ملخص الورقة :
تثير هذه الورقة ، أو تطرح إشكالاً، هو : هل تنطبق على العلوم الإسلامية والعربية ذات المعايير التي تطبق على العلوم المهنية، التي ترتبط بحاجة سوق العمل من أفراد، وشركات ، وحكومات ، وأيّ جهة خدمية أخرى ؟
إنّ هناك أمورًا حين يطرح مثل هذا الموضوع لا بدَّ أن يستحضرها من يناقشه، مثل طبيعة العلوم الإسلامية، وهل تتساوى مع العلوم الأخرى بارتباطها بالاقتصاد, ومن كونها في الأساس ليست ممّا يقصد به أمر اقتصاديّ, أو أمر من أمور الدنيا، وهي علوم يتعيَّن على طالبها صحة المقصد، وسلامة النية, ثمّ هي من الواجب العيني على كل مسلم فيما يحتاجه، وكون الحاجة لهذه العلوم شخصية تمس تكوين الفرد، بل العلم الشرعي ضروري في تكوين كل فرد, وكون هذه العلوم ضرورية للمجتمع الإسلامي، من أجل إقامة الحياة الإسلامية، ولا بدَّ لمن يتحدَّث في هذا الموضوع من استحضار تصوُّر الإسلام للحياة والكون والدين والإنسان والإله وطبيعة العلاقة بين هذه المقوِّمات، وتأثيرها في صناعة الحياة وإدارتها .
سيركز البحث على قيم ترد في توصيف البرامج ، منها :
الحاجة لهذه التخصصات : اقتصادية ، اجتماعية ، ثقافية ، أخرى .
مخرجات التعليم ، وما تتطلبه من معارف ومهارات ، وتحديد المهارات التي يسمو إليها التعليم الإسلامي .
الخصائص التي يراد تكوينها في الطلاب .
إنه لا خلاف في الترميز والتعريفات , ووصف المحتوى , وفي طرائق تقويم اكتساب الطلاب ، ولا في تقويم البرامج والمقررات إلا بمقدار ما يكون من اختلاف فيما يسبقها .
وخلاصة الورقة : إثارة سؤال : هل تتفق العلوم الإسلامية والعربية مع العلوم ذات الصبغة المهنية فيما يطلب لها من مواصفات من أجل الاعتماد ؟ وما الموجِّهات أو المؤثِّرات التي تصنع هذه الفروق ، إن كان ثمّت فروق ؟ لعلّ الورقة أو أوراقًا أخرى تجيب عن هذه الأسئلة ، وغيرها من أسئلة ، أو تثير أسئلة أخرى .
******************
مقــدمة :
برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة تربط العلم بالاقتصاد: مصالحه ومصالح شركاته ومؤسساته، وأصحاب العمل، وقد استجابت مؤسَّسات التعليم لهذا الربط، وجعلته من أهمِّ إستراتيجيّاتها، وصار تخطيطها ورؤيتها يولد من رحم المؤسّسات الاقتصادية .
فالعلم ذو الصبغة المهنية مرتبط بسوق العمل، ونجاح برامجه بتوظيف خرِّيجيه، وإيجاد فرص عمل لهم، وصارت عمليات القبول، وتأسيس البرامج، والتوسُّع فيها، وتحجيمها مبنيّة على حاجة سوق العمل .
الأمر أعمق من مجرد اختلاف؛ إنه يرجع إلى اختلاف في التصور والاعتقاد .
إن الاعتماد الأكاديمي بصورته القائمة يجعل التعليم أسيرًا لدى الاقتصاد ، إن شاء أطلقه، وإن شاء صفّده بأغلال يعسر كسرها، والخروج من حكمه. ولو طبِّقت معاييره على العلوم الإسلامية والعربية لكان الجور أكبر؛ لأن العلوم الإسلامية ليست وليدة حاجة اقتصادية، بل هي ضرورة لبناء الفرد المسلم ، وتكوين المجتمع الإسلامي، ومتطلبات الحياة الإسلامية، وهي ضرورة تلازم الفرد في حياته في كل حين ولحظة، وتلازم المجتمع في كل مناشطه وممارساته. ومسئولية نشر العلم الشرعي تقع على الأمّة بمجموعها فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:"فليبلِّغ الشاهد الغائب" وقال:"نضر الله عبدًا سمِع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها، فربّ حامل فقه غير فقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه". (ينظرالحسين بن مسعود البغوي / شرح السنة /تحقيق السيد صقر ومحمد الأحمدي أبو النور/ لجنة إحياء التراث /دار الكتب/1396- 1976م ص225-241)
إن هذه المقالة .. أشبه بوجهة نظر تعتمد الخبرة وما قرأته في الاعتماد ولهذا لا يعنينا أن يكون له هوامش أعزو فيها الأقوال وأعين الأجزاء والصفحات .
موجِّهـــــات ومؤثِّرات :
- vالعلم الشرعي بين فرض العين والكفاية :
"العلوم الشرعية قسمان : علم الأصول ، وعلم الفروع .
أمّا"علم الأصول" فهو معرفة الله (سبحانه وتعالى) بالوحدانية والصفات، وتصديق الرسل، فعلى كلِّ مكلَّف معرفته، ولا يسع فيه التقليد؛ لظهور آياته ووضوح دلائله ... .
وأمّا "علم الفروع" فهو علم الفقه ، ومعرفة أحكام الدين، فينقسم إلى "فرض عين" و "فرض كفاية". أمّا "فرض العين" فمثل علم الطهارة , والصلاة , والصوم ...وكذا كلّ عبادة أوجبها الشرع على كلِّ واحد، فعليه معرفة علمها, مثل علم الزكاة، إن كان له مال، وعلم الحجِّ إن وجب عليه .
وأمّا "فرض الكفاية" فهو أن يتعلّم ما يبلغ به مرتبة الاجتهاد ودرجة الفتيا، فإذا قعد أهل بلد عن تعلُّمه عصوا جميعًا ، وإذا قام واحد منهم بتعلُّمه ، فتعلّمه سقط الفرض عن الآخرين ، وعليهم تقليده فيما يعنُّ لهم من الحوادث {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. (الحسين بن مسعود البغوي / شرح السنة /تحقيق السيد صقر ومحمد الأحمدي أبو النور/ لجنة إحياء التراث /دار الكتب/1396- 1976م ص282-284)
- vوجوب العلم الشرعيّ على الأفراد:
والإسلام الذي يجعل العلم أفضل من العبادة ، كما قال الزهريُّ :"ما عُبِد الله بمثل الفقه" وقال سفيان الثوريّ :"ما أعلم عملاً أفضل من طلب العلم وحفظه لمن أراد اللهَ به" وقال :"ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم" والآثار في هذا المعنى كثيرة . (ينظرالحسين بن مسعود البغوي / شرح السنة /تحقيق السيد صقر ومحمد الأحمدي أبو النور/ لجنة إحياء التراث /دار الكتب/1396- 1976م ص272) يوجب على أتباعه تحصيل قدر كاف من العلم الشرعي على كل فرد واجبًا عينيًّا " العلم فريضة على كل مسلم " ، وجعل العمل في الدرجة الثانية بعد العلم ، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19] قال علي بن الحسن بن شقيق: قلت لابن المبارك : ما الذي لا يسع المؤمن من تعليم العلم إلا أن يطلبه ؟ وما الذي يجب عليه أن يتعلمه قال : « لا يسعه أن يقدم على شيء إلا بعلم ولا يسعه حتى يسأل » قال أبو عمر : « قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصة نفسه ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع واختلفوا في تلخيص ذلك والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه نحو الشهادة باللسان والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له [ وما يتصل بالاعتقاد].... وأن القرآن كلام الله وما فيه حق من عند الله يلزم الإيمان بجميعه ، واستعمال محكمه وأن الصلوات الخمس فريضة ويلزمه من علمها علم ما لا تتم إلا به من طهارتها وسائر أحكامها وأن صوم رمضان فرض ، ويلزمه علم ما يفسد صومه ، وما لا يتم إلا به ، وإن كان ذا مال ، وقدرة على الحج لزمه فرضا أن يعرف ما تجب فيه الزكاة ومتى تجب وفي كم تجب ولزمه أن يعلم بأن الحج عليه فرض مرة واحدة في دهره إن استطاع السبيل إليه إلى أشياء يلزمه معرفة جملها ولا يعذر بجهلها نحو تحريم الزنا وتحريم الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة ، والأنجاس كلها والسرقة والربا والغصب والرشوة في الحكم ، والشهادة بالزور ، وأكل أموال الناس بالباطل وبغير طيب من أنفسهم إلا إذا كان شيئا لا يتشاح فيه ولا يرغب في مثله ، وتحريم الظلم كله وهو كل ما منع الله عز وجل منه ورسوله صلى الله عليه وسلم وتحريم نكاح الأمهات والبنات والأخوات ومن ذكر معهن ، وتحريم قتل النفس المؤمنة بغير حق ، وما كان مثل هذا كله مما قد نطق به الكتاب وأجمعت الأمة عليه ، ثم سائر العلم ، وطلبه والتفقه فيه وتعليم الناس إياه وفتواهم به في مصالح دينهم ودنياهم والحكم به بينهم فرض على الكفاية يلزم الجميع فرضه فإذا قام به قائم سقط فرضه عن الباقين بموضعه لا خلاف بين العلماء في ذلك وحجتهم فيه قول الله عز وجل ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم (2) ) فألزم النفير في ذلك البعض دون الكل ، ثم ينصرفون فيعلمون غيرهم والطائفة في لسان العرب الواحد فما فوقه ". ابن عبد البر يوسف بن عبد البر "جامع بيان العلم وفضله" /دار الفكر / بيروت ص12-13
- vالحياة الإسلامية مؤسّسة على العلم :
بنية الحياة الإسلامية العلم الشرعي متغلغل فيها، وهي مبنية عليه في جوانب كثيرة، وهي في كثير من ممارساتها تتطلب العلوم الإسلامية من إمامة وخطابة وقراءة وصلاة ومأذونية, وإفتاء، ودعوة وإرشاد، وممارسة لشعائر الدين، وحقوق الخالق والخلق، وغيرها.
- vخصائص التربية الإسلامية :
التربية الإسلامية لها مقصد سام هو إعداد الإنسان الصالح الذي تحكمه قيم ربانية إنسانية يتعبد لله في تحقيقها ، ويتعامل وفق تعاليمها مع البشر والكائنات. ومن خلال منهج له خصائصه التي لا تتصادم مع الفطرة البشرية، ولا تطلب من الإنسان فوق ما تتحمله فطرته، وقد أجمل بعض الكتاب هذه الخصائص في أربع هي : 1- الشمول والتكامل . 2- التوازن. 3- الإيجابية السوية . 4- الواقعية المثالية. (محمد قطب منهج التربية الإسلامية ط الثانية ص37 ) .
- vمكانة العلم في حياة المســـلم :
العلم أساس في حياة المسلم، وأحد مكونات شخصية المسلم ، ولها قيمتها الخاصة. ثمّ إنّ طبيعة الممارسة الدينية في الإسلام تختلف عنها في الأديان الأخرى، حيث عامّة الواجبات والشعائر تتعلّق بالشخص نفسه، ولا تقبل النيابة، ولا تحمُّل الآخرين لها، وعامّة الفروض واجبات عينية، والمسئولية فردية لا يتحمّل أحد مسئولية أحد، ولا ينوب أحد عن أحد في أداء ما فُرِض عليه {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام: 164] {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 18] {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7] {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى, وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى, ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى, وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 39 - 42] .
العلم مناط التفاضل والتقدمة :
وجعل التفاضل بينهم بالعلم، "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " "فضل العالم على العابـد فضل القمر ليـلة البـدر على سـائر الكواكب" {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. وفي الحديث عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنِّي جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ قَالَ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وإنّما وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"حديث أخرجه أصحاب السنن وغيرهم من أصحاب المسانيد .
"وقد جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل العالم كمثل المطر ، ومثل قلوب الناس فيه كمثل الأرض في قبول الماء ، فشبّه من تحمّل العلم والحديث وتفقه فيه ، بالأرض الطيبة أصابها المطر فتنبت ، فانتفع بها الناس . وشبّه من تحمّله ولم يتفقّه ، بالأرض الصلبة التي لا تنبت ، ولكنّها تمسك الماء ، فيأخذه الناس وينتفعون به . وشبّه من لم يفهم ولم يحمل بالقيعان التي لا تنبت ولا تمسك الماء ، فهو الذي لا خير فيه" .(الحسين بن مسعود البغوي / شرح السنة /تحقيق السيد صقر ومحمد الأحمدي أبو النور/ لجنة إحياء التراث /دار الكتب/1396- 1976م ص282) وهذا في قوله :" مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ" .
فالفقه في الدين والتضلّع من علوم الإسلام منحة ربانية يصطفي لها الله من يشاء من عباده ، يختارهم ويمتنّ عليهم بها "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" متفق عليه من حديث معاوية رضي الله عنه .
وجعل التقدمة في بعض المسئوليات الدينية حتى ترتيب الأموات عند الصلاة عليه، ووضعهم في القبر المشترك، مؤسّسًا على التقدم في العلم الشرعي والمكنة فيه. بل في بعض المسئوليات العامة ذات السمة القيادية كما في قصة جالوت وطالوت" وزاده بسطة في العلم والجسم".{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247] إنهم رجعوا القيادة إلى ما الدنيا من جاه ومال ، فعلّمهم الله أن العلم بالشرع والديانة هو مؤهِّل القيادة مع عدم إغفال المؤهلات الأخرى كقوة البدن . عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا" رواه مسلم وأصحاب السنن والمسانيد .
- vوقفات أوتقســيمات أخرى للعلوم الإسـلاميّة :
1- العلم علمان : علم رواية ، وعلم دراية . ولكل منهما معايير خاصة لا بدَّ من مراعاتها عند وضع معايير الاعتماد. والعلوم الإسلامية بنوعيها تهيمن بل تشمل جميع تصورات الحياة من اقتصاد وسياسة وأخلاق ، وغيرها .
2- ما يدرس من العلوم في الحياة الإسلامية يصنَّف إلى فئتين :
- علوم شرعية هي ضرورة لإقامة الحياة الإسلامية، على مستوياتها المختلفة الفردية والمجتمعية، وكل مسلم مهما كان شأنه مطالب بشيء من هذه العلوم يقيم بها واجباته الدينية، وليعبد الله على بصيرة وهدًى "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك"، وهذا الحد الأدنى يلزم كل مسلم. وما زاد عنه فهو من فروض الكفاية التي تلزم الأمة، ولا تلزم الأعيان إلا إذا فرطت الأمة كلها فيها، فالإثم يعم الجميع .
- علوم هي أشبه بالصنائع بل هي صنائع ومهن، كالطب والحساب والرياضيات والهندسة والفلاحة، والفلك والجغرافيا، وهذه علوم ترتبط بالحاجة إليها وبما يمليه سوق العمل. (ينظر الذهبي محمد بن عثمان /بيان زغل العلم والطلب /تحقيق محمد العجمي/مكتبة الصحوة /الكويت ص40،45،48) .
إن علوم الصنائع يصح فيها أن نطبق عليها معايير الاعتماد الأكاديمي، ولا بأس من تطبيق المعايير الدولية المعتمدة، بل الأجدى أن نطبقها .
أما العلوم الإسلامية ، وهي تر جع إلى الوجوب على الفرد أو على المجتمع ، فلها بمقتضى أشياءَ كثيرةٍ معايير ومقاييس وممارسات أخرى تفارق بها علوم الصنائع .
- vالعلم والعمل صحبة وتلازم :
حامل العلم الإسلامي ومعارف الوحي عليه مسئولية الالتزام والعمل بما يتعلّمه، وتبليغ ما تعلّمه ، وبيانه للناس من مسلمين وغيرهم ، والدعوة والقدوة، وفي ذلك من الآيات{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ , كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] .
بين العلم الشرعي والسلوك في الحياة الإسلامية تلازم ، بل عدّ من لا يعمل بعلمه مستحقًّا للعذاب والعقوبة ، حتّى قيل :
وعالم لم يعملن بعلمه معذَبٌ من قبل عبّاد الوثن
" عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ أَيُّهَا الشَّيْخُ حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّار ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ" أخرجه مسلم .
ومن لا يعمل بعلمه مستحقّ لغضب الله، والعابد بجهل ضالٌّ، وهذا في آية يتلوها المسلم في اليوم مرّات، بل في كلِّ صلاة فرضًا أم سنة، من سورة لا تتمُّ الصلاة بدونها {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالّين} [الفاتحة 7]. وكان علماؤنا والأمّة معهم يرفضون من لا يلتزم بعلمه، فالعلم ليس دراسة نظرية فحسب، بل سلوك عمل يتبارك به العلم ، والعالم يجب أن يكون قدوة عملية في التزام السلوك وقيم الإسلام وخلقه، وهذا يجب أن يكون معيارًا تقوَّم به فاعلية البرامج الإسلامية، فهل يليق مثلاً منح امرأة لا تلتزم الحجاب، وتخرج على الحشمة والوقار شهادة العلوم الإسلامية؟ وهل يليق منح شخص لا يقوم بالفروض الإسلامية العينية الواجبة على كلِّ فرد الصلاة والصيام، أو من يجاهر بالفجور والخروج على القيم الإسلامية، وهل يليق بمن لا يلتزم بسمت أهل العلم، وهيئتهم، وأخلاقهم، ومروءتهم، وعدالتهم، هل يليق منحه شهادة بالعلوم الإسلامية؟!
حملة العلم الشرعي هم ورثة الأنبياء ، ولم يخلِّف الأنبياء درهمًا ولا دينارًا ، ومن الطبيعي أن يتحمّلوا مسئوليّتهم ، وأن يقوموا بواجبهم الذي شرّفهم الله به {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] وحذّر الإسلام ممن يفرّط في هذه المسئولية ، وتوعّده بعقوبة قاسية من خلال إيراد قصة من قصص بني إسرائيل، هي عبرة وعظة لمن يعمل بعمله من هذه الأمّة، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175].
- vإخلاص النية والقصد في طلب العلم :
من قيم الإسلام الإخلاص في طلب العلم ، فلا يطلب للدنيا مالاً أو وجاهةً ، ولا لمماراة السفهاء والفخر عليهم ، ولا لطلب التميُّز عن الآخرين ، وإنّما طلب العلم فريضة كفاية ، قد تتحوَّل إلى فريضة عين "إنّما يخشى الله من عباده العلماءُ" وقصة بلعام معروفة ، وحديث "أوّل من تسعَّر بهم النار ثلاثة : ... " معروف . ثمّ العلم يصنع التواضع ، وينمّي حسن الخلق ، ويرتب على حامله مسئوليّات . وأخطر شيء على العلوم الشرعية أن يتجلبب صاحبها بطلب الدنيا ؛ فالعلم وطلبه من الدين " ومن طلب العلم لله فالقليل يكفيه ، ومن طلبه للناس فحوائج الناس كثيرة" (الكافي في فقه أهل المدينة المالكي / ابن عبد البر / تحقيق محمد محمد أحيد/ط أولى 1398هـ 1978م ص1132) وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا" أخرجه أصحاب السنن . وللسلف كلام كثير في هذا المعنى .( ابن عبد البر يوسف بن عبد البر "جامع بيان العلم وفضله" /دار الفكر / بيروت ص12-13)
إنّ هناك حملة ودعوة تدعونا لأن نجعل العلم الإسلامي كغيره من العلوم ، والفرق واضح ، فالعلوم الإسلامية تطلب للآخرة أساسًا ، والعلوم الأخرى تطلب للدنيا ، وهي صنائع كسائر الصنائع، ولا غضاضة من طلبها، بل هي ضرورة لا تقوم الحياة إلاّ بها، فهي كأيِّ عملٍ يدرُّ على صاحبه دخلاً يغنيه عن السؤال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فاحتطب وبع " يراجع الأثر ويخرَّج .
إن مسئولية تمويل المجتمع الإسلامي ليقيم حياته الإسلامية، وشعائره التعبُّدية مسئولية جماعية ، يقوم بها المجتمع والنظام الحاكم من خلال وسائل معلومة، ومن ضمن ما يتعيَّن على المجتمع المسلم القيام بمسئوليّات الدين والتوجيه: إمامة وخطابة، ووعظًا وتذكيرًا، وإقراءً وتعليمًا، وغير ذلك. وهذا لايناقض تعفّف المنتسبين للعلم، ) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( [الأنعام 90] {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود: 51] {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فإذا انضمّ لهذه العفة، والزهد فيما في أيدي الناس، صفة الرشد والهداية كان ذلك أدعى للقبول وإجابة الدعوة{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20، 21]
إن هذه التصورات يجب أن تكون واضحة لدى المؤسّسات المعنية بالتعليم الإسلامي من أول خطوة تخطوها، عند صياغة الرؤية والرسالة، والأهداف، ووضع التخطيط الإستراتيجي بمراحله المختلفة .
إن التعليم الإسلامي يحتاجه كلّ فرد في المجتمع الإسلامي، وإلاّ تحوّل المجتمع إلى مجتمع جاهل لا يمثل الإسلام المبني على العلم. حديث (العابد والعالم) .
وهذا إن جاز في أديان ومذاهب أخرى حيث يتفرغ نفر للدين وهم رجال الدين لا يجوز في الإسلام الذي لا يقر هذه الثنائية فالكل رجل دين ورجل عمل ورجل مسؤولية إنسانيه شخصية واجتماعيه.
إننا في عصر بدأت فيه الدول تتخلى عن مسؤولياتها, وتستبد الشركات التجاريه بالمجتمعات, وتتحكم في كل شيء فيه حتى فكره و علمه وسلوكه وخصوصياته؛ إذ تصنعه كما تريد , ومن أجل أن يحقق لها مكاسب ماديه.
vالعلم في الحياة الإســـلامية :
إنه لا يمكن في تصورنا الإسلامي للعلم الشرعي والحياة الإسلامية أن يأتي يوم نقول فيه: اكتفى السوق من خريجي أقسام العلوم الشرعية ومعارف الوحي؛ إذ انتشار العلم الشرعي وكثرة من يحمله ويشتغل به طلباً وتعليماً ظاهرةٌ تدل على خير كبير لهذه الأمة, كما دلت على هذا الآثار النبوية. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى العلوم الإسلامية لم تؤسس أصلاً على حاجة سوق العمل, وإنما أسست على تكوين المسلم, وبناء الحياة الإسلامية, والمجتمع الإسلامي. فالتعليم الإسلامي جزء أو ركن من إعداد المسلم ليعيش حياته كما يريدها الإسلام.
أذكر قصة طريفة سمعتها من بعض أشياخي: أن اثنين من النواحي أو الأقاليم وفدا إلى دار السـلام (بغداد) ليمتارا لأهلهما ميرة ، فلمّا قضيا حاجتهما، عزما على الرحيل، وقبل فراق بغداد، أرادا الاستزادة بقوت الطريق، فقصدا إلى مخبز قد فرغ عمّاله من عملهم، وأخلدوا لشيء من الراحة واحتساء شيء من الشراب، وتبادل الأحاديث على عادة العمّال، ففوجئا بالعملة يتداولون حديثًا في بعض مسائل الفقه، واختلاف أهل العلم، وأدلّة كلٍّ، ونقض آراء الآخرين، فهالهما ما رأيا، فقال: بلد خبّازوه يشتغلون بالعلم لا ندعه!! فانصرفا عن السفر، وقرّرا الإقامة ببغداد، ليكون لهما شرف طلب العلم وتحصيله، والانتساب إليه، كعامّة أهلها .
إنّه لا يستساغ أن يكون المجتمع كله مجتمع أطبّاء أومهندسين، أو أيّ فئة أخرى، ويستساغ أن يشتغل المجتمع كلّه بالعلم الشرعي، بل هذا نموذج عال للمجتمع الإسلامي؛ ومظهر كمال في المجتمع الإسلامي؛ لأن العلوم الإسلامية لا تتنافى مع العلوم الصنائعيّة والمهنيّة، بل الإسلام يحثّ المسلمين على تحصيل علوم الشرع مع ممارسة الحياة بمناشطها المختلفة، وهذا مما يتسامى إليه المجتمع الإسلامي؛ فقد يكون العالم بالشرع تاجرًا أو طبيبًا أو مهندسًا أو ممتهنًا لأيِّ حرفة أخرى، بل جرت عادة المسلمين ألاّ يجعلوا علوم الشرع وسيلة معاشهم، وكسبهم، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ ، قَالَ أَفَلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الإِبِلِ". أخرجه مسلم في صحيحه. والصورة المشرقة للإسلام تتمثَّل في اشتغال جميع أفراده بالعلم الشرعي، وتخصيص شيء من الوقت للاستزادة منه، من حفظ للقرآن، وتعلم السنن والأحكام، وما يحتاج إليه المسلم من أجل ممارسة شعائره التعبّدية, ومعاملاته مع مجتمعه ومحيطه وفق الأصول الإسلامية؛ وفاءً بالحق، وقيامًا بالواجب .
- vمن أثر هذه الموجِّهــــات :
العلوم الإسلامية ـ كما أسلفنا، وكما يعرف عنها - قسمان : علوم رواية, وعلوم دراية, ولكل قسم خصائصه ومزاياه.
إن توصيف البرامج والمقررات في العلوم الإسلامية لا يختلف عنه في توصيف البرامج والمقررات في العلوم المهنية (تطبيقية) الصنائع من كل وجه ؛ فهناك ما يكون فيه اتفاق، وهناك ما يكون فيه افتراق :
من الطبيعي أن تختلف مخرجات التعليم، وما تتطلبه من معارف ومهارات، وتحديد المهارات التي يسمو إليها التعليم الإسلامي :
ترسيخ القيم الإسلامية التي عني بها من كتب في آداب طلب العلم، مثل التواضع، والصدق، وصحة النية والمقصد، وعدم الادِّعاء والتعالم، والخوف، والخشية من الله، والالتزام بآداب طلب العلم، والمروءة، وسمت طالب العلم ، والزهد في الدنيا، وعدم الانبهار بمظاهرها، والاستفادة ممّا دوِّن في كتب آداب طالب العلم، وكتب الرحلة في طلب العلم .
التخلّص من الشكليات مثل الأسانيد التي لا قيمة لها، والادِّعاء والتعالم، والتخلّص مما يسمّى بزغل العلم، وما لا يكون له أثر واضح في الحياة العامّة، أو سلوك الأفراد ؛ إن كلّ نوع من نوعي العلم منه ما هو أساس له نفع ظاهر ، ومنه ما لا نفع له في الظاهر، بل هو تزيُّد لا يفيد فائدة ظاهرة، والموفّق من وُفِّق للعلم النافع وهدِي للتخلّص من هذا الزغل .
الخصائص التي يراد تكوينها في الطــلاّب: إذا استقرت لدينا هذه الرؤية، وأن العلوم الشرعية يجب ألاّ تربط بمكاسب دنيوية، وأن الإخلاص فيها وقصد الآخرة وما عند الله من الأجر، وأنّه إن صحّ أن يتبارى طلاّب علوم الصنائع والمهن فيما يحقّقونه من مكاسب ووظائف لا يصح هذا الأمر في العلوم الإسلامية، التي لا بدّ أن يكون لحامليها صفات خاصة تميزهم عن غيرهم . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ" أخرجه مسلم وابن ماحه والبيهقي وابن حبان . وفي كتاب (أخلاق العلماء للآجري) ""باب أوصاف العلماء الذين نفعهم الله بالعلم في الدنيا والآخرة"" قال محمد بن الحسين: لهذا العالم صفات وأحوال شتى، ومقامات لابد له من استعمالها ، فهو مستعمل في كل حال ما يجب عليه . فله صفة في طلبه للعلم : كيف يطلبه ؟ وله صفة في كثرة العلم إذا كثر عنده : ما الذي يجب عليه فيه فيلزمه نفسه. وله صفة إذا جالس العلماء: كيف يجالسهم؟. وله صفة إذا تعلم من العلماء: كيف يتعلم ؟ وله صفة : كيف يعلم غيره؟ وله صفة إذا ناظر في العلم : كيف يناظر؟ وله صفة إذا أفتى الناس: كيف يفتي؟ وله صفة: كيف يجالس الأمراء، إذا ابتلي بمجالستهم ؟ ومن يستحق أن يجالسه، ومن لا يستحق ؟ وله صفة عند معاشرته لسائر الناس ممن لا علم معه. وله صفة: كيف يعبد الله عز وجل فيما بينه وبينه؟ قد أعد لكل حق يلزمه ما يقويه على القيام به، وقد أعد لكل نازلة ما يسلم به من شرها في دينه، عالم بما يجتلب به الطاعات ، عالم بما يدفع به البليات، قد اعتقد الأخلاق السنية، واعتزل الأخلاق الدنية . ص58-59(كتاب أخلاق العلماء لأبي بكر الآجري/تحقيق حسين خطاب وفاروق حمادة / مكتبة الفرقان /دمشق/ط الأولى 1392هـ) والتخلّق بهذه الأخلاق سمة من نفعهم الله بعلمهم، وقد أبان علماؤنا سمات من لم ينفعهم علمهم، ويتعيّن تربية طلاّب العلوم الشرعية بذكر صفات الفريقين ترغيبًا وترهيبًا، وكتب آداب طالب العلم مليئة بمثل هذا. ينظر (كتاب الآجري "كتاب أخلاق العلماء ص127-134 وينظر كتاب "فضل علم السلف على علم الخلف" لابن رجب تحقيق يحيى مختار غزاوي /دار البشائر الإسلامية /ط الأولى 1403هـ1983هـ )
في ظلِّ هذا : هل يتعيَّن على مؤسّسات التعليم الإسلامي أن تأخذ بمعايير الاعتماد الغربيّة ، وتطبِّقها على العلوم الإسلامية والعربية ، كما هي , أم أنّه يجب على هذه المؤسّسات أن تراجع هذه المعايير، وتنظر فيها؛ لتأخذ منها ما يتناسب وهذه العلوم، وتؤسِّس معايير أخرى تتناسب وطبيعتها، ومقاصدها، وارتباطها بتكوين الحياة الإسلامية، ومكانة العلم الشرعي في الحياة الإسلامية على المستويين الفردي والجماعي .
خاتمـــة :
- إن الاعتماد أحد التحديّات التي تواجه الدراسات والعلوم والبرامج الإســلامية والعربية، ولا بدّ من مواجهته بعقلانية وواقعية بالإفادة ممّا فيه من إيجابيّات، مع الاحتفاظ بما لدى العلوم الإسلامية من خصوصيّة، ومزايا ترجع إلى طبيعة هذه العلوم، وأمور أخرى، لعلّ كثيرًا منها قد أوضحته هذه الورقة، ولا بدّ من استحضار الأمور التي أذكرها فيما يلي، ومنها :
1- مراعاة التصوّر الإسلامي للألوهيّة والعبادة ، والإله، والإنسان، والحياة، وتحقيق علاقة متزنة بين هذه الأطراف حسب التصوّر الإسلامي .
2- مكانة العلوم الإسلامية في الحياة الإسلامية، الفردي منها والمجتمعيّ، وتأثيرها فيها، وكونها واجبًا يتحمّله المجتمع وأفراده .
3- مراعاة مقاصد العلوم الشرعيّة في البرامج وتوصيف المقررات .
4- مراعاة طبيعة العلوم الإسلامية، وما تختلف فيه عن العلوم الأخرى التي تعنى بالصنائع والمهنة.
5- مراعاة الحاجة لهذه العلوم فرديّة خاصّة أم مجتمعيّة عامّة .
6- الإفادة من معطيات العصر خاصة في الاعتماد معاييره وممارساته، وأساليبه، وطرائقه .
7- مراعاة البيئة التي يقدّم فيها تقدّمه تلك البرامج أو التخصصات من خطاب مع البيئة المحيطة .
8- مراعاة حاجة تلك البيئات ، وترتيب الأولويات من تلك الحاجات .
9- تقديم تلك البرامج بأساليب مقبولة متعدّدة الأساليب والطرائق، والسياسة في ذلك، والإفادة من مرونة الخطاب الإسلامي ، ومراعاته الظروف والبيئات.
10- تأكيد القيم الإسلامية ، والمحافظة عليها علمًا وعملاً .
11- عناية خاصّة بالأمور التربوية والسلوكيّة .
12- التفكير بأساليب وطرائق مناسبة لتقديم تلك البرامج ، مع مراعاة طبيعة العصر ، وحاجة المتعلِّم بعد تخرّجه ، وتهيِّئته لمواجهة متطلبات الحياة المعيشيّة .
13- الإفادة من تجربة بعض المؤسسات الإسلامية التي تقرن الدراسات المهنية بتخصصات أخرى تعدّ الدارسين لمزالة مهن يقتاتون منها إلى جانب تخصصاتهم في العلوم الإسلامية .
14- التفكير ببرامج ومؤهِّلات تعين على نشر العلم الشرعي وإشاعته بين المسلمين ، وصرف اهتمامات الأمّة للاشتغال بهذه العلوم .
- إنّ استيعاب هذه التصورات، والقيم ،والمقاصد، والخصائص، والدوافع، والحاجات، تجعلنا نعيد النظر في برامج ومخرجات ومؤهِّلات العلوم الإسلامية، التي يجب أن تتلاءم مع هذه التصوُّرات، وتستجيب حاجات الأفراد والمجتمعات.
*********
وأخيرًا : يتعيَّن على القائمين على برامج الدراسات والعلوم الإسلامية السعي لتكوين قيم اعتماد خاصة بهذه البرامج، مع الإفادة من قيم الاعتماد في برامج العلوم الأخرى الصنائعيّة والمهنيّة، ووضع تصوّر لتلك القيم والممارسات التي تنطوي تحت تلك المعايير، من خلال مراكز أو دوائر أو هيئات اعتماد متخصِّصة، تسهم بوضع تلك المعايير، ونموذج الممارسات الجيِّدة بتقديم دراسات وبحوث، وورش عمل، ولجان تدرس وتناقش المقترحات والأفكار من خلال جلسات عصف ذهنيّ لتبادل الآراء، ومناقشة ما يطرح من رؤًى وأفكار .
تمّ بحمد الله ، والصلاة والســـلام على رسوله الأمين .