هنالك حساسية مفرطة بل نوع من الفوبيا من "العامية" لفظا ودلالة. وإلاّ فلماذا يُقبض على حنجرتي كلما كتبتُ أنّ العامية حلقة من الحلقات المكونة للسلسة اللغوية للإنسان الناطق بالعربية؟ أيُظنّ أنّ كلامي يعني إدراج اللهجة العامية لغة رسمية عوضا عن اللغة العربية؟
إذا اعتبرنا صحة نظريات اللغويات الفطرية للعلامة نعوم تشومسكي نفهم منها أنّ اللغة الأصلية هي التي يصنعها الطفل لما يشرع في التكلم بالتفاعل مع أمه وأبيه. ومن هنا نلاحظ أنّ الطفل عندنا لا ينطق "يا أمي" أو "يا أبي" وإنما ينطق بـ "ما" أو "ماما" و "با" او "بابا" أو "بَي" أو "بُويَ".ونعاين أن ليس هنالك الآن مناخا يهيأ الرضيع للنطق بمفردات فصحى.
هل يعني هذا أنّه ينبغي أن نتخلى عن العربية الفصحى؟ لا. وإنما يعني هذا أن أية سياسة للتعريب تريد أن تكون مباشرة وفعالة ومقصرة للمسافات تتطلب تحويل كلام الأبوين من العامية إلى الفصحى حتى يكون المولود معرضا للكلام بالفصحى الذي سيتبعه كنموذج. وهل هذا ممكن في مكان غير"مصحة العربية" أين تكون الأم النافس مطالبة بالإقامة لمدة لا تقل عن المدة اللازمة لتهيئة المناخ للرضيع قبل أن ينطق بكلام؟ كما يستوجب هذا الوضع إقامة الزوج في هاته المصحة المخبرية طوال المدة الموصوفة. عندئذ يبدأ التعريب الفعلي والمباشر.
لكن هذا الطرح يبقى "طوبويا "حيث إنه يستحيل تقريبا إقبال أزواج متطوعين على القيام بمثل هذه التجربة بالكثافة اللازمة لبناء نواة أولى لمجتمع عربي فصيح. لذا ما نستخلصه من هاته "الطوبى" على الأقل لزوم إيلاء اللهجة العامية المكانة التي تستحق. ومكانتها، مثلما رأينا، أبينا أم كرهنا، مركزية في الوضع الحالي لواقع الأداء اللغوي عموما والوضع الحالي لتشكل الكلام عند الطفل بالأساس.
في الأثناء، ما يتسنى فعله اعتماد العقل اللغوي العامي في تنصيب نظام لتحويل المعاني والمفاهيم من العامية إلى الفصحى. نعني أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال النجاح في تكوين دلالة بالفصحى لمفهوم موجود بعدُ في ذهن المتكلم ومُعبّر عنه بعدُ بالعامية. يترتب عن هذه الاستحالة مرور التشكيل الدلالي لزوما بجسر العامية.
أمّا إذا تعلق الأمر بخلق مفهوم مستحدث فقد يكون المرور إلى الفصحى مباشرة يسيرا نسبيا. لكن هنا أيضا ستواجه المعرّبَ صعوبة كبرى. وتتمثل هذه الصعوبة في ماهية نقطة الارتكاز التي ينبغي اعتمادها لربط الواقع بالعقل بواسطة الفصحى، طالما أنّ الواقع ما يزال مُعبّرا عنه بالعامية. يبقى ما أسميته "التعريب العكسي" بديلا للتعريب المباشر. ويتمثل التعريب العكسي في نقل المدلول (المنبثق عن الواقع) من اللغة الأجنبية (لأنها "فصيحة" مقارنة باللغة الشعبية للمجتمع العربي) إلى العربية الفصحى.
محمد الحمّار