استشعاراً منه لدوره في خدمة الثقافة العربية الإسلامية، أخذ المجمَّع الثقافي (أدمج سنة 2004م ضمن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، وبعد ذلك مع هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة) على عاتقه مهمَّة نشر مئات الكتب بمختلف وسائل النشر التقليدية والحديثة: الكتاب المطبوع، والإلكتروني، والمسموع، وإتاحتها أمام القرَّاء والباحثين بأسعار رمزية أو مجاناً، كما في حالة الكتاب الإلكتروني من خلال موقع المجمَّع على شبكة الانترنيت.
ومن أبرز أعمال المجمَّع الحالية في مجال الكتاب «المطبوع» تبنِّيه لنشر سفرين جليلين محققين تحقيقاً علمياً يتناسب وقيمتهما العلمية والتاريخية في التراث العربي الإسلامي، وهما «معجم البلدان» لياقوت الحموي (المتوفى سنة 626 هـ/1229 م) و«مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لشهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري (المتوفى سنة 749 هـ/ 1349 م). وسأخصص الحديث ـ في هذا العرض الموجز ـ لـ «معجم البلدان» لأنني أعكف حاليا على تحقيقه:
مؤلف المعجم:
تُقدِّم شخصية ياقوت الحموي الدليل على سعة الأفق والعبقرية، التي تميَّزت بها الشخصيات العلمية العربية، التي شادت بمصنَّفاتها الصرح الهائل للحضارة العربية الإسلامية. ولد ياقوت عام 575 هـ، في بلاد الروم (الأناضول أو اليونان)، وتعرَّض للأسر في طفولته، وهو في نحو الخامسة من عمره، وجُلب إلى بغداد فبيع فيها، واشتراه تاجر من أهل حماه يسكن بغداد، اسمه عسكر بن إبراهيم الحموي، ومن حسن حظ ياقوت أن التاجر الذي اشتراه كان ثريّاً، ولم يكن يحتاج إليه في الخدمة، فقد أدمجه مع أولاده، وأشركه معهم في التعليم، ليستعين به مستقبلاً في مسك الدفاتر والحسابات، لأنه كان أُمِّياً، فأقبل الفتى على التعليم بشغف، فنال قسطاً وافراً من الثقافة والعلوم العربية والإسلامية. وخدمه الحظ مرَّة أخرى، إذ اصطحبه مولاه في أسفاره ورحلاته التجارية، وأحياناً كان يكلِّفه بالسفر بمفرده، وكان لهذه السفريات أبلغ الأثر في نُضج شخصيته، وتوسيع مداركه وتعزيز ميوله واتجاهاته العلمية واهتماماته الجغرافية.
وعندما بلغ الحادية والعشرين من العمر، وقعت بينه وبين مولاه جفوة، أدَّت إلى إبعاده عنه وعتقه. فكان حصوله على حريته، نقطة تحوُّل مهمَّة في حياته. فقد بدأ بشق طريقه بنفسه للحصول على مصدر رزقه. ولأنه لم تكن لديه معرفة بغير أمور التجارة، التي اكتسب خبرتها مع مولاه، ولأنه لا يمتلك رأس المال اللازم لهذه المهمَّة، فقد امتهن حرفة «الوراقة»، يتاجر بالكتب ويتكسَّب بنسخها. وعلى الرغم من قلَّة المردود المادي لهذه الحرفة إلاَّ أن عائدها المعرفي عليه كان كبيراً. فقد حصل من خلالها على معارف واسعة، حبَّبت إليه العلم، وعزَّزت صلته بالعلماء ومحبِّي الكتب. وبعد فترة من الزمن يبدو أن مولاه السابق رَقَّ لحاله، فمنحه بعض المال وسفَّره في تجارة إلى جزيرة قيس (كيش) في الخليج العربي غير بعيدة عن مضيق هرمز، عاد منها رابحاً. ولمَّا عاد كان مولاه قد توفي، فأعطى ورثته من الربح ما أرضاهم به، وبقيت في يده منه بقية، اتخذها رأس مال لتجارته. وكان قد تعلَّق بالكتب، فاتخذها تجارة له، يتنقَّل بها بين مختلف الحواضر الإسلامية، حاملاً الكتب منها وإليها.
وكانت أخصب فترة علمية في حياته، هي التي أمضاها في الترحال، واستمرَّت زهاء 16 عاماً، حتى وفاته، لم تتخللها سوى فترات قصيرة من الاستقرار، زار خلالها تبريز والموصل، في طريقه إلى مصر والشام. وبعد ثلاثة أعوام عاد إلى دمشق وتوجه منها إلى حلب فإربل فأُرمية فتبريز، ومنها إلى شرق إيران. وأمضى عامين بنيسابور، ثم غادرها إلى هراة وسرخس، إلى أن بلغ مدينة مرو الكبرى، وتعرف أيضا بـ«مرو الشاهجان»، حاضرة إقليم خراسان، (في جنوب جمهورية تركمانستان حالياً) وأمضى بمرو ثلاثة أعوام، متنقلاً بين مكتباتها الشهيرة، التي وصفها بقوله: «وتركت مرو في سنة 616هـ على أحسن ما يكون، وأقمت بها ثلاثة أعوام فلم أجد بها عيباً.. ولولا ما عَرَا من ورود التتر إلى تلك البلاد وخرابها، لما فارقتها إلى الممات، لما في أهلها من الرفد ولين الجانب وحسن العشرة وكثرة كتب الأصول المتقنة بها، فإني فارقتها وفيها عشر خزائن (مكتبات) للوقف، لم أر في الدنيا مثلها كثرة وجودة، منها خزانتان في الجامع، إحداهما يقال لها «العزيزية».. وكان فيها 12 ألف مجلد أو ما يقاربها، والأخرى يقال لها «الكمالية».. وكانت (الكتب والمكتبات) سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مئتا مجلد وأكثر بغير رهن، تكون قيمتها مئتي دينار. فكنت أرتع فيها وأقتبس من فوائدها، وأنساني حبها كل بلد، وألهاني عن الأهل والولد. وأكثر فوائد هذا الكتاب (أي معجم البلدان)، وغيره مما جمعته، فهو من تلك الخزائن».
وكان حينها يعتزم زيارة خوارزم وبلخ، عندما بلغه خبر خروج المغول العام 616 هـ، واستيلائهم على بخارى وسمرقند، فهرب ياقوت إلى خراسان، تاركاً وراءه بعض مادته العلمية ورأس ماله. ومرَّ في طريق عودته بالري وقزوين وتبريز، إلى أن بلغ الموصل، فدخلها فقيراً معدماً، وحلَّ فيها على الوزير والأديب علي بن يوسف القفطي (المتوفى سنة646 هـ)، الذي تمكَّن بفضل مساعدته من الاستمرار في العمل في «معجم البلدان»، حيث أتمَّ تسويده عام 621 هـ، وأهدى مخطوطاته لابن القفطي اعترافاً بفضله. وفي العام 624 هـ رحل مرة أخرى إلى فلسطين ومصر، ثم رجع إلى حلب، وظلَّ خلال هذه المدة يعمل في تنقيح وتهذيب المعجم، ثم عزم على تبييضه، ابتداء من 21 محرم 625 هـ ولكن الوفاة عاجلته في 20 رمضان 626 قبل أن يتم الانتهاء من تنقيح المعجم، ولم يتجاوز الخمسين من عمره، وأوصى بوقف مكتبته لأحد المساجد ببغداد، وأوكل مهمة تنفيذ وصيته لصديقه المؤرخ المشهور ابن الأثير.
معجم البلدان:
يعجب المرء للعدد الكبير من مؤلفات ياقوت، التي تتسم بالطابع الموسوعي، ومنها: «معجم البلدان» و«معجم الشعراء» و«معجم الادباء». وأشهر هذه المعاجم وأكثرها غنىً في مادته العلمية هو «معجم البلدان» الذي قال عنه المستشرق الفرنسي «كارادي فو» في كتابه «مفكرو الإسلام»:... «إنه من المؤلفات التي يحق للإسلام أن يفخر بها كل الفخر». وقال كراتشكوفسكي: «إنه أوسع وأهم، بل وأفضل مصنَّف من نوعه لمؤلف عربي للعصور الوسيطة».
ولا نستطيع أن نوفي هذا المعجم حقَّه في هذه العجالة، وسنكتفي بذكر بعض أهم مميِّزاته وخصائصه. ويستحسن أن نعرض –بإيجاز- للتراث الجغرافي العربي قبل ياقوت، فقد مَرَّ التأليف في التراث الجغرافي قبله بعدة مراحل أو (طبقات):
الأولى: «طبقة اللغويين وأهل الأدب»، كما يسميهم ياقوت، من أمثال: هشام بن محمد الكلبي (المتوفى سنة 204هـ)، وأبي زيد الأنصاري (المتوفى سنة 215هـ)، والأصمعي (المتوفى سنة 216هـ) والجاحظ (المتوفى سنة 255هـ)، ومحمد بن إدريس بن أبي حفصة اليمامي (معاصر للمتوكل)، وأبي سعيد السكري (المتوفى سنة 275هـ)، وعرَّام بن الأصبغ السلمي (المتوفى سنة 275هـ)، وأبي سعيد السيرافي (المتوفى سنة 368هـ)، وابن الأعرابي (المتوفى سنة 467هـ)، وأبي عبيد البكري (المتوفى سنة 487هـ).. إلخ.
وقد اهتم هؤلاء بالشعر والأخبار رواية ودراية، وحاولوا جمع وتدوين أخبار وأشعار العرب المتقدمين (في الجاهلية والإسلام)، وشرح ما أُبهم من ألفاظها ومعانيها، لتتضح أمام القراء الجدد، الذين ما كانوا يعرفون ظروفها ومناسباتها، ولا كثير من ألفاظها وإشاراتها. وكان من بين الجوانب التي عنوا بشرحها: البقاع والأماكن المذكورة في تلك الأشعار، فبعضم عاملها معاملة غيرها من الألفاظ الواردة في الشعر وعالجوها معالجة لغوية وأدبية وبمنهج لغوي، ولم يهتموا بما وراء ذلك من الجوانب الجغرافية، ولذلك لا يجد الباحث في تلك المصادر أكثر من كلمة (موضع) لتفسير تلك الكلمات، وقد يزيد أحيان: «موضع في ديار بني فلان..قبيلة الشاعر»، وغالبا ما تكون تلك الجملة مضللة، لأن الشاعر لم يقف على أعتاب قبيلته بل تحرك وتنقل في أرجاء الجزيرة العربية، وبعد الإسلام انطلق أكثر الشعراء إلى الحواضر الإسلامية الجديدة خارج الجزيرة، ويدخل في هذه الفئة أيضا بعض مصنفي المعاجم العربية كالخليل بن أحمد مؤلف «كتاب العين» (المتوفى سنة 175هـ)، وابن دريد الأزدي مؤلف «الجمهرة» (المتوفى سنة 321هـ)،
وقسم آخر من هؤلاء الأدباء وشرّاح الدواوين يمكن الاعتداد بأقوالهم فقد بذلوا مجهودا كبيرا في سبيل تحقيق تلك المواضع الواردة في الأشعار، وتجشموا السفر إلى مواضع نائية ليتحققوا بأنفسهم مواقعها ويسألون الأعراب عنها[1]. ويدخل في هذه المجموعة من مصنفي المعاجم: الأزهري مؤلف كتاب «تهذيب اللغة» (المتوفى سنة 370هـ)، فإنه يقدم وصفا تفصيليا دقيقا للمواقع التي شاهدها بنفسه في شرقي الجزيرة العربية عندما وقع في أسر القرامطة، أما المواضع التي لم يشاهدها فلا يختلف وصفها عمن سبقه من علماء اللغة.
الطبقة الثانية: طبقة المشتغلين في علوم الفلك والجغرافيا الرياضية، التي تزامن ظهورهم مع ترجمات الكتب الفلكية في التراث الهندي والفارسي واليوناني، وخصوصا كتب إفلاطون وفيثاغورس وبطليموس إلى اللغة العربية ، وإنشاء المراصد الفلكية في عهد المأمون، وما ترتب عليها من تطور في هذه العلوم عند العرب، ومن أبرز مصنفي كتب الأرصاد والفلك والأزياج (جمع زيج)، والإسطرلاب: حبش بن عبد الله المروزي المعروف بـ(حبش الحاسب)، المتوفى (نحو سنة 220هـ)، ومحمد بن موسى الخوارزمي (المتوفى بعد 232 هـ) خازن مكتبة المأمون (بيت الحكمة)، ويحيى بن أبي منصور المنجم (المتوفى سنة 230 هـ)، وأحمد بن محمد بن كثير الفرغاني، ( توفي بعد سنة 247هـ)، والفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي (المتوفى سنة 260 هـ)، ومحمد بن جابر بن سنان الحراني، المعروف بالبتاني (المتوفى سنة 317هـ)، وإبراهيم بن سنان الحراني، (المتوفى سنة 335 هـ)، و أبي الريحان البيروني (المتوفى سنة440 هـ) وغيرهم.
الثالثة: «طبقة الجغرافيين والرحَّالة وكتَّاب الدواوين والسفراء والتجار»، مثل ابن خرداذبَّه (المتوفى سنة 279هـ)، وقدامة بن جعفر (المتوفى سنة 266هـ)، وابن واضح اليعقوبي (المتوفى سنة 284هـ)، وأبي زيد البلخي (المتوفى سنة 322هـ)، والجيهاني (المتوفى سنة 330هـ)، والمسعودي (المتوفى سنة 332هـ)، والإصطخري (المتوفى سنة 346هـ)، وابن الفقيه (المتوفى سنة 365هـ)، وابن حوقل (المتوفى سنة 367هـ)، والبشاري المقدسي (المتوفى سنة 375هـ)، والشريف الإدريسي (المتوفى سنة 458هـ).. إلخ.
وقد ساح هؤلاء في أرجاء العالم الإسلامي، واهتموا بوصف تلك البلدان وصفاً علمياً قائماً على الخبرة والمشاهدة، فعيَّنوا حدود الأرض وتقاسيم الممالك، ووصفوا البلدان وملامحها الخاصة، والمسالك (الطرق) والجبال والبحار والأنهار والمعادن والآثار، وضبطوا المسافات بين الأمصار ضبطاً دقيقاً بحساب الأميال والفراسخ، وأحصوا مقادير الجبايات ومقادير الخراج ووصفوا أحوال الشعوب والأجناس وعاداتهم وتقاليدهم و تجاراتهم، وما يمتاز به كل شعب من الخصائص النفسية والاجتماعية.. إلخ.
الطبقة الرابعة:
طبقة مصنفي كتب (الفتوح) ومؤرخي المدن والأقاليم: نشأت هذه المدرسة أو الطبقة متزامنة مع الطبقات السابقة، وعُني مؤلفو كتب الفتوح بذكر الفتوحات الإسلامية للمدن والأقاليم الجديدة التي دخلها الإسلام، وسرد أحداثها التاريخية، وقد يصفون معالم وخطط بعض تلك المدن كما صنع ابن عبد الحكم (المتوفى سنة 257هـ) في كتابه «فتوح مصر»، حيث تطرق إلى ذكر خطط الفسطاط والجيزة والإسكندرية، وأحمد بن يحيى البلاذري (المتوفى سنة 257هـ) في كتابه «فتوح البلدان»، فقد ذكر إلى جانب أخبار الفتوح خطط بعض المدن مثل مكة والطائف والبصرة والكوفة، وقسّم أخبار الفتوح على أساس إقليمي أفاد منه الجغرافيون بعده.
أما مؤرخو المدن فقد خصصوا مقدمات كتبهم لخطط مدينتهم وما يتصل بها من ضواحي وموارد مياه..إلخ، ثم يذكرون بعد ذلك تاريخها وتراجم المبرزين من أهلها. ومن أشهر هذه التواريخ: «تاريخ مكة » للأزرقي، (المتوفى سنة 244هـ)، وآخر للفاكهي، (توفي نحو سنة 246هـ)، و«تاريخ المدينة» لابن شبَّه النميري (المتوفى سنة 262هـ)[2]، و«تاريخ واسط» لبحشل (المتوفى سنة 292 هـ) و«تاريخ بغداد»، لابن طيفور (المتوفى سنة 280 هـ)، وللخطيب البغدادي (المتوفى سنة 483 هـ)، و«تاريخ دمشق»، لابن عساكر، (المتوفى سنة 571 هـ)، وغيرها، إذ لا تكاد مدينة مشهورة من المدن العربية والإسلامية تخلو من تاريخ لها أو أكثر، وبعضها قد يزيد على العشرة.
ويدخل في نطاق (الجغرافيا الإقليمية): كتاب «صفة جزيرة العرب»[3] للهمداني، فقد جمع بين مدرستي (الأدب) و(الرحلات) وفيه وصف مفصل للجزيرة العربية بصورة عامة واليمن بصورة خاصة، ووصف جبالها وأوديتها ومدنها وحصونها..إلخ، وكتاب «خطط مصر» لمحمد بن سلامة القضاعي (المتوفى سنة 454 هـ)، وللكتاب عنوان آخر: «المختار في ذكر الخطط والآثار»، وكتاب «ترصيع الأخبار» في جغرافية الأندلس، للعذري (المتوفى سنة 478 هـ)، و«فرحة الأنفس» لابن غالب الأندلسي (من أهل القرن السادس الهجري).
طبقة المحدِّثين:
أسميت هذه الطبقة بهذا الاسم لأنهم أنفسهم من الحفاظ ومن المشتغلين بعلم الحديث، ولأنهم نهجوا في طريقة تأليف كتبهم الجغرافية منهج المحدِّثين الذين سبقوهم إلى التأليف في تراجم الرواة والمحدثين الذين تتفق أسماءهم أو أسماء آبائهم وأمهاتهم وألقابهم في الخط والكتابة، أو الذين تتشابهم أسماءهم من حيث تشابه وتقارب الحروف أو التشكيل أو النقط، أو من حيث اتفاق الأسماء في الخط واختلافها في الأبنية ..إلخ، حتى لايقع اللبس والخلط بينهم، أويلحق بها التصحيف والتحريف، ومن الأمثلة على ذلك: «المختلف والمؤتلف» للدار قطني (المتوفى سنة 385هـ)، ، و«المتفق والمفترق» للخطيب البغدادي (المتوفى سنة 463هـ)، ، وغيرهما، ومن أبرز مصنفي هذه الطبقة من الجغرافيين: أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري (المتوفى سنة 561هـ)، وله كتاب سماه ياقوت: «المختلف والمؤتلف في أسماء البقاع»، وعنوانه في مخطوطة الكتاب التي نشرها العلامة فؤاد سزكين: «كتاب الأمكنة والمياه والجبال والآثار ونحوهما المذكورة في الأخبار والأشعار»، ونقله وزاد عليه أبو بكر محمد بن موسى الحازمي (المتوفى سنة 584هـ)، وسمى كتابه: «ما اتفق لفظه وافترق مسماه في أسماء الأماكن والبلدان المشتبهة في الخط»[4]. ولم يقتصر ياقوت عليهما، بل استعان كذلك بأعمل المحدثين الذين ألفوا في الأنساب أو (المؤتلف والمختلف) مثل «تصحيفات المحدثين» للحسن بن عبد الله العسكري، (المتوفى سنة 382هـ)، و«الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب»، لابن ماكولا، (المتوفى سنة 475هـ)، ومختصره لأبي موسى الحازمي «الفيصل في مشتبه النسبة»، وتكملته للحافظ محمد بن عبد الغني البغدادي الحنبلي، المعروف: بـ(ابن نقطة)، (المتوفى سنة 629هـ)، و«الأنساب المتفقة في الخط المتماثلة في النقط والضبط» لمحمد بن طاهر المقدسي، المعروف بـ(ابن القيسراني)، (المتوفى سنة 507هـ)، وزياداته للحافظ محمد بن عمر الأصبهاني، (المتوفى سنة 581هـ). ويدخل ضمن هذه المصادر كذلك «كتاب الأنساب»، لأبي سعد السمعاني (المتوفى سنة 562هـ)، وهو من أبرز وأهم مصادره لأنه اعتنى بذكر المنسوبين إلى الأماكن والبلدان. وتتميز كتب هذه الطبقة بالعناية أساسا بضبط الأسماء المتشابهة منعا للبس فيها، وذكر اخلاف مواقعها الجغرافية باختصار للتمييز بينها، أي أنها لا تولي الجانب الجغرافي القدر الكافي من الاهتمام من حيث وصف المكان وموقعه ومعالمه والمسافات بينه وبين غيره..إلخ.
ويتجلى جهد ياقوت، في جمعه لشتات المادة الجغرافية حتى عصره، أي أنه جمع بين هذه المدارس والمناهج كلها، ومزج بينها بأسلوب جميل ولغة راقية، كونه من (أهل الأدب) ومن (الرحالة) أيضاً، وأضاف إليها ما استجد لديه من معلومات اكتسبها من خلال رحلاته وتجاربه الشخصية، واطلاعه الواسع، وما نقله من أفواه العلماء والرواة والتجار والكتّاب الذين التقاهم في أسفاره.
وعرض كذلك خلاصة أبحاث ونظريات الجغرافيا المعروفة آنذاك بصورها المختلفة، (الجغرافية الطبيعية) و (الجغرافية الفلكية أو الرياضية) و (الجغرافية الوصفية) .. إلخ.
أهمية المعجم:
ومن المفيد عرض بعض المعلومات أو البيانات الإحصائية عن (معجم البلدان) لإعطاء فكرة عنه ولبيان أهميته:
- يقع المعجم في الطبعة الأوربية، تحقيق فرديناند فستنفلد، في 3864 صفحة (يُتوقَّع أن تصل طبعة المجمع الثقافي الحالية إلى نحو سبعة آلاف صفحة).
- يحتوي المعجم على 15038 مادة جغرافية، يتراوح حجم المادة الواحدة منها بين بضعة أسطر وما يزيد على عشرين صفحة، حسب أهمية المادة، وما يتوفر لديه من معلومات عنها، وهي مرتّبة على الحروف الهجائية، حيث قسّم ياقوت المعجم إلى 28 كتابا ، على عدد حروف المعجم، وقسم كل كتاب (حرف) إلى 28 بابًا – على عدد الحروف أيضا- ورتب مواد المعجم داخل كل باب ترتيبًا ألفبائياً على ترتيب حروف الكلمة الحرف الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه...إلخ، كما هو الحال في المعاجم الحديثة، وصدّره بمقدمة تمهيدية (موجزة) جعلها مدخلاً للتعريف بالمعجم وبمنهجه فيه، وذكر فيها دواعي وبواعث تأليفه، وأخرى (مفصلة) تقع في خمسة أبواب، عرض فيها آراء وأقوال المتقدمين عن الأرض: هيئتها وأقاليمها ومساحتها...إلخ، وأورد بعد ذلك ثبتًا بالمصطلحات التي يتكرر ذكرها في المعجم، كالمصطلحات الخاصة بالتقسيمات الجغرافية والإدارية للبلدان مثل: (الإقليم والمخلاف والكورة والرستاق..)، وكذلك المصطلحات الخاصة بالمسافات كالفرسخ والبريد والميل..إلخ.
- يضم المعجم بين دفتيه نحو خمسة آلاف شاهد ومقطوعة شعرية، تتراوح بين بيت واحد أو قصيدة بكاملها، يزيد مجموع أبياتها عن أربعة عشر ألف بيت.
- وقد تجاوز عدد الأعلام (أسماء الرجال والنساء) في المعجم الـ(12) ألف عَلَم، ترجم لعدد كبير منهم.
منهج ياقوت الحموي في المعجم:
أولاً: ضبط أعلام الجغرافية (بالتشكيل والحروف) لبيان نطقها الصحيح، تجنّباً للخطأ عند نطقها أو كتابتها، مثال ذلك: (اَخْسِيْكَثُ) بالفتح ثم السكون وكسر السين المهملة وياء ساكنة وكاف وثاء مثلثة.
ثانياً: تفسير تلك الأعلام، وبيان اشتقاقها اللغوي، وتوضيح منشأ التسمية وأصلها.
ثالثاً: تحديد موقع المكان، إما بالإقليم، أو بما جاوره من الأماكن والأنهار والبحار المعروفة والمشهورة، وبيان طوله وعرضه، وتحديد البرج الذي يقع تحته.
رابعاً: لمحة موجزة عن البلد ومن بناها، وتاريخ فتحها، وذكر أبرز الأحداث والتطورات التاريخية التي مرّت بها حتى عصره، مع التطرق إلى خططها وآثارها. وقد تفرد ياقوت بذكر عدد من الحوادث التاريخية التي وقعت في عصره ولم تذكرها المصادر التاريخية الأخرى.
خامساً: ذكر المنسوبين إلى البلد من العلماء والأدباء، وتواريخ ولادتهم، ووفياتهم، ومؤلفاتهم (إن كانت لهم مؤلفات).
سادساً: ذكر ما ورد عنه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وما قيل فيه من حكم وأمثال وأشعار، ولا يبخل علينا ياقوت بذكر ما قيل في البلد أو المدينة من (مدح) أو (ذم) - شعرا ونثرا – وقد يقتصر ذلك أحيانا على الأقاليم والحواضر الكبرى التي أفردت لها مصنفات.
سابعاً: عرض ما يتَّسم به البلد من خصائص نفسية واجتماعيه، وإثنولوجية (علم الأعراق والفصائل البشرية)، وعادات وتقاليد.. إلخ.
ومن المؤكد أن هذا المنهج مما يصعب تطبيقه والوفاء به في مواد المعجم كلها، وهو ما نبَّه إليه المؤلف في مقدمته. ويرتبط ذلك فقط بمدى أهمية المكان وبما يتوفر لديه من معلومات عنه، أما عندما تعوزه المعلومات عن بعض المواضع، فإنه يكتفي بما حصّله عنها، وقد لا يتجاوز في بعضها السطر الواحد، وخاصة تلك المواضع التي اعتمد فيها على مصنفي المعاجم العربية كابن دريد الأزدي مؤلف «الجمهرة»، ومن تابعه كأبي عبيد البكري (المتوفى سنة 487هـ) والزمخشري (المتوفى سنة 538هـ)... إلخ.
ونتيجة لهذا المنهج والنظرة الموسوعية لياقوت، فقد استوعب المعجم الكثير من العلوم والمعارف السائدة آنذاك، حتى غدا المعجم موسوعة ضخمة، ليس في الجغرافية فحسب، بل في اللغة والأدب والنحو والصرف والتاريخ.. وأصبح الآن مصدراً لا غنى عنه في هذه العلوم، لأن جزءا كبيراً من المصادر التي نقل عنها ياقوت هلكت في خضمّ المصيبة الكبرى التي اجتاحت العالم الإسلامي، ممثّلة في غزو التتار. وليس أدلّ على ذلك من أن عشرات من دواوين الشعر العربي التي فُقدت، واتجه الباحثون في الوقت الحاضر لإعادة جمع ما تبقى منها، كان (معجم البلدان) هو المصدر الوحيد لعدد غير قليل من قصائد تلك الدواوين.
ومما أصبغ على (معجم ياقوت) شهرته الواسعة: شموليته وتمثيله لوحدة العالم الإسلامي آنذاك، من أقصى الأندلس إلى حدود الصين، قبل تفككها على يد التتار، وقبل سقوط الأندلس.
وأيضاً لتحلي ياقوت بالانصاف والموضوعية في تحرير مادة المعجم، وتحليه كذلك بروح النقد العلمي، ومقدرته على التمييز بين الغث والسمين من الأخبار والروايات المتعلقة بمادة معجمه، فيصحح خطأ ما تبيّن له خطأه، أو ينبّه على شكّه فيه، وقد يعلن براءته من بعض النصوص التي نقلها، ولكنه يحرص على ذكرها من أجل ظرافتها، أو من باب إحراز الفائدة.. إلخ. وقد يقع ياقوت في بعض الهنات في النقل وبخاصة فيما يتعلق بمدح أو ذم بعض الشعوب والأقوام أو البلدان كما وقع منه – على سبيل المثال - في مادة: (الأهواز) عن ابن الفقيه الهمذاني، وما نقله عن ابن حوقل في مادتي (بربر) و (بلرم) من ذم لشعوبها وسكانها يأباه الإسلام، ولم يعلق على هذه النصوص، والبعض الآخر من الهنات اليسيرة التي وقع فيها متعلق بالنقل عن علماء اللغة المتقدمين في (التكلف) لاشتقاق أصل عربي لأسماء بعض المدن والبلدات ذات الأصل (غير العربي)، أو نسبتها إلى شخص بعينه مثل (دمشق) و(دومة الجندل) و(الروم) و(الرها) و(مصر) وغيرها، ومعظمها كان مصدره الأصمعي وابن الكلبي.
ولذلك يعتبر (معجم البلدان) بلا منازع، أوسع المعالم الجغرافية العربية وأشملها، وأكثرها دقة وأصالة، لأن ما جاء بعده كان تكراراً واجتراراً، أو اختصاراً للمواد السابقة.
دواعي تحقيق المعجم:
أولا: طبع المعجم للمرة الأولى في ليبتسك (Leipzig) بألمانيا بتحقيق المستشرق هنري فرديناند فستنفلد Heinrich Ferdinand Wüstenfeld (المتوفى سنة 1317هـ /1899م)، وتقع هذه الطبعة في أربعة مجلدات كبار، والمجلد الخامس للملاحظات والفهارس الفنية، ظهر المجلد الأول منه سنة 1866م، والأخير سنة 1873م، واستغرق في تحقيقه اثنتي عشرة سنة، بذل خلالها جهدا خارقا في تحقيق المعجم، إذ اعتمد في التحقيق على معظم مخطوطات المعجم المعروفة في مكتبات أوربا آنذاك، ومنها: مخطوطات برلين الثلاث، ومخطوطة رابعة فيها الجزء الرابع فقط من حرف (ق-ي)، ومخطوطة بطرس برج، ومخطوطة باريس، والقطع المتوفرة من مخطوطات المعجم في المتحف البريطاني، ومخطوطة أوكسفور (ينقصها المجلد الأول، ويبدأ الثاني بمادة: أوار). وتجشم عناء الرحلة إلى تلك المكتبات بنفسه لمقابلة (النسخة) أو (النسخ) التي تمتلكها بالنسخة التي استنسخها لنفسه، لأن التصوير الفوتوغرافي لم يكن متوفرا في ذلك الوقت.
واقتصر فستنفلد في تحقيقه للمعجم على العناية بضبط النص على طريقة المستشرقين في ذلك الحين، ولم يول العناية بالمادة الجغرافية (موضوع المعجم) أي اهتمام.
ولأن معظم مصادر ياقوت كانت آنذاك ما تزال مخطوطة فقد لجأ فستنفلد إلى الاستعانة بجهود المستشرقين المعاصرين له الذين يعرف أن لديهم أحد المصادر التي نقل عنها ياقوت لمقارنة النقول عنها وضبطها وفقا لتلك النسخة، وخصوصا ما يتعلق منها بالأعلام الجغرافية أو الشواهد الشعرية، وذكر في مقدمة التحقيق أنه وقف على – بهذه الطريقة – على جل دواوين الشعراء الذين أكثر ياقوت من الاستشهاد بشعرهم ما عدا «ديون تميم بن أُبي بن مقبل».
وظلت طبعة فستنفلد هي الأساس لكل الطبعات اللاحقة، فقد طُبع المعجم في مصر عام 1323- 1324هـ/1906-1907م بعناية محمد أمين الخانجي، في ثمانية أجزاء، وألحق به عام 1325هـ/1907م مستدركاً في جديد البلدان سماه: (منجم العمران في المستدرك على معجم البلدان( في مجلدين، وتولى تصحيحه أثناء الطبع العالم والأديب أحمد بن الأمين الشنقيطي، (المتوفى سنة 1331هـ/1913م)، وأعانه كذلك في التصحيح وفي جمع مادة المستدرك العالم والرحالة الشيخ محمد بن مصطفى بن رسلان، المعروف بالشيخ بدر الدين النعساني الحلبي، (المتوفى سنة 1362هـ/1943م)، وذكر الخانجي – رحمه الله- في خاتمة الطبع أنه قام بتصحيح أخطاء الطبعة الأوربية معتمدا على الأصول التي جمع منها ياقوت مادة معجمه[5]، ولكن المتأمل في هذه الطبعة لا يلمس هذا الجهد الذي ادعاه الخانجي إلا نادرا، وبخاصة في ضبط بعض الشواهد الشعرية، وبحسب تعبير كراتشكوفسكي: فإن وجود قراءات أفضل في هذه الطبعة يحدث من قبيل الصدفة البحتة[6]. ولأن تلك التصحيحات القليلة لم تأت نتيجة الرجوع إلى المصادر التي بقل عنها ياقوت، بل تعتمد على الاجتهاد الشخصي وعلى الذائقة الأدبية فقد يصحح الخطأ بخطإ آخر، وقد يسبدل كلمة صحيحة بأخرى خاطئة.
وطبع الكتاب بعد ذلك في بيروت، تولت طباعته دار صادر بين عامي 1955 – 1957م في خمسة مجلدات، وادعى الناشر في مقدمة النشر: أنه عهد بتصحيح الكتاب إلى (محققين) من أبناء الضاد، معروفين بتدقيقهم وسعة معارفهم (ولم يذكر أسماءهم). والمتأمل في هذه الطبعة يجد أنها كسالفتها لم تأت بجديد، باستثناء زيادة بعض علامات الترقيم، أو التنبيه على الخلل (الإقواء بخاصة) في قوافي بعض القصائد التي أوردها ياقوت. وتلك التصحيحات القليلة – في الطبعتين -لم تأت نتيجة الرجوع إلى المصادر التي نقل عنها ياقوت، بل تعتمد على الاجتهاد الشخصي وعلى الذائقة الأدبية، ولذلك قد يقوم المصحح بتصحيح الخطإ الموجود في النص بخطإ آخر، وقد يسبدل كلمة صحيحة بأخرى خاطئة.
وتناقلت بعد ذلك دور النشر المختلفة هذا الطبعة (طبعة دار صادر) إما بالتصوير (بالأوفست) أو بإعادة الصف.
وتَصَدِّي فستنفلد لتحقيق هذا المعجم لم يكن بلاسابقة خبرة، وليس هو أول عمل له في مجال التراث العربي، فقد قدّم قبله خدمات جُلَّى للتراث العربي الإسلامي، وحقق ونشر ما يقارب المئتي كتاب من كتب التراث، من أهمها: (تواريخ مكة المشرفة) للازرقي، والفاكهي، والفاسي، وابن ظهيرة، وغيرهم و«تهذيب الاسماء واللغات» للنووي، و «السيرة النبوية» لابن هشام، و«معجم ما استعجم» للبكري، وغيرها، وعلى الرغم مما بذله فستنفلد من جهد ووقت في تحقيق معجم البلدان، ومساعيه الجادة لتلمس القراءة الصحيحة للنص، فقد شاب تلك الطبعة الكثير من الأخطاء:
- من ناحية التحقيق ومنهجه: فلم تكن قد ترسخت آنذاك مناهج وقواعد مرعية ومتفق عليها في تحقيق النصوص ونشرها، وقد اجتهد في إخراج النص كما هو الآن، وقد كان عمله ملبيا لحاجة ذلك العصر، ولكنه بعيد عن التحقيق العلمي المتعارف عليه في وقتنا الحاضر، قال كراتشكوفسكي[7]: «وهذه الطبعة وإن وقفت على مستوى عال بالنسبة لحاجة ذلك العصر إلاّ أنها لا تستوفي تماما المطالب العلمية بالنسبة لما يجب أن يكون عليه نشر النصوص وتحقيقها».
- لحق التصحف والتحريف بالكثير من ألفاظ المعجم، وللمحقق عذره في ذلك، ويرجع ذلك إلى سببين:
- الأول: يرجع إلى طبيعة مادة المعجم التي تتسم بغلبة الأسماء الغريبة ذات الأصل الأعجمي: (أسماء الأماكن والأشخاص والمصطلحات والمواد..إلخ) فإذا لم يكن المؤلف أو المحقق أو الناسخ على علم بها، ولديه مصادر أخرى ذكرَتْهَا[8]، فإنه لا يستطيع الاجتهاد في فهمها وتصويبها لأنها لا تخضع للتعليل ولا للقياس، ولا يمكن فهمها من سياق النص، ويستوي في ذلك أيضا أسماء المواضع (العربية) التي استقاها ياقوت عن المصادر الأدبية المبكرة: (المعاجم ودواوين الشعراء وشروحها) فقد كانت هذه المادة عصية على القراءة والفهم على المؤلف نفسه، فقد شكا في مقدمة المعجم من كثرة ما اعتراها من التحريف والتصحيف على يد النساخ، قال: «أما الطبقة الأولى (أي طبقة أهل الأدب) فأسماء الأماكن في كتبهم مصحَّفة مغيرة، وفي حيز العدم مصيّرة، قد مسخها من نسخها». وكان ياقوت - قبلها – قد قال عند ذكر أسباب وبواعث تأليف المعجم: «ثم قلَّما رأيت الكتب المتقنة الخط، المحتاطة لها بالضبط والنقط، إلاّ وأسماء البقاع فيها مهملة أو محرفة، وعن محجة الصواب منعطفة أو منحرفة، قد أهمله كاتبه جهلا، وصوّره عن التوهم نقلا».
- الثاني: أشرنا قبل قليل إلى أن معظم مصادر معجم البلدان كانت في ذلك الحين (النصف الثاني من القرن التاسع عشر) ماتزال مخطوطة، وإن وجدت بعض تلك المخطوطات فأخطاؤ نساخها كثيرة، والبحث في بعضها الآخر غير يسير نظرا لمنهج تأليفها وتبويبها إن كانت ماتزال مخطوطة، مثل: «تهذيب اللغة» للأزهري، و«الإكمال» لابن ماكولا، وهما من أبرز مصادر ياقوت، ولهذا يصبح من العسير تصحيح أخطاء نساخ معجم البلدن من غير الرجوع إلى تلك المصادر، يضاف إلى ذلك أن فستنفلد غير عربي، ومهما بلغ (المستشرق) أو (المستعرب) من التمكن في إجادة اللغة العربية فإنه لن يكون كمن ولد ونشأ في البلاد العربية، ولهذا كانت تلتوي عليه بعض العبارات والجمل، وسأختار هنا أربعة نماذج منها فقط:
1 - جاء في مادة (رأس عين) في ترجمة جعفر بن محمد ..الرسعني، نقلا عن تاريخ دمشق: «قال النّسائي: ليسَ بالقوي». وأثبتها فستنفلد في طبعته: «قال البشاري: لبّسَ القول».
2 - وفي مادة (تخاوة) ذكر ياقوت في ترجمة الحسن بن طاهر التخاوي، نقلا عن الإكمال والأنساب: «وكان سريع الخاطر، كثير الإصابه، يرتجل الشعر». وقرأها فستنفلد: «وكان سريع الخاطر، كبير الأصابع، مرتجل الشّعَر».
3 - وفي مادة (جِبْلَة) نقل ياقوت عن عمارة اليمني سبب تسمية جِبْلَة بهذا الاسم: «قال عمارة: جِبْلَة رجل يهودي كان يبيع الفخار في الموضع الذي بنت فيه الحرة الصليحية دار العزّ، وبه سميت المدينة». وجاءت في طبعة فستنفلد: «قال عمارة: جبلة رجل يهودي كان يبيع الفخار في الموضع الذي بنت فيه الحرة الصليحية دار العروبة، وسميت باسمها».
4 - وفي مادة (الشوبك) نقل ياقوت عن تاريخ يحيى بن علي التنوخي قوله: «إن بغدوين ملك القدس سار في سنة 509هـ... ». وتحرفت في طبعة فستنفلد إلى: «إن يقدور الذي ملك الفرس..».
ولو توفرت له تلك المصادر لتمكن من تصحيح الاضطراب الذي لحق تلك النصوص. وأغلب هذه المصادر قد طبع وحُقق الآن من محققين ثقات يعتد بعلمهم وعملهم في تصحيح نقول ياقوت عنها، سواء أكانت أخطاء ياقوت نفسه (وهي كثيرة) ، أو أخطاء نساخ المعجم ممن أتى بعده.
ثانيا: ومن دواعي تحقيق المعجم أنه بطبعاته الحالية غير مفيد للباحثين والمحققين وطلاب العلم على الإطلاق من غير تحقيق علمي حديث، يركز على تحقيق تلك المواضع والبلدان والمدن الواردة في العجم ويُعرف بكل موضع: هل اندثر أو مايزال باقيا؟ وهل مايزال معروفا باسمه أو أنه قد تغير وأصبح يعرف باسم آخر؟ وأين موقعه الآن على وجه الدِّقة؟ وفي أي بلد (دولة) هو؟ فتعريفات ياقوت للمواضع والبلدان لم تعد تناسب عصرنا، فمثلا: تحديد ياقوت – ومن سبقه - للمواضع الواقعة في الجزيرة العربية بأنها في ديار أو في بلاد القبيلة الفلانية (بلاد كلب، بلاد بني أسد، بلاد بني عامر، بلاد بني سعد..إلخ)، وقد تغيرت حاليا مواطن تلك القبائل، وانقرض البعض منها، وقد يُعرِّف المكان بالإقليم الواقع فيه، مثل: بلاد البحرين، أو خراسان، أوبلاد ما وراء النهر، أو بلاد السودان. وبلاد البحرين في عهد ياقوت ومن سبقه كانت تمتد من البصرة إلى حدود عُمان، وتشمل الآن: معظم أراضي دولة الإمارات العربية المتحدة، وقطر والبحرين والكويت والساحل الشرقي للملكة العربية السعودية.
و خراسان الآن موزعة بين ثلاث دول: إيران وأفغانستان وتركمانستان. انظر مادة: (خراسان) في طبعتنا. وبلاد ما وراء النهر: تشمل المناطق الواقعة خلف نهر جيحون، المعرف حاليا باسم: أمو داريا (Amu Darya) وتتوزع هذه الأراضي حاليا بين الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى التي كانت تحت الاستعمار الروسي: أوزبكستان وطاجكستان وقرغيستان وكازخستان وبعض أراضي تركمانستان. و بلاد السودان (القديمة) تشمل (أغلب دول إفريقيا الوسطى)، ما بين السودان الحالي إلى أطراف مالي والسنغال في غرب إفريقيا. وهكذا معظم ما ورد في المعجم من تسميات لبلدان ترد إما منسوبة إلى القبيلة أو إلى الإقليم. وعندما يعتمد الباحثون المعاصرون على التعريف بتلك المواضع كما وردت في معجم البلدان، فإنهم إنما يعرفون مجهولا بمجهول.
ثالثا: وتأسيسا على ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة فإن تحقيق (المادة) الجغرافية للمعجم سيكون بأسلوب عصري يُذكر في الحواشي: نبذة موجزة عن (الموضع)، واسمه الحالي أو القديم إن كان مايزال معروفا به، وفي أي بلد (دولة) هو، والمحافظة أو الولاية التي يتبعها، وموقعه منها أو من أشهر معلم جغرافي بارز في المنطقة، والمسافة بينهما، مع إثبات (إحداثيات) الموقع على خطوط الطول والعرض ليسهل معرفته على الخرائط الحديثة وعلى أرض الواقع، مع إضاءة موجزة عن التطورات التاريخية التي لحقت بالمكان منذ وفاة ياقوت -إن وجدت- ونطمح إلى أن يكون مع النسخة المطبوعة (ورقيا) من المعجم نسخة أخرى (إلكترونية) يظهر فيها النص كما ورد في المعجم، مع تعريفنا المعاصر للمكان، وموقعه على الخريطة، كما هو الشأن في الموسوعات العالمية الحديثة.
رابعا: ظهور مجموعة من الدراسات العلمية الحديثة التي تتناول بالدرس والتحقيق بلدا أو إقليما بعينة مما ورد في معجم البلدان مثل: «بلدان الخلافة الشرقية» للسترنج، و«تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي» لبارتولد، و«البلدان اليمانية عند ياقوت الحموي» للقاضي إسماعيل الأكوع، وتحقيقات الشيخ حمد الجاسر لكتابي نصر والحازمي (وهما من أهم مصادر ياقوت)، بالإضافه إلى معاجمه الجغرافية الأخرى عن أجزاء أو أقسام من أقاليم ومناطق المملكة العربية السعودية، وكذلك معاجم رفاقه من العلماء المعاصرين مثل الأستاذ عبد الله بن محمد بن خميس، ومحمد بن ناصر العبودي، وسعد بن عبد الله بن جنيدل، والمقدم عاتق بن غيث البلادي، وغيرها من المصادر الحديثة التي يُطمأن على تصحيحات مؤلفيها لما ورد في المعجم من أخطاء أو تصحيف أو تحريف، كونهم أعرف ببلدانهم وبمصادرها.
وستعزز هذه الدراسات والمصادر الحديثة – بالاضافة إلى ما نُشر (محققا) من المصادر التي اعتمد عليها ياقوت - من فرص نجاح تحقيق معجم البلدان.
صعوبات تحقيق المعجم:
العمل في تحقيق معجم البلدان عبارة عن قطعة من العذاب، وذلك لعدة أسباب:
أولا: من ناحية المخطوطات: فعلى الرغم من سعينا الدؤوب للحصول على نسخ أخرى أكثر دقة في نسخها، وأقدم في تاريخها من تلك المخطوطات التي اعتمد عليها المستشرق فستنفلد في تحقيق طبعته التي أشرنا إليها، فمعظم النسخ التي حصلنا عليها حتى الآن رديئة في خطوطها وفي ضبطها، ومعظمها حديث النسخ، وبعضها ناقص، ولكنها – مع ذلك - لا تخلو من فائدة، فقد نحصل منها على قراءة صحيحة لبعض الكلمات أو الجمل التي وقع الوهم لفستنفلد في قراءتها، وخاصة إذا اتفقت مع المصادر الأخرى التي نقل عنها المؤلف، أو التي نقلت عنه.
ثانيا: من حيث طبيعة وترتيب مادة المعجم، ومن حيث أسلوب منهج المؤلف:
- من المعروف أن تحقيق الكتب ذات الموضوع الواحد، أو المحدّدة الزمان والمكان أسهل في دراستها وتحقيقها من الكتب الموسوعية ذات الموضوعات المتعددة أو العامة، ومعجم البلدان من بين أكثر الكتب التراثية سعة وشمولية، فالعالم -المعروف آنذاك- كله كان موضوع المعجم، وكذلك كافة العلوم والمصادر التي تمكن المؤلف من الاطلاع عليها اقتبس منها وأفاد منها. فقد أشرنا فيما سبق إلى أن المؤلف اعتنى في معجمه بضبط الأعلام الجغرافية (بالتشكيل والحروف) تجنّباً للخطأ عند نطقها أو كتابتها، واهتم بتفسير تلك الأعلام، وبيان اشتقاقها اللغوي، وتوضيح منشأ التسمية وأصلها، وسعى لتحديد موقع المكان، إما بالإقليم، أو بما جاوره من الأماكن والأنهار والبحار المعروفة والمشهورة. واستقصى في جمع مادته كل ما قدر على الوصل إليه فيما يتعلق بالبلد أو المدينة ومن بناها، وتاريخ فتحها، وذكر أبرز الأحداث والتطورات التاريخية التي مرّت بها حتى عصره، مع ذكر المنسوبين إلى البلد من العلماء والأدباء، وتواريخ ولادتهم، ووفياتهم، ومؤلفاتهم (إن كانت لهم مؤلفات). ولم يبخل علينا بالاستشهاد بكل ما ورد عن الموضع من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وما قيل فيه من حكم وأمثال وأشعار..إلخ. وهذا يحتاج في مرحلة تحقيق النصوص وتخريجها وضبطها إلى الرجوع إلى هذا الحشد الهائل من المصادر: (اللغة، والمعاجم، والتفسير، والحديث الشريف، والتاريخ، والتراجم، والجغرافيا والرحلات، وكتب الأدب، ودواوين الشعر ..إلخ.). ويزداد الأمر صعوبة في حالة تفرد المؤلف بالنقل عن مصادر مفقودة، وما أكثرها، إذ سبق أن أشرنا إلى أن المؤلف عاصر اجتياح التتار للعالم الإسلامي، وتدميرهم لأبرز مدنه وحواضره وما تزخر به من نفائس الكتب والمكتبات، وكان المؤلف من آخر من استفاد من مكتبات المشرق الإسلامي في عاصمته مرو (حاضرة خراسان آنذاك).
- من حيث ترتيب مادة المعجم: ذكرنا أن المؤلف رتب مادة معجمه- على نسق المعاجم اللغوية - وفقا للحروف الهجائية، وهذا يُعقِّد من مهمة التحقيق، فقد يذكر المؤلف موضعا في الأندلس، يليه موضع في خراسان، وبعده موضع في مصر، وآخر في الجزيرة العربية..إلخ، حسب تسلسلها في ترتيب الحروف. فعند تحقيق كل موضع أحتاج إلى الرجوع إلى خرائط ومصادر البلد الذي يقع فيه، فمثلا: الموضع الذي في الأندلس، أحتاج إلى الرجوع إلى المصادر الأندلسية، والخرائط التاريخية والحديثة للأندلس، ثم عند الانتقال منه إلى الموضع الذي يليه أضطر إلى إعادة تلك المصادر إلى الرفوف، وإحضار مصادر وخرائط البلد الذي يقع فيه الموضع الثاني، وهكذا.
- من حيث المنهج الذي وضعته لنفسي في تحقيق المعجم، والمتضمن توضيح الواقع الحالي لهذا الموضع، هل ما زال معروفا باسمه، أو أنه قد اندثر، أو تغير اسمه، وتحديد موقعه بأسلوب عصري يفهمه القارئ اليوم، وهذا أمر في غاية الصعوبة، لأن الفترة التي بيننا وبين المؤلف تزيد على ثمانية قرون، وقد حدثت خلالها الكثير من التغيرات في العالم الإسلامي، وعصفت به الكثير من الكوارث والنوازل، الطبيعية منها كالزلازل والبراكين والفيضانات، أو البشرية مثل مصائب وكوارث اجتياح التتار والصليبيين قديما، والاستعمار الأوربي الذي ابتلي به المسلمون حديثا، بالإضافة إلى الحروب الداخلية بين الدول (الإسلامية) المتصارعة على السلطة والنفوذ على مدى هذه الحقبة الزمنية الطويلة، فقد محيت من على الخريطة الكثير من المدن والقرى المذكورة في المعجم. ويزداد الأمر صعوبة مع البلدان التي لم يهتم أبناؤها حاليا بدراسة تواريخ بلدانهم ووضع الدرسات والمعاجم الجغرافية والتاريخية التي تساعد على التعرف على حال تلك المواضع والمدن. وفي حالة وجود مثل هذه الدراسات فقد تكون في اللغات (المحلية والقومية) لتلك الشعوب ومعظمها لم يترجم إلى اللغة العربية. وبعض الدول العربية الحديثة التي وضعت لبلدها معاجم جغرافية، ينقص معدّوها وواضعوها البعد والفهم التاريخي لحال تلك القرى والمدن المذكورة في معجمهم، ولا يعرفون ما إذا كانت هذه الأسماء الحالية حديثة أو قديمة، وإن ذُكرت – أحيانا – فلا يتم وضع إحالة للربط بين الاسم القديم والاسم الحالي، فتذكر فقط تحت المسمى الجديد. بعكس الحال مع المعاجم الجادة التي تناولت بالدراسة بلدانا مثل مصر، واليمن، والمملكة العربية السعودية، فإن مصنفيها لم يبخلوا علينا وعلى طلبة العلم بمثل هذه الإحالات المفيدة للربط بين المسمى القديم والحديث.
- ومن بين الصعوبات التي واجهتني في تحقيق المعجم، تلك المواضع التي اعتمد المؤلف فيها على معاجم اللغة وشرَّاح الدواوين الذين يكتفون بالقول: «موضع»، أو «واد»، أو «جبل» دون زيادة، وقد يزيدون أحيانا بعض التفاصيل المبهمة، فيقولون: «موضع باليمن» أو «بالشام» أو أنه في «قبيلة الشاعر» إن كان ورد ذكره في الشعر. وكذلك الحال مع المصادر الخاصة بالأنساب والتراجم، الذين اكتفى مؤلفوها بذكر أن العالم الفلاني منسوب إلى بلدة أو قرية من قرى مدينة (...) أو إقليم (..) وقد يكون هذا الموضع ما يزال معروفا، فأحتاج إلى البحث في كتب الجغرافيا والرحلات القديمة والحديثة لعل أحدهم ذكر موقعه من المدينة والإقليم، فيخفف عني عناء البحث الطويل، وإلاّ فإنني أضطر إلى البحث في الخرائط التاريخية أو الحديثة عما في هذا الإقليم من قرى، أو ما حول المدينة المذكورة من جميع الجهات. فأكون كمن يبحث عن إبرة في كومة من القش.
--------------------------
[1]- أشار إلى ذلك كراتشكو فسكي في كتابه تاريخ الأدب الجغرافي العربي نقلا عن فستنفلد في كتابه (البحرين واليمامة)، انظر: تاريخ الأدب الجغرافي العربي ، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط2، (1408هـ/1987م)، ص 49.
[8] - كثير من النصوص الواردة في المعجم هي مما نقله المؤلف من مصنفات مفقودة، وكان هو المصدر الوحيد الذي تفرد بالنقل عنها، وبعضها مما أفاده ياقوت من أفواه العلماء والرواة ولم ترد في مصادر أخرى مكتوبة، وقسم آخر أفاده المؤلف من رحلاته ومشاهداته.
وقد أجرت مجلة ( تراث ) حواراً مع محقق معجم البلدان الأستاذ عبد الله السريحي ، ولأهميه جعلته في ملف مرافق لهذا المقال يمكن تنزيله وقراءته.