصده.
ومن ذلك قراءة أبي عمرو في رواية هارون بن حاتم عن حسين عنه: "بَغْتَة" [المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها 2/ 271] ولا بد من إحسان الظن بأبي عمرو، ولا سيما وهو القرآن، وما أبعده عن الزيغ والبهتان! [المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها 2/ 272] )) وانظر عضيمة 1/32-33
تقسيم القراءات إلى متواترٍ ..إلخ لم يكن عند النحاة الأوائل, بل يحتجّون بالقراءة, وإن لم تكن متواترة. [تنظر تصانيفهم ، مثل المحتسب ...] وأمّا ما قُصِر على السبعة فهو لمجاراة القرّاء، ولعلّ هذا كان لوعورة أن يخوضوا فيما وراءها، حتّى جاء ابن جنِّيّ فألّف المحتسب, ولم يكن الاقتصار على السبعة مدفوعًا بأنّهم لا يحتجّون إلا بالمتواتر، فلم يكن هذا شرطًا عندهم, ولا أعرف من النحاة المتقدِّمين من اشترطه, لكنّه عمل العصر بعد أن سبّع ابن مجاهدٍ السبعة, وهو من طبقة شيوخ أبي عليٍّ ، إن لم يكن شيخه. فلو قرأ أعرابيٌّ على سجيّته على خلاف القراءة المرويّة, ولم يلزم نقل القرّاء, ولا قراءتهم، لاحتجّ أهل العربية بقراءته، بغضّ النظر عن صحّتها، لأنّ المعتدَّ به هو صحّة رفعها إلى من يحتجّ بلسانه وبيانه, ولو خالف المتواتر, وهذا القبول من النحاة لا يعني أن هذه القراءة صارت حجّة، وارتقت ليعتدّ بها قراءة؛ بل عوملت معاملة كلام الأعرابيِّ الذي تؤخذ عنه اللغة. وحكم مثل هذه حكم مطّرد في قراءات الأعراب؛ فالاعتداد بها دليلا نجويًّا لا يلزم منه الاعتداد بها قراءةً.
مفهوم الإعراب مما يحسن تحريره, وضبطه، فأكثر النزاع فيه إنما يكون من عدم تحريره، فلدينا إعراب، ولدينا علامة إعراب, ونحن لو نظرنا في كلام لابن قتيبة لوجدنا أنّه يتحدّث عن الإعراب؛ إذ أورد ما لا تظهر فيه علامة الإعراب، وهذا يتعلّق بإدراك النصِّ وفقهه، ولا يستلزم الإلمام أو الإحاطة بما استقرّت عليه صنعة النحو, وهذا موضع حريٌّ أن يقع فيه كبار العلماء في العلوم المختلفة حتّى العربية، وأمّا علامة الإعراب فهي أمر سهل هيِّن؛ لأنها من مقتضيات النظام والتركيب، يقول ابن قتيبة: "ولها الإعراب الذي جعله الله وشيا لكلامها، وحلية لنظامها، وفارقا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين، والمعنيين المختلفين كالفاعل والمفعول، لا يفرّق بينهما، إذا تساوت حالاهما في إمكان الفعل أن يكون لكلّ واحد منهما- إلا بالإعراب.
ولو أن قائلا قال: هذا قاتل أخي بالتنوين، وقال آخر: هذا قاتل أخي بالإضافة- لدّل التنوين على أنه لم يقتله، ودلّ حذف التنوين على أنه قد قتله.
ولو أن قارئا قرأ: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) [يس: 76] وترك طريق الابتداء بإنّا، وأعمل القول فيها بالنصب على مذهب من ينصب (أنّ) بالقول كما ينصبها بالظن- لقلب المعنى عن جهته، وأزاله عن طريقته، وجعل النبيّ، عليه السلام، محزونا لقولهم: إنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون. وهذا كفر ممن تعمّده، وضرب من اللحن لا تجوز الصلاة به، ولا يجوز للمأموين أن يتجوّزوا فيه. [تأويل مشكل القرآن ص: 18] وانظر [دراسات لعضيمة ففيه زيادة 1/29] وأورد تعقيب ابن خالويه على ابن قتيبة ].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَإِنَّ لَهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: بِفَتْحِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاؤُهُ أَنَّ لَهُ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَسَمِعْتُ ابْنَ مُجَاهِدٍ يَقُولُ: مَا قَرَأَ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ لَحْنٌ، لِأَنَّهُ بَعْدَ فَاءِ الشَّرْطِ.
وَسَمِعْتُ ابْنَ الْأَنْبَارِيِّ يَقُولُ: هُوَ ضِرَابٌ، وَمَعْنَاهُ: فَجَزَاؤُهُ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ. انْتَهَى. وَكَانَ ابْنُ مُجَاهِدٍ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَّسِعَ النَّقْلِ فِيهَا كَابْنِ شَنَبُوذَ، وَكَانَ ضَعِيفًا فِي النَّحْوِ. وَكَيْفَ يَقُولُ مَا قَرَأَ بِهِ أَحَدٌ؟ وَهَذَا طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ قَرَأَ بِهِ. وَكَيْفَ يَقُولُ وَهُوَ لَحْنٌ؟ وَالنَّحْوِيُّونَ قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ "أَنَّ" بَعْدَ فَاءِ الشَّرْطِ يَجُوزُ فِيهَا الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ. وَجَمَعَ خالِدِينَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى لَفْظِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: يَعْصِ، فَإِنَّ لَهُ. [البحر المحيط في التفسير 10/ 303]
*******
د – خلاصة وإشارات
إنّنا نؤكِّد هنا ضرورة مراعاة المبادئ التي ذكرناها, وضرورة أن نقف في توظيف المناهج حين ندرس العلوم المختلفة على أنّها تتّفق في المبادئ، كما أسلفنا، وتختلف في الممارسات والتطبيقات, وقد ضربنا أمثلةً لذلك فيم أسلفنا، غلا نعيدها هنا، وإن كان من كلمة, فيمكن إجمالها فيما يأتي:
لا يلزم في النحو الاستشهاد لكلِّ شيءٍ فيه ؛ فالنحو في قواعده الكلّيّة وضوابطه الأساسيّة قائم على الاستفاضة لا على الشواهد المفردة. وقد أوضحناه فيما سلف بما فيه الكفاية.
ثمّ إنّه ليس في حساب النحاة التواتر وعدمه في القراءات، المهمّ هو ثبوت القراءة وصحّة عزوها إلى من يحتجّ بلغته, تتساوى في ذلك مع غيرها من كلام العرب, وتعدّدها لا يضعفها, ولا يجعلنا نردّ قراءة بقراءة؛ فالتعدّد والتنوّع ثراء، واتّساع في النص والمسموع.
إنّ ما قاله بعض النحاة حول بعض القراءات ممارسات لا ترقى إلى الظاهرة, وإنما هي وقائع ليس لها سمة الاطراد والإلزام، بل هي أقرب للخروج على الاطّراد والإلزام.
وكثير ممّا يتوهّمه المعترضون على النحاة لا يثبت عند النظر، تأمّل معي النص التالي من كتاب سيبويه، وهو أقوى ما أورده أحمد مكي في اعتراض سيبويه على النحاة. فكلام سيبويه ليس متّجهًا للآية, بل لكلامٍ آخر.
((واعلم أن ما كان في النكرة رفعا غير صفة فإنه رفعٌ في المعرفة. من ذلك قوله جل وعز: "أمْ حَسِبَ الذين اجتَرحوا السّيّئاتِ أن تجعلَهُم [الكتاب لسيبويه 2/ 33] كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءٌ مَحياهُم ومَماتُهُم ".
وتقول: مررت بعبد الله خيرٌ منه أبوه. فكذلك هذا وما أشبهه. ومن أجرى هذا على الأول فإنه ينبغي له ان ينصبه في المعرفة فيقول: مررتُ بعبد الله خيراً منه أبوه. وهي لغةٌ رديئة. وليست بمنزلة العمل نحو ضارب وملازم، وما ضارعه نحو حَسن الوجه. ألا ترى أن هذا عملٌ يجوز فيه يَضربُ ويلازم وضربَ ولازَمَ. ولو قلت: مررت بخيرٍ منه أبوه كان قبيحا، وكذلك بأبى عشرة أبوه. ولكنه حين خلَص للأول جرى عليه، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ خيرٍ منك.
ومن قال: مررتُ برجلٍ أبى عشرةٍ أبوه، فشبّه بقوله: مررتُ برجل حسنٍ أبوه. فهو ينبغي له أن يقول: مررتُ بعبد الله أبى العشرة أبوه، كما قال: مررتُ بزيدٍ الحسنِ أبوه)). [الكتاب لسيبويه 2/ 34]
((فإن أسكنتها وقبلها ضمةٌ قلبتها واواً كما قلبت الواو ياء في ميزان، وذلك نحو: موقنٍ ومُوسِرٍ ومُوئِسٍ وموبٍسٍ، ويا زيدُ وإسْ، وقد قال بعضهم: يا زيدُ يْئَـِسْ، شبهها بقُيْلَ.
وزعموا أن أبا عمرٍو قرأ: يا صالحُيتِنا جعل الهمزة ياءً ثم لم يقلبها واوًا.
ولم يقولوا هذا في الحرف الذي ليس منفصلًا. وهذه لغة ضعيفة، لأن قياس هذا أن تقول: يا غُلا مُوجَلْ)). [الكتاب لسيبويه 4/ 338]
واعلم أن "كفى بنا فضلا على مَن غيرُنا" أجود، وفيه ضعفٌ إلا أن يكون فيه هو، لأن هو من بعض الصلة، وهو نحو مررت بـ "أيُّهم أفضلُ"، [الكتاب لسيبويه 2/ 107] وكما قرأ بعض الناس هذه الآية: " تماما على الذي أحسَنُ ".
واعلم أنه يقبح أن تقول هذا مَن منطلق إذا جعلتَ المنطلق حشوا أو وصفا، فإن أطلتَ الكلام فقلت مَن خيرٌ منك، حسُن في الوصف والحشو. زعم الخليل (رحمه الله) أنه سمع من العرب رجلا يقول: ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءا، وما أنا بالذي قائل لك قبيحا. فالوصف بمنزلة الحشو المَحشو لأنه يَحسن بما بعده كما أن الحشو المحشوَّ إنما يتم بما بعده. [الكتاب لسيبويه 2/ 108]
وليس في نصوص سيبويه الثلاثة طعن في القراءات، بل فيها تخريج على كلام العرب, وتلمس نظائر.
بين ابن مالك والشاطبي:
ويعدُّ ابن مالك مثالًا للنحاة الذين يتسعون في الاحتجاج بالقراءات، والتوسّع في القياس عليها، وإن كانت شروط كفاية الدليل في تحقُّقها نظر، ((ومن ثم احتج على جواز إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب بقراءة (فبذلك فلتفرحوا), كما احتج على إدخالها على المبدوء بالنون بالقراءة المتواترة (ولنحمل خطاياكم ) .
واحتج على صحة قول من قال: إن (الله) أصله (لاه) بما قرِئ شاذًّا {وهو الذي في السماء لاهٌ وفي الأرض لاهٌ}[الزخرف آية 84] .
تنبيه: كان قوم من النحاة المتقدِّمين يعيبون على عاصم, وحمزة وابن عامر قراءاتٍ بعيدة في العربية, وينسبونهم إلى اللحن, وهم مخطئون في ذلك؛ فإن قراءتهم ثابتة بالأسانيد المتواترة الصحيحة التي لا مطعن فيها, وثبوت ذلك دليل على جوازه في العربية, وقد رد المتأخرون منهم ابن مالك , على من عاب عليهم ذلك بأبلغ رد, واختار جواز ما وردت به قراءاتهم في العربية, وإن منعه الأكثرون مستدلا به من ذلك احتجاجه على جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار بقراءة حمزة: (تساءلون به والأرحام).
وعلى جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمفعوله بقراءة ابن عامر: (قتل أولادهم شركائهم ) .
وعلى جواز سكون لام الأمر بعد ( ثم ) بقراءة حمزة : ( ثم ليقطع ))).[الاقتراح للسيوطي/ تحقيق محمود سليمان ياقوت ص76-ص82] وقد يكون الحقّ معه في أشياء، ويخالف في أشياء، وفق ما أوردناه من مبادئ، قد يكون معه الحقّ فيما لم يرد له معارض, ويكون الحقّ ليس معه، فيما ورد له معارض، أو ما يمنع الاحتجاج به لعدم كفايته لعلّةٍ من العلل المانعة الاستدلال به.
ممّا يحسن سطره في هذا أن نشير إلى موقفٍ للشاطبي في مناقشته بعض آراء ابن مالك؛ إذْ يرى ابن مالك أن "تقديم الحال على صاحبه وعامله قليل" المقاصد الشافية 3/456 وعلّق الشاطبي عليه، فقال: والصواب - والله أعلم – مع النحويين دون ابن مالك؛ لأنهم لم يأتوا بوجهِ المنع القياسي إلا بعد استقراء كلام العرب, وأنّهم لم يجدوا التقديم إلا في شعر لا يجعل وحده مأخذ قياس, أو في الآية الكريمة(إلا كافّة للناس) مع احتمالها وعدم نظيرٍ لها في ظاهرها, ومعارضة الاستقراء للقياس في المسألة ، فحينئذٍ جزموا بمنع المسألة, وأوّلوا الآية الكريمة حين لم يجدوا لها في الكلام نظيرًا, ولم يثبت عندهم جواز التقديم في لغة من اللغات, فالحقّ ما ذهبوا إليه.
ومن عادة ابن مالك التعويل على اللفظة الواحدة تأتي في القرآن ظاهرها جواز ما يمنعه النحويّون, فيعوِّل عليها في الجواز, ومخالفة الأئمّة, وربّما رشَّح ذلك بأبيات مشهورة, أو غير مشهورة, ومثل ذلك ليس بإنصاف؛ فإنّ القرآن قد يأتي بما لا يقاس مثله, وإن كان فصيحًا, وموجَّهًا في القياس لقلّته. [المقاصد الشافية 3/456]
وقال الشاطبي: " ليس كلّ ما تكلّم به الغرب يقاس عليه، وربما يظنّ من لم يطلع على مقاصد النحويين أن قولهم: شاذٌّ, أو لا يقاس عليه, أو بعيد في النظر, القياسي, وما أشبه ذلك ضعيفٌ في نفسه, وغير فصيح, وقد يقع مثل ذلك في القرآن, فيقومون في ذلك بالتشنيع على قائل ذلك, وهم أولى لعمر الله, أن يشنّع عليهم, ويحال نحوهم بالتجهيل والتقبيح؛ فإن النحويين إنما قالوا: ذلك" [المقاصد الشافية 3/456] "لأنهم لمّا استقروا كلام العرب ليقيموا منه قوانين يحذى حذوها وجدوه على قسمين:
قسم سهل عليهم فيه وجه القياس, ولم يعارضه معارض لشياعه في الاستعمال, وكثرة النظائر فيه, فأعملوه بإطلاقٍ علمًا بأنّ العرب كذلك كانت تفعل في قياسه.
وقسم لم يظهر لهم فيه وجه القياس, أو عارضه معارضٌ لقلّتِه, وكثرة ما خالفه, فقالوا: إنّه شاذٌّ, أو موقوف على السماع, أو نحو ذلك, بمعنى أنّا نتّبع العرب فيما تكلّموا به من ذلك, ولا نقيس غيره عليه, لا لأنّه غير فصيح, بل لأنّا نعلم أنّها لم تقصد في ذلك القليل أن يقاس عليه, أو يغلب على الظنِّ ذلك, وترى المعارض له أقوى وأشهر, وأكثر في الاستعمال, هذا الذي يعنون، لا أنّهم يرمون الكلام العربي بالتضعيف والتهجين ، حاش لله, وهم الذين قاموا بغرض الذبِّ عن ألفاظ الكتاب, وعبارات الشريعة, وكلام نبيِّنا محمّدٍ ! فهم أشدُّ توقيرًا لكلام العرب, وأشدّ احتياطًا عليه ممّن يغمز عليهم بما هم منه بُراء, اللهمّ إلا أن يكون في العرب من بعُد عن جمهرتهم, وباين بحبوحة أوطانهم, وقارب مساكن العجم, أو ما أشبه ذلك ممّن يخالف العرب في بعض كلامها, وأنحاء عباراتها, فيقولون: هذه لغة ضعيفة, أو ما أشبه ذلك من العبارات الدالّة على مرتبة تلك اللغة في اللغات". [المقاصد الشافية 3/457]
*******
ختام الكلام:
عامّة ردود من ردَّ على النحاة في هذا الأمر تعتمد طريقًا محفوفة بالمزالق؛ إذ تعتمد على الثقة بصاحب الرأي، وحسن الظنِّ به، وتفضيله عمومًا على من خالفه، كما فعل أبو حيّان في تفضيل أبي عمروٍ الدانيِّ على أبي الفتح. وكما فعل الشيخ عضيمة حين نقل ثناء أهل العلم على بعض القرّاء، ينظر في الثناء على ابن عامر . [دراسات عضيمة 1/30-31] وحمزة [دراسات 1/31-32] وهذا ليس محلّ نزاع فالقرّاء حملة القرآن، وليس الاستدراك على واحدٍ منهم بناقصٍ من مكانته وإمامته، ولا يلزم من تزكيتهم، تصحيح كل ما يأتونه، ولا الطعن في قراءتهم، كما أن نقد بعض أدائهم، لا يلزم منه ردّ جميع ما جاءوا أو انتقاصهم، والطعن في إمامتهم بعلمهم؛ إذ هناك نقد عامّ لحمزة ، كما فعل ابن حنبل، وابن قتيبة، ولم يخرجه هذا النقد من القرّاء، ولا أبطل قراءته، وهم قد انتقدوا بعض أداءاته، كما فعل الكسائي في قصّته بمكّة مع الرشيد.
ولو كان دافعهم الطعن لكان الأخذ بالهمز أولى لأنّه المتوافق مع القاعدة الصرفية. تعليقًا على قراءة أهل المدينة (معايش).
النحاة كانوا مدافعين عن المصاحف ، وكتّابها، والقراءات وقرّائها، وهم في دفاعهم هذا مجتهدون، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، وخطؤهم مغفور لهم، إن شاء الله، من مثل ما جاء عند الزمخشري في تفسيره في قراءة ((والْمُقِيمِينَ نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع، وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب اللَّه ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم)). [تفسير الزمخشري = الكشاف 1/ 590]
((ويدل عليه أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرءوا: أفلم يتبين، وهو تفسير أَفَلَمْ يَيْأَسِ. وقيل: إنما كتبه الكاتب وهو ناعسٌ مُسْتَوِيَ السينات، وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام. وكان متقلبا في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصًا عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه والله فريةٌ ما فيها مرية)). [تفسير الزمخشري = الكشاف 2/530- 531] وانظر عضيمة 1/26-27
قلت: كلام النحاة لا يتضمّن التلحين, وإنما يمكن أن نفسّره بما كان للقرّاء من أحوال, فالقارئ يسمع القرآن من طرقٍ مختلفة, وهذه الطرق تتفاوت وتختلف, وقد تتفرّد بأشياء, وعمل القارئ هو الاختيار من بينها لما هو أولى وأقرب للصحة, وما هو لغة عالية, فإذا اختار غير ذلك فلأهل النحو أن يؤاخذوه على اختياره، لا على إسناده, ولذا جاء التعليل (ولم يكن يدري ما العربية) [دراسات 1/20] والقرّاء أنفسهم كان لهم حظٌّ من التخطئة والتلحين, ورد بعض أوجه القراءة لبعض القراء, وإن كانوا من السبعة. [ينظر في هذا كتاب دراسات لأسلوب القرآن الكريم 1/19فما بعدها].
وقد التمس النحاة للقرّاء عُذُرًا بقولهم ((وإنما يجوز مثل هذا الغلط عندهم لما يستهويهم من الشبه؛ لأنهم ليست لهم قياسات يستعصمون بها. وإنما يخلدون إلى طبائعهم، فمن أجل ذلك قرأ الحسن البصري رحمة الله عليه: "وما تنزلت به الشَّيَاطون"؛ لأنه توهم أنه جمع التصحيح نحو "الزيدون" وليس منه.وكذلك قراءته: "ولا أَدْرَأْتُكُم به" جاء به كأنه من "درأته" أي: دفعته وليس منه, وإنما هو من "دريت بالشيء" أي: علمت به, وكذلك قراءة من قرأ "عادَ للُّؤلى", فهمز وهو خطأ منه. قلت (سليمان): الإدغام صحيح في القراءة, يحفظ ولا يقاس عليه، وكلام النحاة عن تأسيس قياسٍ يطّرِد. تعدّد الرواية ليس مطلقًا، والروايات لا تتدافع، ولا يسقط بعضها بعضًا.
فتعدّد القراءات عند النحاة لا يلغي الاحتجاج بها جميعًا, فلا تردّ قراءة بقراءة، ولا تدفع قراءة قراءةً, وليست قراءة أولى من غيرها في النحو، وتقرير أحكامه، وبناء قواعده. الله أرحم بعباده ، فأنزل القرآن على سبعة أحرف؛ مراعاة للواقع اللغوي للبيئة العربية. [يشرح معنى الاحتجاج ، وأنه لا يلزم منه إقامة قاعدة مطردة، بل يعني إثبات اللغة، ولا يلزم منها القياس، فقد يكون تسويغًا لاستعمال ما ورد في القرآن، ولا يلزم منه قياس، كما ذكر ابن جني أن جميع لغات العرب حجة، ولا يلزم من كونها حجة التسوية بينها، ولا القياس عليها]
*******
ونستطيع بعد هذا أن نقول: إن علاقة الصحّة وعدمها قراءةً ونحوًا، على أربعة أضربٍ، هي:
1 ما يصحّ قراءةً ويصحّ نحوًا، وهو جمهور ما يقرأ به القرآن، وعامّة ما عليه القرّاء.
2 ما يصحّ قراءة، ولا يصحّ نحوًا، ولا تسيغه قواعد العربيّة، بمعنى أنّه لا يقاس عليه، لا بمعنى أن لا يستعمل بعينه في الكلام، مثل بعض مسائل الإدغام، في نحو (شَهْررَمضان) في قراءةٍ لأبي عمروٍ، والتقاء الساكنين، في نحو قراءة (محيايْ) بإسكان الياء، وقراءة من قرأ (فنِعْمّا هي) بإسكان العين، وخلاف النحاة لا يطعن في التمثيل.
3 ما يصحّ ويسوغ بل يستجاد نحوًا، ويمتنع قراءة، مثل الرفع والنصب في "الرحمن الرحيم" من {بسم اللهِ الرحمنَُ الرحيمَُ}. [الخصائص]
4 ما لا يصحّ لا نحوًا ولا قراءةً، وهو ما لا سندَ له، ولا يوافق قواعد العربيّة، كقراءة العامّة القرآن على ما تطوعهم به ألسنتهم، لا على ما توجبه الرواية، وكامتناع ((التقاء الساكنين :
• إذا كان أوّل الساكنين واوًا أو ياءً، والثاني حرف صحيح، غير مدغَمٍ.
• إذا تقدّم في حشو الكلمة الحرف الصحيح الساكن على أحد حروف العلّة.
• إذا التقى حرفا علّة متفقان في حشو الكلمة)). [التقاء الساكنين بين القرّاء والنحويين/ عبد الرحمن الشنقيطي/ مجلّة معهد الشاطبي/ ع(12) ذو الحجة 1432هـ]
*******
ثمّ إن التشنيع على النحاة في تناولهم للقراءات، أمر يقع في العلوم الأخرى التي بين حملتها وحملة علوم تلتقي معها، وهي نازلة من النوازل التي تستحقُّ الدرسَ، فمهاجمة طائفة علمية لم تكن بارزة، كما هي الآن في السابق، وكان الهجوم سابقًا وقائع مفردة، والردّ على ممارساتٍ فرديّة، لها أحكام الوقائع والحوادث المفردة، أمّا أن يكون الهجوم على طائفة برمّتها, ووسمها بسمةٍ واحدة، من أجل ممارساتٍ محدودة، قام بها حملة علمٍ آخر، فهذا لم يكن فيما مضى، وقد صار نازلة في عصرنا، ومن هذا ما يقوم به بعض من يحمل همَّ الدِّفاع عن القرآن، وقراءاته, وقرّائه، وما يفهمونه من عباراتٍ تصدر من بعض النحاة يظنّونها هجومًا على القرّاء، وتعدِّيًا على القراءات، ولم يكن علماؤنا فيما مضى يفهمونها على هذا النحو، ولا يحمِّلونها ما تُحمَّله في هذا العصر، ومن هنا جاء هذا العمل، وإن خصَّ بعنوانه التفسيريّ بعلمٍ من أعلام النحو في العصر، إلا أنّ المعالجة تشمله وتشمل غيره، ممّن يشاركه الفعل، ويستخدم الألفاظ ذاتها في حوار النحاة، والفرق بين ما كان أولا، وما يجري الآن هو أنّ ما كان عبارةٌ عن ممارساتٍ وأفعالٍ مفردةٍ، وما يجري صار ظاهرةً، لم تعدْ محصورةً في علمٍ؛ إذ نراها في كلِّ علمٍ يتعصَّب له حاملوه، أو يكون لديهم رغبة فيما يتوهَّمونه تجديدًا، حين يظنّون التجديد في سلق العلماء بألسنةٍ حدادٍ، وتنقُّ أهل كلِّ علمٍ للعلوم الأخرى، وطوائفها.
هذا ما أمكن سطره في كتابة أوّليّة, وهي قابلة للتنقيح في قابل الأيّام. تمّ بحمد الله، والصلاة والســلام على رسوله الكريم. وقد فرغت من كتابته في منزلي بجوار بيت الله الحرام بمكة (حرسها الله من كلِّ سوءٍ) في مساء يوم الجمعة الثالث من جمادى الأولى من عام ألفٍ وأربعمائة وأربعة وثلاثين, الموافق للرابع عشر من شهر مارس من عام ألفين وثلاثة عشر للميلاد.